هل يصادر المحامي حق المتقاضي في التمثيل الذاتي؟
يشهد المغرب منذ مدة احتدام النقاش حول مشروع القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية. ومن بين النقط المثيرة للجدل مسألة إلزامية الاستعانة بمحام، والتي صرح وزير العدل عبد اللطيف وهبي في شأنها بأن جمعية هيئات المحامين (الجمعية في ما بعد) تمسكت “بأن جميع المساطر يجب أن تكون مكتوبة بواسطة محام” (تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان حول مشروع قانون رقم 02.23 يتعلق بالمسطرة المدنية، الجزء الأول، ص 192)، مما يعني أن الجمعية تشترط أن يكون المتقاضي ملزما بالاستعانة بمحام لكي يتمكن من ممارسة حقه في التقاضي.
وقد راجت دراسات وفيديوهات لمحامين لتبرير هذه الإلزامية، كما تداولت مواقع إلكترونية رفض مواطنين لهذه الإلزامية ومطالبتهم بتمكين المواطن من التقاضي بنفسه دون الاستعانة بمحام.
ولا نخفي صدمتنا من موقف المحامين المتصلب من إلزامية الاستعانة بمحام، وهم المفترض فيهم الدفاع عن الحقوق التي من بينها الحق في التمثيل الذاتي “L’autoreprésentation”.
ومما يزيد من إضعاف هذا الموقف غياب الرد العلمي للمحامين -حسب بحثنا المتواضع على الشبكة العنكبوتية- على دراسة المستشار القانوني جعفر حسون الموسومة بـ “تأصيل الحكم وتفصيل القول في مسألة إلزامية الاستعانة بمحام” (هسبريس، الأحد 26 يوليوز 2020).
ففي هذه الدراسة الصادرة منذ حوالي أربع سنوات، والتي يمكن اعتبارها النسخة المغربية لتأصيل حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، نفي صفة القاعدة أو المبدأ المطرد عن إلزامية الاستعانة بمحام، وأن هذه الأخيرة استثناء من الأصل الذي هو ممارسة ومباشرة صاحب الحق للتقاضي؛ وأن الإعفاء منها رجوع إلى الأصل ورد للأمور إلى نصابها.
وتأتي محاولتنا هذه لبيان مجانبة تقرير إلزامية الاستعانة بمحام للصواب. وهكذا سنوضح في محور أول افتقاد هذه الإلزامية لمبررها واقعيا من خلال رصد تجليات خطورتها، وفي محور ثان افتقادها لمبررها النظري عبر رد بعض الأفكار المؤسسة لها، لنخلص في محور أخير إلى ضرورة إعادة الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي من خلال توسيع مشمولات هذا الحق أكثر مما هي عليه حاليا.
– أولا: خطورة إلزامية الاستعانة بمحام
بالإضافة إلى مصادرة حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، تتجسد خطورة إلزامية الاستعانة بمحام في ما يلي:
– إثقال كاهل المتقاضي والميزانية العامة ماديا؛
– إخضاع المتقاضي لاستبداد المحامي بالرأي؛
– تحميل المتقاضي أخطاء المحامي؛
– ارتهان المتقاضي بالملفات المطلبية للمحامين؛
– ضرب حق التقاضي؛
– تهديد المتقاضي بالقانون الجنائي.
1) إثقال كاهل المتقاضي والميزانية العامة ماديا
إذا كانت المقتضيات القانونية الجاري بها العمل تزاوج بين إلزامية الاستعانة بمحام وبين عدم هذه الإلزامية، فإن الاتجاه إلى إقرار هذه الإلزامية بشكل مطلق سيجعلها تطال قضايا بسيطة يستطيع المتقاضي حاليا مباشرة مساطرها بنفسه دون حاجة إلى محام. فعلى سبيل المثال يكفي للحصول على حكم في بعض قضايا الحالة المدنية كتابة طلب معزز بوثائق وأداء رسم 50 درهما. وفي حالة سير المشرع وراء إلزامية الاستعانة بمحام سيجد المتقاضي نفسه أمام أتعاب المحامي التي لن تكون في حدود 50 درهما. فهل يمكن القبول بهذا العسر؟
وفي حالة ما إذا كان المتقاضي معسرا، فإن أتعاب المحامي في إطار المساعدة القضائية هي 2500 درهم في القضايا المعروضة على المحكمة الابتدائية و3000 درهم في القضايا المعروضة على محاكم الاستئناف و3500 درهم في القضايا المعروضة على محكمة النقض. ومن المحتمل ارتفاع هذه المبالغ مستقبلا نظرا لأن بعض المحامين يرون أنها هزيلة (معاذ فخصي، “تنصيب المحامي بين واقع الحال ومشاريع المآل دراسة في ضوء مسودات مشاريع قانون المسطرة المدنية ومهنة المحاماة واستعمال الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية”، 20 يونيو 2020، https://www.aljami3a.com/). فهل من الصواب إثقال الميزانية العامة بمبالغ مالية لتغطية قضايا بسيطة؟
ثم إذا كان من المتوقع أن يحجم شخص عن التقاضي مستقبلا في حالة إقرار الغرامات التي يتضمنها مشروع قانون المسطرة المدنية، فإن اللجوء إلى القضاء في مادة الحالة المدنية لا مفر منه؛ وبالتالي فأتعاب المحامي ستحل محل الغرامات الواردة في مشروع المسطرة المدنية والتي اعتبرها المحامون ضربا لحق التقاضي.
2) إخضاع المتقاضي لاستبداد المحامي بالرأي
يطرح بحدة أحيانا مشكل اختلاف وجهات النظر بين الموكل والمحامي في طرق عرض وسائل الدفاع. فهل سيقبل المحامي مجاراة وجهة نظر موكله متى كانت صائبة أم سيصر على رؤيته وإن كانت خاطئة؟ ولنتصور مثلا حالة الأستاذ الجامعي في مادة المسطرة المدنية الذي يجد نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى المحامي، وهو الذي أطر بحوث الدكتوراه لكثير من الطلبة من بينهم محامون، فكيف سيتصرف إذا اختلف مع المحامي في وجهات النظر؟ وقس على ذلك أيضا المستشار القانوني الذي يحاجج محاميا علميا على المنابر الإعلامية. لا، بل إن الأمر يشمل أيضا البعض ممن لا يتوفرون على شهادات عليا في المجال القانوني، ولكنهم اكتسبوا الخبرة العملية بحكم تجاربهم. فهل نحرم كل هؤلاء من الحق في التمثيل الذاتي؟ وهل من الأفضل منح المتقاضي حق الدفاع عن نفسه أم إجباره على الالتجاء إلى المحامي؟ وطرح مثل هذه الأسئلة لا ينبغي أن يثير الاستغراب متى استحضرنا على سبيل المثال أن المواطنين الفرنسيين مدعوون للمشاركة في هيئة المحلفين بمحكمة الجنايات بفرنسا للنطق بأحكام قد تصل إلى السجن المؤبد، ولا يشترط فيهم حيازتهم لشهادات عليا في القانون. والمغرب بدوره كان يعمل إلى حدود سنة 1974 بهذا الإجراء الذي سجل النقيب عبد الرحمن بنعمرو أهميته (“بصدد مشروع تعديل بعض فصول قانون المسطرة الجنائية”، صورة رقمية لأعداد من جريدة الطريق لسنة 1991). وأيهما أخطر: المشاركة في إصدار حكم جنائي أم ممارسة المتقاضي لحقه في التمثيل الذاتي؟
3) تحميل المتقاضي أخطاء المحامي
يحفل الواقع بأمثلة لأخطاء المحامي التي يتحمل عواقبها المتقاضي. وفي هذا السياق عبر وزير العدل بمناسبة مناقشة مجلس النواب لمشروع قانون المسطرة المدنية عن قلقه بسبب كثرة قرارات محكمة النقض حول عدم قبول الدعوى الذي يتحمل مسؤوليته المحامي لا المتقاضي.
