إن قيام مجتمع حضاري متقدم يفترض وجود دولة بمقومات عصرية بآليات قانونية ومؤسسات دستورية تكفل خلق التوازن بين المصالح الخاصة للأفراد ومصالح المجتمع التي تحميها مؤسسات الدولة وهيآتها من خلال إمتيازات ووسائل خاصة بها ليس لها نظير لدى المؤسسات الخاصة ومصالحها والساهرين على حسن سيرها لتحقيق المصالح الخاصة الأنانية للأفراد، وهي بهذا المعنى ليست لها سلطات مطلقة فوق القانون أو "إدارة دركولية" تسيطر على المصالح الخاصة للأفراد كما قال الفقيه محمد خيري مرغيني، بل إن امتيازاتها مقيدة بمراقبة إدارية قد تأخذ شكل سلطة رئاسية في إطار السلم الإداري في مجال علاقة الإدارة المركزية مع المصالح الخارجية الترابية التابعة لها أو وصاية إدارية في إطار اللامركزية الإدارية بشقيها الإقليمية ( الجماعات الترابية ) والمصلحية ( المؤسسات العمومية)، وداخل هذا الاطار أيضا توجد سلطة رئاسية في إطار السلم الاداري بين الرئيس والمرؤوس يتقيد فيها هذا الأخير بأوامر الرئيس تحت سلطة القانون، وكلها ضمانات قانونية مهمة للأفراد في مواجهة الإدارة، ذلك أنها تعدد مصادر إصدار القرار الاداري، وكذا وجود مؤسسات دستورية تتدخل لحل الخلافات بين الإدارة والمواطنين بشكل ودي بعيدا عن ردهات المحاكم، ولعل مؤسسة الوسيط أبرز هذه المؤسسات، ومن جانب ثاني هناك رقابة قضائية متخصصة مالية ( المجالس الجهوية للحسابات) وإدارية ( المحاكم الادارية)، وهذه الأخيرة قد تتجاوز في مجالات معينة النظر في مشروعية اعمال وقرارات السلطات الادارية الى النظر في الملاءمة، وهو الأكثر ضمانا للحقوق والحريات من أي تهديد بمناسبة تدخل الادارة للحفاظ على النظام العام في إطار سلطات الضبط الاداري أو الشرطة الادارية وهي أخطر إمتياز ممنوح للادارة الذي قد يهدد حريات الأفراد و حقوقهم.
كما تنامى دور مؤسسة جديدة في مراقبة سلطات الادارة وتدخلاتها وهي المجتمع المدني ورسخ لهذا الدور الدستور الحالي الذي جعل من المقاربة التشاركية والإدماجية مرتكز لكل سياسة عمومية تنهجها الدولة وألزم مؤسساتها على انتهاج سياسة القرب والمشاركة والإشراك في التدبير العمومي من أجل تحقيق النجاعة والفعالية وهما المتحكمين الأساسيين في الوصول إلى تنمية مستدامة ودولة عصرية قائمة على المؤسسات وضمان الحق في العيش الكريم، في سبيل الوصول إلى أجيال متقدمة من الحقوق لمنافسة الدول الديمقراطية في مستوى إقتصادها وتطورها، وهو التوجه الذي سلك المغرب طريقه منذ تولي جلالة الملك محمد السادس مقاليد الحكم، وهو نفسه المسار الذي رسم معالمه جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وذلك من خلال مشاريع إستراتيجية اكتست بعدا تنمويا جعلت من الإنسان محور كل إصلاح، وهذا ما ترسخ في مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الذي إستهدف محاربة الهشاشة وتدعيم البنيات التحتية الأساسية والقيام بمبادرات لتوفير الدخل للأسر المعوزة من خلال العديد من المشاريع المواكبة.
وتدعم هذا التوجه بمحاولة القطع مع الماضي من خلال تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة لجبر ضرر ضحايا ما سمي "بسنوات الرصاص"، وهي السنوات التي عرفت تجاوزات خطيرة كان للمغرب الجديد الجرأة في كشفها، هذه الجرأة التي لاقت تنويها دوليا وضمنت ثقة الشركاء الإقتصاديين، وذلك من خلال إقامة جلسات إستماع لضحايا هذه الإنتهاكات، وقد بثت هذه الجلسات على القنوات الرسمية، وإنتهت بتوصيات الهيئة لجبر ضرر الضحايا وأسرهم.
