تناولنا في الحلقة السابقة بعضا مما جاء في مرافعة النورسي أمام الخبير النفسي بمناسبة اتهامه بالجنون من طرف خصومه، و ذكرنا أن الطبيب النفسي رفع تقرير الخبرة إلى السلطات العثمانية متضمنا عبارة ( لا يوجد من هو اعقل من بديع الزمان انه نادرة العالم)، و الواقع أن صدى هذا التقرير وصل إلى المراكز العليا للدولة و عرض على الخليفة العثماني الذي حاول أن يعتذر لبديع الزمان النورسي بكيفية غير مباشرة عندما أوفد وزير الأمن ليقابل بديع الزمان و يخبره أن السلطان قرر أن يصرف له راتبا مدى الحياة كموظف دولة، فكانت هذه المحاورة بين الاثنين//
( وزير الأمن: السلطان يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتّب شهري لك بملبغ ألف قرش وقال انه سيرتفع إلى ثلاثين ليرة.
بديع الزمان: أنا لست متسول مرتّب وان بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا الاّ من اجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم ان ما تحاولون تقديمه لي ليس الاّ أتاوة للسكوت
الوزير: أنت تردّ إرادة السلطان، وهذه الإرادة لا تردّ.
بديع الزمان: إنني أردّها لكي يتكدر السلطان ويستدعيني، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده.
الوزير: ستكون العاقبة وخيمة.
بديع الزمان: لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فان البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وان نفّذ إعدامي فسأرقد في قلب الأمة. علماً بانني عندما حضرت إلى استانبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه أبناء أمتي وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جني مرتّب. ثم ان الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة الاّ بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها الاّ عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون الاّ عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتّب.
وزير الامن: ان اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في كردستان هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء.
بديع الزمان: إذن فلماذا أُجّل بحث المعارف واستُعجل في المرتّب؟ وعلى أي أساس تم هذا؟ لماذا تفضلون المنافع الشخصية على المنافع العامة ؟(
و الواقع أن بديع الزمان كان مثالا للعالم الزاهد الذي يرفض كل منحة أو وظيفة أو وسام من شأنه أن يحول دون استقلاليته الفكرية و جهره بما يراه حقا دون وجل، كما أن حالته الروحية كانت تتنافى مع السعي لنيل أية مطالب دنيوية و لو كانت مشروعة، و هذه الحالة كانت ملازمة له منذ طفولته، و هو يروي بنفسه كيف أنه لم يعرف السر في نفوره من قبول الهدايا من الناس الا بعد انقلابه الفكري الى سعيد الجديد و اهتمامه بنشر رسائل النور، يقول في ذلك
( على الرغم من أن سعيداً القديم فقير الحال منذ أيام طفولته، كما ان والده فقير الحال، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدم استطاعته قبولها، إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدم ذهاب سعيد قط في أي وقت من الأوقات لاخذ الأرزاق من الناس وعدم تسـلمه الزكاة من أحد - عن علم - كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الاهلين وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة. أقول اني على قناعة تامة الآن من ان حكمة هذا الأمر هي:
عدم جعل رسائل النور - التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة - في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.
فلأجل هذه الحكمة اُعطيتْ لي هذه الحالة، حالة النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجية غير المضرة، والهروب منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يفسد الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور.
واشعر كذلك ان في هذا الأمر إشارة فيها مغزى، بأن هذه الحاجة هي التي تدفع أهل العلم إلى الانهماك بهموم العيش حتى يُغلبوا على أمرهم في الزمان القابل.)
و إذا رجعنا إلى بعض المقاطع التي لم نوردها من مرافعته أمام الخبير النفسي نلاحظ أنه يشير بالفعل إلى هذا المعنى، اي استغنائه عن المظاهر الدنيوية جملة و تفصيلا بما فيها مراعاة عادات اللباس السائدة آنذاك، يقول في ذلك//
( إنني أعلن بملابسي المخالفة للناس: إستغنائي عن المقاصد الدنيوية... واعتذاري عن عدم مراعـاتي للعادات الجارية في البلاد.. ومخالفة أحوالي وأطواري عن الناس.. وفطرية إنسانيتي بموافقة الظاهر والباطن.. ومحبة ملتي.
