تعتبر نزاعات الشغل إحدى المظاهر المميزة للمجتمعات المعاصرة، حيث أن علاقة الشغل هي علاقة قانونية تحمل بين ثناياها بوادر الخلاف، وهذا أمر طبيعي باعتبار المصالح المختلفة والمتضاربة بين أطراف العلاقة، المشغل من جهة والأجير من جهة أخرى، مما ترتب عليه تدخل المشرع لتنظيم هذه العلاقة وخلق آليات قانونية للحوار لفض مختلف النزاعات القابلة للاندلاع في أية لحظة، وبالتالي خلق فضاء توافقي في إطار تقنيات المفاوضة الجماعية بين أطراف العلاقة، سواء على المستوى القانوني والتنظيمي أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
و نتيجة لذلك، دخلت إلى حيز التطبيق المدونة الجديدة للشغل (قانون رقم 65.99 صادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.194 في 11 سبتمبر 2003 والمنشور بالجريدة الرسيمية عدد 5167 بتاريخ 8 دجنبر 2003) ابتداء من 8 مايو 2004، كأهم حدث طبع هذه المرحلة ضمن سلسلة من الإصلاحات القانونية والقضائية التي عرفها المغرب في بداية الألفية الثالثة. يمكن إذن القول بأن مسار صدور مدونة الشغل يعتبر مساراً تاريخيا، ساهمت فيه ظروف سياسية واقتصادية تسعى لتفتح أكثر على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية [[1]]url:#_ftn1 .
وإذا كانت علاقة الشغل في الماضي، علاقة فردية، بحيث يكون فيها الأجير تحت سلطة مشغله، فإن هذه العلاقة قد عرفت تطورا كبيرا في اتجاه علاقات جماعية تحكمها روابط قانونية في إطار مصلحة جماعية ترتكز على عنصر الإنتاج - العمل ورأس المال- كل ذلك بندرج في إطار تنظيمات مهنية ونقابية تنظم العلاقة بين الطرفين بدل العلاقة التسلطية من طرف واحد أو ما يسمى بالعقد الفردي.
وقد عرفت علاقة الشغل بالمغرب تطورا مهما، بحيث كانت مختلف النصوص القانونية مدونة في قانون التزامات والعقود الصادرة سنة 1913 [[2]]url:#_ftn2 ، إضافة إلى القوانين القديمة الأخرى في شكل ظهائر أو مراسيم، تم نسخها في مدونة الشغل الجديدة من خلال الكتاب السابع كمقتضيات ختامية في المادة 586.
ومن التشريعات التي عملت على إيجاد هيئات تنظيمية رسمية لحل منازعات الشغل الجماعية، نجد التشريع الفرنسي (من خلال قانون 27 دجنبر 1892 والقوانين التي أعقبته وهي قانون 31 دجنبر 1936 وقانون 4 مارس 1938 وقانون 11 فبراير 1950 وقانون 13 نوفمبر 1982) الذي يعتبر من التشريعات الأولى التي أخذت بأسلوب الهيئات الرسمية لحل نزاعات الشغل الجماعية، وفي نفس الإتجاه يسير التشريع المصري (قانون العمل رقم 137 لسنة 1981 المعدل بمقتضى القانون رقم 33 لسنة 1982) الذي عمل بدوره على إيجاد وتنظيم هيئات رسمية أنيط بها نظر النزاعات الجماعية التي لا يتوقف حلها عن طريق المفاوضات الجماعية، وهذه الهيئات هي اللجن المحلية، المجلس المركزي لتسوية المنازعات، بالإضافة إلى هيئات التحكيم.
وإذا كان كل من التشريعين الفرنسي والمصري قد نصا على هيئات تنظيمية رسمية لحل نزاعات الشغل الجماعية، فإن التشريع المغربي سار في نفس الإتجاه عند تحريك الإجراءات من طرف الهيئات التنظيمية وأن ذلك لا يتم إلا عند عدم وجود الهيئات الاتفاقية أو في حالة فشل طرفي النزاع الجماعي، فالأسبقية إذا حسب التشريع المغربي (ظهير 19 يناير 1946 الملغى بموجب قانون 65.99) تعطى للهيئات الاتفاقية على حساب الهيئات الرسمية[[3]]url:#_ftn3 .
قبل الحديث عن الآيات القانونية لفض نزاعات الشغل أود التطرق إلى مفهوم نزاعات الشغل وآثارها.
مفهوم نزاعــات الـشــغــل وآثارهــا
إن نزاعات الشغل هي الخلافات التي تنشب في علاقات الشغل بشأن تطبيق القانون أو الاتفاقية الجماعية أي في إطار تنفيذ عقود الشغل الفردية أو عقود الشغل الجماعية، اعتباراً للطبيعة الخاصة لهذه النزاعات وتأثيراتها السلبية إقتصاديا و إجتماعيا. فخلافات الشغل الفردية هي التي تنشأ بين الأجير والمشغل وأما النزاعات الشغل الجماعية فتتخذ تارة مظاهر العنف كالاضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية وإحتلال أماكن العمل والإغلاقات اثناء الإضرابات، وتارة أخرى تبقى سلمية، وقدتدخل المشرع لوضع إجراءات وآليات خاصة لتدبيرها، ثم إن معالجة وتسوية نزاعات الشغل تتطلب توفر شروط وتقنيات ومناهج للمفاوضة تكون ملائمة لطبيعة نزاعات الشغل، بالإضافة إلى آليات نابعة من خصوصيات وواقع البلدان وكفيلة لاستيعاب هذه النزاعات[[4]]url:#_ftn4 .
لاستقرائنا لنزاعات الشغل فردية كانت أم جماعية في مختلف التشريعات المقارنة نلاحظ أن العديد من هذه التشريعات قد أغفلت تحديد مفهوم النزاع الجماعي تاركةً ذلك إلى قرارات التحكيم وكذلك إلى الفقه[[5]]url:#_ftn5 ، وبذلك تعد نزاعات الشغل الجماعية من أصعب وأخطر النزاعات التي يعرفها قانون الشغل إلى درجة أن هذا القانون نفسه يضع حلولا أو طرقاً غير مألوفة لفض مثل هذه النزاعات بحيث يلاحظ أن قانون الشغل نفسه لا ينص على إحالة هذه النزاعات على المحاكم بل ينص على إحالتها على آليات وأجهزة مهنية وإدارية لحلها. وهذا ما يلاحظ سواء في القانون المغربي أو في غيره من القوانين[[6]]url:#_ftn6 بحيث ينص الفصل 20 من قانون المسطرة المدنية المغربي على أن اختصاص المحاكم الإبتدائية هو النظر والبت في النزاعات الفردية- ليس الجماعية - المتعلقة بعقود الشغل والتدريب المهني والخلافات الفردية التي لها علاقة بالشغل أو التدريب المهني.
ولكن هذا لا يعني أن نزاعات الشغل الجماعية ليس لها أي إطار قانوني، بل نلاحظ أن ظهير 19 يناير 1946 الملغى بموجب قانون 99/65 ينص على أن تسوية نزاعات الشغل الجماعية تتم عن طريق آليات التصالح والتحكيم، إلا أن هذه الأخيرة لا تشتغل في الواقع العملي، الشيء الذي جعل نزاعات الشغل الجماعية ظلت تحال عن طريق تدخل السلطات المختصة (وزارة التشغيل، الوزارة الأولى، وأحيانا وزارة الداخلية عبر العمالة أو الإقليم)، كما يلاحظ أن الأطراف المعنية تتجه لإنهاء نزاعات الشغل الجماعية بأسلوب وآليات خاصة تكمن في الاتفاقية الجماعية التي تبرمها.
هكذا نتساءل عن نزاعات الشغل الجماعية من خلال المقتضيات التي تحكمها، وماهي الآثار القانونية التي تميز بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي.
