مقدمـــــــة
يعمد الكثير من فقهاء العلوم القانونية عامة وفقهاء القانون الإداري خاصة، على نشر فكرة حول المنازعات الإدارية أو القضاء الإداري مفادها أن هذا الأخير هو حديث العهد، ولم يظهر إلا مع نشأة مجلس الدولة الفرنسي، لكن يظهر من خلال البحث في تاريخ الدولة الإسلامية منذ نشأتها أن قضاءها عرف نوع من التخصص في المنازعات الإدارية الصرفة، وكان لها جهاز قضائي قائم بذاته يتخصص في القضايا التي تكن فيها السلطات العامة طرفا فيها.
لكن لا يمكن القول أن الدولة الإسلامية عرفت قضاء إداري كما نعرفه اليوم، بما له من تطور في نظرياته، لكن لا يكمن الجزم كذلك أنها لم التعرف التقاضي الإداري البتة.
حيث يمثل ديوان المظالم أو قضاء المظالم القضاء الإداري الإسلامي، ويتمتع هذا القضاء بأهمية بالغة ومكانة عالية في النظام القضائي الإسلامي، ذلك أنه أثبت عدالته و فعاليته.
وحيث كان من اللازم البحث في ثنايا الشريعة الإسلامية وتاريخها المفعم بمبادئ وقواعد مهمة يجهلها الكثير من الدارسين في المجال القانوني المعاصر، حيث كانت لهذا القضاء خصوصية متميزة واستقلالية قائمة، ومن خلال رصد مجموعة من الأحداث و الوقائع التاريخية يستفاد أن القضاء الإداري الإسلامي جاء بخصوصية متميزة تؤكد على أنه قضاء ينسجم ومتطلبات الإدارة المعاصرة و حاجاتها المتطورة.
ويمكن تعريف القضاء لغة بالحكم لقوله تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" وقوله تعالى " و الله يقضي بالحق" وللقضاء في اللغة معاني كثيرة تدور حول الإلزام، وفيما يخص التعريف الفقهي للقضاء يعني الفصل بين الناس في خصوماتهم ومنازعاتهم بشكل حاسم وقاطع وذلك بتطبيق أحاكم الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة و قياس و إجماع وذلك لقوله تعالى " ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون".
كما يمكن تعريف الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، و في الشريعة: هو الاعتداء على الحق و إلحاق الباطل قصدا وهو الجور، وهو من الأفعال التي حرمها الله تعالى على عباده لقوله عز وجل في الحديث القدسي " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حراما فلا تظالموا". وقوله " إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم".
فبالقضاء يستقيم أمر الناس وينصر المظلوم ويرجع الظالم عن ظلمه ويعود الحق إلى مستحقيه، والقضاء بالحق هو من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله عز وجل وهو فرض كفاية، وهو من وظائف الخلافة، كما أن القضاء يمثل أساس قوي من أسس الدولة الإسلامية ويشكل ركن رئيسي في أعمالها.
