أولا: الأمن القانوني:
يعتبر الأمن القانوني مبدأ من مبادئ القانون يتوخى منه أن يسود و يستغرق التشريع، سواء كان تشريعا أساسيا، أو عاديا، أو فرعيا، لكونه عنصرا من عناصر شيوع الثقة في المجتمع، كلما كان واضحا في قواعده، وسهلا على الولوج و الفهم و الاستيعاب من قبل مخاطبيه، و ان يكون توقعيا غير متسم بالإغفال أو العوار القانونيين. و الأمن القانوني بصفة عامة مبدأ من مبادئ دولة القانون التي من سماتها الأساسية سيادة حكم القانون و فصل السلط واستقلال القضاء، وضمان حماية ناجعة للحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات. و هو ما يعني بان الأنظمة القانونية والقضائية[1] يجب أن لا تتسم بتضخم في النصوص القانونية والتعديلات المتكررة أو المراجعات المستمرة للاجتهاد القضائي، تفاديا لخلق حالة عدم الاستقرار القانوني والقضائي مما قد يترتب عنها فقدان الثقة المشروعة في القوانين والأحكام القضائية و شيوع عدم استقرار المعاملات. هذه الأوضاع قد تشكل في مجملها مصدر تهديد حقيقي للأمن القانوني و الأمن القضائي و هو ما يستدعي سن تشريعات معقلنة تبعث على الاطمئنان بما يضمن تطبيقا سلسا لها من طرف القضاء، كمدخل أساسي لتحقيق الأمن القضائي.
ورغم أهمية مبدأ الأمن القانوني والقضائي فانه لم يرد كمبدأ دستوري في معظم الدساتير أو في النصوص التشريعية إلا في بعض الدول كاسبانيا والمغرب. لكن الاجتهاد القضائي الأوربي لكل من محكمة العدل للمجموعة الأوربية والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان يعتبر المصدر الرئيسي المؤسس للمبادئ التي يجب أن تتوفر في التشريعات الوطنية الأوربية و من أهمها مبدأ الأمن القانوني و الأمن القضائي، وهو التوجه الذي تبناه مبكرا مجلس الدولة في فرنسا بشكل واضح، خلافا للمجلس الدستوري الغارق في الدستورانية أو محكمة النقض الوفية لوظيفتها كمحكمة قانون. فهل الامن القانوني مبدأ دستوري ام مبدأ قانوني؟ و هل هو قيمة أو غاية القانون؟ ام هو جودة نظام قانوني؟ ام هو مفهوم يندرج في اطار نظرية القانون أو فلسفة القانون[2].
و إنه من المعلوم أن الغاية من التشريع، هو تحقيق التوازن على المستوى السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي من خلال إصدار تشريعات توقعية ومعيارية ، مطابقة للدستور و للمواثيق الدولية، يضطلع القضاء الدستوري فيها بوظيفة حماية الدستور عن طريق ممارسة الرقابة المركزية على دستورية القوانين بشقيها: الرقابة السابقة ( أي الرقابة الوقائية أو السياسية)، و الرقابة اللاحقة ( أي الرقابة القضائية)، فإنه بعد فحص القانون المطعون بعدم دستوريته، يصرح إما الحكم بدستوريته، لكون القانون لا يخالف الدستور، أو الحكم بعدم دستوريته لمخالفته الدستور.
و من أجل الإحاطة بالموضوع سنتطرق في باب أول للأمن القانوني من خلال التعريف بالمفهوم، مصدره، شروطه، ومكانته في التشريع والقضاء. و في الباب الثاني سنتولى مناقشة الأمن القضائي بمقاربة المفهوم وتطوره، وكدا مقوماته الدستورية و القضائية.
1-في مفهوم الأمن القانوني
يعرف الامن القانوني بانه عمليةprocessus وليس مجرد فكرة، تستهدف توفير حالة من الاستقرار في العلاقات والمراكز القانونية، ودلك من خلال اصدار تشريعات متطابقة مع الدستور ومتوافقة مع مبادئ القانون الدولي . غايتها اشاعة الثقة والطمانينة بين اطراف العلاقات القانونية من اشخاص القانون الخاص او اشخاص القانون العام، بحيث يجب على التشريع ان لا يتسم بالمفاجئات والاضطراب، أو التضخم في النصوص، أو برجعية rétroactivité القوانين أو القرارات، الامر قد يزعزع الثقة في الدولة و قوانينها[3] بالنظر إلى عدم ضمان حماية فعالة للحقوق والحريات الاساسية . مما يعني ان الامن القانوني أصبح مبدأ و ضرورة في دولة القانون، اعتبارا لكون القاعدة القانونية يجب أن تقوم على الامن القانوني. وبصفة عامة يمكننا القول بأن مدلول الامن القانوني هو غاية القانون، و قيمة معيارية، وظيفته هي تأمين النظام القانوني[4] من الاختلالات و العيوب التشريعية الشكلية و الموضوعية و هو ما يستدعي سن تشريعات يجب أن تتسم بالوضوح في قواعدها، و أن تكون توقعية Prévisible، و معياريةNormatif ، و هي ثلاث مرتكزات بديهية Axiomatique يقوم عليها القانون، وردت ضمن متطلبات أخرى يقتضيها الامن القانوني لتفادي اصدار تشريعات مضطربة بعد ملاحظة تنامي وشيوع حالة عدم الامن القانوني، الأمر الذي دفع إلى فتح نقاش قانوني واسع بشأن المفهوم، نتج عنه اما دسترة المبدأ في بعض الدول أو الاعتراف به قضائيا في العديد من الانظمة القضائية الأوربية و الوطنية.
2- نشأة مبدأ الأمن القانوني
ان أهم ما يتصف به كل قانون هو صبغة الالزام ، و ان يكون مصدره نص قانوني أو تشريع دستوري. و فكرة الامن القانوني لم تكتسب صفة المبدأ في التشريعات الوطنية، سواء كانت تشريعات أساسية أو عادية أو فرعية، الا بعد تواتر اجتهادات محكمة العدل للمجموعة الاوربية justice de Communauté européenne Cour de ابتداء من ستينات القرن العشرين، في قرارها الصادر بتاريخ 22 مارس 1961[5] ، و المحكمة الاوربية لحقوق الانسان Cour européenne des droits de l’Homme مند سنة 1979 في قرارها الصادر في قضية [6]Marckx ، بحيث اعتبر القاضي الاوربي ان الامن القانوني مبدأ من المبادئ الأساسية التي يجب ان تتوفر في القانون الأوربي، رغم ان قانون المجموعة الاوربية والاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان لم يرد فيهما ما يفيد التنصيص على مبدأ الامن القانوني كمبدأ ملزم لدول الاتحاد الاوربي في تشريعاتها. الأمر الذي يفسر بان القضاء الأوربي تفطن إلى اهمية قيام مبدأ الامن القانوني في التشريعات الوطنية الاوربية لكي لا يتم خلق جزر من اللامن في الانظمة القانونية و المؤسساتية قد يصعب معها توفير الامن بشكل عام، و هو المبدأ الذي كان القانون الالماني سباقا إليه[7]، قبل العمل به من طرف محكمة العدل للمجموعة الاوربية أو المحكمة الاوربية لحقوق الانسان. أمام تشديد القضاء الاوربي على أهمية مبدأ الامن القانوني، تم القبول بالمبدأ في العمل القضائي في كل من سويسرا و هولندا و فرنسا[8]. في حين اعتبره الدستور الاسباني لسنة 1978 مبدأ دستوريا في الفصل 9 الفقرة 3 بتأكيده أن ‘’الدستور يضمن مبدأ الشرعية، و تراتبية القواعد القانونية، و نشرها، وعدم رجعية المقتضيات العقابية التي ليست لصالح الأفراد أو كونها تحد من حقوقهم ، أو الأمن القانوني و مسؤولية السلطات العمومية و يحمي جميع هذه المبادئ من أي عمل تحكمي’’ . خلافا للدستور الالماني الذي أخد بفكرة الأمن القانوني دون دسترة المبدأ صراحة في الوثيقة الدستورية، لكن هذا الاغفال، لم يقيد القضاء الدستوري الالماني في القبول بالمبدأ و التاكيد على أهميته في التشريع و السياسات العمومية، اعتبارا لكون التشريع يستهدف توفير الامن القانوني الذي يعتبر عنصرا من عناصر الأمن القومي.
فرنسا ستتأثر بدورها باجتهادات القضاء الاوربي و الألماني المتعلقة بمبدأ الأمن القانوني، و هو ما دفع بالمجلس الدستوري إلى الاعتراف بالمبدأ و بشكل متدرج ضمن قراراته بتأكيده المتواتر أن القوانين يجب أن تكون واضحة في معانيها، و أن تكون توقعية و معيارية، و غير متسمة بالرجعية، أو بالاغفال القانوني[9]. محكمة النقض الفرنسية بدورها لم تخرج عن توجه المجلس الدستوري، و هو ما يستخلص من قراراتها التي لم يرد بها مفهوم الامن القانوني أو كونها رامت إلى تعريفه[10]. لكن مجلس الدولة الفرنسي كان أكثر شجاعة و جرأة من المجلس الدستوري و من محكمة النقض، الذي أكد صراحة في قراره المؤرخ في 42/03/2006 ، على مبدأ الأمن القانوني[11]، معتبرا بأن الأمن حق من حقوق الإنسان، و يفهم من ذلك بأن مجلس الدولة استند إلى مبدأ دستوري يتمثل في اعلان الحقوق و المواطن لسنة 1789 الذي أكد في المادة 2، بأن الأمن من الحقوق الطبيعية للفرنسيين و الغير القابلة لأي مساس.
3- متطلبات الأمن القانوني
ان مبدأ الأمن القانوني له دلالات تاريخية و فلسفية، تم الاعتراف به كمبدأ من طرف الاجتهاد القضائي بصفة أولية، قبل أن يتقرر ادراجه في صلب بعض التشريعات الوطنية. لكنه لتحقيق أمن قانوني يتعين بالضرورة على السلطة التشريعية و السلطة التنفيدية اصدار تشريعات خالية من العيوب الشكلية و الموضوعية تبعث على الاطمئنان و على استقرار في العلاقات و المراكز القانونية داخل الدولة، الأمر الذي يجب معه على القوانين بمناسبة اعدادها و مناقشتها التأكد من استيفائها للشروط و المتطلبات التي تستدعيها المبادئ الدستورية و الدولية و ذلك لضمان اصدار تشريعات سليمة من العيوب، و من أهمها عيب الأمن القانوني.