ثم ان المعنى الغريب لا بد ان يكون ضمن لفظ غريب ليلفت الأنظار.. ثم إنني أنصح بهذا الشكل الغريب، نصيحة فعلية لتشجيع المصنوعات المحلية.. وأشير به ايضاً إلى ميل التجدد الذي أشعر به في ذاتي و إلى تجدد الزمان في الوقت نفسه(
و بالاضافة إلى زهد و تعفف بديع الزمان عن كل مقصد دنيوي أو طمع مادي فإن خصلة أخرى ظلت تلازمه منذ بداية شبابه و هي الصدع بالحق و الشجاعة في مواجهة الطغاة، و هذا ما يتبين من حكاية عجيبة يرويها كتاب سيرته تعبر عن طبيعة مزاجه الذي لا يداهن و لا يحابي، فعندما كان لا يزال حديث التخرج من المدارس الدينية في كردستان، (وفي إحدى الليالي، رأى في المـنام الشيخ عبد القادر الگيلاني (قدس سره) وهو يخاطبه:
- ملا سعيد! اذهب إلى رئيس عشيرة ميران مصطفى پاشا، وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف.. واقتله إن لم يستجب.
بادر الملا سعيد إلى الذهاب إلى عشيرة ميران قاصداً خيمة مصطفى پاشا، ولكن لم يجده فجلس ليأخذ قسطاً من الراحة. وما أن دخل مصطفى پاشا الخيمة حتى هبّ الحاضرون قياماً، احتراماً له، سوى الملا سعيد لم يحرك ساكناً. لمح الپاشا ذلك فسأل أحد أمراء العشيرة فتاح آغا عن هذا الشاب فأعلمه انه ملا سعيد المشهور وحاول الپاشا كظم غيظه، وهو الذي ما كان ينشرح للعلماء، وسأل الملا سعيد:
- لِمَ أتيت إلى هنا؟
- جئت لإرشادك إلى الحق، فإما أن تتخلّ عن الظلم وتقيم الصلاة، او أقتلك!
لم يتحمل الپاشا هذا الكلام فاندفع خارج الخيمة، وتجول قليلاً ثم عاد إليها وكرر السؤال نفسه.
فأجابه الملا سعيد: لقد قلت لك ... جئت من اجل ما ذكرت!
أشار الپاشا إلى السيف المعلق بعماد الخيمة وقال بسخرية:
- أبهذا السيف الصدئ تقتلني!؟
- اليد هي التي تقطع لا السيف!
مرة أخرى ترك الپاشا الخيمة وهو يفور غضباً. ثم دخلها مخاطباً الملا سعيد:
- إن لي جمعاً غفيراً من العلماء في منطقة الجزيرة جزيرة ابن عمر وسأعقد مناظرة علمية فيما بينكم. فإن أقمت الحجة عليهم وألزمتهم، انفّذ طلبك وإلاّ فسألقيك في النهر.
قال الملا سعيد:
- كما انه ليس من شأني إلزام جميع العلماء ، فليس باستطاعتك إن تلقيني في النهر. ولكن إن تفوقت عليهم اطلب منك بندقية ماوزر لأقتلك بـها ان لم تحافظ على وعدك.
عقب هذه المشادة العنيفة ذهبا معاً على الخيول إلى الجزيرة، ولم يتكلم الپاشا مع ملا سعيد طول الطريق. ولما وصلا إلى أحراش باني خاني أخلد الملا سعيد إلى النوم بعد أن أصابه الإرهاق. ولما أفاق وجد علماء الجزيرة ومعهم كتبهم ينتظرون ساعة المناظرة.
انعقد المجلس... وبعد تبادل السلام دارت أقداح الشاى على الحاضرين ولكن العلماء كانوا في شغل شاغل عن الشاي، إذ كانوا يقلبون صفحات الكتب، مأخوذين بشـهرة الملا سعيد ومنتظرين اسئلته، بينما لم يحفل الملا سعيد بالأمر، ولم يكتف بشرب شايه، بل بدأ بارتشاف الشاي الموضوع أمام إثنين أو أكثر ممن حوله من العلماء المشغولين بالنظر في الكتب .
وعندها خاطب مصطفى پاشا العلماء وهو يراقب مجرى الأمور:
- على الرغم من أنني لست متعلماً فإنني أرى أنكم ستُغلبون أمام الملا سعيد في مناظرتكم، لأني لاحظت ان إنكبابكم على الكتب ألهاكم عن شرب الشاي، بينما شرب الملا سعيد شايه ثم عدداً من أقداح غيره.