وحيث يعتبر المغرب دولة إسلامية منذ عهد الخلافة الإسلامية ـ أمير المؤمنين الخليفة عمر رضي الله عنه ـ فقد طبق قضاء المظالم (المبحث الأول) اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بخصائصه وخصوصياته (المبحث الثاني)
من خلال التقديم الموجز لموضوع البحث تظهر إشكالات عديدة تثير نفسها: ما المقصود بديوان المظالم أو قضاء المظالم؟ وما هي مبادئه وخصائصه وخصوصياته بالمغرب في عهد الإسلام؟
للإجابة على الإشكالات المطروحة يوزع الموضوع إلى قسمين على الشكل التالي:
المبحث الأول: ديوان المظالم في النظام الإسلامي والمغرب
المطلب الأول: ديوان المظالم في الإسلام
المطلب الثاني: ديوان المظالم بالمغرب
المبحث الثاني: اختصاصات و خصوصيات ديوان المظالم
المطلب الأول: اختصاصات ديوان المظالم
المطلب الثاني: خصوصيات ديوان المظالم
المبحث الأول: ديوان المظالم في النظام الإسلامي والمغرب
مما لا شك فيه أن أول من طبق النظر في المظالم هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكن على الشكل الذي ظهر به في الخلافة، وكان ذلك طبيعيا إذ لم يكن هناك ما يستدعي وجود ديوان المظالم في عهده صلى الله عليه وسلم إلا في حالات قليلة جدا، ومثال ذلك ما وقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم و ابن الأتبية الأزدي، حيث استعمله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني سليم، فلما جاء حاسبه فقال هذا مالكم وهذا هدية.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا" وأكمل الرسول قائلا " أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتي هديته إليه، والله لا يأخذ أحد منكم شيء بغير حق إلا لقي الله يحمله لوم القيامة فلأعرفن أحد منكم لقي الله يحمل عبيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاه تيعر"[1]
وقد طبق قضاء المظالم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم في الدولة الإسلامية (المطلب الأول) وصولا إلى ديوان المظالم بالمغرب (المطلب الثاني)
المطلب الأول: ديوان المظالم في النظام الإسلامي
بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم تولى الخلافة من بعد الخلفاء الراشدون، حيث تولوا حكم الدولة الإسلامية، وتنظيم القضاء بها الذي يعتبر من بين الركائز الأساسية لقيام دولة العدل.
- ديوان المظالم في عهد الخلفاء الراشدين
وبدأ قضاء المظالم يأخذ في التدرج منذ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، فقد كان يجمع ولاته وأمراءه كل عام في موسم الحج، ويستمع إلى شكاوى الناس، ويقتصُّ من المسيء من هؤلاء الولاة والأمراء، بل أقر عمر رضي الله عنه مبدأ مهمًّا في محاسبة الولاة والعمال، هذا المبدأ هو ما نسميه اليوم "الشطط في استعمال السلطة"، وقد ظهر جليًّا مع والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه وأحد أبنائه، الذي لطم مصريًّا سبقه في عدْوٍ كان بينهما.
وهذه القصة يرويها أنس بن مالك رضي الله عنه إذ قال: "إن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عُذْتَ مَعَاذً قال: سابقتُ ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه فسبقته، فجعل يضربني بالسوط، ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر رضي الله عنه إلى عَمرو يأمره بالقدوم ويُقْدِم بابنه معه، فَقَدِمَ، فقال عمر رضي الله عنه أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، ويقول عمر رضي الله عنه اضرب ابن الأكرمين. قال أَنس رضي الله عنه فضُرب، فو الله لقد ضربه ونحن نحبُّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنَّيْنَا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصريِّ: ضع السوط على صلعة عمرو . فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر لعَمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني.
يظهر أن حضارة أمير المؤمنين كانت تقوم على العدل والمساواة دون تفرقة بين الأشخاص أو صفاتهم. وأن مفهوم تجاوز السلطة ظهر في عهد أمير المؤمنين عمر الفاروق، وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاروق لأنه يفرق بين الحق والباطل ويوزع العدل بين الناس ولا يظلم أحدا.
- ديوان المظالم في عهد الخلافة الأموية
وتوسَّعت ولاية المظالم في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقد اغتصب عدي بن أرطاة " 102هـ " والي البصرة، أرضًا لرجل، فقرر الرجل أن يتجه إلى الخليفة في دمشق، وهو ما يرويه ابن عبد الحكم بقوله: "خرج عُمَر - رحمه الله- ذات يوم من منزله... إذ جاء رجل على راحلة له فأناخها، فسأل عن عُمَر، فقيل له: قد خرج علينا وهو راجع الآن، فأقبل عُمَر، فقام إليه الرجل فشكا إليه عدي بن أرطاة، فقال عُمَر: أما والله ما غرَّنا منه إلا بعمامته السوداء! أما إني قد كتبتُ إليه، فضلَّ عن وصيتي: إنه من أتاك ببيِّنَة على حق هو له فَسَلِّمْه إليه، ثم قد عَنَّاك إليَّ. فأمر عُمَر بِرَدِّ أرضه إليه، ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إليَّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، تسألني عن نفقتي، وأنت قد رددت عليَّ أرضي، وهي خير من مئة ألف؟ فقال عُمَر: إنما رددت عليك حقك، فأخبرني كم أنفقت؟ قال: ما أدري. قال: احزره. قال: ستين درهمًا. فأمر له بها من بيت المال.