و اعتبارا لكون الأمن القانوني قد أصبح مبدأ من مبادئ دولة القانون، فانه على سلطات الدولة توفير شروطه و التي تمثلها العناصر التي يجب أن تسود سائر التشريعات وهي:
- مبدأ المساواة؛Egalité
- مبدأ عدم رجعية القوانين؛Non rétroactivité des lois
- وضوح القواعد القانونية وعدم تناقضها؛Clareté
- سهولة فهم و استيعاب القواعد القانونية من قبل المخاطبين بها؛ Compréhensible et intelligible
- أن تكون القواعد معيارية؛Normative
- قابلية القانون للتوقع؛Prévisible
- عدم الاغفال أو العوار القانوني؛
- سهولة الولوج إلى القانون و إلى المحاكم؛Accéssibilité
- الشفافية؛ Transparence
- حظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
4- أهداف الأمن القانوني
ان الغاية التي يتوخاها مبدأ الأمن القانوني هي ضمان اصدار تشريعات متطابقة مع الدستور، و مع القانون الدولي لحقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني، بما يكفل حماية الحقوق و الحريات من الآثار السلبية و الثانوية التي قد تنتج عن التشريع عن طريق اصدار قوانين أو مراسيم تتسم بالتضخم أو التعقيد، و عدم التجانس أو التكامل ، و اما نتيجة التعديلات المتكررة للقوانين كما هو الحال بالنسبة للقوانين المالية أو القوانين الاجرائية. و يترتب عن ذلك فقدان الثقة المشروعة في الدولة و قوانينها.
و من الأهداف أيضا التي يقتضيها الأمن القانوني هو بناء دولة القانون يخضع فيها جميع أشخاص القانون الخاص و القانون العام،
بما في ذلك الدولة، للقوانين الصادرة عن السلطات المختصة، و التي تطبق على الجميع بالتساوي و يحتكم في اطارها إلى قضاء مستقل، و تتفق مع القواعد و المعايير الدولية لحقوق الانسان[12]. و من أجل تحقيق مبادئ دولة القانون كغاية قانونية، يتعين توفير الآليات و الوسائل المؤسساتية و القانونية تمتد من الدستور إلى أبسط القواعد، و التي يعتبر من أهمها، مبدأ فصل السلطات، المساواة و المسؤولية أمام القانون، الرقابة القضائية، استقلال القضاء، و الشفافية الاجرائية و القانونية.
5- الأمن القانوني في التشريع المغربي
ان التشريع المغربي سواء كان تشريعا أساسيا أو عاديا أو فرعيا، ليس فيه ما يفيد التنصيص صراحة على تبنيه مبدأ الأمن القانوني. لكن عدم ورود الأمن القانوني كمبدأ في الدستور أو القانون، لا يعني بأي حال من الأحوال تنكر المشرع المغربي للمبدأ، بالنظر إلى كون أهدافه تقوم على جودة و معيارية القانون و استقراره. و من أجل ضمان الأمن القانوني يتعين معرفة ما اذا كان الدستور يوفر الآليات السياسية و القانونية لضمان اصدار قوانين تتسم بالجودة و المعيارية، و التي هي من وظائف السلطة التشريعية و الحكومة و القضاء الدستوري.
إن مختلف التشريعات قبل أن تصير قوانين نافذة، تمر بعدة مراحل، تستدعيها المسطرة التشريعية التي تحكم كل تشريع، سواء كان مصدره البرلمان الذي يبدأ في شكل مقترح قانون، أو مصدره الحكومة الذي يقدم في شكل مشروع قانون. ان إقتراحات القوانين الصادرة عن البرلمان أو الحكومة تعتبر مصدر الإنتاج التشريعي الذي يتعين فيهان يصدر مطابقا للدستور، و بألا تتخلله عيوبا شكلية أو موضوعية تحت طائلة عدم الدستورية.
و لضمان إصدار تشريعات مطابقة للدستور يتعين وجوبا على البرلمان بوصفه السلطة التشريعية و المشرع الأساسي أن يتقيد إبان عملية الإقتراح أو التصويت على القوانين بالشروط التي تتطلبها الدولة القانونية، و من أهمها سمو القاعدة الدستورية على القاعدة القانونية، لأن الأولى أعلى و الثانية أدنى، و هذا ما يتحقق معه الأمن القانوني بمراعاة التشريع لأحكام الدستور و الإتفاقيات الدولية، لأن الإتفاقيات الدولية تعلو على القانون الداخلي و لا تعلو على الدستور.
فإذا كان التشريع ينقسم إلى تشريع أساسي ( الدستور) و تشريع عادي ( القانون)، و تشريع فرعي ( التنظيم)، فإنه تبعا لذلك يمتاز كل تشريع بخصائص تميزه عن الآخر، سواء تعلق الأمر بالجهة المصدرة له أو بالنظر إلى درجة تراتبيته. فالبرلمان هو المشرع الأساسي، في حين أن الحكومة مشرع إستثنائي، لا حق لها في التعدي على سلطة البرلمان بالتشريع إلا في الحدود التي أجاز لها ذلك الدستور، بوصفها سلطة تنظيمية و قد يكون ذلك في الأحوال العادية أو غير العادية أو بموجب قانون الإذن أو خلال الفترة الفاصلة بين الدورات البرلمانية. المبادرة الحكومية بالتشريع ملزمة باحترام مقتضيات الدستور و ضوابط المسطرة التشريعية لأن كل انحراف في التشريع الذي مصدره الحكومة أو اتسامه بعيوب شكلية أو موضوعية سيعرضه للإلغاء و عدم الدستورية. و هي ذات الأحكام الواجب التقيد بها من طرف البرلمان عند التصويت على التشريع، لأن التشريعين معا يخضعان للرقابة الدستورية التي تتولاها المحكمة الدستورية المكلفة بهذه الوظيفة بمقتضى الدستور، لأن دورها هو حماية الدستور إلى جانب الملك حتى لا يتضمن التشريع نصوصا أو مقتضيات قد تتعارض مع أهداف الأمن القانوني الذي يتوخاه الدستور.
أ-دور السلطة التشريعية في توفير الأمن القانوني
إن تقديم اقتراحات قوانين حق مسند للحكومة و لأعضاء البرلمان ( الفصل 78 الفقرة 1 من الستور)، يمارس البرلمان السلطة التشريعية و يختص بمجال القانون عن طريق تقديم مقترحات قوانين تشمل القوانين العادية و التنظيمية و اقتراح تعديلات قد تستهدف كل القوانين، نظرا للسلطة التقديرية الواسعة التي ينفرد بها البرلمان دون الحكومة. في حين تمارس الحكومة السلطة التنفيذية التي تتقاسمها مع الملك بوصفه رئيسا للدولة، وفقا للشكل الذي يقرره الدستور، و بناء عليه، فالحكومة يتحدد اختصاصها في التشريع بمجال التنظيم الذي هو غير مجال القانون.
لكن لا شيء يحد من سلطتها بإقتراح القوانين سواء كانت تنظيمية أو عادية أو تقديم مشاريع تتوخى تعديل قوانين. في مجال التشريع تعتبر الحكومة مشرعا إستثنائيا أو ثانويا ( الفصل 70 من الدستور)، و يختص بما لا يدخل في مجال القانون، أي مجالها هو التنظيم، و كل تنازع في الإختصاص بالتشريع بين الحكومة و البرلمان تفصل فيه المحكمة الدستورية، و من هنا تنشأ عملية الرقابة الدستورية على التشريع التي تبدأ رقابة سياسية سابقة لإصدار القانون، تتوخى إنتاجا تشريعيا خال من مثالب العيوب الشكلية أو الموضوعية التي قد تتعارض مع الوثيقة الدستورية بوصفها أسمى قانون الذي يحدد النظام السياسي للدولة و يرسم حدود العلاقة بين السلط و بما يضمن توازنها، عملا بمبدأ الفصل بين السلطات، و يبين الحقوق و الحريات للمواطنين و المواطنات حتى لا يقع التعدي عليها من سلطات الدولة بمناسبة الإنحراف في التشريع أو الإنحراف في استعمال السلطة.
ب- دور الحكومة في توفير الأمن القانوني:
نقصد بالمبادرة التشريعية ذات المصدر الحكومي اقتراح القوانين التي تتولى السلطة التنفيذية التقدم بها في المجلس الوزاري الذي ينعقد برئاسة الملك، و لذلك سنترك المبادرة التشريعية ذات المصدر الملكي جانبا و التي كانت موضوع مناقشة في الفصل الأول من هذا الكتاب، علما أن المجال التنظيمي موزع بين رئيس الحكومة و رئيس الدولة في أغلب النظم السياسية المقارنة.
فاقتراحات القوانين الصادرة عن الحكومة عرفها الفقه بمشاريع القوانين التي تنضاف إلى الاختصاص التشريعي المقرر لها بمقتضى الدستور، و المتمثل في التشريع في الحالة العادية مع وجود البرلمان و يسمى بتشريع التفويض أو في الحالة الخاصة أي في غياب البرلمان أي في الأحوال غير العادية و يسمى بتشريع الضرورة.
و تتحدد الوظيفة التشريعية للحكومة في المجال التنظيمي الذي لا يشمله اختصاص القانون طبقا للمادة 72 من الدستور، علما أنه من صلاحيات الحكومة أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون ( المادة 79/ف1)، في حين أن البرلمان لا يوجد في الدستور ما يسمح له من ممارسة الدفع بعدم الاختصاص التشريعي للحكومة، هذا ما يقوي مركز الوظيفة التشريعية للحكومة على البرلمان، و يعدو معه توزيع الاختصاص التشريعي غير متوازن أو غير متكافئ. فالتفويض التشريعي مقرر بموجب الدستور، بمقتضاه يسمح البرلمان للحكومة ممارسة وظيفة التشريع خلال مدة معينة و من أجل غرض معين، لكون التفويض التشريعي أو قانون الإذن ينتهي بنهاية ولاية المجلس[13] الذي أصدره.
و لقد اعتبر جانب من الفقه أن المراسيم التفويضية هي بمثابة مراسيم تنظيمية لكونها صادرة عن السلطة التنفيذية، لكن بعد المصادقة عليها من طرف البرلمان تكتسي طابعا تشريعيا، الأمر الذي يمكنها بأن تحصن ضد أي طعن إداري لكون الأعمال التشريعية لا يمكن الطعن فيها في إطار دعوى المشروعية [14]، ( دعوى الإلغاء)، لكونها تكتسي قوة القانون بعد مصادقة البرلمان عليها[15] .