وقريبا من هذا المعطى، يتضح من قرار لمحكمة النقض أن متقاضيا خسر الدعوى بسبب عدم توقيع دفاعه للمقال الاستئنافي. فما ذنب المتقاضي؟
وبعيدا عن هذه المعطيات التي عرفت طريقها إلى العلن، يمكن الاستئناس بالحالات التي تبقى حبيسة المحادثات بين المتقاضين وأقربائهم وأصدقائهم. فعلى سبيل المثال خسر أحد الأصدقاء الدعوى لاعتبارات شكلية لم ينتبه إليها دفاعه. كما أن دفاع صديق آخر لم ينبس ببنت شفة في جلسة البحث، بعلة أنه قضى فترة التمرين بمكتب محامي الخصم. فهل هذا عرف مهني؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما ذنب المتقاضي أن يكون ضحية للأعراف السائدة بين المحامين؟
وأيهما أهون: خسارة الدعوى بسبب خطأ المحامي أم خسارتها بسبب اختيار المتقاضي الدفاع عن نفسه دون الاستعانة بمحام؟ لا شك أن الحالة الثانية هي الأقل ضررا، لأن المتقاضي سيوفر أتعاب المحامي. وأكثر من ذلك فإنها قد تعود بالنفع على المتقاضي لأنه سيستفيد من تمرين معرفي قد يفيده في المستقبل. وفي طليعة المستفيدين من هذا التمرين المعرفي خريجو كليات الحقوق الذين تحول قلة ذات اليد بينهم وبين الترشيح لمباريات المحاماة، نظرا لارتفاع واجب الانخراط في جداول هيئات المحامين بالمغرب بأضعاف عما هو عليه في بلدان أخرى حيث، على سبيل المثال، لا يتجاوز 800 أورو في فرنسا و500 أورو في إسبانيا.
نعم، بإمكان المتقاضي الاحتجاج على المحامي ومقاضاته. لكن كم سيكلف ذلك ماديا ومعنويا؟ وهل بإمكان المتقاضي الذي لا يتجاوز دخله 5000 درهم شهريا أن يخوض غمار معارك إضافية مع المحامي، وهو الذي لم يكفه دخله للتغلب على تكاليف دعواه الأصلية؟ وحتى إذا تجاوز مشكل الإمكانيات المادية، فهل بمقدوره أن يجد محاميا يقبل الدفاع عنه في هذه الحالة؟
4) ارتهان المتقاضي بالملفات المطلبية للمحامين
لعل المثال الأكثر دلالة هو الشكل الاحتجاجي الذي خاضه المحامون لمدة أسبوعين ابتداء من تاريخ 03 أكتوبر 2024، والذي شمل مقاطعة جلسات الجنايات والصناديق ما عدا ما ارتبط بأجل.
وأمام عدم تحقيق مطالبهم، صعد المحامون من وتيرة احتجاجهم من خلال الدخول في إضراب مفتوح تجسد في التوقف الشامل عن ممارسة مهام الدفاع ابتداء من فاتح نونبر 2024. لكن توقف هذا الشكل الاحتجاجي بعد حوالي أسبوعين.
5) ضرب حق التقاضي
إن كنا قد طرحنا تساؤلات من قبل حول كيفية تمكن المتقاضي من العثور على محام يقبل تمثيله في مواجهة محام آخر، فإن ما رشح عن مناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب يؤكد أن إلزامية الاستعانة بمحام تضرب في الصميم حق التقاضي الذي يتشبث به المحامون في مواجهة المشروع المذكور.
فالنائبة البرلمانية هند بناني الرطل رقت لحال المتقاضي في مواجهة المحامي في معرض مناقشة المادة 62 من مشروع قانون المسطرة المدنية، وتحدت وزير العدل متسائلة: “وجاوبني كيفاش غادي يدير يغلب هاذ المحامي؟ (…) شكون هاذ المحامي اللي غيترافع ليه باش يتابع محامي آخر؟”.
إنه تحد لم يجب وزير العدل عبد اللطيف وهبي عنه أول الأمر، لكنه لم يجد بدا من تقديم معطيات تفوق هذا التحدي قوة بمناسبة تبرير مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 376 من مشروع قانون المسطرة المدنية، وكثفها في جملة “دابا آش غنديرو لهذا المواطن، نقولو لو يلا عندك دعوة ضد القاضي ولا ضد المحامي سير انتحر، عندنا إشكال، عندنا إشكال كبير”.
وتتمثل هذه المعطيات في:
– عدم استساغة محكمة النقض للدفع الرامي إلى عدم قبول دعوى المتقاضي الذي لم يتوصل بإذن النقيب من أجل مقاضاة محام؛
– اضطرار متقاض لم يتمكن من إيجاد محام لينوب عنه في مواجهة محام آخر بخصوص النزاع حول تحديد الأتعاب إلى تقديم مذكرة حررها محام يزاول المحاماة في مدينة أخرى من دون وضع طابع واسم المحامي، لكن عدم قبول الدعوى كان بالمرصاد لهذه المذكرة؛
– عدم ترتيب الجزاء التأديبي على المحامي المعين في إطار المساعدة القضائية الذي لم يقم بالدفاع عن متقاض؛
– سرد واقعة حدثت منذ حوالي 20 سنة تتعلق بمعاناة متقاض من البحث عن محام ينوب عنه ضد قريب قاضية في ملف كراء، وبترافع 50 محاميا ضده بعد قبول المحامي عبد اللطيف وهبي الترافع لصالحه.
ومؤدى هذه المعطيات التي أدلى بها وزير العدل عبد اللطيف وهبي تحت قبة البرلمان أن شعار “الولوج المستنير إلى العدالة” الذي هو صيغة مهذبة لإلزامية الاستعانة بمحام يجعل حق التقاضي أمام نفق مظلم.
6) تهديد المتقاضي بالقانون الجنائي
يقترح “مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة» المنسوب إلى مكتب الجمعية في المادة 72 اعتبار المشتكي من تصرف المحامي “مرتكبا لجنحة التبليغ عن جرائم وهمية أو لم تقع، ويعاقب بالعقوبات المقررة لها في القانون الجنائي”، وذلك إذا ثبت أن الأفعال المنسوبة إلى المحامي “غير حقيقية أو لا تشكل مخالفة لقانون المهنة وقواعدها، أو للمقتضيات القانونية”. ويمنح المشروع في المادة 73 الحق لهيئة المحامين الانتصاب كطرف مدني في مواجهة المشتكي.