يستخلص من هذا الموقف أن الدولة الإسلامية في الخلافة الأموية أسست لقضاء المظالم متطور في خصائصه، ويلاحظ المبدأ الذي يعرف في القانون الوضعي بتحميل الصائر لخاسر الدعوى، وهو الذي أمر به أمير المؤمنين عمر ليصرف من بيت مال المسلمين.
- في العصر العباسي
الحماة والأعوان؛ لجذب القوي، وتقويم الجريء، فالحماة هم كبار القواد، والأعوان هم الشرطة القضائية.
القضاة والحكام؛ لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق، وبهذا استدركوا النقص الذي يمكن أن يكون في والي المظالم من حيث معرفته بالقضاء وبالأصول القضائية.
الفقهاء؛ ليُرجع إليهم فيما أُشْكل، ويسألهم عما اشتبه، وبهذا أكملوا نقص العلم المحتمل.
الكُتَّاب؛ ليُثبتوا ما جرى بين الخصوم، وما توجَّب لهم أو عليهم من حقوق.
الشهود؛ ليُشهدهم على ما أوجبه من حق، وأمضاه من حكم، وهؤلاء في مقام المفوض الملكي للدفاع عن الحق والقانون.
وقد جلس خلفاء وأمراء العباسيين لولاية المظالم، ومن أعجب الأمثلة التي ذُكِرَتْ عن هذه الولاية، أن رجلاً دخل على أبي جعفر المنصور -وكان والي المظالم على أرمينية في خلافة أخيه أبي العباس السفاح- فقال: "إن لي مظلمة، وإني أسألك أن تسمع مني مثلاً أضربه قبل أن أذكر مظلمتي. قال: قل. قال: إني وجلتُ لله تبارك وتعالى، خلَقَ الخلقَ على طبقاتٍ، فالصبيُّ إذا خرج إلى الدنيا لا يعرف إلا أمه، ولا يطلبُ غيرها، فإذا فزع من شيء لجأ إليها، ثم يرتفعُ عن ذلك طبقة، فيعرف أن أباه أَعَزّ من أمه، فإن أفزعه شيءٌ لجأ إلى أبيه، ثم يبلغ ويستحكم، فإن أفزعه شيء لجأ إلى سلطانه، فإن ظلمه ظالم انتصر به، فإذا ظلمه السلطان لجأ إلى ربه واستنصره، وقد كنتُ في هذه الطبقات، وقد ظلمني ابن نهيك في ضيعة لي في ولايته، فإن نصرتني عليه، وأخذتَ بمظلمتي وإلا استنصرتُ إلى الله ولجأتُ إليه، فانظر لنفسك أيها الأمير أو دعْ. فتضاءل أبو جعفر، وقال: أعد عليَّ الكلام. فأعاده فقال: أما أول شيء فقد عزلتُ ابن نهيك عن ناحيته. وأمرت بردِّ ضيعتك.
إلى حدود الخلافة العباسية أصبح ديوان المظالم يشكل جهازا قائم الذات ومستقل كالوزارات، له بنية هيكلية متميزة، وله اختصاصات مستقلة، ولم يعد مجرد اختصاص منوط بالخليفة، بل أصبح يعهد به إلى القضاة المتخصصين دوي علم في شؤون الفقه و الشريعة (التخصص).