ج- دور القضاء الدستوري في توفير الأمن القانوني:
إن الرقابة على دستورية القوانين و المراسيم التشريعية هي آلية فعالة لضمان احترام فصول الدستور و مبادئه، و هو الأسلوب الرقابي الذي يتخذ شكلين: رقابة سياسية و رقابة قضائية. و تعتبر فرنسا هي الدولة التي أرست و لأول مرة أسلوب الرقابة السياسية على دستورية القوانين الذي يكون إما إجباريا أو اختياريا، حالة الوجوب بإعمال الرقابة الدستورية تكون بمناسبة المصادقة من طرف البرلمان على القوانينن العضوية أو النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان، و في المقابل تبقى الرقابة الإختيارية حق لإصحاب الصفة يمكن ممارسته من عدمه و مجالها القوانين العادية، وفقا للشكل و المسطرة المنصوص عليهما في دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958، و هي الفلسفة التي تحكم التشريع الدستوري الفرنسي التي عارضت الأخذ باسلوب الرقابة القضائية اللاحقة على القوانين المطبق في الأنظمة الدستورية الأنجلوسكسونية التي تتبع في معظمها رقابة الإمتناع و ليس رقابة الالغاء، و مفاد ذلك أنه و لو في غياب تفويض من الدستور لا شيء يحول دون إعمال مبدأ الرقابة على القوانين من طرف المحاكم بمناسبة نزاع معروض عليها، و هو الاتجاه الذي أخذ به القضاء الأمريكي والقضاء المصري قبل إحداث المحكمة العليا و المحكمة الدستورية العليا التي خصها المشرع المصري بإحتكار مجال الرقابة الدستورية على القوانين و اللوائح ضمن ما يعرف بآلية الرقابة المركزية و الانهاء مع فترة اللامركزية في الرقابة.
المشرع الدستوري المغربي لم يخرج من دائرة تأثير التشريع الدستوري الأوربي، و خاصة الفرنسي، و هو ما يلاحظ من خلال قراءة الدساتير المغربية 1962 -1970-1972-1992-1996، التي تفيد صراحة تبنيها مبادئ تكاد تماثل تلك الواردة في الدستور الفرنسي، خاصة في الباب المتعلق بالرقابة الدستورية على القوانين و المراسيم التشريعية، بحيث أنه تبنى أسلوب الرقابة السياسية الوقائية منذ دستور 1962 دون أسلوب الرقابة القضائية اللاحقة لإصدار القوانين، الذي أخذ به و لأول مرة في دستور 2011 ( الفصل 133)، ضمن ما يعرف بنظام الدفع الفرعي بعدم الدستورية و هو الأسلوب الذي جاء به قبله الدستور الفرنسي سنة 2008 في المادة 61-1 و يعرف بالمسألة الدستورية ذات الأولوية La Question prioritaire de constitutionnalité Q.P.C))التي تسمح للمتقاضين ( Les justiciables) إثارة مسألة عدم الدستورية بمناسبة النظر في دعوى أمام جهة قضائية إذا ما تبين لهم أن نصا تشريعيا يمثل إعتداء على الحقوق و الحريات التي يكفلها الدستور، علما أن إتصال المجلس الدستوري بالمسألة الدستورية يكون بناء على إحالة من مجلس الدولة أو من محكمة النقض، بعد ممارسة مسطرة التصفية، تهمل تلك الطعون التي لا تتوفر فيها شروط الإحالة إما برفضها أو عدم قبولها و تحيل الطعون التي تكتسي طابع الجدية لاحترامها الشروط الشكلية و الموضوعية الواجبة في إثارتها.
إذا كانت الرقابة الدستورية بصفة عامة تتفرع إلى أسلوبين و هما: أسلوب الرقابة السياسية الذي يمارس بعد التصويت على القوانين من طرف البرلمان و قبل إصدارها و نشرها، و أسلوب الرقابة القضائية اللاحقة لصدور القوانين، فإن الرقابة القضائية بدورها عرفت تنوعا باختلاف الأنظمة الدستورية و القانونية و القضائية المعمول بها في كل دولة. و الرقابة القضائية الدستورية كما يستخلص من مبناها، هي عملية قانونية تفحص دستورية القوانين التي سنها البرلمان، تتولاها هيئة قضائية تصدر أحكاما قضائية[16] ذات طبيعة دستورية ملزمة للكافة، و لا تعقيب عليها، لكونها غير قابلة لأي طعن، غايتها حل تنازع بين قاعدتين قانونيتين، واحدة دستورية و أخرى تشريعية [17].
و تتنوع أساليب الرقابة الدستورية القضائية، تبعا لإختلاف النظم السياسية و الدستورية التي بدأت في شكل رقابة امتناع باجتهاد من القضاء و من دون نص دستوري. و لقد تطورت إلى رقابة إلغاء بتكليف من الدستور وفق إجراءات و مساطرمحددة، قد تتضمنها الوثيقة الدستورية، أو تسند تفاصيلها إلى قانون تنظيمي أو عضوي. و لقد آثر الفقه الدستوري على تقسيم نظام الرقابة القضائية على دستورية القوانين إلى أسلوبين رئيسيين أو إلى ثلاثة أساليب، استنادا إلى الآثار التي يرتبها كل أسلوب، إما بالامتناع عن تطبيق القانون المطعون فيه و إما بإلغائه، و هي:
- الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية أو رقابة الالغاء اللاحقة.
- رقابة الامتناع أو الدفع الفرعي.
- الرقابة بواسطة المزج بين أسلوب الدفع الفرعي و الدعوى الأصلية.
ثانيا: الأمن القضائي:
إن الأمن القضائي له علاقة وطيدة بالأمن القانوني، معظم التشريعات المقارنة لم تعرف مفهوم الأمن القانوني، سواء كان تشريعا أساسيا ( الدستور)، أو تشريعا عاديا ( القانون). و لذلك فإن تحديد المفهوم ينطوي على عدة مخاطر نظرية، يصعب تعريفه بشكل دقيق.
و هو ذات الأمر ينطبق على مفهوم الأمن القضائي، لهذا فإن تعريفه ذات مصدر فقهي، اعتمد على مجموعة من المبادئ و الحقوق، التي يجب أن تسود و تضمن في القوانين بشكل لا تتعارض مع الدستور، و مع الاتفاقيات الدولية. و على خلاف الاغفال الدستوري لمفهوم الأمن القانوني، تم التأكيد في الدستور المغربي بان الأمن القضائي مبدأ دستوري عملا بمقتضيات الفصل 117 الذي ينص بأنه ‘’يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص و الجماعات و حرياتهم و امنهم القضائي، وتطبيق القانون’’. و يستخلص من الفصل المذكور ان المشرع الدستوري ارتقى بالأمن القضائي إلى درجة المبدأ الدستوري و هو ما يعني سموه على سائر القوانين التي يجب أن تصدر و هي مطابقة للمبدأ، تحت طائلة عدم دستوريتها، اضافة إلى التفويض الدستوري الصريح للقضاء بأن يتولى وظيفة حماية الحقوق و الحريات و الأمن القضائي للأفراد و الجماعات.
1-في مفهوم الأمن القضائي:
يعتبر الأمن القضائي مفهوما من المفاهيم القانونية الحديثة الجدير بالدراسة و التحليل، بالنظر إلى حمولته الدستورية و الحقوقية، و لكونه ينطوي على غايات و مقاصد تحددها طبيعة المفهوم ، يمكن تناولها من خلال زاويتين: الأولى، أنه مفهوما موسعا يعكس الثقة في السلطة القضائية التي تتولاها المحاكم بمختلف أنواعها و درجاتها لكونها المصدر الأساسي للأمن القضائي، و الثانية ، من خلال انه مفهوما ضيقا يتمثل في تسييد و استقرار و توحيد الاجتهاد القضائي الذي تتولاه المحاكم العليا[18]. و يمكننا اضافة زاوية ثالثة تتمثل في توفير شروط الأمن القضائي للقضاة و من أهمها الاستقلالية عن السلطتين التشريعية و التنفيدية.
فالأمن القضائي بالمفهوم الواسع هو الذي يعكس الثقة في المؤسسة القضائية، و الاطمئنان إلى ما ينتج عنها وهي تقوم بمهمتها المتجلية في تطبيق أو قول القانون dire le droit على ما يعرض عليها من قضايا أو ما تجتهد بشأنه من نوازل، هذا مع تحقيق ضمانات جودة أدائها وتسهيل الولوج إليها. هذا الأمن القضائي لا تختص به جهة قضائية معينة و إنما يتعبأ له القضاء بمختلف فروعه سواء كان قضاءا عاديا أو متخصصا بل و يتجاوز حتى حدود القاضي الوطني في بعض الحالات كما هو الشأن بالنسبة لقضاة المحاكم الأوروبية[19]. و لذلك فإن الأمن القضائي يجب فهمه من هذا المستوى الموسع من وجهتين اثنتين. أنه يعتبر حاجزا وقائيا لفائدة الأشخاص ضد تجاوزات بعضهم البعض من جهة و حائلا دون تجاوز الإدارة ضد هؤلاء من جهة ثانية. كما أنه يشكل حماية للسلطات العمومية ضد الدعاوى التعسفية و الكيدية للمتقاضين. فيكون المستفيد من هذا الدور القضائي بصفة خاصة و الناظم القانوني بصفة عامة، و هو ما سينعكس إيجابا على حجم الثقة و استقرار المعاملات و الاطمئنان إلى فعالية النصوص القانونية و الوثوق بالقانون و القضاء في نهاية المطاف.
أما المفهوم الضيق فيرتبط بوظيفة المحاكم العليا المتمثلة بصفة أساسية في السهر على توحيد الاجتهاد القضائي و خلق وحدة قضائية. و يكتسي مفهوم الأمن القضائي أهمية نظرية تتمثل أساسا في الحزمة التشريعية و النصوص القانونية التي خصه بها المشرع لضمان تطبيقه السليم، إضافة إلى أهمية عملية تبرز في دوره المحوري المتمثل في تعزيز ثقة المتقاضين في جهاز العدالة وضمان حقوقهم و حرياتهم.
و يستخلص من أحكام الدستور أنه أكد على أهمية الأمن القضائي، لكنه لم يرد فيه تعريف للمفهوم، كما لا نجد له تعريف في الاجتهاد القضائي المغربي. لكن بالمقابل، فإن الملك محمد السادس بوصفه رئيسا للدولة، شدد في خطاب العرش بتاريخ 30/07/2007، بأنه " يتعين على الجميع التجند لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء لتعزيز استقلاله الذي نحن له ضامنون ( الفصل 108 من الدستور)، هدفنا ترسيخ الثقة في العدالة و ضمان الأمن القضائي، الذي يمر عبر الأهلية المهنية و النزاهة و الاستقامة و سبيلنا صيانة حرمة القضاء و أخلاقياته و مواصلة تحديثه و تأهيله".
لقد اعتبر جانب من الفقه بأن الأمن القضائي يعكس الثقة في السلطة القضائية و في القضاة، بالاطمئنان إلى ما يصدر عنهم من أحكام و قرارات و أوامر قضائية.
لأن القضاء في دولة القانون هو الجهة الوحيدة المخول لها حماية الحقوق و الحريات من أي خرق مهما كان مصدره، و كذا إقامة التوازن بين حق المجتمع في الحماية و الأمن، و حق الفرد في محاكمة عادلة.