فعلاقة بالنقطة المتعلقة باستبداد المحامي بالرأي، كيف سيثبت المتقاضي أنه أخبر المحامي بوسيلة دفاع ناجعة لم يحبذها المحامي أو بعدم جدوى وسيلة الدفاع التي ارتأى المحامي تقديمها؟ هل سيحضر معه مثلا مفوضا قضائيا لتوثيق ما يروج بينه وبين المحامي؟ والتساؤل هو: ما معنى السعي إلى تقرير إلزامية الاستعانة بمحام، ووضع العراقيل أمام المتقاضي لتقديم شكواه؟
وما يثير الاستغراب هو أن المشروع المنسوب إلى الجمعية لا يجد غضاضة في تحجيم تفكير المتقاضي في التشكي من المحامي، في حين أن المحامين اعترضوا على ما تضمنته المادة 10 من مشروع قانون المسطرة المدنية المؤسسة للحكم بالغرامة على المتقاضي بسوء نية. ويبدو أن هذه المادة أرحم بالمتقاضي مما يعتزم المشروع المنسوب إلى الجمعية إقراره. فعلى الأقل، بالنسبة للمادة المذكورة لا تتجاوز العقوبة الغرامة، في حين أن المشروع المنسوب إلى الجمعية يستنجد بالقانون الجنائي الذي يرتب العقوبة الحبسية والغرامة، ويضيف انتصاب الهيئة كطرف مدني. وهكذا سيكون المتقاضي في مواجهة العقوبة من حبس وغرامة والمطالب المدنية للهيئة. والأطراف من ذلك، إن كان في الأمر ما يدعو إلى الطرافة، أن انتقاد المادة المذكورة يؤسس في جانب منه على أن المتقاضي هو المعني بمقاضاة خصمه الخاسر للدعوى، في حين أن المشروع المنسوب إلى الجمعية لا يكتفي بما يمكن للمحامي القيام به، وإنما يضيف انتصاب هيئة المحامين كطرف مدني. والتساؤل هو: مادام أن هيئة المحامين ستنتصب كطرف مدني، فكيف سيبحث المتقاضي عن محام ليدافع عنه؟ أليس من الأجدر الرجوع إلى الحق الأصيل للمتقاضي في التمثيل الذاتي؟ وما الحاجة إلى هذه المقتضيات الزجرية والمتقاضون في حالات كثيرة، كما أخبر وزير العدل بذلك، لا يقاضون المحامي في حالة الحكم بعدم قبول الدعوى التي هي حالة تجسد خطأ المحامي بشكل واضح؟ وأمام هذا الوضع المريح الذي يوجد فيه المحامون من حيث عدم مقاضاة المتقاضين لهم في أكثر الحالات، أفلا يتسع الصدر لتحمل شكوى المتقاضي من دفاعه؟
نعم، إن هذا المقتضى لا يزال في دائرة الاقتراح ولم يتم تبنيه رسميا من قبل المشرع. ولكن يجب التنبيه إلى خطورته على المتقاضي في حالة إدراجه في قانون المحاماة مستقبلا.
ومن الضروري التنبيه إلى أنه لا ينبغي توسيع حصانة المحامي لتطال المتقاضي الذي يرى بأن محاميه لم يقم بالمطلوب منه على أكمل وجه.
– ثانيا: مناقشة بعض الأفكار المؤسسة لإلزامية الاستعانة بمحام
انبرى محامون إلى تأسيس مطالبتهم بإلزامية الاستعانة بمحام على حجج منها ارتباطها بالنظام العام والتخصص وقانون المحاماة. وسنحاول مناقشة هذه الحجج كما يلي:
1) تبرير إلزامية الاستعانة بمحام بارتباطها بالنظام العام
ارتقى المحامي محمد الهيني (“الهيني يبرز مخاطر مشروع قانون المسطرة المدنية على حق المغاربة في التقاضي”، موقع أشكاين على يوتيوب، 24 يوليوز 2024) بإلزامية الاستعانة بمحام إلى درجة إدراجها ضمن النظام العام. والأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:
– هل “النظام العام” الذي تمسك الهيني به هو نفس “النظام العام” الذي اعتبره مفهوما “زئبقيا” في معرض انتقاده للمادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية؟
– بما أن “النظام العام” كبنيان قانوني وضع حجره الأساس في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789، فهل يمكن تصور أن مرسوم ثاني شتنبر 1790 الذي منع المحامين من تشكيل تنظيمات مهنية ومن حمل بذلة خاصة بهم مخالفا “للنظام العام”؟ وهل كان المحامون الفرنسيون الموافقون على هذا المنع غافلين عن مصادمته “للنظام العام”؟ وهل كان المحامي مكسيميليان دي روبسبيير (Maximilien de Robespierre) (1758-1794) المساهم في وضع الحجر الأساس “للنظام العام” جاهلا بمخالفة نظريته في “الدفاع الطبيعي” أو “الدفاع الحر” (أي دفاع المتقاضي عن نفسه بنفسه) “للنظام العام” في معرض مناقشة التنظيم القضائي الفرنسي يوم 14 دجنبر 1790؟ ألا تشي إشارته إلى اقتناع أعضاء الجمعية الوطنية بفكرة عدم قدرة القانون على منع المواطنين من حرية الدفاع عن قضاياهم بأنفسهم بأن “النظام العام” (الذي هو من بنات أفكار أولئك الأعضاء) بريء مما يتعلق بشؤون المحاماة؟ وهل فرنسا التي يشكل إعلان 1789 جزءا من كتلتها الدستورية في الوقت الراهن مخالفة “للنظام العام” في اعترافها بحق المتقاضي في التمثيل الذاتي؟
– هل الأصوب هو ما ذكره الهيني في أطروحته للدكتوراه الموسومة بـ”رقابة القضاء على أعمال هيئات النوظمة” من كون “الاستعانة بمحام” (وليس إلزاميتها) من حقوق الدفاع ومن استشهاده بما نصت عليه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية عن حق المتهم “في أن يدافع بنفسه عن نفسه، سواء بنفسه أو عن طريق الاستعانة بمدافع من اختياره”، أم تفسيره الحالي لحقوق الدفاع بما يفيد بإلزامية الاستعانة بمحام؟
وبالموازاة مع طرح هذه الأسئلة لا بد من استحضار قرار المجلس الدستوري رقم 943.19 م.د الصادر في 27 رمضان 1435 (25 يوليو 2014). فقد اعتبر هذا القرار أن اشتراط تقديم العرائض أمام المحكمة الدستورية “من طرف محام مسجل في جدول إحدى هيئات المحامين بالمغرب” مخالف للدستور. والسؤال هنا: هل هذا القرار ضد “النظام العام”؟
وفي المادة المدنية، فمن الأهمية بمكان استحضار اكتفاء جعفر حسون في تقرير هذه الإلزامية بالمادة 13 من القانون رقم 53.95 بشأن إحداث المحاكم التجارية والمادة 3 من القانون رقم 90.41 المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية بالمغرب. ومن ثمة، فلا معنى للحديث عن إلزامية الاستعانة بمحام في غير المحاكم الإدارية والتجارية.