المطلب الثاني: قضاء المظالم بالمغرب
وكان قضاء المظالم قد عُرف في المغرب باسم "خُطَّة المظالم" التي ظهرت في وقت مبكِّر منذ الدولة الأموية في الأندلس، لكن لم تتَّضح واجباتها إلا في عصر الخلافة في القرن الرابع الهجري.
وقد مرَّت خُطَّة المظالم في المغرب والأندلس بتطور يختلف عن مثيلتها في الشرق الأموي والعباسي، إذ كانت أقل منزلة من رتبة "قاضي الجماعة"، أو ما يُسمى في المشرق بـ"قاضي القضاة"، ولم يَلِ هذه الوظيفة من الأمراء والخلفاء في الأندلس والمغرب إلا القليل منهم، ولذلك كان المتَوَلُّون لهذه المهمة من الفقهاء والعلماء الراسخين، ومن أشهر من تولَّى المظالم في المغرب محمد بن عبد الله (ت 398هـ) الذي قال في حقه ابن عذارى: "كانت وطأته اشتدت على أهل الريب والفساد، بالضرب والقتل وقطع الأيدي والأرجل، لا تأخذه فيها لومة لائم".[2]
وبلغت شهرة ومكانة بعض مَنْ وَلِيَ خطة المظالم في المغرب درجة عالية بين الخاصة والعامة، وترقى بعضهم في المناصب الإدارية العليا في الدولة، فهذا "أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس قد تقلَّد خطة المظالم بعهد المنصور محمد بن أبي عامر، فكانت أحكامه شدادًا، وعزائمه نافذة، وله على الظالمين سَوْرة مرهوبة، وشارك الوزراء في الرأي، إلى أن ارتقى إلى ولاية القضاء بقرطبة، مُجْمِعًا إلى خُطة الوزارة والصلاة، وقلَّ ما اجتمع ذلك لقاضٍ قبله بالأندلس.[3]
واهتمَّ كثير من ولاة المسلمين بالنظر في المظالم كما كان الحال مع الخلفاء، فقد كان كافور الإخشيدي يجلس للمظالم يوم السبت من كل أسبوع، واستمرَّ على هذه العادة إلى أن توفي،[4]
ومثل ذلك ما كان في الدولة السعدية في المغرب (961 - 1069هـ)؛ إذ خَصَّص سلطانها أحمد المنصور (ت 1011هـ) مجلسًا للنظر في المظالم سمَّاه "الديوان"، وكان الديوان يُعقد يوم الأربعاء من كل أسبوع للمشورة فيما ينوب من جلائل الأمور، وعظيم النوازل، وفي هذا الديوان يُظهر شكايته مَنْ لم يجد سبيلاً للوصول إلى السلطان.[5]
ويقول المرحوم علال الفاسي في كتابه دفاع عن الشريعة " لقد حافظ المغرب طيلة عهوده الإسلامية على إقليمية القضاء و إقليمية التشريع، فكانت المحكمة الشرعية هي القضاء و إقليمية التشريع ، فكانت المحكمة الشرعية هي القضاء الوحيد الذي يرجع إليه المتقاضون من أي جنس كانوا، و لم تكن مصلحة المظالم محكمة بالمعنى الحقيقي للكلمة، و إنما كانت مرجعا لتطبيق الأحكام التي يقضي بها القضاء على من لا تنالهم الأحكام، أو يصعب على القاضي تنفيذها عليهم، فكان والي المظالم يقوم بتطبيقها عليهم و إجبارهم على العمل بمقتضاها، و كذلك الشكايات كانت مرجعا للناس يبتون فيها شكواهم مما يظنون انه حيف وقع عليهم فيصدر أمرا بتنفيذ الحكم أو إعادة النظر فيه إلى القاضي ".