كما عرف المغرب مع تولي جلالة الملك محمد السادس الحكم سلسلة من الإصلاحات العميقة والبنيوية لمشاكل جذرية كان يعرفها المغرب ولازال يعرف تبعاتها لكن بحدة أقل دشنت بتبني المفهوم الجديد للسلطة في الخطاب الملكي ل 12 أكتوبر 1999 الذي إنتقل من المفهوم التقليدي للسلطة القائم على القوة والترهيب إلى مفهوم الإقناع والحوار والقرب و "...فضيلة التشاور وإتاحة فرصة المساهمة والاندماج للمواطنين كافة بدون أي إعتبار أو تمييز وبما يوفر لهم ظروف الحياة السعيدة"[1]. فقد كان التطبيق الصارم للقواعد القانونية والمعاملة المشحونة السلبية بين رجل الادارة والمواطن سببا في خلق جو من التوثر وفقدان الثقة بينهما، إذ كانت علاقة الادارة بمخاطبيها يطبعها التأزم، حيث يصطدم المواطن في سعيه للتقرب من الإدارة ومشاركته في أعمالها بحواجز مختلفة وإجراءات طويلة ومعقدة[2]، بل كان مجرد التحدث مع المسؤول في الإدارة العمومية أو الجلوس في حضرته تعد من الأفعال التي لا تنعم بها الإدارة إلا على مقربيها[3].
إن تدعيم هذا الإصلاح إرتبط بضرورة إنفتاح أجهزة الدولة على الفاعلين غير الحكوميين بعدما ترسخ دور هيآت المجتمع المدني وحظي بإهتمام متزايد وأثبت دوره الفعال في المساهمة في بناء دولة متقدمة قوامها ضمان الحقوق والحريات، فيما على مستوى الأجهزة الحكومية تطلب هذا التطور تدعيم إختصاصات ومجال تدخل المصالح الخارجية للإدارة المركزية أو اللاتمركز الإداري لاسيما في مجال الاستثمار بإعتباره وسيلة فعالة للتنمية الإقتصادية والإجتماعية ومحفز أساسي للنمو، فبعدما أكد جلالة الملك في إفتتاح الدورة البرلمانية لأكتوبر 2000 على تحفيز الإستثمار وتسهيله من خلال مجموعة من الإجراءات، جاءت الرسالة الملكية الموجهة إلى الوزير الأول في موضوع التدبير اللامتمركز للإستثمار لسنة 2002[4]، لترسم بوضوح معالم تبني سياسة إستثمارية واضحة المعالم ومحفزة ومدعمة لإختصاصات ممثلي الادارات المركزية على المستوى الترابي المعنيين بمجال الإستثمار وعلى رأسهم الوالي والعامل جاعلا من الجهة محور تدعيم الاستثمار،
إن المستوى الجهوي هو الإطار الأنسب لتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية الترابية، وقد دفع وعي الدولة بأهمية هذا المستوى إلى تبني مشروع الجهوية المتقدمة التي أصبحت في العهد الجديد مرجعية شبه دائمة في الخطب الملكية، إلا أن خطاب 6 نونبر 2008 يعد مرجعية أساسية من خلال منحه للتصور العام وبشكل يقترب من التفصيل الدقيق للجهوية المتقدمة، التي تروم إلى العدالة الترابية المتنوعة بخيراتها الطبيعية ومستوى المشاريع والبرامج المقام بها او المزمع القيام بها، وبشكل أساسي إعادة الإعتبار للبعد الجهوي وجعله منطلق لكل تنمية للدولة، بعدما كانت الجهة في دستور 1996 تكابد وتعاني من شح في مواردها ومن إختلالات في منظومتها القانونية ومقوماتها كوحدة ترابية لامركزية إعترف لها بهذه الصفة بمقتضى دستور .1992
وغير ذلك من الإصلاحات والتوجهات التي أعلنت عنها السلطات العمومية في ظل المغرب الجديد لخلق الفاعلية والفعالية والنجاعة في التدبير العمومي لتحقيق نجاح السياسات العمومية التي تعد أبرز وسيلة للرفع من التنمية في مختلف مجالات تدخل الدولة وتقسيماتها الإدارية، وقد جاء دستور 2011 لمواصلة الاصلاحات القانونية وبناء صرح مؤسساتي قوي، وذلك من خلال ترقية مؤسسات من مستوى الاعتراف الحكومي (بمرسوم) او الاعتراف التشريعي( بقانون) الى الاعتراف الدستوري والذي يعد ضمانة كبيرة لوجودها، إذ لا سبيل للتحايل على هذه المؤسسات او محاولة سحب الاعتراف منها الا بتعديل في الوثيقة الدستورية وما يتطلب ذلك من مساطر واجراءات طويلة، وهذا التحايل قد يكون سببه طبيعة عمل هذه المؤسسات التي قد تصطدم مع مصالح الاجهزة الحكومية ومصالحها الترابية ان تجاوزت السلطات الممنوحة لها