بدأ الملا سعيد بالملاطفة وشئ من المزاح مع العلماء ثم قال:
- أيها السادة! لقد عاهدت ألاّ اسأل أحداً، وها أنا منتظر أسئلتكم.
فاطمأن العلماء! وبدأوا بطرح ما يقارب الأربعين سؤالاً. وأجاب الملا سعيد عن الأسئلة كلها إجابات صائبة، سوى سؤال واحد أخطأ في جوابه، دون أن ينتبه إليه العلماء، حيث صدرت من الجميع علامات التصديق.
وبعد أن انفضّ المجلس، تبعهم الملا سعيد قائلاً:
- أرجو المعذرة.. لقد سهوت في جواب السؤال الفلاني ولم تفطنوا إليه. والجواب الصحيح هو كذا وكذا...
فقالوا: حقاً إنك قد ألزمتنا الحجة، فإننا معترفون بذلك!
ثم باشر قسم من هؤلاء العلماء يجلسون منه مجلس الطالب لينهلوا من فيض علمه. أما مصطفى پاشا فقد وفى بوعده وأهدى إلى الملا سعيد بندقية ماوزر وبدأ بإقامة الصلاة.(
و ظلت طبيعة التحدي و المواجهة صفة لصيقة بشخصية بديع الزمان حتى اثناء اسره في روسيا عشية الحرب العالمية الاولى و اعتقاله بصفته رئيس كتيبة مجاهدين ضد القوات الروسية المعتدية، و نسوق على سبيل المثال محاورته مع أحد رجال البوليس الروسي أثناء أسره في مدينة روسية تدعى تفليس و ذلك كما يرويها/
( قبل عشر سنوات ذهبت إلى تفليس وصعدت تل الشيخ صنعان، كنت أتأمل تلك الأرجاء أراقبها. اقترب مني أحد رجال البوليس فقال :
- بم تنعم النظر؟
قلت: اخطط لمدرستي!
قال: من أين أنت؟
قلت: من بتليس
قال: وهنا تفليس!
قلت : بتليس وتفليس شقيقتان
قال: ماذا تعني؟
قلت : لقد بدأ ظهور ثلاثة أنوار متتابعة في آسيا، في العالم الإسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص، وعندها آتي إلى هنا أنشئ مدرستي.
قال: هيهات ! إنني أحار من فرط أملك؟
قلت : وأنا أحار من عقلك ! أيمكن ان تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.
قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.
قلت: ذهبوا لكسب العلم ، فها هو الهندي الذي هو ابن الإسلام الكفوء يدرس في إعدادية الإنكليز.
وها هو المصري الذي هو ابن الإسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الإدارية السياسية للإنكليز..
وها هو القفقاس والتركستان اللذان هما ابنا الإسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس.. الخ.
فيا هذا ! ان هؤلاء الأبناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء أبيهم العادل، الإسلام العظيم، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الأزلية المقدرة في بني البشر رغم كل شئ.)
و بعد أن أرسل بديع الزمان من مدينة بتليس إلى معسكرات الاعتقال الروسية في سيبيريا، وقعت حادثة عجيبة تبين مدى قدرته على تحدي الطغيان، و لو في حالة الشدة، كما تبين شدة اعتزازه بإيمانه و اسلامه و علمه، و الحادثة يرويها احد الشهود كالتالي//
( عندما جُرحت واُسـرتُ في موضع بتليس في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان ايضاً في اليوم نفسه أسيراً. فاُرسل إلى اكبر معسكر للأسرى في سيبريا، واُرسلتُ إلى جزيرة نانكون التابعة لباكو.
ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولافيج المعسكر المذكور للتفتيش - يقوم له الأسرى احتراماً - وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكناً ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به ايضاً. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:
- أما عرفني؟
- نعم أعرفه انه نيقولا نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.
- فِلمَ إذن قَصَد الإهانة؟
- كلا! معذرة. إنني لم استهن به. وانما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمر العقيدة؟
- إنني عالم مسلم احمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله. فلو أنني قد قمت له احتراماً لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.
إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فليشكّل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.
وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ انه أجابـهم بالآتي: إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسـول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) . فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة. ولا أستطيع ان اعمل بما يخالف إيماني...
وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.
وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأودي واجبي.