نزاعات الشغل الجماعية من خلال المقتضيات التي تحكمها
يكتسي تعريف نزاعات الشغل الجماعية أهمية كبرى، لأنه مرتبط بأنماط وآليات فض النزاعات ولا يكفي النزاع كونه جماعيا، إلا إذا استجمع شرطين أساسين، ويتعلق الأمر بموضوع النزاع وأطرافه، فإذا كان الفقه في مجموعه يتفق على أن النزاع الجماعي هو ذلك الذي يجمع بين مشغل واحد أو مجموعة من المشغلين من جهة، وبين أجراء أو فريق منهم من جهة ثانية، فإن هذا الإجماع لا يحسم الجدل حول ما إذا كان جانب الأجراء يجب أن يكون منظماً قانوناً أم يكفي أن يكون منظماً تنظيماً فعلياً فقط، وبمعنى آخر اختلف الفقه حول ما إذا كان يجب انضمام الأجراء إلى نقابة مهنية حتى يكونوا طرفا في النزاع الجماعي، أو أن هذا الشرط غير ضروري لإضفاء صفة " الجماعي" على ما قد يثار بينهم وبين مشغليهم من نزاعات. وهكذا، إذا كان أطراف النزاع الجماعي لا يثير إشكالا بالنسبة لعنصر المشغل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لعنصر الأجراء الذي يثير صعوبة ويعتمد الفقه في تحديده على معيارين(الميار العضوي والمعيار العددي):
أولا- المعيار العضوي والذي يرتبط بالانتماء النقابي دون النظر إلى جانب المشغل أو المشغلين سواء كانوا منظمين أو غير منظمين إلى نقابة معينة. هذا الإتجاه من الفقه يستثني عن نطاق النزاع الجماعي الأجراء غير المنضوين إلى نقابة ما حتى ولو كان هؤلاء الأجراء يمثلون نسبة كبيرة من مجموع أجراء المؤسسة، ولم يقتصر هذا الإتجاه على ذلك أي الانتماء النقابي بل إستوجب أن تكون هذه النقابة هي الأكثر تمثيلا، إذا كانت هناك أكثر من نقابة. حتى هذا الجانب من الفقه بدأ يتراجع عن موقفه هذا المتشدد، واعتبر أن عنصر الانتماء النقابي كشرط أساسي للنزاع الجماعي من شأنه أن يمس بمضمون الحق في الإضراب كحق دستوري وبالتالي لا يمكن ممارسة هذا الحق إلا في إطار تنظيمي نقابي، لذلك فإن ما قد يثار من نزاعات بين الأجراء وبين مشغليهم يعترف لها بالطابع الجماعي بصرف النظر عن كون هؤلاء منظمين إلى نقابة أو مجرد مجموعة فعلية[[7]]url:#_ftn7 ، في هذا الإطار أن الإجتهاد القضائي المغربي ((قرار المجلس الأعلى في الملحق عدد 88/8075 بتاريخ 17 فبراير 1992)) أخذ بهذا المعيار واعتبر النزاع الجماعي واكتسابه مرهونا بانتماء الأجراء لمنظمة نقابية وهذا يتعارض مع مقتضيات ظهير 19 يناير 1946 المتعلق بالنزاعات الجماعية الذي لا يشترط على الإطلاق أن يكون الأجراء منضوين لأية نقابة أو جمعية مهنية، ناهيك عن تعارضه ومساسه بمبدأ الحرية النقابية كما أرساها ظهير 16 يوليوز 1957. وأمام عجز هذا المعيار عن تقديم تحديد دقيق لأطراف النزاع الجماعي هناك معيار أخر اتجه إليه الفقهاء هو المعيار العددي.
الآثار القانونية للتمييز بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي
يترتب على التفرقة بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي آثارا مهمة، تتمثل أساساً في تحديد الجهة المختصة للنظر في النزاع، وكما أشرنا سابقا فالنزاعات الفردية يختص بها القضاء العادي في حين أن النزاعات الجماعية - والتي تنعكس آثارها على العديد من العمال والأجراء – تناط مهمة النظر فيها لهيئات التصالح والتحكيم [[10]]url:#_ftn10 . إن المشرع المغربي ميز بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي من خلال المادة 550 من مدونة الشغل التي نصت على أنه (( تسوى تزاعات الشغل الجماعية وفق مسطرة التصالح والتحكيم المنصوص عليها في هذا الشأن)). كما أن مقتضيات الفصل 20 من قانون المسطرة المدنية المصادق عليه بالظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 الصادر بتاريخ 28 شتنبر 1974، تحدد اختصاص المحكمة الابتدائية في القضايا الاجتماعية بالنظر فقط في النزاعات الفردية دون الاشارة الى النزاعات الجماعية، بحبث تنص هذه المادة على أنه ((تختص المحاكم الابتدائية في القضايا الاجتماعية بالنظر في : أ- النزاعات الفردية المتعلقة بعقود الشغل والتدريب المهني والخلافات الفردية التي لها علاقة بالشغل أو التدريب المهني...الخ)). و تتجلى الآثار السلبية في نزاعات الشغل الجماعية خاصة في الميدان الإجتماعي، حيث يكون الأجراء عرضة للبطالة وكذلك في الميدان الإقتصادي لما تخلفه هذه النزاعات من أضرار مالية بالنسبة للمقاولات نتيجة لتوقفها عن دفع ديونها، أضف إلى ذلك تهديد السلم الاجتماعي نتيجة لإضراب الأجراء ولاسيما إذا شمل هذا الإضراب مدنا اقتصادية أو إستراتيجية، مما يشكل خطراً على الإستقرار الإقتصادي والأمن الإجتماعي والسياسي [[11]]url:#_ftn11 .
لا يكفي أن يكون سبب نزاع الشغل الجماعي هو ظروف العمل مثل الزيادة في الأجور أو ترسيم العمال، أو المطالبة ببعض التعويضات أو الإحتجاج على تأديب بعض العمال أو طردهم، وإنما يجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون هدف الأجراء من وراء هذا النزاع الذي يؤدي إلى إضرابات، هو تحقيق مصلحة جماعية مهنية للأجراء المضربين، وإلا فإن هذا النزاع لا يكون نزاعا جماعيا و لا يجب أن يخضع من الناحية القانونية لحل نزاعات الشغل الجماعية، لا بد قبل ذلك وبصفة إلزامية اللجوء إلى المفاوضة الجماعية أي إلى حوار أولي بين أرباب العمل أو ممثليهم والأجراء عبر نقابتهم الأكثر تمثيلية أو الاتحادات النقابية الأكثر تمثيلية، بحيث تنص المادة 92 من مدونة الشغل على أن (("المفاوضة ألجماعية" هي الحوار الذي يجري بين المنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيل أو الاتحادات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة، وبين المشغل أو عدة مشغلين أو ممثلي المنظمات المهنية للمشغلين من جهة أخرى بهدف: -تحديد وتحسين ظروف الشغل والتشغيل؛ - تنظيم العلاقات بيم المشغلين والأجراء؛ - تنظيم العلاقات بين المشغلين أو منظماتهم من جهة وبين منظمة أو عدة منظمات نقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة أخرى)). وبذلك تكون المفاوضة الجماعية التي تنظمها المواد 92 إلى 103 من مدونةالشغل، أداة للحوار والتشاور وليس أداة لحل النزاعات الجماعية.
إن تنظيم الاضراب وحده لا يكفي لتفادي أو لحل النزاعات الشغل الجماعية، مما تبين أنه من الضروري خلق وإحداث آليات قانونية كفيلة لفض هذه النزاعات الجماعية.
الآليات القانونية لفض نزاعات الشغل
تفاديا للآثار السلبية على المستويين الإقتصادي والإجتماعي من جهة، واللجوء إلى الأساليب العنيفة من جهة أخرى، تم إحداث آليات ووسائل للحل السلمي للخلافات التي تنشأ بين الأجراء وأرباب العمل. قبل صدور مدونة الشغل الجديدة كان النظام المغربي يتوفر على آليات إسوة بالقانون الفرنسي لسنة 1936، ونخص بالذكر مسطرة التصالح ومسطرة التحكيم كوسيلتين لحل نزاعات الشغل الجماعية، أما فيما يخص مسطرة الوساطة التي أدخلها المشرع الفرنسي سنة 1950 فليس لها وجود في النظام المغربي[[12]]url:#_ftn12 . ومن مميزات مسطرة التصالح ومسطرة التحكيم أنهما إلزاميتان ويسبقان كل إضراب من طرف الأجراء،بحيث تنص المادة 550 من مدونة الشغل على أنه ((تسوى نزاعات الشغل الجماعية وفق مسطرة التصالح والتحكيم المنصوص عليها في هذا الشأن)).