وفي المادة الجنائية، فالإلزامية لا ترد في غير الحالات الواردة في المادة 316 من قانون المسطرة الجنائية.
على أن الحديث عن القواعد الآمرة كقواعد من “النظام العام” صدر عن بعض الفقهاء (محمد جلال السعيد، مدخل لدراسة القانون، 1993، توزيع دار الأمان، الرباط، ص 35) لا جميعهم، وأنه ليس من الضروري أن ترتقي كل القواعد الآمرة إلى مصاف قواعد “النظام العام” (عماد طارق البشري، فكرة النظام العام في النظرية والتطبيق دراسة مقارنة بين القوانين الوضعية والفقه الإسلامي، النادي الشبابي، المكتب الإسلامي، 2005، نسخة إلكترونية، ص 99—100) وأن قواعده “تعكس المبادئ العامة أو القيم المقدسة في المجتمع” (م.ج.السعيد). وإذن، هل يمكن تصور ارتقاء إلزامية الاستعانة بمحام إلى مصاف هذه القيم المقدسة؟
2) تبرير إلزامية الاستعانة بمحام بالتخصص
من بين ما يبرر به المحامي معاذ فخصي للقول بهذه الإلزامية تخصص المحامي في مجال العدالة (سبقت الإشارة إلى دراسته الموسومة بـ “تنصيب المحامي بين واقع الحال ومشاريع المآل…”). ولكن نرى أن هذا الدفع بالتخصص يستقيم لمنع غير المحامين من ممارسة مهنة المحاماة، وليس لمنع المتقاضي من الدفاع عن نفسه.
يضاف إلى ذلك أن المحامي ليس هو وحده المختص في مجال العدالة، بل يشاركه في هذا الاختصاص خريجو الدراسات القانونية بشكل عام. فعلى سبيل المثال تصعب المنازعة في قدرة الأستاذ الجامعي في مادة المسطرة المدنية على مباشرة الإجراءات المسطرية بنفسه. وأكثر من ذلك، ذكر أستاذ جامعي أنه قدم استشارة علمية حول ملف قضائي. فهل تقصى مثل هذه الكفاءات من التمثيل الذاتي؟
وأكثر من ذلك، فالتشبث بفكرة التخصص يطرح إشكالا بالنسبة للمحامي نفسه. فمثلا كيف يقبل المحامي المساواة في مجال التقاضي المدني بين محام حائز على شهادة الدكتوراه في القانون المدني وبين محام حائز على شهادة الإجازة في القانون العام، وكيف يرضى بالمساواة في مجال التقاضي الإداري بين محام حائز على شهادة الدكتوراه في القانون الإداري وبين محام حائز على شهادة الإجازة في القانون الخاص، ولا يتعامل بنفس المقياس مع غير المحامين من خريجي الدراسات القانونية؟
ثم إن المطلوب عدم إحاطة تخصص المحامي المتخذ كذريعة لمنع المتقاضي من التمثيل الذاتي بهالة من التقديس تخفي مرتبة الدراسات القانونية كفرع من العلوم الاجتماعية التي لا ترقى من حيث الدقة إلى مصاف العلوم الحقة التي تشكو من أزمة اليقين. ومن ثمة لا يمكن النظر إلى قول المتخصص في أي مجال بأنه الحقيقة المطلقة. ولعل المثال القريب منا الاختلاف حول تدابير التصدي لجائحة كورونا بمناسبة محاولة فرض جواز التلقيح الذي رفضه المحامون. فهل سيفرض جواز من نوع آخر على المتقاضي بدعوى التخصص؟
3) تبرير إلزامية الاستعانة بمحام بقانون المحاماة
يحظى الرأي المستند إلى قانون المحاماة للتقرير في مدى إلزامية الاستعانة بمحام بانتشار واسع. وكمعبر عن هذا الرأي المحامي خالد خالص الذي أبدى أسفه على عرض مشروع قانون المسطرة المدنية الذي هو “قانون عام” قبل عرض قانون المحاماة الذي هو “قانون خاص”، لأن “المتعارف عليه تشريعيا” هو أن قانون المحاماة هو المنوط به تقرير “متى يكون المحامي إجباريا، ومتى يكون اختياريا”.
يبدو أن هذه الأفكار ارتقت إلى مصاف البديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات. ومع ذلك نرى أنه حان الوقت لإعادة النظر فيها، لأنها تأسست على أسس بعيدة عن الإنصاف والمنطق. والكشف عن هذه الأسس يفرض الرجوع إلى التطور التاريخي لعلاقة قانون المحاماة بتنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، حتى إذا اتضحت معالم هذا التطور تيسر عرض نتائجه وبيان مجانبة تلك الأفكار للصواب.
أ- قصة تدخل قانون المحاماة في تنظيم حق التمثيل الذاتي
إن قانون المحاماة لم يكن له وجود مستقل ضمن الترسانة القانونية التي وضعتها الحماية الفرنسية في المنطقة الخاضعة لنفوذها باللغة الفرنسية سنة 1913، وقانون المسطرة المدنية هو الذي نظم ما يتعلق بـ”المحامين” (Des avocats) في الفصول من 34 إلى 44 (ويمكن أيضا إضافة الفصل 47). أما مسألة “إجبارية أو اختيارية المحامي” فلا أثر لها في هذه الفصول.
وعندما استقلت مهنة المحاماة بقانون خاص بها (بعد أن كانت تصدر من حين لآخر مقتضيات منظمة لهيئات المحامين ببعض المدن المغربية)، مع الظهير الصادر باللغة الفرنسية بتاريخ 10 يناير 1924 (2 جمادى الثانية 1342) المتعلق بـ” L’organisation du barreau et l’exercice de la profession d’avocat” (“تنظيم سلك المحامين وتعاطي مهنة المحاماة” حسب الصيغة العربية الموضوعة سنة 1954)؛ لم يقترب هذا الظهير من مسألة “إجبارية أو اختيارية المحامي”، على غرار قانون المحاماة الفرنسي لسنة 1920 الذي كان خاليا من تنظيم هذه المسألة.
ويمكن تفسير هذا الاتجاه بمحاولة الحماية الفرنسية مراعاة الأصول المرعية قضائيا في فرنسا بحكم أن المحاكم الفرنسية المحدثة بالمغرب كانت مختصة أساسا بالفصل في القضايا التي أحد أطرافها فرنسي أو من الرعايا الفرنسيين.
واستمر الأمر على هذا المنوال إلى سنة 1950 ليخطو قانون المحاماة خطوته الأولى في تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي. فمع ظهير 30 ربيع الثاني 1369 الموافق 18 فبراير 1950 تدخل قانون المحاماة في تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، من خلال اشتراط الفصل 66 في صيغته الجديدة لمتابعة المتقاضي لقضيته في ما يتعلق بالطلبات والمذكرات الدفاعية والتقارير أهليته لذلك وترخيص رئيس المحكمة. وعمل ظهير 23 رجب 1373 الموافق 29 مارس 1954 على تفصيل ما أسس له ظهير 1950.
