

مقدمة
لا غرو أن درجات التقاضي تمثل الحصن الحصين الذي تأوي إليه العدالة، والسراج الوضاء الذي ينير دروب الإنصاف، فلا يدع مظلومًا يتخبط في ظلمته، ولا حقًّا يتلاشى في غياهب
الإهمال. ولئن كان التقاضي في صورته الراهنة شاهدًا على رقي النظم القانونية، فإن النظر الفاحص في نصوص القرآن الكريم ليكشف عن أساس متين لهذا التدرج، لم يكن نتاج اجتهاد بشري مجرد، بل هو امتداد لمنظومة العدل الإلهي التي أقامتها الشريعة الغراء على قواعد الحكمة والإنصاف.
وحيث إن الشريعة الإسلامية قد جعلت إقامة العدل غاية، ورفع الجور ضرورة، وحماية الحقوق تكليفًا لا تخيير فيه، فقد أرست في أحكامها ما يدل دلالةً قاطعة على حتمية تعدد درجات التقاضي، حتى لا يكون الحكم قاطعًا من أول وهلة، دون أن يمر بمراحل النظر والتدقيق، وإلا كان كالطائر الذي انتُزع منه أحد جناحيه، فلا يقوى على التحليق في آفاق العدل، ولا يستطيع أن يسبر غور الحق.
١- الدرجة الأولى: التظلم أمام القاضي الأول (التحكيم بين الخصوم)
ولما كان التحكيم القضائي في الإسلام يشكل ركنًا أساسيًا من أركان تحقيق العدالة وتطبيق الشريعة، فقد حث القرآن الكريم على ضرورة عرض النزاع على من يتولى القضاء ليحكم بين
الناس بما أنزل الله، وهذا ما يعكس في جوهره أهمية القضاء ومرجعيته في سياق المجتمع الإسلامي. إذ إن الآية الكريمة في سورة النساء *”إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ”* تمثل الجسر الأول نحو القضاء العادل، حيث يبدأ الفصل في النزاع من قبل من بيده الحكم، محكومًا بضوابط الشريعة الإسلامية التي لا تفرق بين الناس وتضمن لهم حقهم وفق أعدل وأسمى معايير. ولئن كان التحكيم بين الناس يتطلب دراية قانونية عميقة وحكمًا رشيدًا، فإن الله سبحانه وتعالى قد وجه إلى ضرورة تحكيم العدل في أسمى معانيه، في ظل ميزان من لا يظلم عنده أحد. ولا غرو في أن تلك التوجيهات القرآنية قد أرست أسسًا ثابتة تنظم العلاقات بين الناس وترسخ العدالة الاجتماعية، فما انفك النظام القضائي في الإسلام يتدرج ليصعد إلى أعلى درجات الفقه والممارسة القضائية التي لا تهاون فيها. وعليه، يبقى القضاء بمثابة العنوان الأول للأمانة والحكم الصائب، فما كان في كتاب الله تعالى في قوله *”فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ”* (المائدة: 49) هو دعوة مستمرة لتفعيل النظام القضائي تحت مظلة العدالة الإلهية التي لا تقبل سوى الحق وتضمنه في كل حكم.
٢- الدرجة الثانية: الطعن والاستئناف أمام جهة أعلى
جاء القرآن الكريم ليؤسس لقواعد العدالة المحكمة، ولما كان القضاء جزءًا أساسيًا من تحقيق الإنصاف بين الناس، فقد أوصى بمراجعة الأحكام وعدم الاقتصار على حكم واحد إذا شابه خطأ أو اعترته شبهة ظلم. إذ إن الآية الكريمة *”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ”* (النساء: 59) تشير، في معرض التأصيل الشرعي، إلى ضرورة مراجعة الأحكام وتوجيه النزاع إلى سلطة قضائية أعلى لتصحيح ما قد يعترى الحكم الأول من نقص أو خلل. ولا غرو أن هذه الآية تبين كيفية إدارة النزاعات، عبر مرجعية تستند إلى الله ورسوله، وفيها دعوة صريحة إلى مراجعة القضايا من أجل الوصول إلى القرار الأنسب والأكثر توافقًا مع الحق.
وما انفك القرآن الكريم يدعو إلى اعتماد مبدأ الاستئناف باعتباره وسيلة لتصحيح الأخطاء القضائية، وكأنما يتوج بذلك نظامًا قانونيًا محكمًا يشمل أعلى درجات العدالة. إذ ذاك، يظهر المثال الواضح في قصة داوود وسليمان عليهما السلام، حيث صدر حكم من نبي الله داوود، ثم جاء ابنه سليمان ليعيد النظر في القضية، فأصدر حكمًا أكثر دقة وملاءمة، كما قال تعالى: *”وَدَاوُۥدَ وَسُلَيْمَٰنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَٰهِدِينَ فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ”* (الأنبياء: 78-79). وهذه الحكاية ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي استحضار لقاعدة قانونية عظيمة، حيث يعاد النظر في الحكم من قاضٍ آخر، مما يعكس قوة وعمق الشريعة الإسلامية في تنظيم مسائل القضاء والتقاضي.