أولا : التصالح
تعتبر مسطرة التصالح كوسيلة من وسائل فض نزاعات الشغل الجماعية، وتعتبر كذلك من المراحل الأولى في التسوية السلمية لنزاعات الشغل الجماعية، فلا يلجأ إلى غيرها إلا بعد استنفاذ إجراءاتها في فض النزاع، فهي أداة لتفادي النزاعات أكثر ما هي أداة لحلها، فأهميتها تظهر بالخصوص عند بروز البوادر الأولى للنزاع الجماعي[[13]]url:#_ftn13 وقبل اللجوء إلى وسائل الإضراب والإغلاق، بحيث تسعى الجهة المنوط بها إجراءات التصالح التقريب بين وجهتي نظر طرفي النزاع الجماعي، وتبديد الخلاف بينهما، للتوصل إلى اتفاق وحل تصالحي ينهي النزاع. ومسطرة التصالح التي نص عليها الباب الثاني من الكتاب السادس من مدونة الشغل، تجري أمام عدة هيئات وهي 1- مفتشية الشغل و2- اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة و3- اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة.
وفي ختام جلسات الصلح يجب أن يحرر المندوب الإقليمي المكلف بالشغل بصفته كاتباً محضراً يثبت ما توصل إليه الأطراف من إتفاق تام أو جزئي أو عدم التصالح وحضور الأطراف أو غيابهم. كما يوقع على المحضر كل من رئيس اللجنة والأطراف المعنية، وإذا لم يحصل إتفاق على مستوى هذه اللجنة يرفع النزاع أمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة داخل أجل ثلاثة أيام (المادة 563 من مدونة الشغل).
من خلال إستقرائنا لآليات التصالح من خلال المدونة الجديدة نلاحظ أن المشرع أراد من خلالها تذويب النزاع الجماعي للشغل في مرحلته الأولى عن طريق التصالح أمام مفتش الشغل أو مندوب الشغل وكذا أمام لجنتي الإقليمية والوطنية للبحث والمصالحة.
إذا لم يحصل أي اتفاق أمام اللجنة الاقليمية للبحث والمصالحة، وأمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، أو إذا بقي الخلاف بشأن بعض النقط، أو إذا تخلف الأطراف أو أحدهم عن الحضور، فإنه يمكن للجنة المعنية، إما إقليمية أو وطنية، إحالة النزاع الجماعي للشغل إلى مسطرة التحكيم، وذلك بعد موافقة أطراف النزاع الجماعي، حيث يحيل رئيس اللجنة الاقليمية أو الوطنية عند الاقتضاء، إلى الحكم خلال الثماني والأربعين ساعة الموالية لتحرير المحضر، الملف المتعلق بموضوع النزاع الجماعي للشغل، مرفقا بالمحضر المحرر من قبل اللجنة المعنية، حسب مقتضيات المادة 567 من مدونة الشغل.
لكن من الملاحظ أن تحريك إجراءات التحكيم في ظل مدونة الشغل لم يعد واجبا و ملزما على جهة المصالحة كما كان الشأن في ظل ظهير 19 يناير 1946 الملغى بقانون 65.99 الصادر بتنفيذه الظهير الشريق 1.03.194 في 11 سبتمبر 2003 ، وانما أصبح احالة النزاع الجماعي مجرد امكانية، بحيث أن المشرع استعمل مصطلح "يمكن" وليس "يجب"، بل وحتى هذه الامكانية رهينة بموافقة أطراف النزاع، لأنه لا يمكن احالة الملف المتعلق بموضوع النزاع الجماعي إلى التحكيم بدون موافقة الأطراف حسب المادة 567 من المدونة، مما كان من الأجدر أن ينص المشرع على وجوب إحالة نزاع الشغل الجماعي مباشرة على التحكيم يمجرد فشل مسطرة التصالح دون أن يتوقف ذلك على موافقة أطراف النزاع.
لكن، هل من مخرج من أجل فض نزاعات الشغل الجماعية العالقة؟ أم سيبقى الحال على حاله وترتفع وتيرة الاحتقان الاجتماعي.
لجنة فض نزاعات الشغل الجماعية على مستوى رئاسة الحكومة
أمام نزاعات الشغل الجماعية التي لم تجد طريقا لحلها من طرف آليات المصالحة، بحيث أن الطبقة العاملة المغربية تجتاز في الآونة الأخيرة مرحلة يمكن وصفها بالدقيقة والخطيرة في ذات الوقت، ولربما تحمل في ثناياها فسخ عقد النكاح مع ما أصطلح عليه "بالسلم الإجتماعي" الذي يبدو أن الأجراء عملوا كل ما في وسعهم على احترام مضامين ابعاده والتزموا ولبوا نداء السلم، بينما الطرف الموازي في عملية الإنتاج – أرباب العمل- يظل في منأى ومعزل إن لم نقل غير معني بهذا الإلتزام في كافة مضامين أبعاده القانونية والاقتصادية والإجتماعية، حيث مازالت قيم المقاولة العائلية هي السائدة وعدم تنفيذ مقتضيات وتدابير مدونة الشغل الجديدة، واعتبار العامل أو الأجير عملة رخيصة في حلقة الإنتاج، مقوماً أساسيا في بنية التفكير التدبيري للمقاولة، عملت الحكومة الحالية على ايجاد مخرج لتسوية نزاعات الشغل الجماعية العالقة، أمام إشكالية عدم إحالة ملفات النزاعات الجماعية على التحكيم من طرف لجن المصالحة وخاصة اللجنة الوطنية للبحث و المصالحة لعدم موافقة أطراف النزاع وخاصة المشغلين،بحيث لم تستطيع آليات المصالحة من تسوية نزاعات الشغل الجماعية، مما إنعكس ذلك سلبا على السلم الاجتماعي والاقتصادي داخل المقاولة، وفتح المجال أمام الأطراف لسلوك وسائل العنف المتمثلة في إضراب الأجراء والإغلاق من جهة المشغلين، وما نتج وينتج عنه من خسارة للطرفين وللإقتصاد الوطني، مما دفع الحكومة حاليا أمام اللجنة العليا للتشاور بين رئبس الحكومة و الامناء العامين للاحزاب السياسية وزعماء النقابات الاكثر تمثيلية، اللجوء إلى إحداث لجنة خاصة تسمى " لجنة فض النزاعات الشغل الجماعية" على مستوى رئاسة الحكومة تتولى النظر ومدارسة أهم النزاعات الشغل الجماعية العالقة قصد ايجاد الحلول المناسبة لها.
ثانياً : التحكيم
ان التحكيم وسيلة من وسائل تسوية نزاعات الشغل الجماعية، قد تنتهي اجراءته بحصول اتفاق بين طرفي النزاع لوضع حد لجالة النزاع بينهما، أو قد يضطر الحكم إلى إصدار قرار الفصل في موضوع النزاع على ضوء الأبحاث والتحريات التي قام بها، وكذلك على ضوء السندات المتوفرة لديه والمقدمة من طرف أطراف النزاع، كما يمكن الطعن في قرارت التحيكيمية.
1 .مسطرة التحيكم
إذا وصل النزاع إلى مرحلة التحكيم فإن أطراف النزاع تقوم باتفاق فيما بينها باختيار حكم من ضمن لائحة الحكام التي تصدر بموجب قرار يتخذه وزير الشغل وباقتراح من المنظمة المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، مع مرعاة عند وضع لائحة الحكام الكفاءات والاختصاصات في المجال الاقتصادي والاجتماعي (المادة 568 )، وإذا تعذر توصل الأطراف إلى اتفاق حول إختيار الحكم لأي سبب كان، فإن الوزير المكلف بالشغل يعين حكما من نفس القائمة المذكورة في المادة 568 وذلك في أجل لا يتعدى 48 ساعة (المادة 569).