وقد تم التعديل على الرغم من اعتبار المشرع أن ظهير 1924 (أي قانون المحاماة) “يتمم قانون المرافعات [أي قانون المسطرة المدنية] في ما يخص تمثيل المتداعين أمام المحاكم” (الجريدة الرسمية عدد 2163 بتاريخ 5 شعبان 1373 (9 أبريل 1954)، ص 1063)، بما يعنيه ذلك من أن قانون المحاماة ليس هو الأصل في تقرير “متى يكون المحامي إجباريا، ومتى يكون اختياريا”.
وقد تم تبرير هذا التعديل بـ”أن الحرية التي أعطيت للمتداعين يستعملها هؤلاء في أغلب الأحيان بكيفية تضر بهم في الدفاع عن مصالحهم كما تضر بحركة تسيير العدلية على الوجه اللائق بها” (نفس الجريدة الرسمية المشار إليها، ص 1064)، أي ما يعبر عنه اليوم ب”الولوج المستنير إلى العدالة”.
ويبقى الباب مفتوحا أمام الباحثين مستقبلا لتمحيص مدى جدية التبرير الذي قدمه تعديل 1950 /1954 على ضوء واقع التقاضي آنذاك، ومدى ارتباط هذا التعديل بالأحداث السياسية التي اتسمت باشتداد عود المقاومة المغربية ضد فرنسا.
وبعد الاستقلال استمر قانون المحاماة في تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي من حيث منح المتقاضي ذي الكفاءة إمكانية التقاضي بنفسه بصدد المسطرة الكتابية تحت رقابة رئيس المحكمة الذي أصبحت له صلاحية سحب الإذن في أي وقت، وذلك مع الظهير الشريف رقم 1.59.102 بشأن تنظيم هيئات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة الصادر بتاريخ 10 ذو القعدة 1378 موافق 18 مايو 1959 (الفصل 33). واستمر الأمر على هذا المنوال مع المرسوم الملكي بمثابة قانون رقم 816.65 بتاريخ 28 رمضان 1388 (19 دجنبر 1968) تنظم بموجبه نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة (الفصل 33)، والقانون رقم 19.79 الذي تنظم بموجبه نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة (الفصل 34).
وتأتي الخطوة الثانية مع الظهير الشريف رقم 1.93.162 الصادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) المعتبر بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة، والذي سمح للمتقاضي بتقديم المقالات والمستنتجات والمذكرات الدفاعية في المرحلة الابتدائية في حالة عدم وجود عدد كاف من المحامين في دائرة نفوذ المحكمة (المادة 32). وهكذا تم الانتقال من وضع يقر بحق التمثيل الذاتي بالرغم من العمل على تقييده إلى وضع آخر لم يعد ممكنا الحديث فيه عن حق التمثيل الذاتي وإنما عن آلية تسد النقص في عدد المحامين.
كيف يمكن تفسير هذا الانتقال؟
يحتفظ الموقع الإلكتروني “مغرس” بمقال منشور على جريدة “العلم” بتاريخ 17 دجنبر 2008 يفيد بأن مشروع جمعية هيئات المحامين الموضوع سنة 1987 كان هو الأساس لما تضمنه ظهير 1993. إلا أنه تعذر علينا العثور على هذا المشروع، ومن ثمة لم نتمكن من معرفة إن كان الشرط الجديد المتعلق بالنقص في عدد المحامين واردا أو غير وارد في هذا المشروع.
وأيا كان الأمر، فمن المعروف أن عقد التسعينيات من القرن الماضي عرف اصطفاف قطاع واسع من المحامين إلى جانب المعارضة السياسية تجلى مثلا في دلالة انتصاب 1200 محام لمؤازرة محمد نوبير الأموي ضد الحكومة المغربية، مما أدى إلى تعزيز موقع المحامين كجماعة ضغط على المستويين المهني والسياسي.
وتأتي الخطوة الثالثة مع القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، والذي لم يتضمن الإشارة إلى ممارسة المتقاضي بنفسه لإجراءات التقاضي، كما أضاف مقتضى جديدا ضمن بالمادة 31.
نعم، من الممكن تفسير غياب تلك الإشارة بتوفر الأعداد الكافية من المحامين بمختلف دوائر نفوذ المحاكم بعد مرور حوالي 15 سنة على صدور ظهير 1993، وإن كان الأمر يحتاج إلى بيانات إحصائية تؤكد وفرة أعداد المحامين. ولكن الجديد الذي أتى به القانون رقم 28.08 يؤكد اتجاه قطاع وازن من المحامين إلى قطع دابر حق التمثيل الذاتي من خلال محاولة تفسيره في اتجاه تقرير إلزامية الاستعانة بمحام.
والربط بين هذا القانون والبصمة القوية للمحامين عليه ليس من باب إطلاق الكلام على عواهنه. فأصل هذا القانون مسودة أعدها وزير العدل محمد بوزوبع (وقد كان محاميا) لم تحولها الحكومة إلى مشروع قانون، ليتكفل بعد ذلك الفريق الاشتراكي بتقديمها على شكل مقترح قانون تم العمل على تعبيد الطريق أمامه بتوسل مباركة جميع المحامين أعضاء مجلس النواب له وإقناع الحكومة بعدم الاعتراض عليه. وهذا ما يستفاد مما ذكره المحامي عبد الكبير طبيح (“مجال مهام المحامي بين قانون المهنة والقوانين التي صدرت بعد دستور 2011″، الموقع الإلكتروني أنوار بريس، 25 نوفمبر 2023)
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فـ”مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة” المنسوب إلى مكتب الجمعية والصادر سنة 2019 يضيف في المادة 36 منه الإدارات والجمعيات “وغيرها” إلى القائمة الواردة في المادة 31 الحالية، لتصبح الصيغة المقترحة كما يلي: “لا يسوغ أن يمثل الأشخاص الذاتيون والمعنويون والإدارات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والشركات، والجمعيات وغيرها، أو يؤازروا أمام القضاء إلا بواسطة محام”. كما رتبت المادة 37 من المشروع عدم قبول الدعوى كجزاء، في اتجاه جديد لم تعرفه مختلف القوانين التي توالت لتنظيم مهنة المحاماة بالمغرب، عن تقديم المقالات والمستنتجات والمذكرات الدفاعية من قبل غير المحامين المغاربة والمحامين الأجانب المأذون لهم بالترافع بالمغرب.
بعد هذا السرد التاريخي الذي لم نجد بدا من عرضه على الرغم من طوله، ننتقل إلى عرض النتائج الخطيرة التي تمخض عنها تطاول قانون المحاماة على تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي.
ب- نتائج تدخل قانون المحاماة في تنظيم التمثيل الذاتي
تتمثل النتيجة الأولى في إدخال انحراف جعل قانون المحاماة يتجاوز تنظيم المهنة إلى التقرير في حق المتقاضي. وهكذا امتد قانون المحاماة إلى تنظيم ما لا ينبغي له تنظيمه، في مخالفة لما عليه الحال في بلدان سبقت المغرب إلى التنظيم الحديث لشؤون القضاء مثل فرنسا التي لا يقترب فيها التشريع الخاص بالمحاماة من حق المتقاضي في التمثيل الذاتي.
