اهتمت جل التشريعات إن لم نقل كلها بتنظيم التبليغ من أجل ضمان الحق في الدفاع، وبذلك حددت إجراءاته وطرقه والجهات المؤهلة للقيام به.
ولقد نظمت الشريعة الإسلامية السمحة التبليغ من خلال حرصها على تنظيم الحق في الدفاع حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين "1
وتكاد كل الفعاليات الحقوقية ببلادنا تُجمع أن إشكالية البطء في تصفية القضايا أمام المحاكم ترجع أسبابها أساسا إلى إشكالات التبليغ، فبالرغم من تنوع وسائل هذا الأخير وتعدد آلياته من أجل الإحاطة الشاملة بكل الجوانب المرتبطة به وضبطها عمليا وقانونيا، فإن مشاكله وإشكالياته ما فتئت تطبع مسار معالجة القضايا أمام المحاكم وتؤثر على مدى فعالية ونجاعة منظومتنا القضائية بشكل عام2.
ولعل هذه الآفة لا ترتبط بقضاء معين دون آخر، وإنما تعتبر ظاهرة سلبية تلازم جل الأنظمة القضائية إن لم نقل جميعها3.
وفي هذا الإطار نظم المشرع المغربي القواعد العامة للتبليغ في قانون المسطرة المدنية11، والتي يمكن اعتمادها لصيانة حقوق المتقاضين وضمان حضورهم أو على الأقل ضمان علمهم بالإجراءات المتخذة في مواجهتهم حتى يتسنى لهم إعداد دفاعهم.
والنصوص القانونية التي تناولت عملية التبليغ في إطار قانون المسطرة المدنية بغض النظر عن قلتها وعدم إحاطتها بالموضوع بما يكفي من الدقة والوضوح اللازمين، يطالها الهجران إذ لم تنل حظها الكافي من الدراسة والبحث
وبالرجوع إلى المقتضيات المنظمة لعملية التبليغ القضائي، نجدها ما زالت في أمس الحاجة إلى دراسات تتناول هذه الأخيرة من جانبها العملي بنوع من التفصيل والتعمق، ذلك أن المكتبة القانونية المغربية لا زالت وإلى حدود الساعة تفتقر إلى مرجع شامل يحيط بالإشكالات التي يعرفها التبليغ إن على المستوى القانوني أو على المستوى العملي، نفس الوضع لم تسلم منه الدراسات الفقهية هي الأخرى إذ تبقى قليلة ومحتشمة بالنظر إلى الدور الذي يلعبه التبليغ في عملية التقاضي.
وقد شهدت سنة 2011 نشاطا تشريعيا مكثفا حمل معه فيضا من المتغيرات والمستجدات كان لقانون المسطرة المدنية نصيبا لابأس به منها وسأكتفي في هذه الدراسة بالتطرق لمستجدات الفصلين 38 و39 من القانون السالف الذكر بعيدا عن تقييم حصيلة كل المستجدات من خلال مطلبين كالاتي:
المطلب الأول : قراءة في الفصل 38 كم قانون م.م
بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 38 من قانون المسطرة المدنية، نجد أن المشرع المغربي وسع من إمكانية التبليغ، حيث لم يعد يحدد مكانا للتبليغ الشخصي لا يكون هذا الأخير شحيحا إلا فيه، بل أصبح يلتفت فقط إلى المبلغ إليه وعما إذا كان هو الشخص نفسه أم لا، فمتى كان الشخص نفسه كان التبليغ صحيحا سواء تم في موطنه أو محل عمله أو أي مكان آخر وبالتالي لم يعد المكلف بالتبليغ ملزما ببيان مكانه ما دام أن مكان التبليغ لم يعدد يحدده المشرع في مكان دون آخر، أما إذا كان المبلغ إليه شخصا آخر فلا بد من التأكد مما إذا كان التبليغ وقع بموطن الشخص أو محل عمله وحتى في الموطن المختار4.
إن التبليغ إلى المعني بالأمر شخصيا يعد أكثر الطرق ضمانة لتحقيق الأهداف والنتائج المرجوة من هذه العملية سواء على مستوى العلم اليقيني للمبلغ إليه بمضمون الإجراءات والاستدعاء أو على مستوى الدقة والسرعة في تنفيذ هذه العملية5.
ويتعين على المكلف بالتبليغ أن يتأكد من هوية الطرف المعني بالأمر حتى يكون التبليغ سليم6
جدير بالذكر أن المشرع المغربي كان يعتمد الموطن المختار محلا للتبليغ لبدء احتساب أجل الطعن بالاستئناف في تبليغ الأحكام القضائية، إذ تنص المادة 134 من قانون المسطرة المدنية على ما يلي : '' ... يبتدأ هذا الأجل من تاريخ التبليغ إلى الشخص نفسه أو في موطنه الحقيقي أو المختار أو التبليغ في الجلسة إذا كان ذلك مقررا في القانون ''، وأصبح المشرع يقر التبليغ بالموطن المختار حتى بالنسبة للاستدعاءات، ينص الفصل 38 ق م م '' يسلم الاستدعاء تسليما صحيحا إلى الشخص نفسه أو في موطنه أو في محل عمله أو في أي مكان آخر يوجد فيه، ويجوز أن يتم التسليم في الموطن المختار ''
وأضاف المشرع في تعديل 2011 7محل العمل كمكان للتبليغ إلى جانب أي مكان آخر يوجد فيه المعني، والواقع أن الإضافة المذكورة فيها ضمانة لإيصال التبليغ ما دام أن الشخص يكون ملزما بالحضور إلى محل عمله، ومع ذلك فالأمر لا يخلوا من بعض السلبيات8.
