MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




صناعة التشريع الجنائي

     

ذ/ أحمد الخراز



صناعة التشريع الجنائي
بين تهافت العامَة وشعبوَية النخب

لا أحد ينكر ما باتت تعرفه الساحة القانونية والتشريعية مؤخرا من سجالات، بعضها غوغائي صرف، وبعضها الآخر غارق في الشعبوية، أمام تواري المتخصصين وتراجع أدوارهم كنخب فاعلة في حقل القانون. وإن كان نكوص النخب عن الفعل في ميدان تخصصاتها بات يشكل ظاهرة لها مسبباتها، ولا مجال هنا للتفصيل فيها، فأزمة مساهمة النخب الأكاديمية في الشأن العام ليست وليدة اليوم، ولا تتعلق بالانتماء الأيديولوجي أو القرب من السلطة، فالأزمة عامة، تتجاوز الأيديولوجيا والسلطة؛ فحتى النخب المركزية – وهنا أتحدث عن النخب الأكاديمية وليس النخب الحاكمة – التي كانت تعتبر أحد أهم الفواعل المؤثرة في صنع القرار داخل الدولة، باتت تعاني من التجاهل، ما أدى إلى تراجع دورها، لإفساح المجال أمام نخب تشتغل من داخل مراكز التفكير الأجنبية، أو مكاتب الدراسات، أو خبراء المؤسسات المالية الدولية، أو نخب المال والأعمال المتشبعة بالفكر المقاولاتي، التي تحاول أن تنقل تجاربها المقاولاتية الناجحة –وفق معايير السوق- إلى حقل السياسات العامة للدولة.

وأمام تنامي دور هؤلاء جميعا، وفي مقابل تراجع النخب العالِمة عن دورها الأصيل في إنتاج المعرفة والعلم والفكر، وقدرتها على مد صناع القرار بخلفية معرفية وفكرية تؤثر على قراراتهم وسياساتهم على المستويين الداخلي والخارجي، تم إفساح الطريق أمام أغلب صناع المحتوى على المنصات الاجتماعية، للخوض –دون دراية أو معرفة – في بعض المسائل ذات الحساسية، كونها ترتبط بقضايا التشريع والقانون.

ويمكن إرجاع الإرهاصات الأولى لهذه الظاهرة إلى سنة 2020، وبالضبط حينما حاولت الحكومة السابقة في نهاية ولايتها تمرير مشروع القانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكة التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، الذي سمي آنذاك ”قانون تكميم الأفواه” أو ”قانون الكمامة”، هذا المفهوم الذي استعاره نشطاء الفضاء الافتراضي من حقل الأزمة الصحية التي عرفها العالم نتيجة جائحة كورونا سنة 2020. ويمثل هذا التاريخ بداية ”اقتحام” نشطاء العالم الافتراضي قلاع القانون الشديدة التحصين، على الأقل إلى حدود ذلك التاريخ، فانتقل النقاش حول القوانين والتشريعات من غرف البرلمان، والجامعات، والمراكز البحثية، والندوات، وغيرها من الفضاءات المتخصصة المغلقة، إلى الفضاء الافتراضي المفتوح على مصراعيه أمام الجميع!.


صحيح أن لهذا التدخل مبرراته ومسوغاته، كونه استطاع حينذاك الضغط بقوة على الحكومة لإرغامها على التراجع عن قانون ينتهك حرية التعبير، ويقيد الرأي والتفكير، إلا أنه من زاوية أخرى فكرة النشر غير المسؤول في الفضاء الافتراضي لها تبعاتها التدميرية على المجتمع وقيمه، فانتشار الرداءة والتفاهة أضحى يهدد المحتوى الهادف، ويتسيَد المشهد الافتراضي، بحكم عائداته الربحية الكبيرة، وتدني كلفة إنتاج مواده.

قانون العقوبات البديلة: بين ضغط الشعبويين وتهافت مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي:

ولئن كانت القوانين بحكم طبيعتها شأنا اجتماعيا ومجتمعيا خالصا، من حيث مصدرها ومجال تطبيقها، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة إفساح المجال أمام الجميع للتعليق على مقتضياتها، أو تأويلها بشكل مغلوط، دون التمكن من أدوات التحليل وتقنيات البحث المنهجي الخاصة بحقل القانون، فلكل مجال متخصصوه، وأي جدل خارج التخصص يبقى محض مغالطات، قد تستهدف قناعات الأفراد، ما يؤدي إلى تقوية مناعة المجتمع ضد قابلية أفراده للتشبع بقيم القانون، وبالتالي يتكون لدى المجتمع نوع من مقاومة القوانين والجنوح نحو الفوضى واللاَقانون.