ولئن كان هذا النظام القضائي يعكس عمق الفقه الإسلامي، فإن القرآن الكريم قد أرسى بذلك أصولًا لا يحدها الزمان ولا المكان، فكانت أحكامه بمثابة مرجعية تضمن العدالة المتجددة التي تتماشى مع تغيرات العصر وظروف الناس.
٣- الدرجة الثالثة: النقض والمراجعة أمام المحكمة الإلهية العظمى
ولما كان العدل ركيزة أساسية في أي نظام قضائي، ولئن كانت الأنظمة الوضعية قد وضعت درجات عليا كمحكمة النقض لغاية تحقيق العدالة، فإن القرآن الكريم قد رفع هذا المفهوم إلى آفاق أسمى، حيث لا ينقض الحق إلا من قبل المحكمة الإلهية العليا يوم القيامة. إذ إن قوله تعالى: *”إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ”* (يونس: 93)، يؤكد أن الحكم الأخير الذي لا تظلمه الأيام ولا تقصر عنه الشهادات، هو حكم الله الذي يتولى الفصل بين العباد في يوم لا يُظلم فيه أحد. في حين أن الحق قد يُهضم في الدنيا تحت وطأة المحاكم الدنيوية، فما انفك القرآن الكريم يعزز يقين المؤمنين بأن هناك محكمة إلهية عليا، حيث لا مكان للخطأ أو الزلل. فكما جاء في قوله تعالى: *”إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ”* (الغاشية: 25-26)، يُستدل على أن الحساب الإلهي سيُجلي كافة المظالم ويُعيد الحقوق إلى أهلها في يوم الفصل الذي لا تفوت فيه مظلمة ولا تضيع فيه حقوق. إذ كيف لنا أن نتصور أن العدالة ستكون كاملة في الدنيا، في حين أن الله تعالى قد وعد بإنصاف كامل في الآخرة، حيث يقف كل فرد أمام الحق الذي لا يضل ولا يظلم عنده شيء؟ لا غرو في أن هذه المحكمة السماوية ستكون هي الحَكم الفصل، كما كانت دائماً، لما لها من قدرات لا تحدها حدود البشر، ولا تنال منها سلطة مخلوق.
الخاتمة: عدالة التقاضي في التشريع الإلهي
لقد وضع القرآن الكريم نظامًا دقيقًا لدرجات التقاضي، يقوم على التدرج في البحث عن العدالة، حيث يبدأ النزاع بعرضه على القضاء، ثم يُتاح الاستئناف أمام جهة أعلى، وفي حال لم يُنصف الإنسان في الدنيا، فإن هناك المحكمة الإلهية التي لا تخطئ ولا يحجب عنها شيء. إذ إن هذا النظام يشمل كل جوانب العدالة، فلا يُترك أمر لم يُفصل فيه على وجه الدقة، بل يتم مراجعته بعناية، ضمانًا لعدم ظلم أحد، وتحققًا من إتمام كل حق في مكانه وزمانه. ولما كان العدل هو غاية الإسلام، فقد أكد القرآن الكريم أنه لا يتم إلا من خلال التحقق من الحقائق، بحيث تُعرض كل القضايا على درجات متعددة، تتاح فيها الفرصة للمراجعة والتدقيق. في حين أن التقاضي في الأنظمة الوضعية قد يقتصر في بعض الأحيان على درجة واحدة، ما انفك القرآن الكريم يُؤكد أن العدل لا يتحقق من نظرة واحدة، بل يحتاج إلى بحث معمق وشفافية كاملة في التقييم. إذ كيف يمكننا أن نتصور أن العدالة تتحقق في غياب مراجعة شاملة؟ لا غرو في أن القرآن الكريم قد سبق القوانين الوضعية في إقرار هذا النظام الدقيق، الذي يضمن أن لا يُظلم أحد، ويأخذ كل ذي حق حقه. ولئن كان هناك تقصير أو خطأ في الحكم في الدنيا، فهناك دائمًا جهة أعلى يُرد إليها الأمر، لتُعيد الحقوق وتُصحح الأخطاء، فالمحكمة الإلهية لا تخطئ، ولا يُحجب عنها شيء. ولئن كان الإنسان قد يظلم في الأرض تحت سطوة الجور، فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بأنه لن يغفل عن حقوقهم، وسيقف معهم يوم القيامة ليفصل بينهم وبين من ظلمهم، فيبسط لهم العدل الذي لا يعدل عنه أحد. فما انفك هذا النظام القرآني يبين أن العدل الإلهي هو الكمال الذي لا يمكن أن يتحقق في الدنيا إلا بمراجعة مستمرة ونظرة شاملة تدقق في كل شاردة وواردة.