إن أهم وظيفة يتولاها القضاء هو ضمان الأمن الاقتصادي و الأمن الاجتماعي، بحماية استقرار المعاملات و توفير مناخ قضائي يطمئن إليه المستثمرون، و كذا حماية الأفراد من تفشي الجرائم.
و يستخلص مما ذكر، بان الأمن القضائي نعرفه بأنه تعبير كاشف عن مدى ممارسة الفرد لحريته بكافة أشكالها، حرية التعبير، التنقل، الشفافية في الصفقات العمومية، قوانين استثمارية عادلة، حماية العمل السياسي، تامين مبدأ الثقة في القضاء و القضاة.
2- غاية الأمن القضائي:
ان الغاية من الأمن القضائي هو ضمان سيادة القانون للإسهام في التنمية الإقتصادية و السلم الإجتماعي، اعتبارا لكون المستفيد من الأمن القضائي هو المجتمع و الدولة. إن مناط السلطة القضائية هو تطبيق القانون، و لتأمين الأمن القضائي من طرف القضاء، يتعين وجود منظومة تشريعية متكاملة، متلائمة مع التشريعات الدولية و متطابقة مع مقتضيات الدستور.
و لقد اعتبر المؤتمر الثاني لرؤساء المحاكم العليا العربية بان الأمن القانوني مفهوم واسع يختلف من دولة إلى أخرى لاختلاف الأنظمة القانونية، و لأن الغاية من القانون هو تحقيق الأمن بمفهومه الواسع ( الإقتصادي، الإجتماعي، السياسي....الخ). و يفهم من الدستور بأن السلطة القضائية هي المصدر الأساسي للأمن القضائي، يتولاه القضاة، و لأن الأمن القضائي يتحقق عند شيوع الثقة في القضاء ( مؤسسة و قضاة)، التي تعكسها استقلالية السلطة القضائية ( الاستقلال العضوي) و استقلال القضاة ( الاستقلال الشخصي)، جودة الأحكام، سرعة الفصل في النزاعات، تنفيذ الأحكام القضائية ضد الإدارة و الأمن القضائي مبدأين أساسين في دولة القانون.
انه المعلوم أن القاعدة القانونية يجب أن تكون، واضحة، دقيقة، توقعية، غير منفصلة عن مبدأ الحق.
3- مقومات ومظاهرالأمن القضائي:
انه من مقومات و مظاهر الأمن القضائي تحقق و قيام المبادئ التالية:
- مبدأ الفصل بين السلطات
- استقلال القضاء و القضاة
- دسترة مبدأ الأمن القضائي
- توحيد الاجتهاد من عناصر الأمن القضائي
- جودة الأحكام من مداخل الأمن القضائي
إن من أسس و مبادئ دولة القانون، هو التقيد بمبدأ الشرعية، الذي يقتضي استقلالية القضاء، و إخضاع الكل، حاكمين و محكومين لسلطة القضاء، بإعمال المبدأ بأن المسؤولية تقتضي المساءلة.
إن القاضي ملزم بتطبيق القانون، و كل إخلال بذلك، هو مساس بالأمن القضائي، و كذا بالأمن القانوني. و استقلال القضاء يجب أن يكون عن سائر السلطات ( تنفيذية و تشريعية وغيرها)، و عن جميع العلاقات الشخصية المؤثرة، و عن جميع مجموعات الضغط (Groupes de pression) ، وعن التجاذبات السياسية أو المذاهب الفكرية أو الدينية.
إن التصرفات المعيبة للقاضي و انحراف القضاء عن تحقيق العدل، هو إخلال جوهري بالأمن القضائي، لأنه يمس بالمصلحة العامة، و هو ما يتطلب ضرورة تخليق القضاء .(La moralisation)
من أهم مظاهر الأمن القضائي هو ضمان قيام استقلال القضاء و استقلال القضاة، بما يؤكد توفر الشروط الدستورية و القانونية للاستقلال العضوي و للاستقلال الشخصي و الاستقلال المالي وا لإداري و المؤسساتي.
إن سيادة القانون هو أساس الحكم في الدولة، لأن الدولة يجب أن تخضع للقانون. و لا عقوبة إلا بناء على قانون. و لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون.
إن أهم مظاهر الأمن القضائي و الأمن القانوني هو عدم التنصيص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
كما ان الأحكام القضائية يجب أن تنفذ، و كل تعطيل بتنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين هو جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون. و للمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة.
إنه من المعلوم أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، و تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها و درجاتها، و تصدر أحكامها وفق القانون، و هذا ما يتعين أن يتحقق مع المحاكم المغربية.
و عليه فإنه لتحقيق الشرعية الدستورية و الشرعية القانونية، يتعين توافر سلطة قضائية مستقلة و على العكس من ذلك، فإن وجود قضاء غير مستقل و قضاة غير مستقلين، يشكل تهديدا لاستقرار الدولة و المجتمع، اعتبارا لما قد يخلقه هذا الوضع من فقدان الثقة لدى المواطنين في القضاء و القضاة، و بالتالي سنكون أمام أزمة الأمن القضائي. لذلك و من أجل تحقيق استقلال فعلي للسلطة القضائية و القضاة، كاستقلال يتوخاه المجتمع و يخدم مصلحته بشقيه العضوي و الشخصي، الأمر الذي يتطلب توفير ضمانات دستورية و قانونية و سياسية تتلاءم مع القانون الدولي و المبادئ الدولية المتعلقة باستقلال القضاء و الأمن القضائي. و يتعين لتوفير الأمن القانوني إصدار تشريعات مطابقة للدستور، عن طريق إعمال مبدأ الرقابة على القوانين بشقيها السياسي و القضائي، لتفادي صدور قوانين قد تتسم بعيوب شكلية أو موضوعية و هو الدور المسند إلى القضاء الدستوري (المحكمة الدستورية ) الذي يتولى ممارسة فحص دستورية القوانين من عدمها بغاية حماية الدستور.
خاتمـــة :
- ان مجرد وجود السلطة القضائية لا يعنى قيام العدالة و الأمن القضائي و تحقيق دولة القانون التى يسود فيها القانون و تحمى فيها الحقوق و الحريات العامة بعد إقرارها دستورياً.
- ان كفالة حق التقاضى و جعله مصونا للناس كافة قد يتحول إلى وهم أمام سلطة قضائية فاقدة لضمانات استقلاليتها و تمارس عملها تحت تأثير الحكام أو المال أو تهديد المحكومين .
- ان تحصين أى عمل صادر عن أية سلطة عامة تشريعية أو تنفيذية من رقابة القضاء هو هدم لدولة القانون و تكافؤ الفرص و مخالف للقيم و المثل العليا المشتركة للإنسانية، و نافى لقيام فكرة الديمقراطية، ولو جاء ذلك التحصين بنصوص دستورية، فمبادئ الديمقراطية و القيم الإنسانية العليا التى ذكرناها سلفاً تمثل قيوداً على إرادة المشرع الدستورى.
- ان الدستور ان كان لا يخضع لرقابة القضاء فهو لا يكون كذلك و لا يعترف به ولا بقيمته السامية إلا إذا جاء من الشعب و على هوى الشعب متفقاً مع مبادئ الأمم المتحضرة، على الأخص ـ إضافة لما سبق ذكره فيما يتعلق بتنظيم السلطة القضائية التى هى لا غيرها الأمينة على دولة القانون وجوداً و إستمراراً بأحكامها الملزمة للكافة و التى لا تقبل التأويل أو التعطيل أو حتى مجرد التعليق عليها من سلطة عامة أخرى .
- أن تبقى فكرة القاضى الطبيعى للخصومة أمر لا مفر منه لأنه صنوان الدولة القانونية .
فخضوع الدولة للقضاء، أو إمكان مقاضاتها أمام القضاء و رضوخها لأحكامه شأنها شأن الأفراد ، يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية بغيره يغدو و مبدأ خضوع الدولة للقانون وهمياً أو نظرياً.
- ضرورة و أهمية احداث مجلس الدولة كمحكمة إدارية عليا بالنسبة لجهة القضاء الإداري، اضافة إلى تكليفه بوظيفة تقديم الاستشارة في مجال التشريع للحكومة بعرضها عليه مشاريع القوانين قبل مناقشتها في المجلس الحكومي أو الوزاري.
الهوامش
يعتبر الأمن القانوني مبدأ من مبادئ القانون يتوخى منه أن يسود و يستغرق التشريع، سواء كان تشريعا أساسيا، أو عاديا، أو فرعيا، لكونه عنصرا من عناصر شيوع الثقة في المجتمع، كلما كان واضحا في قواعده، وسهلا على الولوج و الفهم و الاستيعاب من قبل مخاطبيه، و ان يكون توقعيا غير متسم بالإغفال أو العوار القانونيين. و الأمن القانوني بصفة عامة مبدأ من مبادئ دولة القانون التي من سماتها الأساسية سيادة حكم القانون و فصل السلط واستقلال القضاء، وضمان حماية ناجعة للحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات. و هو ما يعني بان الأنظمة القانونية والقضائية[1] يجب أن لا تتسم بتضخم في النصوص القانونية والتعديلات المتكررة أو المراجعات المستمرة للاجتهاد القضائي، تفاديا لخلق حالة عدم الاستقرار القانوني والقضائي مما قد يترتب عنها فقدان الثقة المشروعة في القوانين والأحكام القضائية و شيوع عدم استقرار المعاملات. هذه الأوضاع قد تشكل في مجملها مصدر تهديد حقيقي للأمن القانوني و الأمن القضائي و هو ما يستدعي سن تشريعات معقلنة تبعث على الاطمئنان بما يضمن تطبيقا سلسا لها من طرف القضاء، كمدخل أساسي لتحقيق الأمن القضائي.
ورغم أهمية مبدأ الأمن القانوني والقضائي فانه لم يرد كمبدأ دستوري في معظم الدساتير أو في النصوص التشريعية إلا في بعض الدول كاسبانيا والمغرب. لكن الاجتهاد القضائي الأوربي لكل من محكمة العدل للمجموعة الأوربية والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان يعتبر المصدر الرئيسي المؤسس للمبادئ التي يجب أن تتوفر في التشريعات الوطنية الأوربية و من أهمها مبدأ الأمن القانوني و الأمن القضائي، وهو التوجه الذي تبناه مبكرا مجلس الدولة في فرنسا بشكل واضح، خلافا للمجلس الدستوري الغارق في الدستورانية أو محكمة النقض الوفية لوظيفتها كمحكمة قانون. فهل الامن القانوني مبدأ دستوري ام مبدأ قانوني؟ و هل هو قيمة أو غاية القانون؟ ام هو جودة نظام قانوني؟ ام هو مفهوم يندرج في اطار نظرية القانون أو فلسفة القانون[2].