ما هي إذاً الإجراءات المتبعة من طرف الحكم ؟
ان من الأسباب التي تساهم في ضمان تسوية نزاعات الشغل الجماعية، بالاضافة الى ثقة الأطراف في الجهة المخولة لها التسوية، هي السرعة في تحريك الاجراءات، سواء تعلق الأمر يمسطرة التصالح أو بمسطرة التحكيم بحيث أن هذه السرعة تعمل على تطويق النزاع وأسبابه والحد من تعقده. طبقاً للمادة 570 من المدونة، يقوم الحكم باستدعاء الأطراف بواسطة برقية في أجل أقصاه أربعة أيام إبتداءاً من تاريخ توصله بالمحضر، ويقوم بجميع الإجراءات لتقصي الحقائق وهي نفس الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة طبقا للمادة 561 من المدونة، كما يجب على أطراف النزاع تقديم كل التسهيلات والمستندات والمعلومات ذات صلة بالنزاع والتي يطلبها الحكم( المادة571)،ويبت الحكم في نزاعات الشغل الجماعية اعتمادا على قوانبن القانون وتبعا لقواعد الانصاف التب لم يرد في شأنها أجكام تشريعية، أو تنظيمية، أو تعاقدية(المادة 572)، لكن الحكم لا يبت إلا في المواضيع و الإقتراحات الواردة في محضر عدم التصالح أو في الوقائع التي طرأت بعد تحرير هذا المحضر(المادة 573)، فيما عدا ذلك يمنع عليه النظر في أي نزاع خارج هذا الإطار. وعلى الحكم إصدار قراره داخل أجل أربعة أيام من تاريخ مثول الأطراف أمامه ويجب أن يكون معللا، ويبلغ إلى الأطراف بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل في اجل 24 ساعة من تاريخ صدوره (المادة 574). إلا أن مدة (أربعة أيام) في نظرنا غير كافية مقارنة مع المدة التي تتوفر عليها اللجنة الإقليمية واللجنة الوطنية (ستة أيام).خاصة وأن تسوية النزاع يتطلب طاقما من الخبراء والمستشارين قانونيين وتقنيين في ميدان الإقتصاد لمساعدة الحكم.
لكن في حالة إحالة ملفات تزاعات الشغل الجماعية أمام أنظار لجنة التحكيم هل يجوز الطعن في القرارات التي يصدرها الحكم؟
2.الطعن في القرارات التحكيمية
إن القرار التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية لا يتم الطعن فيها إلا أمام الغرفة الإجتماعية بالمجلس الأعلى التي تعتبر الجهة المختصة في النظر في هذه الطعون وذلك حسب مقتضيات المادة 575 من المدونة و ما يليها.
كما أن الطعن في القرارات التحكيمية الصادرة في النزاعات الجماعية للشغل تتميز عن القرارات التحكيمية التي تتم في ميادين أخرى مثل التحكيم التجاري، حيث ينص الفصل 319 من قانون المسطرة المدنية صراحة على أن حكم المحكمين لا يقبل الطعن في أية حالة، ويصير حكم المحكمبن في هذه الحالة قابلا للتنفيذ بأمر من رئيس المحكمة الإبتدائية التي صدر في دائرتها الحكم المذكور(الفصل320 من قانون المسطرة المدنية).وبناء عليه فإن الغرفة الإجتماعية بالمجلس الأعلى حسب مقتضيات المادة 576 من المدونة تتولى مهام غرفة تحكيمية ولا تنظر في الطعون المقدمة إليها كهيئة قضائية، وإنما كغرفة إجتماعية أو كامتداد لمسطرة التحكيم التي انطلقت مع الحكم وبطبيعة الحال فإن الطعون التي تقدم أما هذه الغرفة تتعلق بالشطط في إستعمال السلطة أو بخرق القانون أو هما معاً، التي تقدمها الأطراف ضد القرارات التحكيمية.
الاجراءات المسطرة التي تتبعها الغرفة الإجتماعية
تتقدم الأطراف بطعونها داخل أجل خمسة عشرة يوما إبتداء من تاريخ تبليغها أو توصلها بالقرارات المطعون فيها، ويجب أن تتضمن طلبات الطعن الأسباب وأن تكون الرسالة المذكورة مرفقة بنسخة من القرار المطعون فيه ( المادة 577 من المدونة).
وبعد دراسة الطعن والبت فيه من قبل الغرفة الإجتماعية تقوم هذه الأخيرة بإصدار قرارها في أجل أقصاه ثلاثون يوما من تاريخ رفع الطعن إليها، ويتم تبليغ القرار إلى الأطراف داخل أجل 24 ساعة من تاريخ صدوره (المادة 578 من المدونة)، وفي حالة نقض القرار التحكيمي كله أو بعضه تحيل الغرفة التحكيمية النازلة على حكم جديد يعين وفقا للشروط المنصوص عليها في المادة 579 التي تحيل على المادتين 568 و569 من المدونة . وفي حالة نقض القرار التحكيمي الثاني، والطعن فيه أمامها وجب على الغرفة التحكيمية تعيين مقرر من بين أعضائها لإجراء بحث تكميلي وإصدار قرار تحكيمي في أجل ثلاثين يوما الموالية لصدور قرار النقض الثاني، يكون غير قابل لأي طعن وفقا للمادة 580 من المدونة .
إذا كان التشريع المغربي على غرار التشريعين الفرنسي والمصري يجيز الطعن في الفرارات التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية، فإن التساؤل المطروح هو من له الحق في الطعن في هذه القرارات؟ خاصة وأن مدونة الشغل لم تتضمن نص صريح يسمح للسلطة الحكومية المكلفة بالشغل بالاضافة إلى طرفي وأطراف النزاع بالجق في الطعن في قرارات التحكيم كما كان سابقا في ظل ظهير 19يناير 1946 الخاص بالمصالحة والتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية.، أم أنه سيقتصر على طرفي وأطراف النزاع.
خلاصة القول، تكمن أهمية تسوية منازعات الشغل في تكريس مبادئ السلم الإجتماعي داخل المقاولات بشكل ينعكس إيجابا على تطوير الإنتاجية للحفاظ على رصيد الشغل، وذلك لتدعيم آليات الحوار والتصالح، عند إثارة المساطر المتعلقة بتسوية نزاعات الشغل الفردية أو الجماعية، والتي تأخذ بعين الإعتبار الأعراف ومبادئ العدل والإنصاف في المهنة، ثم إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال المقتضيات القانونية لمدونة الشغل أن يخلق نوعا من التوازن بين الأجراء والمشغل، لتسوية نزاعات الشغل ؟
و نتيجة لذلك، دخلت إلى حيز التطبيق المدونة الجديدة للشغل (قانون رقم 65.99 صادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.194 في 11 سبتمبر 2003 والمنشور بالجريدة الرسيمية عدد 5167 بتاريخ 8 دجنبر 2003) ابتداء من 8 مايو 2004، كأهم حدث طبع هذه المرحلة ضمن سلسلة من الإصلاحات القانونية والقضائية التي عرفها المغرب في بداية الألفية الثالثة. يمكن إذن القول بأن مسار صدور مدونة الشغل يعتبر مساراً تاريخيا، ساهمت فيه ظروف سياسية واقتصادية تسعى لتفتح أكثر على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية [[1]]url:#_ftn1 .
وإذا كانت علاقة الشغل في الماضي، علاقة فردية، بحيث يكون فيها الأجير تحت سلطة مشغله، فإن هذه العلاقة قد عرفت تطورا كبيرا في اتجاه علاقات جماعية تحكمها روابط قانونية في إطار مصلحة جماعية ترتكز على عنصر الإنتاج - العمل ورأس المال- كل ذلك بندرج في إطار تنظيمات مهنية ونقابية تنظم العلاقة بين الطرفين بدل العلاقة التسلطية من طرف واحد أو ما يسمى بالعقد الفردي.
وقد عرفت علاقة الشغل بالمغرب تطورا مهما، بحيث كانت مختلف النصوص القانونية مدونة في قانون التزامات والعقود الصادرة سنة 1913 [[2]]url:#_ftn2 ، إضافة إلى القوانين القديمة الأخرى في شكل ظهائر أو مراسيم، تم نسخها في مدونة الشغل الجديدة من خلال الكتاب السابع كمقتضيات ختامية في المادة 586.
ومن التشريعات التي عملت على إيجاد هيئات تنظيمية رسمية لحل منازعات الشغل الجماعية، نجد التشريع الفرنسي (من خلال قانون 27 دجنبر 1892 والقوانين التي أعقبته وهي قانون 31 دجنبر 1936 وقانون 4 مارس 1938 وقانون 11 فبراير 1950 وقانون 13 نوفمبر 1982) الذي يعتبر من التشريعات الأولى التي أخذت بأسلوب الهيئات الرسمية لحل نزاعات الشغل الجماعية، وفي نفس الإتجاه يسير التشريع المصري (قانون العمل رقم 137 لسنة 1981 المعدل بمقتضى القانون رقم 33 لسنة 1982) الذي عمل بدوره على إيجاد وتنظيم هيئات رسمية أنيط بها نظر النزاعات الجماعية التي لا يتوقف حلها عن طريق المفاوضات الجماعية، وهذه الهيئات هي اللجن المحلية، المجلس المركزي لتسوية المنازعات، بالإضافة إلى هيئات التحكيم.