النتيجة الثانية هي فتح الباب أمام انحراف أكثر خطورة من انحراف 1950/1954 اتسعت هوته مع الزمن، وأدى إلى استئساد قانون المحاماة على حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، حتى أقبر هذا الحق وعوض بالمادة 31 التي أراد لها بعض المحامين تفسيرا وحيدا يتجلى في حق المحامي في إلزام المتقاضي بالاستعانة به. ولعل المثال الواضح لهذا التفسير رأي النقيب حسن بيراوين الذي استند إلى هذه المادة للقول بالنيابة القانونية الإلزامية للمحامي، والذي اعتبر أنها أقوى دلالة من المادة 32 في تقرير هذه النيابة (“النيابة القانونية الإلزامية للمحامي”، هسبريس، 10 يونيو 2020). وتتجلى أهمية ودلالة رأي النقيب بيراوين متى استحضرنا أن حديثه كان باسم هيئة المحامين بالدار البيضاء، وما تفيده صفة النقيب من مزاولة حاملها للمحاماة لفترة تمتد إلى ما قبل سنة 2008، وما تفترضه بالتالي من اطلاعه على الهموم التي كانت حاضرة عند المحامين الداعمين لمسودة وزير العدل محمد بوزوبع.
والنتيجة الثالثة هي السعي إلى إقبار حق التمثيل الذاتي تحت ذريعة أولوية تطبيق قانون المحاماة كـ”قانون خاص” على تطبيق قانون المسطرة المدنية كـ”قانون عام”.
والنتيجة الرابعة هي أن الاستناد إلى قانون المحاماة يستهدف حصر النقاش في دائرة ضيقة لا تستحضر النماذج التشريعية المبقية على حق التمثيل الذاتي في البلدان التي سبقت المغرب إلى تحديث مرفق العدالة والتي لا يمكن الطعن فيها بمبرر انتهاكها لحقوق التقاضي والدفاع، وذلك بخلاف عادة المحامين في استحضار هذه التجارب بمناسبة مناقشة مواضيع أخرى.
إنها نتائج واضحة، لكن يتعين الوقوف بصفة خاصة عند النتيجتين الثانية والثالثة.
فبالنسبة للنتيجة الثانية، فصياغة المادة 31 التي تنص على أنه “لا يسوغ أن يمثل الأشخاص الذاتيون والمعنويون والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والشركات، أو يؤازروا أمام القضاء إلا بواسطة محام، ما عدا إذا تعلق الأمر بالدولة والإدارات العمومية تكون نيابة المحامي أمرا اختياريا” تبدو ملتبسة. ذلك أن القول إن “نيابة المحامي أمرا اختياريا” بالنسبة للدولة والإدارات العمومية قد يفيد ضمنيا إلزامية استعانة المتقاضين من غير الدولة والإدارات العمومية بمحام، ومن هنا يمكن فهم تشبث البعض بالمادة 31 كأساس لتلك الإلزامية.
ونفتح قوسين لنتساءل عما إذا كان تحفظ الحكومة على مسودة وزير العدل محمد بوزوبع يشمل أيضا المادة 31، وعما إذا كان قصد واضعي هذه المادة بالصيغة المذكورة منصرفا آنذاك إلى جعلها تنفذ إلى تقرير الإلزامية. وهذا ما لا نجد له إشارة إليه في عرض عبد الكبير طبيح لملابسات خروج القانون رقم 28.08 إلى حيز الوجود.
ويفند جعفر حسون تأسيس “إلزامية توكيل محام مطلقا” على المادة 31. ذلك أن هذه الأخيرة تتعلق فقط بـ”حصر مهام وصلاحية تمثيل الأطراف في محام يحمل هذه الصفة قانونا”، أي بمبدأ “احتكار مهنة تمثيل الأطراف أمام القضاء” أو بـ”استبعاد أي مهنة أخرى من ادعاء هذه الصلاحية”. ويضيف معطى آخر يستبعد حسب فهمنا تفسير البعض للمادة 32 بتلازم المسطرة الكتابية بإلزامية الاستعانة بمحام، وذلك من خلال تقريره أن المادة 32 تحمي مبدأ احتكار تمثيل المهنة أمام القضاء “إقليميا وقطريا بتقييد ممارسة المحامين الأجانب بشروط وإجراءات خاصة”. وينبه إلى دلالة عبارة “مهام المهنة” كعنوان للفرع الثاني (المشتمل على المواد من 30 إلى 34) من الباب الثالث من القانون رقم 28.08.
والمستفاد مما ذكره جعفر حسون خطأ فكرة اختصاص قانون المحاماة بالتقرير في مدى إلزامية الاستعانة بمحام.
وبالنسبة للنتيجة الثالثة التي مؤداها الاستناد إلى قانون المحاماة في تقرير “إجبارية أو اختيارية المحامي” انطلاقا من تطبيق قاعدة أولوية النص الخاص على النص العام، فـ”القانون الخاص” أي قانون المحاماة لا يحق له التقرير في إباحة أو منع المتقاضي من التمثيل الذاتي. كما أنه، مع ما سبق بيانه من رأي جعفر حسون، لا يتعلق بتقرير “إجبارية أو اختيارية المحامي”.
وحتى إذا فسرت المادتان 31 و32 بما يفيد تنظيم التمثيل الذاتي إطلاقا أو تقييدا، فإن الحذر مطلوب في استعمال قاعدة أولوية النص الخاص على النص العام. فمن خلال بحث أولي عن هذه القاعدة عبر الشبكة العنكبوتية، وجدنا تسجيل ندرة المراجع المتخصصة (وليس العامة) التي اتخذت هذه القاعدة موضوعا لها في الفقه الفرنسي، والتحذير من مغبة استسهال التعامل معها، ووضع قرارات لمحكمة النقض الفرنسية تحت المجهر في هذا المضمار (Aurélia Siri, « Des adages Lex posterior derogat priori et Specialia generralibus derogant : Contribution à l’étude des modes de résolution des conflits de normes en droit français» – Christine Desnoyer, « Du bon usage de la règle Specialia generabilus derogant : Le contre-exemple de la jurisprudence relative à l’articulation des articles 1386 et 1384 al. 1 du Code civil»). ويبدو أن الأبحاث الفرنسية قد تعززت، بالإضافة إلى المرجعين المشار إليهما بين القوسين الأخيرين، بصدور كتاب لـ “Léa Lucienne” في السنة الماضية تحت عنوان “Specialia generalibus derogant”. وبالنسبة للمغرب، فقد سبق للصحفي جواد غسال أن ذكر بأن له رأيا خاصا حول هذه القاعدة (“مشروع قانون المسطرة المدنية.. هل يجهز على المحاماة فعلا؟”، الموقع الإلكتروني اليوم 24، 19 نونبر 2014). وبما أنه كان يشغل مهمة المستشار الإعلامي لوزير العدل والحريات مصطفى الرميد، فأغلب الظن أن هذا الأخير اطلع على هذا الرأي الذي ورد في معرض الدفاع عنه ووافق عليه، إن لم يكن قد دققه وصوبه. ونتمنى من المحامي الرميد أن يقدم رأيا علميا حول هذه القاعدة وكيفية إعمالها في ما يتعلق بموضوعنا، خاصة وأنه ذو تكوين يزاوج بين المعرفة القانونية ومعرفة أصول الفقه الإسلامي.