كما تدعمت اختصاصات مؤسسات اخرى واصبحت ملزمة بالتعامل مع المجتمع المدني، الذي اكتسب الضمانة الدستورية في الدفاع عن المصالح الخاصة للافراد ومصالح المجتمع ومراقبة الاجهزة الحكومية والجماعات الترابية وضرورة اشراكها في تدبير الشأن العام بفصول قانونية واضحة تحث الادارة العامة على اشراك المواطنين وجمعيات المجتمع المدني في مسلسل اصدار القرار الاداري، فلم يكن هناك اي مقتضى قانوني يلزم الادارة بمنح معلومات ومعطيات عن التدبير العمومي للمواطنين، بل كان الامر يخضع للانتقائية في التعامل وتبادل للمصالح او الاستعطاف للحصول على فكرة عن المشاريع العمومية المزمع انجازها بعد التشطيب على تكلفتها وعن المقاولة التي ستتكلف بإنجازها، الا ان الامر اصبح مغايرا مع صدور دستور 2011 حيث اصبحت الادارة ملزمة تحت سلطة القانون بالتعامل مع المواطنين واصبح الحق في الحصول على المعلومة حقا دستوريا، بالرغم من ان مسوداتي القانون التنظيمي المنظم لهذا الحق بالغا في المساطر والاجراءات للحصول على المعلومة من الادارة، الشيء الذي سيرهق طالب المعلومة ويؤخر مصالحه،
كما ظهرت انتقائية في اشراك المجتمع المدني في مشاريع القوانين التي تعتزم الحكومة عرضها على البرلمان لمناقشتها، حيث تكتفي الحكومة بأخذ اراء واقترحات جمعيات بعينها دون أخرى، هذه الاخيرة التي من الممكن ان يكون لها مقترحات تحقق التنزبل الانجع لهذه القوانين لتحقق روحها، والا ستكون قوانين مجحفة لن تحقق العدالة من خلال اللامساواة امام مخاطبيها وستنتفي فيها العموميةمن حيث التطبيق التي تعد من اهم خصائص القاعدة القانونية، وقد حصل ذلك مع مشروع القانون الخاص بزجر التحرش الجنسي الذي اعدته وزارة الأسرة والتضامن، اذ لاقى معارضة كبيرة من طرف العديد من الفعاليات الحقوقية وبعض هيآت المجتمع المدني، جلها إعتبرت أن الوزارة لم تحترم مقتضيات الدستور بشأن إشراك الهيآت والمجتمع المدني والمواطن بشكل خاص في بلورة مشروع القانون الذي تضمن عقوبات سالبة للحرية، هذا الإشراك الذي نص عليه الفصل 12 من الدستور الحالي "... تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام والمنظمات غير الحكومية في إطار الديمقراطية التشاركية في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وكذا في تفعيلها وتقييمها..."، وهو ضرب لمضامين الدستور في العمق وعدم الإعتراف بالمقاربة التشاركية كمقاربة ركز عليها هذا الأخير في مختلف مظاهر التدبير العمومي.
اما على مستوى السلطة القضائية فقد كفل الدستور ضمانات لاستقلالها، الا ان تنزيل هذه الضمانات والنقاشات المفتوحة بشأنها يظهران انه سيبقى استقلالا نسبيا، لاسيما مع الصراعات السياسية التي لم تبقى السلطة القضائية بمعزل عنها، اذ هناك تشبت ودفاع كبير على بقاء وتحكم وزارة العدل والحريات في الجهاز القضائي برمته، ويظهر ذلك من خلال مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالسلطة القضائية، والذي يعد تهديدا لكل قاض اراد استقلالا للقضاء والتخلص من التبعية التي ستترك الجهاز القضائي غارقا في الروتين وبعيدا عن الدينامية المنشودة لتخليقه من كل ما يعوق اداء وظيفته السامية في المجتمع وهي تحقيق العدالة كقيمة انسانية لا محيذ عنها لاستمرار البشرية واداء رسالتها على الوجه الامثل...
[1]. الخطاب السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المسؤولين عن الجهات والولايات والعمالات والأقاليم من رجال الادارة وممثلي المواطنين ليوم الثلاثاء 12 أكتوبر 1999 بالقصر الملكي بالدار البيضاء.
[2]. عبد الغفور اقشيشو " مشاركة المواطنين في تدبير المدن "، رسالة لنيل الماستر في القانون العام، نوقشت بجامعة محمد الخامس-السويسي- سلا- السنة الجامعية 2012-2013، ص: 52
[3]. مصطفى سلمي " مساهمة المواطن والموظف في العمل الإداري من منظور علم الإدارة "، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، السنة الجامعية 1996-1997، ص: 6
[4]. الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى الوزير الأول في موضوع التدبير اللامتمركز للإستثمار، بتاريخ 9 يناير 2002، الجريدة الرسمية عدد 4970 بتاريخ 17/01/2002، ص:75