وإذا كان كل من التشريعين الفرنسي والمصري قد نصا على هيئات تنظيمية رسمية لحل نزاعات الشغل الجماعية، فإن التشريع المغربي سار في نفس الإتجاه عند تحريك الإجراءات من طرف الهيئات التنظيمية وأن ذلك لا يتم إلا عند عدم وجود الهيئات الاتفاقية أو في حالة فشل طرفي النزاع الجماعي، فالأسبقية إذا حسب التشريع المغربي (ظهير 19 يناير 1946 الملغى بموجب قانون 65.99) تعطى للهيئات الاتفاقية على حساب الهيئات الرسمية[[3]]url:#_ftn3 .
قبل الحديث عن الآيات القانونية لفض نزاعات الشغل أود التطرق إلى مفهوم نزاعات الشغل وآثارها.
مفهوم نزاعــات الـشــغــل وآثارهــا
إن نزاعات الشغل هي الخلافات التي تنشب في علاقات الشغل بشأن تطبيق القانون أو الاتفاقية الجماعية أي في إطار تنفيذ عقود الشغل الفردية أو عقود الشغل الجماعية، اعتباراً للطبيعة الخاصة لهذه النزاعات وتأثيراتها السلبية إقتصاديا و إجتماعيا. فخلافات الشغل الفردية هي التي تنشأ بين الأجير والمشغل وأما النزاعات الشغل الجماعية فتتخذ تارة مظاهر العنف كالاضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية وإحتلال أماكن العمل والإغلاقات اثناء الإضرابات، وتارة أخرى تبقى سلمية، وقدتدخل المشرع لوضع إجراءات وآليات خاصة لتدبيرها، ثم إن معالجة وتسوية نزاعات الشغل تتطلب توفر شروط وتقنيات ومناهج للمفاوضة تكون ملائمة لطبيعة نزاعات الشغل، بالإضافة إلى آليات نابعة من خصوصيات وواقع البلدان وكفيلة لاستيعاب هذه النزاعات[[4]]url:#_ftn4 .
لاستقرائنا لنزاعات الشغل فردية كانت أم جماعية في مختلف التشريعات المقارنة نلاحظ أن العديد من هذه التشريعات قد أغفلت تحديد مفهوم النزاع الجماعي تاركةً ذلك إلى قرارات التحكيم وكذلك إلى الفقه[[5]]url:#_ftn5 ، وبذلك تعد نزاعات الشغل الجماعية من أصعب وأخطر النزاعات التي يعرفها قانون الشغل إلى درجة أن هذا القانون نفسه يضع حلولا أو طرقاً غير مألوفة لفض مثل هذه النزاعات بحيث يلاحظ أن قانون الشغل نفسه لا ينص على إحالة هذه النزاعات على المحاكم بل ينص على إحالتها على آليات وأجهزة مهنية وإدارية لحلها. وهذا ما يلاحظ سواء في القانون المغربي أو في غيره من القوانين[[6]]url:#_ftn6 بحيث ينص الفصل 20 من قانون المسطرة المدنية المغربي على أن اختصاص المحاكم الإبتدائية هو النظر والبت في النزاعات الفردية- ليس الجماعية - المتعلقة بعقود الشغل والتدريب المهني والخلافات الفردية التي لها علاقة بالشغل أو التدريب المهني.
ولكن هذا لا يعني أن نزاعات الشغل الجماعية ليس لها أي إطار قانوني، بل نلاحظ أن ظهير 19 يناير 1946 الملغى بموجب قانون 99/65 ينص على أن تسوية نزاعات الشغل الجماعية تتم عن طريق آليات التصالح والتحكيم، إلا أن هذه الأخيرة لا تشتغل في الواقع العملي، الشيء الذي جعل نزاعات الشغل الجماعية ظلت تحال عن طريق تدخل السلطات المختصة (وزارة التشغيل، الوزارة الأولى، وأحيانا وزارة الداخلية عبر العمالة أو الإقليم)، كما يلاحظ أن الأطراف المعنية تتجه لإنهاء نزاعات الشغل الجماعية بأسلوب وآليات خاصة تكمن في الاتفاقية الجماعية التي تبرمها.
هكذا نتساءل عن نزاعات الشغل الجماعية من خلال المقتضيات التي تحكمها، وماهي الآثار القانونية التي تميز بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي.
نزاعات الشغل الجماعية من خلال المقتضيات التي تحكمها
يكتسي تعريف نزاعات الشغل الجماعية أهمية كبرى، لأنه مرتبط بأنماط وآليات فض النزاعات ولا يكفي النزاع كونه جماعيا، إلا إذا استجمع شرطين أساسين، ويتعلق الأمر بموضوع النزاع وأطرافه، فإذا كان الفقه في مجموعه يتفق على أن النزاع الجماعي هو ذلك الذي يجمع بين مشغل واحد أو مجموعة من المشغلين من جهة، وبين أجراء أو فريق منهم من جهة ثانية، فإن هذا الإجماع لا يحسم الجدل حول ما إذا كان جانب الأجراء يجب أن يكون منظماً قانوناً أم يكفي أن يكون منظماً تنظيماً فعلياً فقط، وبمعنى آخر اختلف الفقه حول ما إذا كان يجب انضمام الأجراء إلى نقابة مهنية حتى يكونوا طرفا في النزاع الجماعي، أو أن هذا الشرط غير ضروري لإضفاء صفة " الجماعي" على ما قد يثار بينهم وبين مشغليهم من نزاعات. وهكذا، إذا كان أطراف النزاع الجماعي لا يثير إشكالا بالنسبة لعنصر المشغل، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لعنصر الأجراء الذي يثير صعوبة ويعتمد الفقه في تحديده على معيارين(الميار العضوي والمعيار العددي):
أولا- المعيار العضوي والذي يرتبط بالانتماء النقابي دون النظر إلى جانب المشغل أو المشغلين سواء كانوا منظمين أو غير منظمين إلى نقابة معينة. هذا الإتجاه من الفقه يستثني عن نطاق النزاع الجماعي الأجراء غير المنضوين إلى نقابة ما حتى ولو كان هؤلاء الأجراء يمثلون نسبة كبيرة من مجموع أجراء المؤسسة، ولم يقتصر هذا الإتجاه على ذلك أي الانتماء النقابي بل إستوجب أن تكون هذه النقابة هي الأكثر تمثيلا، إذا كانت هناك أكثر من نقابة. حتى هذا الجانب من الفقه بدأ يتراجع عن موقفه هذا المتشدد، واعتبر أن عنصر الانتماء النقابي كشرط أساسي للنزاع الجماعي من شأنه أن يمس بمضمون الحق في الإضراب كحق دستوري وبالتالي لا يمكن ممارسة هذا الحق إلا في إطار تنظيمي نقابي، لذلك فإن ما قد يثار من نزاعات بين الأجراء وبين مشغليهم يعترف لها بالطابع الجماعي بصرف النظر عن كون هؤلاء منظمين إلى نقابة أو مجرد مجموعة فعلية[[7]]url:#_ftn7 ، في هذا الإطار أن الإجتهاد القضائي المغربي ((قرار المجلس الأعلى في الملحق عدد 88/8075 بتاريخ 17 فبراير 1992)) أخذ بهذا المعيار واعتبر النزاع الجماعي واكتسابه مرهونا بانتماء الأجراء لمنظمة نقابية وهذا يتعارض مع مقتضيات ظهير 19 يناير 1946 المتعلق بالنزاعات الجماعية الذي لا يشترط على الإطلاق أن يكون الأجراء منضوين لأية نقابة أو جمعية مهنية، ناهيك عن تعارضه ومساسه بمبدأ الحرية النقابية كما أرساها ظهير 16 يوليوز 1957. وأمام عجز هذا المعيار عن تقديم تحديد دقيق لأطراف النزاع الجماعي هناك معيار أخر اتجه إليه الفقهاء هو المعيار العددي.
ثانيا- المعيار العددي و يتجلى هذا المعيار في تحديد طرفي النزاع الجماعي من خلال التمييز بين النزاعين الفردي والجماعي، فالأول هو ذلك الذي لا يهم سوى أجير واحد في مواجهة مشغله،و لا تكون له إلا نتائج وآثار فردية تمس سوى الأجير[[8]]url:#_ftn8 ، في حين أن النزاع الجماعي هو ذلك الذي يتعلق بمجموع الأجراء أو فريق منهم في مواجهة مشغلهم. و قد يبدو هذا المعيار العددي على درجة من السهولة والبساطة بحيث ذهبت معه بعض التشريعات واعتمدته كمعيار لتحديد طرفي النزاع الجماعي وبالتالي كضابط للتفرقة بين النزاعين الفردي والجماعي (التشريعات الليبي،المصري.)،أما بالنسبة لموقف المشرع المغربي من خلال مقتضيات ظهير 19 يناير 1946 فإنه لا يحدد عددا معين من الأجراء لتحريك الخلاف أو النزاع الجماعي و لم يحدد حجم وأهمية الأجراء وبالتالي لم يحدد العدد.