وقد ينعكس هذا الوضع أيضا على صناع القوانين، فيُنتهك تجردهم وتنحرف غاياتهم التشريعية عن مبتغاها، بفعل الضغط الرمزي الذي بات يمارسه بعضٌ ممن يسمون مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أن أصحاب هذه الصفحات، وإن كانت حساباتهم قد تضم ملايين المتابعين فهذا قطعا لا يعني بالضرورة منحهم شرعية القدرة على التأثير في المجتمع، فبالأحرى اكتساب الشرعية التمثيلية! لسبب بسيط وواقعي، وهو عدم إمكانية التدقيق في منتسبي صفحاتهم من حيث جنسياتهم، وانتماءاتهم، وما إذا كانوا بالفعل أشخاصا حقيقيين، أم مجرد حسابات آلية؛ إلى جانب استحالة تقييم اختياراتهم وميولاتهم تجاه ما ينشره صاحب الحساب الذي يتابعونه؛ فمتابعة حساب ما لا تعني بالضرورة اتباع أهواء صاحبه بشكل غير عقلاني أو مستلب!.

وقد بدا الأمر جليا في الآونة الأخيرة، حينما انتقل النقاش بخصوص بعض القوانين ذات الطبيعة الزجرية (كالقانون الجنائي، وقانون المسطرة الجنائية وقانون العقوبات البديلة) من الفضاء الواقعي إلى الفضاء الافتراضي، رغم المخاطر التي قد ينطوي عليها مثل هذا الانتقال، فلطالما أثارت القوانين ذات الطبيعة الجنائية الكثير من اللغط والجدل المجتمعيين، لاعتبارات عدة، أهمها: كون هذه القوانين دائما ما تحمل بين مقتضياتها حمولة إيديولوجية، بحكم طابعها السيادي، ما يدفع بعض القوى المجتمعية التي قد تُمسَ مصالحها الطبقية، أو تستشعر خطرا داهما، قد يهدد خطها الفكري والإيديولوجي، إلى تفجير صراعات في المنصات الاجتماعية، عبر إثارة غرائز الناس وتوجيه انفعالاتهم لبلورة توجه عام رافض لاختيارات تشريعية معينة، للضغط على الدولة، ودفعها إلى سحب أو إعادة النظر في تلك الاختيارات.

وهذا ما عشناه مؤخرا أثناء المناقشات التي واكبت قانون العقوبات البديلة، الذي أثار لغطا شعبيا مغرضا، فقد كانت نصوص المشروع –المعروض على المصادقة حينها- بمثابة مادة دسمة للعديد من صناع المحتوى، ورواد المنصات الاجتماعية؛ حتى وإن كان فتح هذا الورش على مصراعيه للنقاش العمومي، عبر مختلف الوسائط، أمرا صحيا في بعض جوانبه، خاصة أن الأدوار الجديدة للمواطن المنتمي إلى تلك الوسائط باتت تتجاوز فكرة التلقي، إلى التفاعل والمشاركة، بل وحتى التوجيه عبر التأثير على صناع السياسات العمومية، لأنه أصبح في موقع التماس المباشر مع مختلف قضايا الشأن العام المثارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أن هذا الأمر ينطوي على جملة من المخاطر، فخوض “العامة” في المسائل القانونية دون دراية من شأنه أن يشيع الكثير من المغالطات بخصوصها، وهذا ما حدث بالفعل في المناقشات التي أعقبت إعداد قانون للعقوبات البديلة، كخيار عقابي ضمن منظومة الدولة العقابية، فتم تحوير جوهر النقاش، وحرف منطلقاته عن غاياتها، فعوض التركيز على بواطن الخلل التي تعتري النظام العقابي في المغرب، ومن خلاله أزمة السياسة الجنائية ومدى نجاعتها في الوقاية من الجريمة وآثارها، وتحقيق أهداف الإدماج والرعاية اللاحقة للسجناء، قبل الحديث عن آليات التصدي والمكافحة، انحرف النقاش لينصب على فكرة مغلوطة وسطحية، ساهم في تغذيتها الخطاب الشعبوي لبعض القوى داخل المجتمع. ومفاد تلك الفكرة البئيسة أن العقوبة البديلة ما هي إلا وسيلة للإفلات من العقاب، وأنها وجه من أوجه تخلي الدولة عن حقها في إعمال العقاب، في مقابل جني الربح المادي! قد تبدو هذه الفكرة على سطحيتها صحيحة لمن يروجونها، إلا أنه يجب أن ينظر إليها من زوايا متعددة، وليس اختزال قانون العقوبات البديلة بمجمله في مجرد عقوبة بديلة واحدة وهي الغرامة اليومية، التي يتم اقتطاعها من سياقها المرتبط أساسا بالبحث عن حلول ناجعة لأزمة السياسة الجنائية الراهنة.