و إنه من المعلوم أن الغاية من التشريع، هو تحقيق التوازن على المستوى السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي من خلال إصدار تشريعات توقعية ومعيارية ، مطابقة للدستور و للمواثيق الدولية، يضطلع القضاء الدستوري فيها بوظيفة حماية الدستور عن طريق ممارسة الرقابة المركزية على دستورية القوانين بشقيها: الرقابة السابقة ( أي الرقابة الوقائية أو السياسية)، و الرقابة اللاحقة ( أي الرقابة القضائية)، فإنه بعد فحص القانون المطعون بعدم دستوريته، يصرح إما الحكم بدستوريته، لكون القانون لا يخالف الدستور، أو الحكم بعدم دستوريته لمخالفته الدستور.
و من أجل الإحاطة بالموضوع سنتطرق في باب أول للأمن القانوني من خلال التعريف بالمفهوم، مصدره، شروطه، ومكانته في التشريع والقضاء. و في الباب الثاني سنتولى مناقشة الأمن القضائي بمقاربة المفهوم وتطوره، وكدا مقوماته الدستورية و القضائية.
1-في مفهوم الأمن القانوني
يعرف الامن القانوني بانه عمليةprocessus وليس مجرد فكرة، تستهدف توفير حالة من الاستقرار في العلاقات والمراكز القانونية، ودلك من خلال اصدار تشريعات متطابقة مع الدستور ومتوافقة مع مبادئ القانون الدولي . غايتها اشاعة الثقة والطمانينة بين اطراف العلاقات القانونية من اشخاص القانون الخاص او اشخاص القانون العام، بحيث يجب على التشريع ان لا يتسم بالمفاجئات والاضطراب، أو التضخم في النصوص، أو برجعية rétroactivité القوانين أو القرارات، الامر قد يزعزع الثقة في الدولة و قوانينها[3] بالنظر إلى عدم ضمان حماية فعالة للحقوق والحريات الاساسية . مما يعني ان الامن القانوني أصبح مبدأ و ضرورة في دولة القانون، اعتبارا لكون القاعدة القانونية يجب أن تقوم على الامن القانوني. وبصفة عامة يمكننا القول بأن مدلول الامن القانوني هو غاية القانون، و قيمة معيارية، وظيفته هي تأمين النظام القانوني[4] من الاختلالات و العيوب التشريعية الشكلية و الموضوعية و هو ما يستدعي سن تشريعات يجب أن تتسم بالوضوح في قواعدها، و أن تكون توقعية Prévisible، و معياريةNormatif ، و هي ثلاث مرتكزات بديهية Axiomatique يقوم عليها القانون، وردت ضمن متطلبات أخرى يقتضيها الامن القانوني لتفادي اصدار تشريعات مضطربة بعد ملاحظة تنامي وشيوع حالة عدم الامن القانوني، الأمر الذي دفع إلى فتح نقاش قانوني واسع بشأن المفهوم، نتج عنه اما دسترة المبدأ في بعض الدول أو الاعتراف به قضائيا في العديد من الانظمة القضائية الأوربية و الوطنية.
2- نشأة مبدأ الأمن القانوني
ان أهم ما يتصف به كل قانون هو صبغة الالزام ، و ان يكون مصدره نص قانوني أو تشريع دستوري. و فكرة الامن القانوني لم تكتسب صفة المبدأ في التشريعات الوطنية، سواء كانت تشريعات أساسية أو عادية أو فرعية، الا بعد تواتر اجتهادات محكمة العدل للمجموعة الاوربية justice de Communauté européenne Cour de ابتداء من ستينات القرن العشرين، في قرارها الصادر بتاريخ 22 مارس 1961[5] ، و المحكمة الاوربية لحقوق الانسان Cour européenne des droits de l’Homme مند سنة 1979 في قرارها الصادر في قضية [6]Marckx ، بحيث اعتبر القاضي الاوربي ان الامن القانوني مبدأ من المبادئ الأساسية التي يجب ان تتوفر في القانون الأوربي، رغم ان قانون المجموعة الاوربية والاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان لم يرد فيهما ما يفيد التنصيص على مبدأ الامن القانوني كمبدأ ملزم لدول الاتحاد الاوربي في تشريعاتها. الأمر الذي يفسر بان القضاء الأوربي تفطن إلى اهمية قيام مبدأ الامن القانوني في التشريعات الوطنية الاوربية لكي لا يتم خلق جزر من اللامن في الانظمة القانونية و المؤسساتية قد يصعب معها توفير الامن بشكل عام، و هو المبدأ الذي كان القانون الالماني سباقا إليه[7]، قبل العمل به من طرف محكمة العدل للمجموعة الاوربية أو المحكمة الاوربية لحقوق الانسان. أمام تشديد القضاء الاوربي على أهمية مبدأ الامن القانوني، تم القبول بالمبدأ في العمل القضائي في كل من سويسرا و هولندا و فرنسا[8]. في حين اعتبره الدستور الاسباني لسنة 1978 مبدأ دستوريا في الفصل 9 الفقرة 3 بتأكيده أن ‘’الدستور يضمن مبدأ الشرعية، و تراتبية القواعد القانونية، و نشرها، وعدم رجعية المقتضيات العقابية التي ليست لصالح الأفراد أو كونها تحد من حقوقهم ، أو الأمن القانوني و مسؤولية السلطات العمومية و يحمي جميع هذه المبادئ من أي عمل تحكمي’’ . خلافا للدستور الالماني الذي أخد بفكرة الأمن القانوني دون دسترة المبدأ صراحة في الوثيقة الدستورية، لكن هذا الاغفال، لم يقيد القضاء الدستوري الالماني في القبول بالمبدأ و التاكيد على أهميته في التشريع و السياسات العمومية، اعتبارا لكون التشريع يستهدف توفير الامن القانوني الذي يعتبر عنصرا من عناصر الأمن القومي.
فرنسا ستتأثر بدورها باجتهادات القضاء الاوربي و الألماني المتعلقة بمبدأ الأمن القانوني، و هو ما دفع بالمجلس الدستوري إلى الاعتراف بالمبدأ و بشكل متدرج ضمن قراراته بتأكيده المتواتر أن القوانين يجب أن تكون واضحة في معانيها، و أن تكون توقعية و معيارية، و غير متسمة بالرجعية، أو بالاغفال القانوني[9]. محكمة النقض الفرنسية بدورها لم تخرج عن توجه المجلس الدستوري، و هو ما يستخلص من قراراتها التي لم يرد بها مفهوم الامن القانوني أو كونها رامت إلى تعريفه[10]. لكن مجلس الدولة الفرنسي كان أكثر شجاعة و جرأة من المجلس الدستوري و من محكمة النقض، الذي أكد صراحة في قراره المؤرخ في 42/03/2006 ، على مبدأ الأمن القانوني[11]، معتبرا بأن الأمن حق من حقوق الإنسان، و يفهم من ذلك بأن مجلس الدولة استند إلى مبدأ دستوري يتمثل في اعلان الحقوق و المواطن لسنة 1789 الذي أكد في المادة 2، بأن الأمن من الحقوق الطبيعية للفرنسيين و الغير القابلة لأي مساس.
3- متطلبات الأمن القانوني
ان مبدأ الأمن القانوني له دلالات تاريخية و فلسفية، تم الاعتراف به كمبدأ من طرف الاجتهاد القضائي بصفة أولية، قبل أن يتقرر ادراجه في صلب بعض التشريعات الوطنية. لكنه لتحقيق أمن قانوني يتعين بالضرورة على السلطة التشريعية و السلطة التنفيدية اصدار تشريعات خالية من العيوب الشكلية و الموضوعية تبعث على الاطمئنان و على استقرار في العلاقات و المراكز القانونية داخل الدولة، الأمر الذي يجب معه على القوانين بمناسبة اعدادها و مناقشتها التأكد من استيفائها للشروط و المتطلبات التي تستدعيها المبادئ الدستورية و الدولية و ذلك لضمان اصدار تشريعات سليمة من العيوب، و من أهمها عيب الأمن القانوني.
و اعتبارا لكون الأمن القانوني قد أصبح مبدأ من مبادئ دولة القانون، فانه على سلطات الدولة توفير شروطه و التي تمثلها العناصر التي يجب أن تسود سائر التشريعات وهي:
- مبدأ المساواة؛Egalité
- مبدأ عدم رجعية القوانين؛Non rétroactivité des lois
- وضوح القواعد القانونية وعدم تناقضها؛Clareté
- سهولة فهم و استيعاب القواعد القانونية من قبل المخاطبين بها؛ Compréhensible et intelligible
- أن تكون القواعد معيارية؛Normative
- قابلية القانون للتوقع؛Prévisible
- عدم الاغفال أو العوار القانوني؛
- سهولة الولوج إلى القانون و إلى المحاكم؛Accéssibilité
- الشفافية؛ Transparence
- حظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
4- أهداف الأمن القانوني
ان الغاية التي يتوخاها مبدأ الأمن القانوني هي ضمان اصدار تشريعات متطابقة مع الدستور، و مع القانون الدولي لحقوق الإنسان و القانون الدولي الإنساني، بما يكفل حماية الحقوق و الحريات من الآثار السلبية و الثانوية التي قد تنتج عن التشريع عن طريق اصدار قوانين أو مراسيم تتسم بالتضخم أو التعقيد، و عدم التجانس أو التكامل ، و اما نتيجة التعديلات المتكررة للقوانين كما هو الحال بالنسبة للقوانين المالية أو القوانين الاجرائية. و يترتب عن ذلك فقدان الثقة المشروعة في الدولة و قوانينها.
و من الأهداف أيضا التي يقتضيها الأمن القانوني هو بناء دولة القانون يخضع فيها جميع أشخاص القانون الخاص و القانون العام،
بما في ذلك الدولة، للقوانين الصادرة عن السلطات المختصة، و التي تطبق على الجميع بالتساوي و يحتكم في اطارها إلى قضاء مستقل، و تتفق مع القواعد و المعايير الدولية لحقوق الانسان[12]. و من أجل تحقيق مبادئ دولة القانون كغاية قانونية، يتعين توفير الآليات و الوسائل المؤسساتية و القانونية تمتد من الدستور إلى أبسط القواعد، و التي يعتبر من أهمها، مبدأ فصل السلطات، المساواة و المسؤولية أمام القانون، الرقابة القضائية، استقلال القضاء، و الشفافية الاجرائية و القانونية.
5- الأمن القانوني في التشريع المغربي
ان التشريع المغربي سواء كان تشريعا أساسيا أو عاديا أو فرعيا، ليس فيه ما يفيد التنصيص صراحة على تبنيه مبدأ الأمن القانوني. لكن عدم ورود الأمن القانوني كمبدأ في الدستور أو القانون، لا يعني بأي حال من الأحوال تنكر المشرع المغربي للمبدأ، بالنظر إلى كون أهدافه تقوم على جودة و معيارية القانون و استقراره. و من أجل ضمان الأمن القانوني يتعين معرفة ما اذا كان الدستور يوفر الآليات السياسية و القانونية لضمان اصدار قوانين تتسم بالجودة و المعيارية، و التي هي من وظائف السلطة التشريعية و الحكومة و القضاء الدستوري.
