لعل الضرورة المنهجية تقتضي التأكيد في البدء،على أن قانون المالية هو وثيقة للتدبير ومخطط عمل قصير المدى (سنة مالية)،تعكس معطياته قدرة الحكومات في مختلف الأنظمة السياسية على تنفيذ وأجرئة مختلف المشاريع والبرامج ومدى استمرارية تفعيل مختلف السياسات العمومية .
وينصرف مفهوم "قانون المالية السنوي"في مختلف الأنظمة المالية الحديثة،للدلالة على تلك الوثيقة المالية والتقنية السنوية ،المحضرة من قبل السلطة التنفيذية و المصادق عليها من قبل البرلمان و التي تحدد خلال سنة مالية طبيعية المبالغ التي تخص موارد الدولة و أعبائها المنتظر تنفيذها ،أي أنه القانون الذي یقوم بتحدید التوازنات العامة للاقتصاد الوطني .
وتأسيسا على ذلك ، فقانون المالية السنوي ، هو المعبر عن النظام الاقتصادي والمالي المتبع في دولة ما ،إذ تعكس توجهاته واختياراته السیاسة الاقتصادیة والاجتماعیة المتبعة والمنتهجة ،وتبین الأولویات المقررة من خلال الاعتمادات المالیة المرصودة فيه ، كما تجسد لنا أیضا هذه الأداة المجهود المالي للدولة في تدبير الشأن العام وتنفیذ الميزانية العامة ،وهو ما يجعل لقوانين المالية السنوية أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة .
وتبعا لذلك ، تعتبر مرحلة عرض مشروع قانون المالية السنوي بالمغرب على أنظار البرلمان بغرفتيه محطة أساسية لتبين الوضعية الاقتصادية المالية للمغرب وفرصة لمعرفة أفاق النمو الاقتصادي والإكراهات المالية الموجودة والمحتملة وكذا الخطوط الكبرى للتوازن الاقتصادي والمالي بالإضافة إلى كونها لحظة مميزة لاحتكاك اختصاصات السلطتين التنفيذية و التشريعية وفرصة للنقاش العام حول أولويات ومقتضيات الميزانية السنوية.
وفي سياق عرض مشروع قانون المالية رقم 100.14 لسنة 2015 بالمغرب ،قصد المناقشة والمصادقة عليه،وما صاحب ذلك من نقاشات وتحليلات من داخل وخارج المؤسسة التشريعية ،وكمساهمة منا في تحليل ابرز مضامين مشروع قانون المالية رقم 100.14 لسنة 2015،سنسعى من خلال هذه المقال إلى تقديم مقاربة تحليلية لمضامين هذا المشروع .
وتجدر الإشارة في البدء ،إلى أنه تم عرض مشروع قانون المالية ،على أنظار مجلس النواب في 20 اكتوبر2014 وذلك تطبيقا للفصل 75 من دستور فاتح يوليوز ،أي أن الإحالة تمت داخل الآجال الدستورية والقانونية .
ويبقى من المفيد، التنبيه إلى أن تحضير وعرض هذا المشروع تم في إطار قانون تنظيمي للمالية متقادم مستمد من روح دستور سنة 1996وهو القانون رقم 7.98، وذلك بعد أن تأخرت المصادقة على مشروع القانون التنظيمي الجديد للمالية رقم 130.13، الذي تمت المصادقة عليه في مجلس الحكومة بتاريخ 3 يناير 2014 و في مجلس الوزراء بتاريخ 20 يناير 2014، وصادق مجلس النواب في إطار القراءة وهو ألان بمجلس المستشارين.
وبالرجوع إلى مشروع قانون المالية لسنة 2015 ،والتدقيق في مضامينه ومعطياته وأرقامه وتوقعاته وتفحصها، يتبين بجلاء أن هذا المشروع ،شأنه شأن سابقيه ،يرتكز على قاعدة التوازنات الاقتصادية والمالية ،بمعنى أن هاجس ضبط التوازنات الماكرو -اقتصادية هو العنوان الأبرز لهذا المشروع ،وهي القاعدة الموروثة عن فترة التقويم الهيكلي الذي عرفه المغرب والتي تستمد فلسفتها من إملاءات وتوجيهات المؤسسات المالية الدولية الكبرى.
وهذا ما يعاكس ما قاله وزير الاقتصاد والمالية ،حين رده على استفسارات وأسئلة النواب البرلمانين بلجنة المالية والتنمية الاقتصادية ،من كون أن مشروع قانون مالية 2015 ،يحمل لمسة سياسية بفلسفة وتوجه اجتماعيين سيدخلان المغرب نادي الدول الصاعدة .
وقد حددت الحكومة لنفسها من خلال هذا المشروع، كطموح بلوغ مستوى نمو لا يقل عن 4.4%،وحصر نسبة عجز الميزانية في 4.3%،وتخصيص 189مليار درهم للاستثمار العمومي ،إلا أن الكثير من الخبراء والمحللين الاقتصاديين المغاربة ،شددوا على أن مستوى نمو يقدر ب 4.3 %،هو معدل نمو غير كفيل بتوفير شروط الإقلاع الاقتصادي،كما استبعدوا إمكانية قدرة الحكومة على تحقيق مستوى النمو المنشود من خلال المشروع ،على اعتبار استمرار تأثير التحديات والإكراهات المرتبطة بالظرفية الدولية على الاقتصاد الوطني والمتمثلة أساسا في استمرار الانكماش الاقتصادي ،خاصة لدى الشريك التجاري الرئيسي للمغرب -الاتحاد الأوروبي - ،الذي يعيش في ظل أزمة اقتصادية ومالية للمغرب ، فضلا عن آن السياسة الاقتصادية و المالية التي تطبقها الحكومة هي في عمقها سياسة لا تروم رفع نسبة النمو أو الاستهلاك الداخلي بالمغرب أو دعم الطبقات الاجتماعية الفقيرة، بقدر ما هي سياسة هدفها الرئيسي المحافظة على التوازنات الماكرو- اقتصادية ،وبالتالي إعادة إنتاج تنمية معطوبة.