فيقوم إلى الوضوء وأثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولا نيقولافيج ويخاطبه:
- أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير واعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. واكرر رجائي مرار:أرجو المعذرة.)
و نكتفي بهذا القدر و سنخصص الحلقة القادمة لبعض مرافعات بديع الزمان أمام المحاكم العسكرية التركية بعد إسقاط الخلافة العثمانية
( وزير الأمن: السلطان يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتّب شهري لك بملبغ ألف قرش وقال انه سيرتفع إلى ثلاثين ليرة.
بديع الزمان: أنا لست متسول مرتّب وان بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا الاّ من اجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم ان ما تحاولون تقديمه لي ليس الاّ أتاوة للسكوت
الوزير: أنت تردّ إرادة السلطان، وهذه الإرادة لا تردّ.
بديع الزمان: إنني أردّها لكي يتكدر السلطان ويستدعيني، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده.
الوزير: ستكون العاقبة وخيمة.
بديع الزمان: لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فان البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وان نفّذ إعدامي فسأرقد في قلب الأمة. علماً بانني عندما حضرت إلى استانبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه أبناء أمتي وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جني مرتّب. ثم ان الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة الاّ بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها الاّ عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون الاّ عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتّب.
وزير الامن: ان اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في كردستان هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء.
بديع الزمان: إذن فلماذا أُجّل بحث المعارف واستُعجل في المرتّب؟ وعلى أي أساس تم هذا؟ لماذا تفضلون المنافع الشخصية على المنافع العامة ؟(
و الواقع أن بديع الزمان كان مثالا للعالم الزاهد الذي يرفض كل منحة أو وظيفة أو وسام من شأنه أن يحول دون استقلاليته الفكرية و جهره بما يراه حقا دون وجل، كما أن حالته الروحية كانت تتنافى مع السعي لنيل أية مطالب دنيوية و لو كانت مشروعة، و هذه الحالة كانت ملازمة له منذ طفولته، و هو يروي بنفسه كيف أنه لم يعرف السر في نفوره من قبول الهدايا من الناس الا بعد انقلابه الفكري الى سعيد الجديد و اهتمامه بنشر رسائل النور، يقول في ذلك
( على الرغم من أن سعيداً القديم فقير الحال منذ أيام طفولته، كما ان والده فقير الحال، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدم استطاعته قبولها، إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدم ذهاب سعيد قط في أي وقت من الأوقات لاخذ الأرزاق من الناس وعدم تسـلمه الزكاة من أحد - عن علم - كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الاهلين وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة. أقول اني على قناعة تامة الآن من ان حكمة هذا الأمر هي:
عدم جعل رسائل النور - التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة - في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.
فلأجل هذه الحكمة اُعطيتْ لي هذه الحالة، حالة النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجية غير المضرة، والهروب منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يفسد الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور.
واشعر كذلك ان في هذا الأمر إشارة فيها مغزى، بأن هذه الحاجة هي التي تدفع أهل العلم إلى الانهماك بهموم العيش حتى يُغلبوا على أمرهم في الزمان القابل.)
و إذا رجعنا إلى بعض المقاطع التي لم نوردها من مرافعته أمام الخبير النفسي نلاحظ أنه يشير بالفعل إلى هذا المعنى، اي استغنائه عن المظاهر الدنيوية جملة و تفصيلا بما فيها مراعاة عادات اللباس السائدة آنذاك، يقول في ذلك//
( إنني أعلن بملابسي المخالفة للناس: إستغنائي عن المقاصد الدنيوية... واعتذاري عن عدم مراعـاتي للعادات الجارية في البلاد.. ومخالفة أحوالي وأطواري عن الناس.. وفطرية إنسانيتي بموافقة الظاهر والباطن.. ومحبة ملتي.