– ثالثا: نحو إعادة الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي
يمكن التوسل في إعادة الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي باستحضار تعامل التجارب الأجنبية مع حق المتقاضي في التمثيل الذاتي لما فيه من إشارة إلى الاعتراف بهذا الحق وعدم القدرة على محوه، والمطالبة بمراجعة مضامينه عندنا بعدما تم تقزيمه بشكل ملحوظ.
1) حق المتقاضي في التمثيل الذاتي في بعض التجارب الأجنبية
في منطقة المغرب الكبير، يبقى للمتقاضي الموريتاني حقه في التمثيل الذاتي في غير المحاكم التي تستلزم وجوب توكيل المحامي. وللمتقاضي الجزائري الحق في تقديم المقال بنفسه أو بواسطة وكيله أو محاميه. وللمتقاضي الليبي رفع الدعوى بناء على طلبه، ما لم يقض القانون بخلاف ذلك، كما له الحضور بنفسه أو توكيل محام عنه أو إنابة أقربائه وأصهاره إلى الدرجة الثالثة. وللمتقاضي التونسي عدم تنصيب المحامي في مجال الأحوال الشخصية، وهذا بخلاف ما ذهب إليه معاذ فخصي الذي اكتفى بقانون المحاماة التونسي كتشريع مقارن لتبرير مطالبته بإلزامية المحامي في كل القضايا، ولم يستحضر قانون المسطرة المدنية التونسي.
وفي منطقة الشرق الأوسط، فللمتقاضي السعودي حق الترافع عن نفسه.
وفي الدول الأوروبية، اتجهت فرنسا، مع التعديل المدخل على قانون المسطرة المدنية الفرنسية سنة 2019 إلى القطع مع معيار لا يزال يتردد بقوة في المغرب على الرغم من أن مشروع قانون المسطرة المدنية يراد له أن يكون تشريعا صالحا للخمسين سنة المقبلة، وهو معيار تلازم المسطرة الكتابية مع إلزامية الاستعانة بمحام وارتباط المسطرة الشفوية بعدم هذه الإلزامية؛ ووضعت معيارا آخر بمقتضاه يحق للمتقاضي الاستغناء عن الاستعانة بمحام متى قلت القيمة المالية للنزاع عن مبلغ 10 000 أورو ( Charles Simon, «Identifier les nouveaux cas de représentation obligatoire», https://www.tendancedroit.fr/wp-content/uploads/2021 ). وبدوره يجد المتقاضي الألماني نفسه معفى من الاستعانة بمحام متى لم تتجاوز القيمة المالية للنزاع مبلغ 5 000 أورو.
وفي كندا، ليس بمستغرب أن نجد دليلا رقميا متاحا على الشبكة العنكبوتية لفائدة الأشخاص غير الممثلين بمحامين من قبيل «Répondre aux besoins des PNRA dans le système canadien de justice ».
وإذن، وباستحضار هذه النماذج المقارنة التي منها من يمتد التاريخ الحديث للمحاماة بها إلى ما يفوق تاريخ المحاماة عندنا، يتضح أن حق التمثيل الذاتي لا يزال يحتفظ براهنيته، وإن اختلفت درجة حضوره من دولة إلى أخرى؛ وأن تقرير إلزامية الاستعانة بمحام سيكون مسلكا غير محمود، خاصة مع اعتبار المشاكل المثارة في المحور الأول، والتي تحتل العلاقة غير المتكافئة بين المتقاضي وبين المحامي حيزا كبيرا منها.
ولا نخفي أن استدعاء التجارب المقارنة يفيد أيضا في التنبيه إلى عدم صحة إلزامية الاستعانة بمحام، وفي مراجعة منطق الاتجاه نحو الاستثناء الذي يراد تثبيته بصدد هذه الإلزامية في المغرب بخلاف دول أخرى.
2) ضرورة ترسيخ حق التمثيل الذاتي وبتوسيع مشمولاته.
سيلاحظ القارئ عن حق انصراف محاولتنا عن تأطير وتأصيل حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، واهتمامها بالمقابل بإبراز خطورة إلزامية الاستعانة بمحام ومناقشة بعض الآراء المنادية بهذه الإلزامية. والعذر هو سبق من يملك دراية فقهية وتجربة قانونية إلى الخوض في تأصيل هذا الحق.
حقا، إن الرأي الذي صدح به جعفر حسون في جو مشحون ابتعدت فيه المطالبة بإلزامية الاستعانة بمحام عن جادة التأصيل الفقهي لهو جدير بالاعتبار والدارسة من قبل المهتمين بالشأن القانوني. ونتمنى أن ينكب عليه المحامون من أجل تقييمه إيجابا أو سلبا.
وحسبنا من رأي جعفر حسون تأكيده أن حق التقاضي هو “حق ذاتي أصيل للفرد ذاته”، وأن “الأصل في التقاضي أن يمارس ويباشر من صاحب الحق والمصلحة فيه، وأن وضع المحامي هو وضع وكيل عن صاحب الحق الأصلي ومتكلم باسمه”.
وانطلاقا من هذا التأصيل، واستحضارا لمجمل العناصر التي أوردنا، نطرح الأفكار الآتية:
– ضرورة تكريس وترسيخ حق المتقاضي في التمثيل الذاتي في قانوني المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية؛
– ضرورة توسيع مشمولات حق المتقاضي في التمثيل الذاتي من حيث الامتداد إلى المسطرة الكتابية وليس فقط الاقتصار على المسطرة الشفوية؛
– استحضار الاتجاه خارج المغرب إلى القطع مع التمييز بين المسطرة الشفوية والمسطرة الكتابية؛
– ضرورة إعادة صياغة المواد 30 و31 و32 من القانون رقم 28.08 في اتجاه القطع مع التفسير الذي يروم مصادرة حق المتقاضي في التمثيل الذاتي.
وعلى اعتبار السعي الحثيث وراء إلزامية تنصيب المحامي من دون اعتبار للحق الأصيل للمتقاضي في التمثيل الذاتي ومن دون استحضار للانحراف الموروث عن الحماية الفرنسية وتبعاته، ومع محاولة تسييج “الحقوق المكتسبة” للمحامين بأكثر مما تتضمنه القانون 28.08 من قبيل اقتراح ترتيب عدم قبول الدعوى في حالة عدم تنصيب المحامي و جزاءات جنائية في حالة عدم قدرة المتقاضي على إثبات عدم قيام المحامي بتمثيله على أحسن وجه، وتقديم تبرير مفاده خسران المتقاضين لدعاواهم في حالة تقاضيهم من دون محام، فلا يمكن أن ينتج ذلك إلا مطالب مشروعة.