إن مختلف التشريعات قبل أن تصير قوانين نافذة، تمر بعدة مراحل، تستدعيها المسطرة التشريعية التي تحكم كل تشريع، سواء كان مصدره البرلمان الذي يبدأ في شكل مقترح قانون، أو مصدره الحكومة الذي يقدم في شكل مشروع قانون. ان إقتراحات القوانين الصادرة عن البرلمان أو الحكومة تعتبر مصدر الإنتاج التشريعي الذي يتعين فيهان يصدر مطابقا للدستور، و بألا تتخلله عيوبا شكلية أو موضوعية تحت طائلة عدم الدستورية.
و لضمان إصدار تشريعات مطابقة للدستور يتعين وجوبا على البرلمان بوصفه السلطة التشريعية و المشرع الأساسي أن يتقيد إبان عملية الإقتراح أو التصويت على القوانين بالشروط التي تتطلبها الدولة القانونية، و من أهمها سمو القاعدة الدستورية على القاعدة القانونية، لأن الأولى أعلى و الثانية أدنى، و هذا ما يتحقق معه الأمن القانوني بمراعاة التشريع لأحكام الدستور و الإتفاقيات الدولية، لأن الإتفاقيات الدولية تعلو على القانون الداخلي و لا تعلو على الدستور.
فإذا كان التشريع ينقسم إلى تشريع أساسي ( الدستور) و تشريع عادي ( القانون)، و تشريع فرعي ( التنظيم)، فإنه تبعا لذلك يمتاز كل تشريع بخصائص تميزه عن الآخر، سواء تعلق الأمر بالجهة المصدرة له أو بالنظر إلى درجة تراتبيته. فالبرلمان هو المشرع الأساسي، في حين أن الحكومة مشرع إستثنائي، لا حق لها في التعدي على سلطة البرلمان بالتشريع إلا في الحدود التي أجاز لها ذلك الدستور، بوصفها سلطة تنظيمية و قد يكون ذلك في الأحوال العادية أو غير العادية أو بموجب قانون الإذن أو خلال الفترة الفاصلة بين الدورات البرلمانية. المبادرة الحكومية بالتشريع ملزمة باحترام مقتضيات الدستور و ضوابط المسطرة التشريعية لأن كل انحراف في التشريع الذي مصدره الحكومة أو اتسامه بعيوب شكلية أو موضوعية سيعرضه للإلغاء و عدم الدستورية. و هي ذات الأحكام الواجب التقيد بها من طرف البرلمان عند التصويت على التشريع، لأن التشريعين معا يخضعان للرقابة الدستورية التي تتولاها المحكمة الدستورية المكلفة بهذه الوظيفة بمقتضى الدستور، لأن دورها هو حماية الدستور إلى جانب الملك حتى لا يتضمن التشريع نصوصا أو مقتضيات قد تتعارض مع أهداف الأمن القانوني الذي يتوخاه الدستور.
أ-دور السلطة التشريعية في توفير الأمن القانوني
إن تقديم اقتراحات قوانين حق مسند للحكومة و لأعضاء البرلمان ( الفصل 78 الفقرة 1 من الستور)، يمارس البرلمان السلطة التشريعية و يختص بمجال القانون عن طريق تقديم مقترحات قوانين تشمل القوانين العادية و التنظيمية و اقتراح تعديلات قد تستهدف كل القوانين، نظرا للسلطة التقديرية الواسعة التي ينفرد بها البرلمان دون الحكومة. في حين تمارس الحكومة السلطة التنفيذية التي تتقاسمها مع الملك بوصفه رئيسا للدولة، وفقا للشكل الذي يقرره الدستور، و بناء عليه، فالحكومة يتحدد اختصاصها في التشريع بمجال التنظيم الذي هو غير مجال القانون.
لكن لا شيء يحد من سلطتها بإقتراح القوانين سواء كانت تنظيمية أو عادية أو تقديم مشاريع تتوخى تعديل قوانين. في مجال التشريع تعتبر الحكومة مشرعا إستثنائيا أو ثانويا ( الفصل 70 من الدستور)، و يختص بما لا يدخل في مجال القانون، أي مجالها هو التنظيم، و كل تنازع في الإختصاص بالتشريع بين الحكومة و البرلمان تفصل فيه المحكمة الدستورية، و من هنا تنشأ عملية الرقابة الدستورية على التشريع التي تبدأ رقابة سياسية سابقة لإصدار القانون، تتوخى إنتاجا تشريعيا خال من مثالب العيوب الشكلية أو الموضوعية التي قد تتعارض مع الوثيقة الدستورية بوصفها أسمى قانون الذي يحدد النظام السياسي للدولة و يرسم حدود العلاقة بين السلط و بما يضمن توازنها، عملا بمبدأ الفصل بين السلطات، و يبين الحقوق و الحريات للمواطنين و المواطنات حتى لا يقع التعدي عليها من سلطات الدولة بمناسبة الإنحراف في التشريع أو الإنحراف في استعمال السلطة.
ب- دور الحكومة في توفير الأمن القانوني:
نقصد بالمبادرة التشريعية ذات المصدر الحكومي اقتراح القوانين التي تتولى السلطة التنفيذية التقدم بها في المجلس الوزاري الذي ينعقد برئاسة الملك، و لذلك سنترك المبادرة التشريعية ذات المصدر الملكي جانبا و التي كانت موضوع مناقشة في الفصل الأول من هذا الكتاب، علما أن المجال التنظيمي موزع بين رئيس الحكومة و رئيس الدولة في أغلب النظم السياسية المقارنة.
فاقتراحات القوانين الصادرة عن الحكومة عرفها الفقه بمشاريع القوانين التي تنضاف إلى الاختصاص التشريعي المقرر لها بمقتضى الدستور، و المتمثل في التشريع في الحالة العادية مع وجود البرلمان و يسمى بتشريع التفويض أو في الحالة الخاصة أي في غياب البرلمان أي في الأحوال غير العادية و يسمى بتشريع الضرورة.
و تتحدد الوظيفة التشريعية للحكومة في المجال التنظيمي الذي لا يشمله اختصاص القانون طبقا للمادة 72 من الدستور، علما أنه من صلاحيات الحكومة أن تدفع بعدم قبول كل مقترح أو تعديل لا يدخل في مجال القانون ( المادة 79/ف1)، في حين أن البرلمان لا يوجد في الدستور ما يسمح له من ممارسة الدفع بعدم الاختصاص التشريعي للحكومة، هذا ما يقوي مركز الوظيفة التشريعية للحكومة على البرلمان، و يعدو معه توزيع الاختصاص التشريعي غير متوازن أو غير متكافئ. فالتفويض التشريعي مقرر بموجب الدستور، بمقتضاه يسمح البرلمان للحكومة ممارسة وظيفة التشريع خلال مدة معينة و من أجل غرض معين، لكون التفويض التشريعي أو قانون الإذن ينتهي بنهاية ولاية المجلس[13] الذي أصدره.
و لقد اعتبر جانب من الفقه أن المراسيم التفويضية هي بمثابة مراسيم تنظيمية لكونها صادرة عن السلطة التنفيذية، لكن بعد المصادقة عليها من طرف البرلمان تكتسي طابعا تشريعيا، الأمر الذي يمكنها بأن تحصن ضد أي طعن إداري لكون الأعمال التشريعية لا يمكن الطعن فيها في إطار دعوى المشروعية [14]، ( دعوى الإلغاء)، لكونها تكتسي قوة القانون بعد مصادقة البرلمان عليها[15] .
ج- دور القضاء الدستوري في توفير الأمن القانوني:
إن الرقابة على دستورية القوانين و المراسيم التشريعية هي آلية فعالة لضمان احترام فصول الدستور و مبادئه، و هو الأسلوب الرقابي الذي يتخذ شكلين: رقابة سياسية و رقابة قضائية. و تعتبر فرنسا هي الدولة التي أرست و لأول مرة أسلوب الرقابة السياسية على دستورية القوانين الذي يكون إما إجباريا أو اختياريا، حالة الوجوب بإعمال الرقابة الدستورية تكون بمناسبة المصادقة من طرف البرلمان على القوانينن العضوية أو النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان، و في المقابل تبقى الرقابة الإختيارية حق لإصحاب الصفة يمكن ممارسته من عدمه و مجالها القوانين العادية، وفقا للشكل و المسطرة المنصوص عليهما في دستور الجمهورية الخامسة لسنة 1958، و هي الفلسفة التي تحكم التشريع الدستوري الفرنسي التي عارضت الأخذ باسلوب الرقابة القضائية اللاحقة على القوانين المطبق في الأنظمة الدستورية الأنجلوسكسونية التي تتبع في معظمها رقابة الإمتناع و ليس رقابة الالغاء، و مفاد ذلك أنه و لو في غياب تفويض من الدستور لا شيء يحول دون إعمال مبدأ الرقابة على القوانين من طرف المحاكم بمناسبة نزاع معروض عليها، و هو الاتجاه الذي أخذ به القضاء الأمريكي والقضاء المصري قبل إحداث المحكمة العليا و المحكمة الدستورية العليا التي خصها المشرع المصري بإحتكار مجال الرقابة الدستورية على القوانين و اللوائح ضمن ما يعرف بآلية الرقابة المركزية و الانهاء مع فترة اللامركزية في الرقابة.
المشرع الدستوري المغربي لم يخرج من دائرة تأثير التشريع الدستوري الأوربي، و خاصة الفرنسي، و هو ما يلاحظ من خلال قراءة الدساتير المغربية 1962 -1970-1972-1992-1996، التي تفيد صراحة تبنيها مبادئ تكاد تماثل تلك الواردة في الدستور الفرنسي، خاصة في الباب المتعلق بالرقابة الدستورية على القوانين و المراسيم التشريعية، بحيث أنه تبنى أسلوب الرقابة السياسية الوقائية منذ دستور 1962 دون أسلوب الرقابة القضائية اللاحقة لإصدار القوانين، الذي أخذ به و لأول مرة في دستور 2011 ( الفصل 133)، ضمن ما يعرف بنظام الدفع الفرعي بعدم الدستورية و هو الأسلوب الذي جاء به قبله الدستور الفرنسي سنة 2008 في المادة 61-1 و يعرف بالمسألة الدستورية ذات الأولوية La Question prioritaire de constitutionnalité Q.P.C))التي تسمح للمتقاضين ( Les justiciables) إثارة مسألة عدم الدستورية بمناسبة النظر في دعوى أمام جهة قضائية إذا ما تبين لهم أن نصا تشريعيا يمثل إعتداء على الحقوق و الحريات التي يكفلها الدستور، علما أن إتصال المجلس الدستوري بالمسألة الدستورية يكون بناء على إحالة من مجلس الدولة أو من محكمة النقض، بعد ممارسة مسطرة التصفية، تهمل تلك الطعون التي لا تتوفر فيها شروط الإحالة إما برفضها أو عدم قبولها و تحيل الطعون التي تكتسي طابع الجدية لاحترامها الشروط الشكلية و الموضوعية الواجبة في إثارتها.