وقد استطاعت فعلا تلك القوى الشعبوية، بالموازاة مع الخطاب الغوغائي لبعض ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، أن تمارس نوعا من التشويش السلبي على المشرع، الذي انحرفت بوصلته إرضاء للعوام؛ فرضخت آلة التشريع للضغوط وتمَ إلغاء المقتضى الذي ينص على الغرامة اليومية كبديل عقابي، قبل أن يستدرك المشرع الأمر ويعيد تبنيها من جديد في الصيغة النهائية للقانون قبل المصادقة عليه.

تأثير الشعبوية السياسية على المسارات التشريعية للقوانين الوطنية:

إن ممارسة الضغط الشعبي على المؤسسة التشريعية، لإيجاد حل قانوني لمسألة تهم الشأن العام، أمر مطلوب ومرغوب، لكن بمجرد الاستجابة وانطلاق مسار الصياغة والتعديل يبدأ دور ذوي الاختصاص، بعيدا عن الضغط السلبي الذي يحاول البعض ممارسته على أجهزة التشريع، بهدف صناعة قانون على المقاس، يرضي الأهواء الشخصية، ويلبي المصالح الضيقة؛ وهذا ما حدث مؤخرا بخصوص بعض القضايا التي احتدم فيها النقاش، كعقوبة الإعدام، العلاقات الرضائية، زواج الفتاة القاصر، تقنين القنب الهندي وحرية الضمير والمعتقد وغيرها. هذه القضايا التي بمجرد طرحها للنقاش العمومي فإنها تقسم المجتمع إلى معسكرين اثنين: المعسكر المحافظ والمعسكر الحداثي، وبينهما فئات واسعة من المواطنين محكومين بالتيه. هاته الفئات التي تمثل غالبية المجتمع تكون – في الغالب – غير مسيسة، ولا تملك أي قناعات إيديولوجية، وبعيدة كل البعد عن التأطير السياسي لكلا المعسكرين، وهنا مكمن الخطر، بحيث يسهل تحريضها واستغلالها وحتى تجييشها من طرف الدعاية الشعبوية المحافظة، خاصة لاعتبارات ثقافية ودينية. فالاستعداد الوجداني لدى هذه الفئات يتقاطع في نقاط عدة مع بعض أطروحات الفكر المحافظ التقليدي، وقد رأينا كيف أن هذه الفئات تتواطأ – تلقائيا- في ما بينها وتشارك جماعات في ارتكاب بعض الجرائم بشكل علني، تحت ما تسمى “عدالة الشارع “أو “شرع اليد”.

ورغم رفض بعض تلك القوى المحافظة هذه السلوكيات المارقة إلا أنها لطالما بنت خطابها على استثارة الغرائز الأولية للجماهير، وأحسن خطباؤها التلاعب بالمشاعر الوطنية والدينية وإثارة مخاوف المواطنين على الهوية والثقافة والدين، مرددين لازمة أن هناك قوى لا يعلمونها إلا هم تستهدف هوية المغاربة، وتتآمر على دينهم، وألا سبيل للخلاص إلا باتباع أطروحتهم الإيديولوجية، وأن خطهم السياسي هو الحل.

وحتى في صراعها السياسي مع السلطة ظلت – تلك القوى – تفاوض، وتساوم، بمنطق ليَ الذراع، عبر الاستقواء بالشارع، الذي تعتبره امتدادا حيويا لها، فرغم ضعف قاعدتها الحزبية إلا أنها تراهن على الحشود غير المؤطرة سياسيا، لا على مناضليها الحزبيين، مستفيدة من ضعف التأطير السياسي لغالبية الشارع المغربي، فهي تدرك أن الغالبية الصامتة –حسب تعبير الرئيس الأمريكي نيكسون- أو “حزب الكنبة” بتعبير مصر الثورة، لا انتماء سياسيا لها، بل لديها استعداد نفسي وثقافي لتقبل الفكر التآمري الذي تغذيه هذه التيارات المحافظة.