المطلب الثاني: قراءة في الفصل 39 من ق.م.م
لقد عدل المشرع الفقرة الثانية من الفصل 39 من ق.م.م وبعد أن كانت تتضمن ما يلي "إذا تعذر على عون كتابة الضبط أو السلطة الإدارية تسلم الاستدعاء لعدم العثور على الطرف أو على أي شخص في موطنه أو محل إقامته أشار إلى ذلك في شهادة التسليم التي ترجع إلى كتابة ضبط المحكمة المعنية بالأمر" أصبح الفصل كما يلي " إذا تعذر على المكلف بالتبليغ أو السلطة الإدارية تسليم الاستدعاء لعدم العثور على الطرف أو على أي شخص في موطنه أو محل إقامته الصق في الحين إشعارا بذلك في موضع ظاهر بمكان التبليغ وأشار إلى ذلك في الشهادة التي ترجع إلى كتابة ضبط المحكمة المعنية بالأمر"
غير أن الإشكال الذي تطرحه هذه الطريقة هو ماذا إذا لم ير المراد تبليغه هذا الإشهار؟
بغض النظر عن هذا الاشكال فان صياغة الفصل الجديد لم توضح بالتحديد البيانات الواجب تضمينها في هذا الاشعار .
بالاضافة الى أن الفقرة تضمنت حشوا وإطنابا لا طائل منه وذلك بالإشارة إلى الموطن ومحل الإقامة رغم أن المشرع لم يستعمل محل الإقامة عند الإشارة في المادة 38 إلى أماكن التبليغ وذلك لسبب معقول وهو أن الموطن أهم من محل الإقامة9.
وعلى العموم فان اشكالية مثل اشكالية التبليغ لطالما تجادبت أطرافها مناقشات وطرحت بشأنها العديد من التساؤلات وغم المحاولات الجادة لتجاوز هاته الاشكالات فيبقى التبليغ مجالا مسريا شائكا يعيق في كثير من الأحيان سير الدعاوى ويقلل من النجاعة القضائية ولعل هذا ما عبر عنه السيد وزير العدل مصطفى الرميد بقوله" أن إشكالية البطء في تصفية القضايا أمام المحاكم ترجع أسبابها أساسا إلى إشكالات التبليغ، فبالرغم من تنوع وسائل هذا الأخير وتعدد آلياته من أجل الإحاطة الشاملة بكل الجوانب المرتبطة به وضبطها عمليا وقانونيا، فإن مشاكله وإشكالياته ما فتئت تطبع مسار معالجة القضايا أمام المحاكم وتؤثر على مدى فعالية ونجاعة منظومتنا القضائية بشكل عام"10
الهوامش
1– سورة البقرة، لآية 251.
2 – وهذا ما عبر عنه السيد وزير العدل المغربي مصطفى الرميد، خلال تراءسه صباح الأربعاء 17 أبريل بالبيضاء لأشغال الجلسة الافتتاحية للمائدة المستديرة المنظمة من قبل اللجنة الأوربية للنجاعة القضائية حول موضوع – التبليغ القضائي في المجالين المدني والجنائي .....
3– محمد بفقير : مبادئ التبليغ على ضوء قضاء المجلس الأعلى في الموضوع، الطبعة الأولى، 2005، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص 5
4– محمد الصباري، ''قراءة في تعديلات ق م م ''، متوفر على الخط www.assabah.press.ma ، تم الاطلاع عليه بتاريخ 5/5/2013
5– الطيب الفضايلي، '' الوجيز في القانون القضائي الخاص، الجزء 2 الطبعة الثالثة، 1999 مطبعة النجـــــاح الجديدة الدار البيضاء، ص : 35
6- رشيد حبابي، '' أحكام التبليغ في القانون المغربي والمقارن '' مجلة الإشعاع عدد 29 – 2004، ص : 146
7--المعدل بالقانون رقم 35.11 القاضي بتعديل الفصول 32، 37، 38، 39، 63 و 431 من ق م م المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5975 في شتنبر 2011، ص : 4389
8– فكما هو معلوم، غالبا ما يتحاشى الأشخاص أن يكون زملائهم في العمل على علم بخصوصياتهم سيما الجانبين الأسري والزجري، ذكره عبد الكريم الطالب، م س، ص : 184.
9– محمد الصباري، ''قراءة في تعديلات ق م م ''، متوفر على الخط www.assabah.press.ma ، تم الاطلاع عليه بتاريخ 5/5/2013
10-- – وهذا ما عبر عنه السيد وزير العدل المغربي مصطفى الرميد، خلال تراءسه صباح الأربعاء 17 أبريل بالبيضاء لأشغال الجلسة الافتتاحية للمائدة المستديرة المنظمة من قبل اللجنة الأوربية للنجاعة القضائية حول موضوع – التبليغ القضائي في المجالين المدني والجنائي .....