إذا كانت الرقابة الدستورية بصفة عامة تتفرع إلى أسلوبين و هما: أسلوب الرقابة السياسية الذي يمارس بعد التصويت على القوانين من طرف البرلمان و قبل إصدارها و نشرها، و أسلوب الرقابة القضائية اللاحقة لصدور القوانين، فإن الرقابة القضائية بدورها عرفت تنوعا باختلاف الأنظمة الدستورية و القانونية و القضائية المعمول بها في كل دولة. و الرقابة القضائية الدستورية كما يستخلص من مبناها، هي عملية قانونية تفحص دستورية القوانين التي سنها البرلمان، تتولاها هيئة قضائية تصدر أحكاما قضائية[16] ذات طبيعة دستورية ملزمة للكافة، و لا تعقيب عليها، لكونها غير قابلة لأي طعن، غايتها حل تنازع بين قاعدتين قانونيتين، واحدة دستورية و أخرى تشريعية [17].
و تتنوع أساليب الرقابة الدستورية القضائية، تبعا لإختلاف النظم السياسية و الدستورية التي بدأت في شكل رقابة امتناع باجتهاد من القضاء و من دون نص دستوري. و لقد تطورت إلى رقابة إلغاء بتكليف من الدستور وفق إجراءات و مساطرمحددة، قد تتضمنها الوثيقة الدستورية، أو تسند تفاصيلها إلى قانون تنظيمي أو عضوي. و لقد آثر الفقه الدستوري على تقسيم نظام الرقابة القضائية على دستورية القوانين إلى أسلوبين رئيسيين أو إلى ثلاثة أساليب، استنادا إلى الآثار التي يرتبها كل أسلوب، إما بالامتناع عن تطبيق القانون المطعون فيه و إما بإلغائه، و هي:
- الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية أو رقابة الالغاء اللاحقة.
- رقابة الامتناع أو الدفع الفرعي.
- الرقابة بواسطة المزج بين أسلوب الدفع الفرعي و الدعوى الأصلية.
ثانيا: الأمن القضائي:
إن الأمن القضائي له علاقة وطيدة بالأمن القانوني، معظم التشريعات المقارنة لم تعرف مفهوم الأمن القانوني، سواء كان تشريعا أساسيا ( الدستور)، أو تشريعا عاديا ( القانون). و لذلك فإن تحديد المفهوم ينطوي على عدة مخاطر نظرية، يصعب تعريفه بشكل دقيق.
و هو ذات الأمر ينطبق على مفهوم الأمن القضائي، لهذا فإن تعريفه ذات مصدر فقهي، اعتمد على مجموعة من المبادئ و الحقوق، التي يجب أن تسود و تضمن في القوانين بشكل لا تتعارض مع الدستور، و مع الاتفاقيات الدولية. و على خلاف الاغفال الدستوري لمفهوم الأمن القانوني، تم التأكيد في الدستور المغربي بان الأمن القضائي مبدأ دستوري عملا بمقتضيات الفصل 117 الذي ينص بأنه ‘’يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص و الجماعات و حرياتهم و امنهم القضائي، وتطبيق القانون’’. و يستخلص من الفصل المذكور ان المشرع الدستوري ارتقى بالأمن القضائي إلى درجة المبدأ الدستوري و هو ما يعني سموه على سائر القوانين التي يجب أن تصدر و هي مطابقة للمبدأ، تحت طائلة عدم دستوريتها، اضافة إلى التفويض الدستوري الصريح للقضاء بأن يتولى وظيفة حماية الحقوق و الحريات و الأمن القضائي للأفراد و الجماعات.
1-في مفهوم الأمن القضائي:
يعتبر الأمن القضائي مفهوما من المفاهيم القانونية الحديثة الجدير بالدراسة و التحليل، بالنظر إلى حمولته الدستورية و الحقوقية، و لكونه ينطوي على غايات و مقاصد تحددها طبيعة المفهوم ، يمكن تناولها من خلال زاويتين: الأولى، أنه مفهوما موسعا يعكس الثقة في السلطة القضائية التي تتولاها المحاكم بمختلف أنواعها و درجاتها لكونها المصدر الأساسي للأمن القضائي، و الثانية ، من خلال انه مفهوما ضيقا يتمثل في تسييد و استقرار و توحيد الاجتهاد القضائي الذي تتولاه المحاكم العليا[18]. و يمكننا اضافة زاوية ثالثة تتمثل في توفير شروط الأمن القضائي للقضاة و من أهمها الاستقلالية عن السلطتين التشريعية و التنفيدية.
فالأمن القضائي بالمفهوم الواسع هو الذي يعكس الثقة في المؤسسة القضائية، و الاطمئنان إلى ما ينتج عنها وهي تقوم بمهمتها المتجلية في تطبيق أو قول القانون dire le droit على ما يعرض عليها من قضايا أو ما تجتهد بشأنه من نوازل، هذا مع تحقيق ضمانات جودة أدائها وتسهيل الولوج إليها. هذا الأمن القضائي لا تختص به جهة قضائية معينة و إنما يتعبأ له القضاء بمختلف فروعه سواء كان قضاءا عاديا أو متخصصا بل و يتجاوز حتى حدود القاضي الوطني في بعض الحالات كما هو الشأن بالنسبة لقضاة المحاكم الأوروبية[19]. و لذلك فإن الأمن القضائي يجب فهمه من هذا المستوى الموسع من وجهتين اثنتين. أنه يعتبر حاجزا وقائيا لفائدة الأشخاص ضد تجاوزات بعضهم البعض من جهة و حائلا دون تجاوز الإدارة ضد هؤلاء من جهة ثانية. كما أنه يشكل حماية للسلطات العمومية ضد الدعاوى التعسفية و الكيدية للمتقاضين. فيكون المستفيد من هذا الدور القضائي بصفة خاصة و الناظم القانوني بصفة عامة، و هو ما سينعكس إيجابا على حجم الثقة و استقرار المعاملات و الاطمئنان إلى فعالية النصوص القانونية و الوثوق بالقانون و القضاء في نهاية المطاف.
أما المفهوم الضيق فيرتبط بوظيفة المحاكم العليا المتمثلة بصفة أساسية في السهر على توحيد الاجتهاد القضائي و خلق وحدة قضائية. و يكتسي مفهوم الأمن القضائي أهمية نظرية تتمثل أساسا في الحزمة التشريعية و النصوص القانونية التي خصه بها المشرع لضمان تطبيقه السليم، إضافة إلى أهمية عملية تبرز في دوره المحوري المتمثل في تعزيز ثقة المتقاضين في جهاز العدالة وضمان حقوقهم و حرياتهم.
و يستخلص من أحكام الدستور أنه أكد على أهمية الأمن القضائي، لكنه لم يرد فيه تعريف للمفهوم، كما لا نجد له تعريف في الاجتهاد القضائي المغربي. لكن بالمقابل، فإن الملك محمد السادس بوصفه رئيسا للدولة، شدد في خطاب العرش بتاريخ 30/07/2007، بأنه " يتعين على الجميع التجند لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء لتعزيز استقلاله الذي نحن له ضامنون ( الفصل 108 من الدستور)، هدفنا ترسيخ الثقة في العدالة و ضمان الأمن القضائي، الذي يمر عبر الأهلية المهنية و النزاهة و الاستقامة و سبيلنا صيانة حرمة القضاء و أخلاقياته و مواصلة تحديثه و تأهيله".
لقد اعتبر جانب من الفقه بأن الأمن القضائي يعكس الثقة في السلطة القضائية و في القضاة، بالاطمئنان إلى ما يصدر عنهم من أحكام و قرارات و أوامر قضائية.
لأن القضاء في دولة القانون هو الجهة الوحيدة المخول لها حماية الحقوق و الحريات من أي خرق مهما كان مصدره، و كذا إقامة التوازن بين حق المجتمع في الحماية و الأمن، و حق الفرد في محاكمة عادلة.
إن أهم وظيفة يتولاها القضاء هو ضمان الأمن الاقتصادي و الأمن الاجتماعي، بحماية استقرار المعاملات و توفير مناخ قضائي يطمئن إليه المستثمرون، و كذا حماية الأفراد من تفشي الجرائم.
و يستخلص مما ذكر، بان الأمن القضائي نعرفه بأنه تعبير كاشف عن مدى ممارسة الفرد لحريته بكافة أشكالها، حرية التعبير، التنقل، الشفافية في الصفقات العمومية، قوانين استثمارية عادلة، حماية العمل السياسي، تامين مبدأ الثقة في القضاء و القضاة.
2- غاية الأمن القضائي:
ان الغاية من الأمن القضائي هو ضمان سيادة القانون للإسهام في التنمية الإقتصادية و السلم الإجتماعي، اعتبارا لكون المستفيد من الأمن القضائي هو المجتمع و الدولة. إن مناط السلطة القضائية هو تطبيق القانون، و لتأمين الأمن القضائي من طرف القضاء، يتعين وجود منظومة تشريعية متكاملة، متلائمة مع التشريعات الدولية و متطابقة مع مقتضيات الدستور.
و لقد اعتبر المؤتمر الثاني لرؤساء المحاكم العليا العربية بان الأمن القانوني مفهوم واسع يختلف من دولة إلى أخرى لاختلاف الأنظمة القانونية، و لأن الغاية من القانون هو تحقيق الأمن بمفهومه الواسع ( الإقتصادي، الإجتماعي، السياسي....الخ). و يفهم من الدستور بأن السلطة القضائية هي المصدر الأساسي للأمن القضائي، يتولاه القضاة، و لأن الأمن القضائي يتحقق عند شيوع الثقة في القضاء ( مؤسسة و قضاة)، التي تعكسها استقلالية السلطة القضائية ( الاستقلال العضوي) و استقلال القضاة ( الاستقلال الشخصي)، جودة الأحكام، سرعة الفصل في النزاعات، تنفيذ الأحكام القضائية ضد الإدارة و الأمن القضائي مبدأين أساسين في دولة القانون.
انه المعلوم أن القاعدة القانونية يجب أن تكون، واضحة، دقيقة، توقعية، غير منفصلة عن مبدأ الحق.
3- مقومات ومظاهرالأمن القضائي:
انه من مقومات و مظاهر الأمن القضائي تحقق و قيام المبادئ التالية:
- مبدأ الفصل بين السلطات
- استقلال القضاء و القضاة
- دسترة مبدأ الأمن القضائي
- توحيد الاجتهاد من عناصر الأمن القضائي
- جودة الأحكام من مداخل الأمن القضائي
إن من أسس و مبادئ دولة القانون، هو التقيد بمبدأ الشرعية، الذي يقتضي استقلالية القضاء، و إخضاع الكل، حاكمين و محكومين لسلطة القضاء، بإعمال المبدأ بأن المسؤولية تقتضي المساءلة.