ثم ان المعنى الغريب لا بد ان يكون ضمن لفظ غريب ليلفت الأنظار.. ثم إنني أنصح بهذا الشكل الغريب، نصيحة فعلية لتشجيع المصنوعات المحلية.. وأشير به ايضاً إلى ميل التجدد الذي أشعر به في ذاتي و إلى تجدد الزمان في الوقت نفسه(
و بالاضافة إلى زهد و تعفف بديع الزمان عن كل مقصد دنيوي أو طمع مادي فإن خصلة أخرى ظلت تلازمه منذ بداية شبابه و هي الصدع بالحق و الشجاعة في مواجهة الطغاة، و هذا ما يتبين من حكاية عجيبة يرويها كتاب سيرته تعبر عن طبيعة مزاجه الذي لا يداهن و لا يحابي، فعندما كان لا يزال حديث التخرج من المدارس الدينية في كردستان، (وفي إحدى الليالي، رأى في المـنام الشيخ عبد القادر الگيلاني (قدس سره) وهو يخاطبه:
- ملا سعيد! اذهب إلى رئيس عشيرة ميران مصطفى پاشا، وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف.. واقتله إن لم يستجب.
بادر الملا سعيد إلى الذهاب إلى عشيرة ميران قاصداً خيمة مصطفى پاشا، ولكن لم يجده فجلس ليأخذ قسطاً من الراحة. وما أن دخل مصطفى پاشا الخيمة حتى هبّ الحاضرون قياماً، احتراماً له، سوى الملا سعيد لم يحرك ساكناً. لمح الپاشا ذلك فسأل أحد أمراء العشيرة فتاح آغا عن هذا الشاب فأعلمه انه ملا سعيد المشهور وحاول الپاشا كظم غيظه، وهو الذي ما كان ينشرح للعلماء، وسأل الملا سعيد:
- لِمَ أتيت إلى هنا؟
- جئت لإرشادك إلى الحق، فإما أن تتخلّ عن الظلم وتقيم الصلاة، او أقتلك!
لم يتحمل الپاشا هذا الكلام فاندفع خارج الخيمة، وتجول قليلاً ثم عاد إليها وكرر السؤال نفسه.
فأجابه الملا سعيد: لقد قلت لك ... جئت من اجل ما ذكرت!
أشار الپاشا إلى السيف المعلق بعماد الخيمة وقال بسخرية:
- أبهذا السيف الصدئ تقتلني!؟
- اليد هي التي تقطع لا السيف!
مرة أخرى ترك الپاشا الخيمة وهو يفور غضباً. ثم دخلها مخاطباً الملا سعيد:
- إن لي جمعاً غفيراً من العلماء في منطقة الجزيرة جزيرة ابن عمر وسأعقد مناظرة علمية فيما بينكم. فإن أقمت الحجة عليهم وألزمتهم، انفّذ طلبك وإلاّ فسألقيك في النهر.
قال الملا سعيد:
- كما انه ليس من شأني إلزام جميع العلماء ، فليس باستطاعتك إن تلقيني في النهر. ولكن إن تفوقت عليهم اطلب منك بندقية ماوزر لأقتلك بـها ان لم تحافظ على وعدك.
عقب هذه المشادة العنيفة ذهبا معاً على الخيول إلى الجزيرة، ولم يتكلم الپاشا مع ملا سعيد طول الطريق. ولما وصلا إلى أحراش باني خاني أخلد الملا سعيد إلى النوم بعد أن أصابه الإرهاق. ولما أفاق وجد علماء الجزيرة ومعهم كتبهم ينتظرون ساعة المناظرة.
انعقد المجلس... وبعد تبادل السلام دارت أقداح الشاى على الحاضرين ولكن العلماء كانوا في شغل شاغل عن الشاي، إذ كانوا يقلبون صفحات الكتب، مأخوذين بشـهرة الملا سعيد ومنتظرين اسئلته، بينما لم يحفل الملا سعيد بالأمر، ولم يكتف بشرب شايه، بل بدأ بارتشاف الشاي الموضوع أمام إثنين أو أكثر ممن حوله من العلماء المشغولين بالنظر في الكتب .
وعندها خاطب مصطفى پاشا العلماء وهو يراقب مجرى الأمور:
- على الرغم من أنني لست متعلماً فإنني أرى أنكم ستُغلبون أمام الملا سعيد في مناظرتكم، لأني لاحظت ان إنكبابكم على الكتب ألهاكم عن شرب الشاي، بينما شرب الملا سعيد شايه ثم عدداً من أقداح غيره.
بدأ الملا سعيد بالملاطفة وشئ من المزاح مع العلماء ثم قال:
- أيها السادة! لقد عاهدت ألاّ اسأل أحداً، وها أنا منتظر أسئلتكم.
فاطمأن العلماء! وبدأوا بطرح ما يقارب الأربعين سؤالاً. وأجاب الملا سعيد عن الأسئلة كلها إجابات صائبة، سوى سؤال واحد أخطأ في جوابه، دون أن ينتبه إليه العلماء، حيث صدرت من الجميع علامات التصديق.