فعبر تاريخ المغرب الإسلامي، عرفت ولاية المظالم و مورست برعاية السلاطين الذين تعاقبوا على حكم البلاد و مناطق النفوذ، فقد اعتنى بها المرابطون و جلس المنصور الموحدي بنفسه لفصل القضايا و نظر التظلمات و تطورت هاته المؤسسة على عهد الدولة السعدية فكان للقائم عليها منصب وزير بين وزراء القصر، كما ترأس السلطان المنصور مجلس رد المظالم و كان يصدر الأحكام بنفسه، و من مآثر المنصور أمره بإحضار الظلمة من العمال و هم مكبلون و السلاسل في أعناقهم، بعد أن بالغوا بجورهم على الرعية .
وخلال عهد الدولة العلوية تطورت ولاية من محكمة للسلطان إلى وزارة للشكايات تولاها فقهاء أجلاء، فقد كان الملك المولى الرشيد ينظر المظالم بنفسه في جلسات أسبوعية و كذلك فعل المولى اسماعيل و باقي السلاطين الذين تلوه في اعتلاء عرش المغرب وصولا إلى المولى الحسن الأول الذي عمل تأسيس وزارة للشكايات أوكل إليها نظر المظالم و تتبع تصرفات رجال السلطة .
و على نفس النهج سار كل من المولى عبد العزيز و المولى عبد الحفيظ إلى حين الحماية الفرنسية .
و في سنة 1956 تم الاستغناء عن وزارة الشكايات و أنشأ كبديل لها مكتب الأبحاث و الإرشادات التابع للقصر الملكي و جعل من اختصاصاته تلقي و فحص الشكايات الواردة عليه و إجراء الاتصالات اللازمة بالجهات الإدارية المعنية ، و كذلك مد الملك بمذكرات حول أحوال الرعية .
المبحث الثاني: اختصاصات وخصوصيات ديوان المظالم بالمغرب
لقد كان لديوان المظالم اختصاصات تشابه إلى حد كبير اختصاصات القضاء الإداري الحالي (المطلب الأول) كما برزت له خصوصيات عديدة (المطلب الثاني).
المطلب الأول: اختصاصات ديوان المظالم
يعتبر ديوان المظالم قضاء منفصل عن القضاء العادي، يختص في التظلمات و الخصومات التي يكون أحد أطرافها أو كلاهما من ذوي السلطة و النفوذ، و وضع حد لسلطاتهم ونفوذهم و إنصاف المظلومين، ويتصف قاض المظالم بالقوة و الهيبة ويتميز بها عن القاضي العادي الذي لا يستطيع توجيه أي أوامر لذوي السلطة.
وعليه فقضاء المظالم يرفع الظلم عن الضعفاء الذين لا يستطيعون دفع الظلم عن أنفسهم، إذاَ فوظيفة ديوان المظالم كما عرفها ابن خلدون في المقدمة " وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصف القضاء..."[6]
وعند توسع الدولة الإسلامية و كثرة المنازعات و الخصومات و تجاهر الناس بالظلم و ازداد جور الولاة وقل اتصال الخلفاء بالعامة، فكان لا بد من قضاء متخصصين في قضاء المظالم لهم من السلطة والقضاء في رد المظالم وإنصاف المظلومين.[7]
فأصبح قضاء المظالم ولاية منفصلة متخصصة بنظر نوع خاص من المنازعات، يباشرها الخلفاء بأنفسهم أو من ينوبهم، وأضحى الخلفاء يخصصون يوما أو أكثر للنظر في قصص المظلومين.
وعليه فإن النظر في قضاء المظالم لا يقتصر على الخلفاء وحدهم بل يجوز لهم تفويض هذا الاختصاص إلى غيرهم و انتذاب من يرونه ملائم من وزراء أو قضاة.
وبما أن قضاء المظالم يختلف عن القضاء العادي، فإن من اللازم أن يتولوه أناس قادرين على القيام به، لهم من السطوة والنفوذ و الهيبة ما يقود المتظلمين إلى التناصف بالرعية، ورد الظلمات إلى أصحابها المظلومين.