إن القاضي ملزم بتطبيق القانون، و كل إخلال بذلك، هو مساس بالأمن القضائي، و كذا بالأمن القانوني. و استقلال القضاء يجب أن يكون عن سائر السلطات ( تنفيذية و تشريعية وغيرها)، و عن جميع العلاقات الشخصية المؤثرة، و عن جميع مجموعات الضغط (Groupes de pression) ، وعن التجاذبات السياسية أو المذاهب الفكرية أو الدينية.
إن التصرفات المعيبة للقاضي و انحراف القضاء عن تحقيق العدل، هو إخلال جوهري بالأمن القضائي، لأنه يمس بالمصلحة العامة، و هو ما يتطلب ضرورة تخليق القضاء .(La moralisation)
من أهم مظاهر الأمن القضائي هو ضمان قيام استقلال القضاء و استقلال القضاة، بما يؤكد توفر الشروط الدستورية و القانونية للاستقلال العضوي و للاستقلال الشخصي و الاستقلال المالي وا لإداري و المؤسساتي.
إن سيادة القانون هو أساس الحكم في الدولة، لأن الدولة يجب أن تخضع للقانون. و لا عقوبة إلا بناء على قانون. و لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، و لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون.
إن أهم مظاهر الأمن القضائي و الأمن القانوني هو عدم التنصيص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء.
كما ان الأحكام القضائية يجب أن تنفذ، و كل تعطيل بتنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين هو جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون. و للمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة.
إنه من المعلوم أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية و التنفيذية، و تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها و درجاتها، و تصدر أحكامها وفق القانون، و هذا ما يتعين أن يتحقق مع المحاكم المغربية.
و عليه فإنه لتحقيق الشرعية الدستورية و الشرعية القانونية، يتعين توافر سلطة قضائية مستقلة و على العكس من ذلك، فإن وجود قضاء غير مستقل و قضاة غير مستقلين، يشكل تهديدا لاستقرار الدولة و المجتمع، اعتبارا لما قد يخلقه هذا الوضع من فقدان الثقة لدى المواطنين في القضاء و القضاة، و بالتالي سنكون أمام أزمة الأمن القضائي. لذلك و من أجل تحقيق استقلال فعلي للسلطة القضائية و القضاة، كاستقلال يتوخاه المجتمع و يخدم مصلحته بشقيه العضوي و الشخصي، الأمر الذي يتطلب توفير ضمانات دستورية و قانونية و سياسية تتلاءم مع القانون الدولي و المبادئ الدولية المتعلقة باستقلال القضاء و الأمن القضائي. و يتعين لتوفير الأمن القانوني إصدار تشريعات مطابقة للدستور، عن طريق إعمال مبدأ الرقابة على القوانين بشقيها السياسي و القضائي، لتفادي صدور قوانين قد تتسم بعيوب شكلية أو موضوعية و هو الدور المسند إلى القضاء الدستوري (المحكمة الدستورية ) الذي يتولى ممارسة فحص دستورية القوانين من عدمها بغاية حماية الدستور.
خاتمـــة :
- ان مجرد وجود السلطة القضائية لا يعنى قيام العدالة و الأمن القضائي و تحقيق دولة القانون التى يسود فيها القانون و تحمى فيها الحقوق و الحريات العامة بعد إقرارها دستورياً.
- ان كفالة حق التقاضى و جعله مصونا للناس كافة قد يتحول إلى وهم أمام سلطة قضائية فاقدة لضمانات استقلاليتها و تمارس عملها تحت تأثير الحكام أو المال أو تهديد المحكومين .
- ان تحصين أى عمل صادر عن أية سلطة عامة تشريعية أو تنفيذية من رقابة القضاء هو هدم لدولة القانون و تكافؤ الفرص و مخالف للقيم و المثل العليا المشتركة للإنسانية، و نافى لقيام فكرة الديمقراطية، ولو جاء ذلك التحصين بنصوص دستورية، فمبادئ الديمقراطية و القيم الإنسانية العليا التى ذكرناها سلفاً تمثل قيوداً على إرادة المشرع الدستورى.
- ان الدستور ان كان لا يخضع لرقابة القضاء فهو لا يكون كذلك و لا يعترف به ولا بقيمته السامية إلا إذا جاء من الشعب و على هوى الشعب متفقاً مع مبادئ الأمم المتحضرة، على الأخص ـ إضافة لما سبق ذكره فيما يتعلق بتنظيم السلطة القضائية التى هى لا غيرها الأمينة على دولة القانون وجوداً و إستمراراً بأحكامها الملزمة للكافة و التى لا تقبل التأويل أو التعطيل أو حتى مجرد التعليق عليها من سلطة عامة أخرى .
- أن تبقى فكرة القاضى الطبيعى للخصومة أمر لا مفر منه لأنه صنوان الدولة القانونية .
فخضوع الدولة للقضاء، أو إمكان مقاضاتها أمام القضاء و رضوخها لأحكامه شأنها شأن الأفراد ، يكون عنصرا من عناصر الدولة القانونية بغيره يغدو و مبدأ خضوع الدولة للقانون وهمياً أو نظرياً.
- ضرورة و أهمية احداث مجلس الدولة كمحكمة إدارية عليا بالنسبة لجهة القضاء الإداري، اضافة إلى تكليفه بوظيفة تقديم الاستشارة في مجال التشريع للحكومة بعرضها عليه مشاريع القوانين قبل مناقشتها في المجلس الحكومي أو الوزاري.
الهوامش
-عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، مجلة الحقوق المغربية، العدد السابع،2009 ، ص:33.[1]
[2] -Pierre LAROUCHE, « Table ronde internationale : Constitution et sécurité juridique », A.I.J.C, 1999, pp.132-133.
[3]3-يسري محمد العصار، الحماية الدستورية للأمن القانوني، مجلة الدستورية، القاهرة، عدد:3 ، سنة 1 ،يوليو 2003 ، ص:51.
[4] - Michéle DE SALVIA, « La place de la notion de sécurité juridique dans la jurisprudence de la Cour européenne des droits de l’Homme », C.C.C, n°11, 2000, p.94.
[5] - CJCE, 22 mars 1961, S.N.U.P.A.T. c. Haute Autorité de la CECA, aff.42, 49/59, Rec. 1961, p.109-164; CJCE,
13 juillet 1961, Meroni c. CECA 22 CJCE, 22 mars 1961, S.N.U.P.A.T. c. Haute Autorité de la CECA, aff.42, 49/59, Rec. 1961, p.126 23 ; CJCE, 13 juillet 1961, Meroni c. CECA ; CJCE, 27 mars 1980, Amministrazione delle Finanze dello Stato c. Salumi, aff.66/127 à 128/79. 24
CJCE, 6 avril 1962, Robert Boch GmbH et autres, aff.13/61 25
CJCE, 12 juillet 1972, Azienda Colori Nazionali, aff. 57/69
13 juillet 1961, Meroni c. CECA 22 CJCE, 22 mars 1961, S.N.U.P.A.T. c. Haute Autorité de la CECA, aff.42, 49/59, Rec. 1961, p.126 23 ; CJCE, 13 juillet 1961, Meroni c. CECA ; CJCE, 27 mars 1980, Amministrazione delle Finanze dello Stato c. Salumi, aff.66/127 à 128/79. 24
CJCE, 6 avril 1962, Robert Boch GmbH et autres, aff.13/61 25
CJCE, 12 juillet 1972, Azienda Colori Nazionali, aff. 57/69
[6] - CEDH, 13 juin 1979, Marckx c. Belgique, série A, n°31, §58
[7] - Voir, la Loi Fondamentale Allemande de 1949. Les articles 20
al.3 et 28 renvoient au principe de sécurité juridique tout en le rapprochant de la notion d’Etat de droit.
al.3 et 28 renvoient au principe de sécurité juridique tout en le rapprochant de la notion d’Etat de droit.
[8] - Manuel DELAMARRE, « La sécurité juridique et le juge administratif français, A.J.D.A, 2004, p.186.
[9] - Cons. Const. 93-373 DC, 9 avril 1996, consid. 85 :« qu'eu égard à l'importance qui s'attache au respect de la répartition des compétences entre ces autorités, le souci du législateur de renforcer la sécurité juridique des décisions de l'assemblée ne saurait justifier que soit portée une atteinte aussi substantielle au droit à un recours
juridictionnel ; que dès lors le 1er alinéa de l'article 113 est contraire à la Constitution ».
juridictionnel ; que dès lors le 1er alinéa de l'article 113 est contraire à la Constitution ».
[10] - Cass. Soc., 2 mai 2000, n°97-45323, Cass. com., 6 décembre 2005, n°04-19.541 .
[11] - CE, Ass. 24 mars 2006, Société KPMG et autres ; CE, Ass., 16 juillet 2007, Société Tropic Signalisation
Travaux : Le Conseil d’Etat pratique la modulation des effets dans le temps d’un revirement jurisprudentiel « eu égard à l'impératif de sécurité juridique tenant à ce qu'il ne soit pas porté une atteinte excessive aux relations contractuelles en cours et sous réserve des actions en justice ayant le même objet et déjà engagées avant la date de lecture de la présente décision ».
Travaux : Le Conseil d’Etat pratique la modulation des effets dans le temps d’un revirement jurisprudentiel « eu égard à l'impératif de sécurité juridique tenant à ce qu'il ne soit pas porté une atteinte excessive aux relations contractuelles en cours et sous réserve des actions en justice ayant le même objet et déjà engagées avant la date de lecture de la présente décision ».
[12] - تقرير الأمين العام للأمم المتحدة: ’’سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع‘‘ 616/2004/ S .
[13] - سيدي محمد بن سيد أب، تفويض التشريع في إطار دساتير دول المغرب العربي، دراسة مقارنة، المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، عـدد: 28، 1999، ص: 36.
[14]- عبد الله حداد " دعوى الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة" رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، الرباط، 1982، ص: 62.
15- مصطفى قلوش، النظام الدستوري المغربي، الطبعة الرابعة، مكتبة دار السلام، الرباط، ص: 191-193.
[16] عبد العزيز محمد سالمان، قيود الرقابة الدستورية، مكتبة كلية الحقوق، جامعة المنصورة، 1998، ص: 74.
[17]- نبيلة عبد الحليم كامل، الوجيز في القانون الدستوري، دار النهضة العربية، 2006، ص41.
[18] - محمد الخضراوي، الأمن القضائي في التجربة المغربية(5/ 1) منشور في الرابط الالكترونيwww-press.ma, consulté le 15/11/2014.
[19] - عبد المجيد غميجة، المرجع السابق، ص: 48.