من خلال ما سبق نتساءل عن موقف المشرع المغربي على ضوء مدونة الشغل الجديدة بخصوص المقصود بنزاعات الشغل الجماعية. لقد خصت مدونة الشغل بابا خاصا عن تسوية نزاعات الشغل الجماعية وهو الكتاب السادس الذي شمل المواد من 549 إلى 585، وهكذا أعطت المدونة تعريفا لنزاعات الشغل الجماعية من خلال المادة 549 التي نصت على أن (("نزاعات الشغل الجماعية"، هي كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل والتي يكون أحد أطرافها منظمة نقابية للأجراء أو جماعة من الأجراء ويكون هدفها الدفاع عن مصالح جماعية مهنية لهؤلاء الأجراء .كما تعد نزاعات الشغل الجماعية كل الخلافات الناشئة بسبب الشغل والتي يكون أحد أطرافها مشغل واحد أو عدة مشغلين أو منظمة مهنية للمشغلين ويكون هدفها الدفاع عن مصالح المشغل أو المشغلين أو المنظمة المهنية للمشغلين المعنيين)). ويتضح من خلال مقتضيات المادة 549 السالفة الذكر أن المشرع المغربي يعتمد على عنصرين أساسين قي تعريفه لنزاعات الشغل الجماعية وهما:- أن يكون أحد أطراف النزاع مجموعة من الأجراء مؤطرين تأطيراً قانونيا في شكل نقابة أو تأطيراً واقعياً فقط في إطار مجموعة من الأجراء.
- أن يكون هدف هؤلاء الأجراء الدفاع عن مصلحتهم الجماعية.
الآثار القانونية للتمييز بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي
يترتب على التفرقة بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي آثارا مهمة، تتمثل أساساً في تحديد الجهة المختصة للنظر في النزاع، وكما أشرنا سابقا فالنزاعات الفردية يختص بها القضاء العادي في حين أن النزاعات الجماعية - والتي تنعكس آثارها على العديد من العمال والأجراء – تناط مهمة النظر فيها لهيئات التصالح والتحكيم [[10]]url:#_ftn10 . إن المشرع المغربي ميز بين النزاع الفردي والنزاع الجماعي من خلال المادة 550 من مدونة الشغل التي نصت على أنه (( تسوى تزاعات الشغل الجماعية وفق مسطرة التصالح والتحكيم المنصوص عليها في هذا الشأن)). كما أن مقتضيات الفصل 20 من قانون المسطرة المدنية المصادق عليه بالظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.74.447 الصادر بتاريخ 28 شتنبر 1974، تحدد اختصاص المحكمة الابتدائية في القضايا الاجتماعية بالنظر فقط في النزاعات الفردية دون الاشارة الى النزاعات الجماعية، بحبث تنص هذه المادة على أنه ((تختص المحاكم الابتدائية في القضايا الاجتماعية بالنظر في : أ- النزاعات الفردية المتعلقة بعقود الشغل والتدريب المهني والخلافات الفردية التي لها علاقة بالشغل أو التدريب المهني...الخ)). و تتجلى الآثار السلبية في نزاعات الشغل الجماعية خاصة في الميدان الإجتماعي، حيث يكون الأجراء عرضة للبطالة وكذلك في الميدان الإقتصادي لما تخلفه هذه النزاعات من أضرار مالية بالنسبة للمقاولات نتيجة لتوقفها عن دفع ديونها، أضف إلى ذلك تهديد السلم الاجتماعي نتيجة لإضراب الأجراء ولاسيما إذا شمل هذا الإضراب مدنا اقتصادية أو إستراتيجية، مما يشكل خطراً على الإستقرار الإقتصادي والأمن الإجتماعي والسياسي [[11]]url:#_ftn11 .
لا يكفي أن يكون سبب نزاع الشغل الجماعي هو ظروف العمل مثل الزيادة في الأجور أو ترسيم العمال، أو المطالبة ببعض التعويضات أو الإحتجاج على تأديب بعض العمال أو طردهم، وإنما يجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون هدف الأجراء من وراء هذا النزاع الذي يؤدي إلى إضرابات، هو تحقيق مصلحة جماعية مهنية للأجراء المضربين، وإلا فإن هذا النزاع لا يكون نزاعا جماعيا و لا يجب أن يخضع من الناحية القانونية لحل نزاعات الشغل الجماعية، لا بد قبل ذلك وبصفة إلزامية اللجوء إلى المفاوضة الجماعية أي إلى حوار أولي بين أرباب العمل أو ممثليهم والأجراء عبر نقابتهم الأكثر تمثيلية أو الاتحادات النقابية الأكثر تمثيلية، بحيث تنص المادة 92 من مدونة الشغل على أن (("المفاوضة ألجماعية" هي الحوار الذي يجري بين المنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيل أو الاتحادات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة، وبين المشغل أو عدة مشغلين أو ممثلي المنظمات المهنية للمشغلين من جهة أخرى بهدف: -تحديد وتحسين ظروف الشغل والتشغيل؛ - تنظيم العلاقات بيم المشغلين والأجراء؛ - تنظيم العلاقات بين المشغلين أو منظماتهم من جهة وبين منظمة أو عدة منظمات نقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة أخرى)). وبذلك تكون المفاوضة الجماعية التي تنظمها المواد 92 إلى 103 من مدونةالشغل، أداة للحوار والتشاور وليس أداة لحل النزاعات الجماعية.
إن تنظيم الاضراب وحده لا يكفي لتفادي أو لحل النزاعات الشغل الجماعية، مما تبين أنه من الضروري خلق وإحداث آليات قانونية كفيلة لفض هذه النزاعات الجماعية.
الآليات القانونية لفض نزاعات الشغل
تفاديا للآثار السلبية على المستويين الإقتصادي والإجتماعي من جهة، واللجوء إلى الأساليب العنيفة من جهة أخرى، تم إحداث آليات ووسائل للحل السلمي للخلافات التي تنشأ بين الأجراء وأرباب العمل. قبل صدور مدونة الشغل الجديدة كان النظام المغربي يتوفر على آليات إسوة بالقانون الفرنسي لسنة 1936، ونخص بالذكر مسطرة التصالح ومسطرة التحكيم كوسيلتين لحل نزاعات الشغل الجماعية، أما فيما يخص مسطرة الوساطة التي أدخلها المشرع الفرنسي سنة 1950 فليس لها وجود في النظام المغربي[[12]]url:#_ftn12 . ومن مميزات مسطرة التصالح ومسطرة التحكيم أنهما إلزاميتان ويسبقان كل إضراب من طرف الأجراء،بحيث تنص المادة 550 من مدونة الشغل على أنه ((تسوى نزاعات الشغل الجماعية وفق مسطرة التصالح والتحكيم المنصوص عليها في هذا الشأن)).
أولا : التصالح
تعتبر مسطرة التصالح كوسيلة من وسائل فض نزاعات الشغل الجماعية، وتعتبر كذلك من المراحل الأولى في التسوية السلمية لنزاعات الشغل الجماعية، فلا يلجأ إلى غيرها إلا بعد استنفاذ إجراءاتها في فض النزاع، فهي أداة لتفادي النزاعات أكثر ما هي أداة لحلها، فأهميتها تظهر بالخصوص عند بروز البوادر الأولى للنزاع الجماعي[[13]]url:#_ftn13 وقبل اللجوء إلى وسائل الإضراب والإغلاق، بحيث تسعى الجهة المنوط بها إجراءات التصالح التقريب بين وجهتي نظر طرفي النزاع الجماعي، وتبديد الخلاف بينهما، للتوصل إلى اتفاق وحل تصالحي ينهي النزاع. ومسطرة التصالح التي نص عليها الباب الثاني من الكتاب السادس من مدونة الشغل، تجري أمام عدة هيئات وهي 1- مفتشية الشغل و2- اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة و3- اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة.