وبالرجوع لمشروع قانون المالية لسنة 2015، ومن خلال القراءة التركيبية لمضامينه ،يمكن الخروج بمجموعة من الملاحظات ،أولها تلك المتعلقة باستمرار المنحى الحكومي التصاعدي في الزيادة في الأسعار ،وذلك من عبر الرفع من نسب الضريبة على القيمة المضافة على مجموعة السلع الاستهلاكية ذات الاستهلاك الواسع(من 14 إلى 20 في المئة ) ،وهو ما يعني ضرب القدرة الشرائية و استمرار تدهور المستوى المعيشي لشرائح واسعة من المغاربة .
وتبقى النقطة الأكثر إثارة للجدل حتى قبل أن يتم المصادقة عليها في صيغتها النهائية ، تلك المتعلقة بالمادة الثامنة من مشروع قانون المالية ،والتي تنص على أنه :"
- 1ـ يتعين على الدائنين الحاملين لسندات أو أحكام تنفيذية ضد الدولة ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة المعنية.
-2 ـ في حالة ما إذا صدر حكم قضائي اكتسب قوة الشيء المقضي به يدين الدولة بأداء مبلغ معين ، يتعين على الآمر بالصرف بصرفه داخل أجل شهرين ابتداء من تاريخ تبليغ القرار القضائي السالف ذكره ، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن تخضع أموال وممتلكات الدولة للحجز لهذه الغاية .
- إذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية ، يتم عندئذ الأمر بصرفها في حدود الاعتمادات المتوفرة ، على أن يقوم الآمر بالصرف باتخاذ كل التدابير الضرورية لتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي . وفي هذه الحالة ، يجب أن يكون الأمر بالصرف التكميلي داخل أجل لا يتجاوز ثلاثة أشهر ابتداء من تاريخ التبليغ المشار إليه أعلاه ."
ويستنتج أن هذه المادة المقحمة عنوة ضمن مشروع قانون المالية ، تؤسس وتشرعن لسابقة إمكانية تهرب الدولة المغربية من التنفيذ الجبري للإحكام الصادرة ضدها ، وهو ما يعتبر تعديا على مبدأ المشروعية وعلى ما يقرره قانون المسطرة المدنية من مبادئ في مجال التنفيذ الجبري للأحكام القضائية ،كما أن هذه المادة تحصن من جهة أخرى أملاك الدولة من الحجز.
ومقاربة مشروع قانون مالية سنة 2015 بالتحليل، تستدعي كذلك التوقف عند مسالة غاية في الأهمية، وهي تلك المتعلقة بملف التوظيف، فالمشروع يتحدث عن إحداث 22.510 منصب مالي، وهو رقم جيد إذا ما قرأ بشكل مجرد، إلا انه وبربطه بالشق الثاني من المادة 29 التي تنص على أنه:"... يتم تقليص عدد النصف الباقي تلقائيا بالنسبة إلى كل واحد من القطاعات أو المؤسسات السالفة الذكر في حدود عدد شاغلي المناصب الذين سيتم رفع سن إحالتهم على التقاعد، من لدن المشرع خلال سنة 2015...".
وهو الأمر الذي يعني أن 11.255 منصب مالي ستلغى تلقائيا إذا ما صودق على القانون المقترح والقاضي برفع سن التقاعد ،وذلك بتعويض المنصب المحدث عن سنة 2015 بمنصب الموظف الذي سيتم رفع سن إحالته على التقاعد.علما أن التقليص من نسبة التوظيف هو الذي اضر بقاعدة التوازن المالي والديمغرافي لصناديق التقاعد بالمغرب.
والى جانب كل النقط والمضامين التي جرى التطرق إليها ومناقشتها ،يسجل كذلك استمرار حضور الحسابات الخصوصية (الصناديق السوداء) ،واستمرار سلسلة الإعفاءات الضريبية التي تكلف خسارة حوالي 30 مليار درهم سنويا .
وختاما، وفي مقابل كل ما تم التطرق إليه في هذه المقالة بخصوص مشروع قانون المالية لسنة 2015 ،وبصفة عامة ومن باب الموضوعية، وجبت الإشارة إلى معطى لا يمكن لأي ملاحظ مدقق ومهتم بالمالية العمومية بالمغرب إنكاره ،من أن الحكومة الحالية ورثت عن سالفتها وضعية اقتصادية واجتماعية صعبة ،وذلك على الرغم من أن الوضعية العامة اليوم بالمغرب تحكمها سياقات جديدة تندرج ضمن مسارات مغايرة (الأزمة العالمية ،وثيقة دستورية جديدة عقب حراك شعبي...)،إلا أنه وباعتمادها لمجموعة من التدابير والإجراءات وسن مجموعة من القرارات ،تكون الحكومة الحالية هي الأخرى ،قد ساهمت في تأزيم الوضعية الاقتصادية والاجتماعية بالمغرب .
وحتى لحظة كتابة هذه السطور فالحكومة الحالية أخفقت في :
- تحقيق إقلاع اقتصادي.
- التقليص من معدلات البطالة والفقر والفوارق المجالية .
- محاربة الفساد الاقتصادي والمالي والإداري.