ولهذا ظلت هذه الأخيرة، في مسارها التفاوضي مع الدولة، تشهر ورقة النزول إلى الشارع، وتأليب الجماهير الأكثر قابلية للتحريض ضد السلطة، محاولة إقناع هذه الأخيرة بوهم كاذب مفاده أن حاضنة شعبية كبيرة تلتف حول خطابها، وأنها لا تراهن في صراعها هذا على قواعدها المناضلة فقط، بل إن رهانها الحقيقي يمتد إلى حشود المناصرين، والمتعاطفين مع إيديولوجيتها المحافظة، ما يولد زخما شعبيا قادرا على تحريك الشارع في اتجاه قلب المعادلة لصالحها.

فلطالما هددت -هذه القوى- بالنزول إلى الشارع، في حال لم تستجب الدولة لمذكراتها بخصوص بعض القوانين المثيرة للجدل المجتمعي، بينما لا تبدي ردة الفعل نفسها حينما يتعلق الأمر بقوانين محاربة الفساد، والتخليق، والشفافية؛ كون هذه القوانين لا ترتبط بالهوية المغربية المحافظة، حسب تلك التيارات. لكن في واقع الأمر فإن هذا الادعاء هو بحد ذاته خطاب شعبوي مردود عليه، كون المؤسسة الدينية هي في جوهر الدولة المغربية، بل إن رئيس الدولة باعتباره أميرا للمؤمنين هو الضامن لدين الدولة ولهوية المغاربة وممارستهم شعائرهم الدينية.

إن آلة التشريع يجب أن تظل دائما حصينة منيعة ضد محاولات الإخضاع أو التشويش، التي تمارسها الحشود عبر مختلف القنوات والوسائط، فسلطة التشريع باعتبارها أرقى السلط لا يجب أن تساير أهواء الخائضين، بل أن تحافظ على استقلاليتها، وسموها، وألاَ تستكين لضغوط الشعبوية في سياق الاستجابة لضرورات العدالة، باعتبارها قيمة القيم.

فالحقل القانوني حقل ملغوم، يجب إحكام تسييجه حتى لا يخترقه العابرون! وإن كانت إشاعة الثقافة القانونية في المجتمع شيء مستحب وواجب، إلا أن صناعة التشريع يجب أن تظل في منأى عن التجاذبات المجتمعية، والمزايدات السياسوية حتى تحافظ المقتضيات القانونية على تجردها، وعموميتها؛ صحيح أنها وليدة لحاجة مجتمعية، إلا أنه في مرحلة التشريع يتحتم على المجتمع أن يترك نقاش التجويد والتعديل لأهل الاختصاص، حتى لا تتأثر إرادة المشرع فتزيغ عن الغايات وتنحرف عن المقاصد المثلى للنص التشريعي.

وقد وضع الدستور أمام المواطنين في مجال التشريع آليتين من آليات الديمقراطية التشاركية، تتمثل الأولى في الحق في تقديم ملتمسات التشريع طبقا للفصل 14، في حين تتمثل الثانية في الحق في تقديم العرائض طبقا للفصل 15؛ وقد صدر بخصوص تفعيلهما كل من القانون التنظيمي رقم 44.14 الخاص بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، والقانون التنظيمي رقم 64.14 بتحديد شروط وكيفيات تقديم الملتمسات في مجال التشريع.

إن الدستور بوضعه هاتين الآليتين التشريعيتين رهن إشارة المواطنين يكون قد أغلق الباب في وجه المتهافتين من غير ذوي الاختصاص على مجال التشريع، كما وفر ضمانة دستورية قوية للمشاركة المواطنة المنظمة بنصوص القانون، دونما غلو أو إضرار بمصالح المجتمع.



الاربعاء 11 ديسمبر 2024
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

عناوين أخرى
< >

الاربعاء 11 ديسمبر 2024 - 21:43 مسار حقوق الإنسان بالمغرب

الاربعاء 11 ديسمبر 2024 - 21:40 مغرب حقوق الإنسان


تعليق جديد
Twitter