- التصالح على مستوى مفتشية الشغل
- التصالح على مستوى اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة
وفي ختام جلسات الصلح يجب أن يحرر المندوب الإقليمي المكلف بالشغل بصفته كاتباً محضراً يثبت ما توصل إليه الأطراف من إتفاق تام أو جزئي أو عدم التصالح وحضور الأطراف أو غيابهم. كما يوقع على المحضر كل من رئيس اللجنة والأطراف المعنية، وإذا لم يحصل إتفاق على مستوى هذه اللجنة يرفع النزاع أمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة داخل أجل ثلاثة أيام (المادة 563 من مدونة الشغل).
- التصالح على مستوى اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة
- كل نزاع شغل جماعي شمل عدة عمالات أو أقاليم أو إمتد إلى مجموع التراب الوطني.
- كل نزاع لم يحصل أي اتفاق بصدده بين الأطراف أمام اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة.
من خلال إستقرائنا لآليات التصالح من خلال المدونة الجديدة نلاحظ أن المشرع أراد من خلالها تذويب النزاع الجماعي للشغل في مرحلته الأولى عن طريق التصالح أمام مفتش الشغل أو مندوب الشغل وكذا أمام لجنتي الإقليمية والوطنية للبحث والمصالحة.
إذا لم يحصل أي اتفاق أمام اللجنة الاقليمية للبحث والمصالحة، وأمام اللجنة الوطنية للبحث والمصالحة، أو إذا بقي الخلاف بشأن بعض النقط، أو إذا تخلف الأطراف أو أحدهم عن الحضور، فإنه يمكن للجنة المعنية، إما إقليمية أو وطنية، إحالة النزاع الجماعي للشغل إلى مسطرة التحكيم، وذلك بعد موافقة أطراف النزاع الجماعي، حيث يحيل رئيس اللجنة الاقليمية أو الوطنية عند الاقتضاء، إلى الحكم خلال الثماني والأربعين ساعة الموالية لتحرير المحضر، الملف المتعلق بموضوع النزاع الجماعي للشغل، مرفقا بالمحضر المحرر من قبل اللجنة المعنية، حسب مقتضيات المادة 567 من مدونة الشغل.
لكن من الملاحظ أن تحريك إجراءات التحكيم في ظل مدونة الشغل لم يعد واجبا و ملزما على جهة المصالحة كما كان الشأن في ظل ظهير 19 يناير 1946 الملغى بقانون 65.99 الصادر بتنفيذه الظهير الشريق 1.03.194 في 11 سبتمبر 2003 ، وانما أصبح احالة النزاع الجماعي مجرد امكانية، بحيث أن المشرع استعمل مصطلح "يمكن" وليس "يجب"، بل وحتى هذه الامكانية رهينة بموافقة أطراف النزاع، لأنه لا يمكن احالة الملف المتعلق بموضوع النزاع الجماعي إلى التحكيم بدون موافقة الأطراف حسب المادة 567 من المدونة، مما كان من الأجدر أن ينص المشرع على وجوب إحالة نزاع الشغل الجماعي مباشرة على التحكيم يمجرد فشل مسطرة التصالح دون أن يتوقف ذلك على موافقة أطراف النزاع.
لكن، هل من مخرج من أجل فض نزاعات الشغل الجماعية العالقة؟ أم سيبقى الحال على حاله وترتفع وتيرة الاحتقان الاجتماعي.
لجنة فض نزاعات الشغل الجماعية على مستوى رئاسة الحكومة
أمام نزاعات الشغل الجماعية التي لم تجد طريقا لحلها من طرف آليات المصالحة، بحيث أن الطبقة العاملة المغربية تجتاز في الآونة الأخيرة مرحلة يمكن وصفها بالدقيقة والخطيرة في ذات الوقت، ولربما تحمل في ثناياها فسخ عقد النكاح مع ما أصطلح عليه "بالسلم الإجتماعي" الذي يبدو أن الأجراء عملوا كل ما في وسعهم على احترام مضامين ابعاده والتزموا ولبوا نداء السلم، بينما الطرف الموازي في عملية الإنتاج – أرباب العمل- يظل في منأى ومعزل إن لم نقل غير معني بهذا الإلتزام في كافة مضامين أبعاده القانونية والاقتصادية والإجتماعية، حيث مازالت قيم المقاولة العائلية هي السائدة وعدم تنفيذ مقتضيات وتدابير مدونة الشغل الجديدة، واعتبار العامل أو الأجير عملة رخيصة في حلقة الإنتاج، مقوماً أساسيا في بنية التفكير التدبيري للمقاولة، عملت الحكومة الحالية على ايجاد مخرج لتسوية نزاعات الشغل الجماعية العالقة، أمام إشكالية عدم إحالة ملفات النزاعات الجماعية على التحكيم من طرف لجن المصالحة وخاصة اللجنة الوطنية للبحث و المصالحة لعدم موافقة أطراف النزاع وخاصة المشغلين،بحيث لم تستطيع آليات المصالحة من تسوية نزاعات الشغل الجماعية، مما إنعكس ذلك سلبا على السلم الاجتماعي والاقتصادي داخل المقاولة، وفتح المجال أمام الأطراف لسلوك وسائل العنف المتمثلة في إضراب الأجراء والإغلاق من جهة المشغلين، وما نتج وينتج عنه من خسارة للطرفين وللإقتصاد الوطني، مما دفع الحكومة حاليا أمام اللجنة العليا للتشاور بين رئبس الحكومة و الامناء العامين للاحزاب السياسية وزعماء النقابات الاكثر تمثيلية، اللجوء إلى إحداث لجنة خاصة تسمى " لجنة فض النزاعات الشغل الجماعية" على مستوى رئاسة الحكومة تتولى النظر ومدارسة أهم النزاعات الشغل الجماعية العالقة قصد ايجاد الحلول المناسبة لها.
ثانياً : التحكيم
ان التحكيم وسيلة من وسائل تسوية نزاعات الشغل الجماعية، قد تنتهي اجراءته بحصول اتفاق بين طرفي النزاع لوضع حد لجالة النزاع بينهما، أو قد يضطر الحكم إلى إصدار قرار الفصل في موضوع النزاع على ضوء الأبحاث والتحريات التي قام بها، وكذلك على ضوء السندات المتوفرة لديه والمقدمة من طرف أطراف النزاع، كما يمكن الطعن في قرارت التحيكيمية.
1 .مسطرة التحيكم
إذا وصل النزاع إلى مرحلة التحكيم فإن أطراف النزاع تقوم باتفاق فيما بينها باختيار حكم من ضمن لائحة الحكام التي تصدر بموجب قرار يتخذه وزير الشغل وباقتراح من المنظمة المهنية للمشغلين والمنظمات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، مع مرعاة عند وضع لائحة الحكام الكفاءات والاختصاصات في المجال الاقتصادي والاجتماعي (المادة 568 )، وإذا تعذر توصل الأطراف إلى اتفاق حول إختيار الحكم لأي سبب كان، فإن الوزير المكلف بالشغل يعين حكما من نفس القائمة المذكورة في المادة 568 وذلك في أجل لا يتعدى 48 ساعة (المادة 569).
ما هي إذاً الإجراءات المتبعة من طرف الحكم ؟
ان من الأسباب التي تساهم في ضمان تسوية نزاعات الشغل الجماعية، بالاضافة الى ثقة الأطراف في الجهة المخولة لها التسوية، هي السرعة في تحريك الاجراءات، سواء تعلق الأمر يمسطرة التصالح أو بمسطرة التحكيم بحيث أن هذه السرعة تعمل على تطويق النزاع وأسبابه والحد من تعقده. طبقاً للمادة 570 من المدونة، يقوم الحكم باستدعاء الأطراف بواسطة برقية في أجل أقصاه أربعة أيام إبتداءاً من تاريخ توصله بالمحضر، ويقوم بجميع الإجراءات لتقصي الحقائق وهي نفس الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس اللجنة الإقليمية للبحث والمصالحة طبقا للمادة 561 من المدونة، كما يجب على أطراف النزاع تقديم كل التسهيلات والمستندات والمعلومات ذات صلة بالنزاع والتي يطلبها الحكم( المادة571)،ويبت الحكم في نزاعات الشغل الجماعية اعتمادا على قوانبن القانون وتبعا لقواعد الانصاف التب لم يرد في شأنها أجكام تشريعية، أو تنظيمية، أو تعاقدية(المادة 572)، لكن الحكم لا يبت إلا في المواضيع و الإقتراحات الواردة في محضر عدم التصالح أو في الوقائع التي طرأت بعد تحرير هذا المحضر(المادة 573)، فيما عدا ذلك يمنع عليه النظر في أي نزاع خارج هذا الإطار. وعلى الحكم إصدار قراره داخل أجل أربعة أيام من تاريخ مثول الأطراف أمامه ويجب أن يكون معللا، ويبلغ إلى الأطراف بواسطة رسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل في اجل 24 ساعة من تاريخ صدوره (المادة 574). إلا أن مدة (أربعة أيام) في نظرنا غير كافية مقارنة مع المدة التي تتوفر عليها اللجنة الإقليمية واللجنة الوطنية (ستة أيام).خاصة وأن تسوية النزاع يتطلب طاقما من الخبراء والمستشارين قانونيين وتقنيين في ميدان الإقتصاد لمساعدة الحكم.