ولديوان المظالم اختصاصات قضائية و أخرى غير قضائية، فالاختصاص القضائي يتولاه قاضي المظالم من تلقاء نفسه، وتتمثل هذه الاختصاصات في النظر في اعتداء الولاة و موظفي الدولة على الرعية،[8] بالإضافة إلى اختصاص قاضي المظالم في نظر المسائل المرتبطة بتحصيل الضرائب، وتصفح أحوال الدواوين و الأوقاف العامة.
كما يهتم ديوان المظالم برد الأموال التي اغتصبت من طرف الحكام و الولاة والتي ضمتها الدولة بدون وجه حق، ويتميز قاضي المظالم بتنفيذه المباشر للأحكام الصادرة بالقوة والغلبة، وأيضا النظر في المنازعات المتعلقة بالأوقاف والأهلية.
ويتمثل الجانب غير القضائي الذي يناط بقاضي المظالم في تنفيذ الأحكام التي يعجز عن تنفيذها القضاة لضعفهم أو عجزهم أمام قوة وهيبة المحكوم عليهم، كما يراقب قاضي المظالم مشروعية الأعمال القضائية بالإضافة لرقابته على أعمال الإدارة.
حيث يفحص الحكم الصادر عن القضاة ما إذا كان مخالفا لأحاكم الشريعة والسنة ـو الإجماع، حيث يلعب ديوان المظالم دور محكمة النقض، وكان لديوان المظالم أن يأمر الإدارة وان يتدخل في أعمالها وذلك بان تلتزم بعمل أو تمتنع عن عمل، كما أن له أن يحل محل الإدارة في إصدار القرارات.
كما أن اختصاص قاضي المظالم يشمل تعديل مضمون القرارات، مما يدل على ان سلطة القاضي الإداري (قاضي المظالم) له سلطات واسعة وشاملة للتصرفات والأعمال الإدارية، مما يدل على ان ديوان المظالم له اختصاصات مهمة ومتميزة عن اختصاصات القاضي العادي، حيث أن هذا الأخير يلجأ إلى قاضي المظالم لينفذ بعض الأحكام التي تحتاج للقوة والهيبة في تنفيذها.
كما يتمتع ديوان المظالم باختصاصات التأديبية والتفتيشية يمارسها على عمال الدولة وموظفيها، حيث يوقع العقوبات التأديبية على كل من ظهر ظلمهم وزاغوا عن الحق وارتكابهم أفعال لا تطابق مبادئ الشريعة الإسلامية، وتجمع فئات العملين في إدارة الدولة من عمال وعسكريين، كما ينظر في تظلمات الموظفين ضد رؤسائهم، وقرارات عزلهم عن الوظيفة.
كما يمارس قاضي المظالم اختصاص التفتيش حيث يعمل على مراقبة وتفتيش مرافق الدولة وعمالها، وأعمال وتصرفات هذه المرافق ومدى تطابقها مع الشريعة الإسلامية.
ويجب على قاضي المظالم أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط كما وصفها الماوردي، يجب أن يكون مسلما وحرا و بالغا وذكرا وعادلا وعاقلا وعالما بالأحكام الشرعية، وله في سلامة الحواس و الأعضاء و الشجاعة.
ويخضع عزل قاضي المظالم إلى أحاكم عزل القضاة العاديين، لكن لا يجوز عزله إلا إذا تغير حاله.
المطلب الثاني: خصوصيات ديوان المظالم
تتجلى خصوصيات القضاء الإداري الإسلامي (ديوان المظالم) في مدى الصلاحيات و السلطات التي يتمتع بها القاضي الإداري لمراقبة أعمال وتصرفات الإدارة و عمالها، وتعدياتهم على حقوق وحريات الأفراد و أموالهم، وتظهر خصوصية ديوان المظالم في الإسلام أيضا في كونه لا يقتصر على رد المظالم وحماية الرعية من جور موظفي الدولة، بل جاء ليكمل و يتمم ما يقوم به القضاء العادي ودعمه في تثبت الحق و إقامة العدل في الدولة الإسلامية.[9]
وتظهر كذلك خصوصيته في السلطات الواسعة التي يتمتع بها في مجال التنفيذ والتفتيش والتـأديب وقوة الحكم الصادر عنه.