وبعد أن انفضّ المجلس، تبعهم الملا سعيد قائلاً:
- أرجو المعذرة.. لقد سهوت في جواب السؤال الفلاني ولم تفطنوا إليه. والجواب الصحيح هو كذا وكذا...
فقالوا: حقاً إنك قد ألزمتنا الحجة، فإننا معترفون بذلك!
ثم باشر قسم من هؤلاء العلماء يجلسون منه مجلس الطالب لينهلوا من فيض علمه. أما مصطفى پاشا فقد وفى بوعده وأهدى إلى الملا سعيد بندقية ماوزر وبدأ بإقامة الصلاة.(
و ظلت طبيعة التحدي و المواجهة صفة لصيقة بشخصية بديع الزمان حتى اثناء اسره في روسيا عشية الحرب العالمية الاولى و اعتقاله بصفته رئيس كتيبة مجاهدين ضد القوات الروسية المعتدية، و نسوق على سبيل المثال محاورته مع أحد رجال البوليس الروسي أثناء أسره في مدينة روسية تدعى تفليس و ذلك كما يرويها/
( قبل عشر سنوات ذهبت إلى تفليس وصعدت تل الشيخ صنعان، كنت أتأمل تلك الأرجاء أراقبها. اقترب مني أحد رجال البوليس فقال :
- بم تنعم النظر؟
قلت: اخطط لمدرستي!
قال: من أين أنت؟
قلت: من بتليس
قال: وهنا تفليس!
قلت : بتليس وتفليس شقيقتان
قال: ماذا تعني؟
قلت : لقد بدأ ظهور ثلاثة أنوار متتابعة في آسيا، في العالم الإسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص، وعندها آتي إلى هنا أنشئ مدرستي.
قال: هيهات ! إنني أحار من فرط أملك؟
قلت : وأنا أحار من عقلك ! أيمكن ان تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.
قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.
قلت: ذهبوا لكسب العلم ، فها هو الهندي الذي هو ابن الإسلام الكفوء يدرس في إعدادية الإنكليز.
وها هو المصري الذي هو ابن الإسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الإدارية السياسية للإنكليز..
وها هو القفقاس والتركستان اللذان هما ابنا الإسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس.. الخ.
فيا هذا ! ان هؤلاء الأبناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء أبيهم العادل، الإسلام العظيم، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الأزلية المقدرة في بني البشر رغم كل شئ.)
و بعد أن أرسل بديع الزمان من مدينة بتليس إلى معسكرات الاعتقال الروسية في سيبيريا، وقعت حادثة عجيبة تبين مدى قدرته على تحدي الطغيان، و لو في حالة الشدة، كما تبين شدة اعتزازه بإيمانه و اسلامه و علمه، و الحادثة يرويها احد الشهود كالتالي//
( عندما جُرحت واُسـرتُ في موضع بتليس في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان ايضاً في اليوم نفسه أسيراً. فاُرسل إلى اكبر معسكر للأسرى في سيبريا، واُرسلتُ إلى جزيرة نانكون التابعة لباكو.
ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولا نيقولافيج المعسكر المذكور للتفتيش - يقوم له الأسرى احتراماً - وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكناً ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به ايضاً. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:
- أما عرفني؟
- نعم أعرفه انه نيقولا نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.
- فِلمَ إذن قَصَد الإهانة؟
- كلا! معذرة. إنني لم استهن به. وانما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.
- وماذا تأمر العقيدة؟
- إنني عالم مسلم احمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله. فلو أنني قد قمت له احتراماً لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.
إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فليشكّل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.
وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلاّ انه أجابـهم بالآتي: إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسـول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) . فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة. ولا أستطيع ان اعمل بما يخالف إيماني...
وتجاه هذا الكلام يؤثر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.
وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأودي واجبي.
فيقوم إلى الوضوء وأثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولا نيقولافيج ويخاطبه:
- أرجو منك المعذرة. كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير واعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. واكرر رجائي مرار:أرجو المعذرة.)
و نكتفي بهذا القدر و سنخصص الحلقة القادمة لبعض مرافعات بديع الزمان أمام المحاكم العسكرية التركية بعد إسقاط الخلافة العثمانية