لكن في حالة إحالة ملفات تزاعات الشغل الجماعية أمام أنظار لجنة التحكيم هل يجوز الطعن في القرارات التي يصدرها الحكم؟
2.الطعن في القرارات التحكيمية
إن القرار التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية لا يتم الطعن فيها إلا أمام الغرفة الإجتماعية بالمجلس الأعلى التي تعتبر الجهة المختصة في النظر في هذه الطعون وذلك حسب مقتضيات المادة 575 من المدونة و ما يليها.
كما أن الطعن في القرارات التحكيمية الصادرة في النزاعات الجماعية للشغل تتميز عن القرارات التحكيمية التي تتم في ميادين أخرى مثل التحكيم التجاري، حيث ينص الفصل 319 من قانون المسطرة المدنية صراحة على أن حكم المحكمين لا يقبل الطعن في أية حالة، ويصير حكم المحكمبن في هذه الحالة قابلا للتنفيذ بأمر من رئيس المحكمة الإبتدائية التي صدر في دائرتها الحكم المذكور(الفصل320 من قانون المسطرة المدنية).وبناء عليه فإن الغرفة الإجتماعية بالمجلس الأعلى حسب مقتضيات المادة 576 من المدونة تتولى مهام غرفة تحكيمية ولا تنظر في الطعون المقدمة إليها كهيئة قضائية، وإنما كغرفة إجتماعية أو كامتداد لمسطرة التحكيم التي انطلقت مع الحكم وبطبيعة الحال فإن الطعون التي تقدم أما هذه الغرفة تتعلق بالشطط في إستعمال السلطة أو بخرق القانون أو هما معاً، التي تقدمها الأطراف ضد القرارات التحكيمية.
الاجراءات المسطرة التي تتبعها الغرفة الإجتماعية
تتقدم الأطراف بطعونها داخل أجل خمسة عشرة يوما إبتداء من تاريخ تبليغها أو توصلها بالقرارات المطعون فيها، ويجب أن تتضمن طلبات الطعن الأسباب وأن تكون الرسالة المذكورة مرفقة بنسخة من القرار المطعون فيه ( المادة 577 من المدونة).
وبعد دراسة الطعن والبت فيه من قبل الغرفة الإجتماعية تقوم هذه الأخيرة بإصدار قرارها في أجل أقصاه ثلاثون يوما من تاريخ رفع الطعن إليها، ويتم تبليغ القرار إلى الأطراف داخل أجل 24 ساعة من تاريخ صدوره (المادة 578 من المدونة)، وفي حالة نقض القرار التحكيمي كله أو بعضه تحيل الغرفة التحكيمية النازلة على حكم جديد يعين وفقا للشروط المنصوص عليها في المادة 579 التي تحيل على المادتين 568 و569 من المدونة . وفي حالة نقض القرار التحكيمي الثاني، والطعن فيه أمامها وجب على الغرفة التحكيمية تعيين مقرر من بين أعضائها لإجراء بحث تكميلي وإصدار قرار تحكيمي في أجل ثلاثين يوما الموالية لصدور قرار النقض الثاني، يكون غير قابل لأي طعن وفقا للمادة 580 من المدونة .
إذا كان التشريع المغربي على غرار التشريعين الفرنسي والمصري يجيز الطعن في الفرارات التحكيمية الصادرة في نزاعات الشغل الجماعية، فإن التساؤل المطروح هو من له الحق في الطعن في هذه القرارات؟ خاصة وأن مدونة الشغل لم تتضمن نص صريح يسمح للسلطة الحكومية المكلفة بالشغل بالاضافة إلى طرفي وأطراف النزاع بالجق في الطعن في قرارات التحكيم كما كان سابقا في ظل ظهير 19يناير 1946 الخاص بالمصالحة والتحكيم في نزاعات الشغل الجماعية.، أم أنه سيقتصر على طرفي وأطراف النزاع.
خلاصة القول، تكمن أهمية تسوية منازعات الشغل في تكريس مبادئ السلم الإجتماعي داخل المقاولات بشكل ينعكس إيجابا على تطوير الإنتاجية للحفاظ على رصيد الشغل، وذلك لتدعيم آليات الحوار والتصالح، عند إثارة المساطر المتعلقة بتسوية نزاعات الشغل الفردية أو الجماعية، والتي تأخذ بعين الإعتبار الأعراف ومبادئ العدل والإنصاف في المهنة، ثم إلى أي حد استطاع المشرع المغربي من خلال المقتضيات القانونية لمدونة الشغل أن يخلق نوعا من التوازن بين الأجراء والمشغل، لتسوية نزاعات الشغل ؟
الهوامش
[[1]]url:#_ftnref1 محمد سعيد بناني " قانون الشغل بالمغرب في ضوء مدونة الشغل علاقة الشغل الفردية" الجزء الأول، مكتبة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2005، الصفحة 73 .
[[2]]url:#_ftnref2 الحاج الكوري، " قانون الشغل والحوار الإجتماعي " مطبعة الأمنية الرباط ، سنة 2002، الصفحة 5.
[[3]]url:#_ftnref3 عبد الطيف الخلفي، "الوسيط في علاقات الشغل الجماعية دراسة مقارنة في ضوء لأحكامي التشريع والقضاء وآراء الفقه" الطبعة الاولى لسنة 1999، الصفحة 189.
[[4]]url:#_ftnref4 أحمد بوهرو،" نزاعات الشغل الجماعية وفقا المدونة الجديدة للشغل "مطبعة دار القلم الرباط ، السنة 2004، الصفحتين 7و8.
[[5]]url:#_ftnref5 عبد اللطيف خالفي، ، المرجع سابق، الصفحة 13.
[[6]]url:#_ftnref6 الحاج الكوري، " مدونة الشغل الجديدة قانون رقم 99/65 أحكام عقد الشغل " الصفحة 300.
[[7]]url:#_ftnref7 عبد اللطيف خالفي، "الوسيط في علاقات الشغل الجماعية دراسة مقارنة في ضوء لأحكامي التشريع والقضاء وآراء الفقه"، الصفحات من 15 إلى 18.
[[8]]url:#_ftnref8 عبد الطيف الخلفي، " الوسيط في مدونة الشغل الجزأ الثاني علاقة الشغل الجماعي" الطبعة الاولى لسنة 2006، الصفحة 27.
[[9]]url:#_ftnref9 الحاج الكوري، " مدونة الشغل الجديدة" مرجع سابق، صفحة 306.
[[10]]url:#_ftnref10 عبد اللطيف خالفي، "الوسيط في علاقات الشغل الجماعية "،المطبعة والوراقة الوطنية مراكش، سنة 1999، الصفحتان 34 و 35..
[[11]]url:#_ftnref11 الحاج الكوري، " مدونة الشغل الجديدة" مرجع سابق، صفحة 304.
[[12]]url:#_ftnref12 د.موسى عبود"دروس في القاتنون الاجتماعي" المركز الثقافي العربي بيروت،الطبعة الثالثة 2004،ص 290.
[[13]]url:#_ftnref13 Louis Damour : » La conciliation et l’arbitrage en matière de grève » Th. Monpellier. 1942p 61 .
[[14]]url:#_ftnref14 محمد سعيد بناني،" قانون الشغل بالمغرب قي ضوء مدونة الشغل علاقات الشغل الفردية" مكتبة دار السلام الرباط، الجزأ الثالث، سنة 2011، ص 694.
[[15]]url:#_ftnref15 عبد الطيف الخلفي، " الوسيط في مدونة الشغل الجزأ الثاني علاقة الشغل الجماعي" الطبعة الاولى لسنة 2006، الصفحة 215.