- على مستوى قوة الحكم وتنفيذه:
وترجع قوة الحكم الصادرة عن قاضي المظالم للمكانة التي يحتلها في نفوس عموم الناس، والخلفاء و الولاة خصوصا، حيث أن سلطته يستمدها من الخليفة مباشرة كما أنه يطبق الشرع وفي مخالفة قاضي المظالم مخالفة لأحاكم الله ورسوله.
- على مستوى أطراف النزاع:
خــــاتمة
من خلال التمحيص في تاريخ الدولة الإسلامية عموما وتاريخ المغرب في عهد الإسلام، يتضح أن المغرب شأنه شأن باقي الخلافات الإسلامية طبق أحكام الشريعة الإسلامي من كتاب الله وسنة رسوله التي نصت على ضرورة حماية الأفراد من قوة ذوي السلطة في الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع اللبنات الأولى لهذا القضاء، وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم، ثم من بعدهم خلفاء الدولة الإسلامية.
وقد بدأت معالم هذا القضاء تظهر بالخصوص في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه حيث كان يجمع الرعية موسم الحج ويسألهم إذا تضرروا من سطوة بعد الولاة أو العمال، ثم بدا يتسع هذا القضاء باتساع الدولة الإسلامية أفقيا وعموديا إلى أن وصلت الخلافة الإسلامية إلى إفريقيا وخصوصا إلى المغرب، حيث توالت عليه الخلافة الإسلامية منذ عهد العباسيين.
وقد كان لقضاء المظالم بالمغرب خصوصية حيث سمي هذا القضاء بالديوان، وكان يتأسس على نفس المبادئ التي تأسس عليها في باقي الدولة الإسلامية، وكان الخليفة نفسه أو الملك، ينزل أسبوعيا إلى الرعية لينظر في تظلماتهم.
وبالتالي لا يمكن أن نقول بالتحديد أن القضاء الإداري لم يظهر إلى مع ظهور مجلس الدولة في فرنسا، لأن الإسلام عرف التقاضي الإداري وإن لم يكن في صيغته الحديثة، إلا أنه كان يناسب العهد الذي ظهر فيه وكان يلائم الوضع آنذاك في صيغته الإسلامية حسب تركيبة الدولة واتساعها ووظائفها.
لكن بالرجوع إلى اختصاصات وخصوصيات القضاء الإداري في الإسلام نجده متطور بالمقارنة مع الوضع الراهن، حيث أنه لم يعرف المشاكل التي يعرفها القضاء الإداري اليوم والحديث هنا ينصب على إشكالية تنفيذ الأحكام، إذ أن المتقاضي يتساءل ما قيمة الحكم الصادر في مواجهة الإدارة إذا لم ينفذ؟ وعليه فقاضي المظالم كانت له قوة تنفيذية على مستوى الحكم وذلك ليحمي الحقوق والحريات عبر إقرار أحكام الشريعة الإسلامية وإقامة العدل بين الناس وإنصاف المظلومين.
الهوامش
[1] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب هدايا العمال.
[3] النباهي: تاريخ قضاة الأندلس ص86.
[4] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر
[5] الناصري: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى
[6] مقدمة ابن خلدون، طبعة كتاب التمرير، ص 222.
[7] د. اعاد حمود القيسي، خصوصية القضاء الإداري الإسلامي ـ قضاء المظالم ـ مقال منشور بمجلة القضاء الإداري العدد الثاني السنة الأولى، 2013. ص 20.
[8] الماوردي، الاحكام السلطانية
[9] د. اعاد حمود القيسي، خصوصية القضاء الإداري الإسلامي ـ قضاء المظالم، مرجع سابق، ص37.
[10] محمود عرنوس تاريخ القضاء في الإسلام.