وأول هذه المطالب مراجعة السلطة التقديرية للمحامي في عرض وسائل الدفاع. فإذا كان وزير العدل قد أعرب عن ضجره من كثرة الأحكام الواردة على محكمة النقض والمتعلقة بعدم قبول الدعوى، فمن الأهمية بمكان اتخاذ هذا المعطى كمؤشر على أن المحامي معرض للخطأ في عرض وسائل الدفاع أكثر مما هو معرض له من أخطاء مؤداها عدم قبول الدعوى. وفي هذا السياق ينبغي إعادة النظر في تعبير وزير العدل في بيان مسؤولية المحامي بقوله “ايلا حكم برفض الطلب ما عندي مشكل، دافعت عليك وما قنعتش القاضي، أما عدم القبول، سوء تسيير المحامي لملف موكله”، لأنه من غير المقبول أن يكون هاجس المحامي الاكتفاء بتجاوز هاجس عدم قبول الدعوى. وفي هذا السياق لا بد من إعادة النظر في السلطة التقديرية للمحامي في عرض وسائل الدفاع، خاصة عندما يتعلق الأمر بترك وسيلة دفاع قوية يقترحها المتقاضي واختيار وسيلة أخرى غير مجدية.
وينصب المطلب الثاني على مراجعة المادة 72 من المشروع المنسوب إلى الجمعية. فإن كان المحامون يسعون إلى تعزيز وضعهم الاعتباري، فعلى الأقل ينبغي إخراج شكاية المتقاضي ضد دفاعه من الإضافة التي أدرجها المشروع في باب حصانة الدفاع. كما أنه من باب مراعاة الوضعية التي يكون عليها المتقاضي لا بد من تدقيق “السب والقذف” الممكن صدورهما عنه تجاه محاميه في إطار المادة 70 من المشروع نفسه. وفي السياق نفسه، ينبغي إخراج البحث العلمي والتحقيق الإعلامي حول الحالات الواقعية لتشنج العلاقة بين المتقاضي ودفاعه من المس “بسمعة أو شرف أو كرامة مهنة المحاماة أو مؤسساتها المهنية” الوارد في المادة 71 من المشروع نفسه.
ويرمي المطلب الثالث إلى إعمال “توازن الأسلحة” بين المتقاضي والمحامي. فإذا كان التوجه العام للمحامين هو السعي إلى التقرير الشامل لإلزامية الاستعانة بمحام انطلاقا من تفسير خاص لقانون المحاماة دون مساءلة للانحراف الذي داخله منذ أكثر من سبعين سنة وما ترتب عنه مع الزمن من نتائج بعيدة عن الإنصاف، وتحصين المحامي ضد المتقاضي الذي هو أصلا في علاقة غير متكافئة مع المحامي، ومن دون تأصيل فقهي للإلزامية؛ فلا ينبغي أن ينظر باستغراب إلى المتقاضي الذي يطالب المحامي بتحقيق نتيجة لا ببذل عناية فقط. وإن بدا هذا المطلب متطرفا، فالسعي إلى تقرير إلزامية الاستعانة بمحام لا يقل تطرفا عنه؛ وإن حاول الرافضون له الاستعانة بالتأصيل الفقهي لدفعه، فليؤصلوا فقهيا وحقوقيا لإسقاط حق المتقاضي في التمثيل الذاتي من لائحة حقوق الإنسان.
يشهد المغرب منذ مدة احتدام النقاش حول مشروع القانون رقم 02.23 المتعلق بالمسطرة المدنية. ومن بين النقط المثيرة للجدل مسألة إلزامية الاستعانة بمحام، والتي صرح وزير العدل عبد اللطيف وهبي في شأنها بأن جمعية هيئات المحامين (الجمعية في ما بعد) تمسكت “بأن جميع المساطر يجب أن تكون مكتوبة بواسطة محام” (تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان حول مشروع قانون رقم 02.23 يتعلق بالمسطرة المدنية، الجزء الأول، ص 192)، مما يعني أن الجمعية تشترط أن يكون المتقاضي ملزما بالاستعانة بمحام لكي يتمكن من ممارسة حقه في التقاضي.
وقد راجت دراسات وفيديوهات لمحامين لتبرير هذه الإلزامية، كما تداولت مواقع إلكترونية رفض مواطنين لهذه الإلزامية ومطالبتهم بتمكين المواطن من التقاضي بنفسه دون الاستعانة بمحام.
ولا نخفي صدمتنا من موقف المحامين المتصلب من إلزامية الاستعانة بمحام، وهم المفترض فيهم الدفاع عن الحقوق التي من بينها الحق في التمثيل الذاتي “L’autoreprésentation”.
ومما يزيد من إضعاف هذا الموقف غياب الرد العلمي للمحامين -حسب بحثنا المتواضع على الشبكة العنكبوتية- على دراسة المستشار القانوني جعفر حسون الموسومة بـ “تأصيل الحكم وتفصيل القول في مسألة إلزامية الاستعانة بمحام” (هسبريس، الأحد 26 يوليوز 2020).
ففي هذه الدراسة الصادرة منذ حوالي أربع سنوات، والتي يمكن اعتبارها النسخة المغربية لتأصيل حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، نفي صفة القاعدة أو المبدأ المطرد عن إلزامية الاستعانة بمحام، وأن هذه الأخيرة استثناء من الأصل الذي هو ممارسة ومباشرة صاحب الحق للتقاضي؛ وأن الإعفاء منها رجوع إلى الأصل ورد للأمور إلى نصابها.
وتأتي محاولتنا هذه لبيان مجانبة تقرير إلزامية الاستعانة بمحام للصواب. وهكذا سنوضح في محور أول افتقاد هذه الإلزامية لمبررها واقعيا من خلال رصد تجليات خطورتها، وفي محور ثان افتقادها لمبررها النظري عبر رد بعض الأفكار المؤسسة لها، لنخلص في محور أخير إلى ضرورة إعادة الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي من خلال توسيع مشمولات هذا الحق أكثر مما هي عليه حاليا.
– أولا: خطورة إلزامية الاستعانة بمحام
بالإضافة إلى مصادرة حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، تتجسد خطورة إلزامية الاستعانة بمحام في ما يلي:
– إثقال كاهل المتقاضي والميزانية العامة ماديا؛
– إخضاع المتقاضي لاستبداد المحامي بالرأي؛
– تحميل المتقاضي أخطاء المحامي؛
– ارتهان المتقاضي بالملفات المطلبية للمحامين؛
– ضرب حق التقاضي؛
– تهديد المتقاضي بالقانون الجنائي.
1) إثقال كاهل المتقاضي والميزانية العامة ماديا
إذا كانت المقتضيات القانونية الجاري بها العمل تزاوج بين إلزامية الاستعانة بمحام وبين عدم هذه الإلزامية، فإن الاتجاه إلى إقرار هذه الإلزامية بشكل مطلق سيجعلها تطال قضايا بسيطة يستطيع المتقاضي حاليا مباشرة مساطرها بنفسه دون حاجة إلى محام. فعلى سبيل المثال يكفي للحصول على حكم في بعض قضايا الحالة المدنية كتابة طلب معزز بوثائق وأداء رسم 50 درهما. وفي حالة سير المشرع وراء إلزامية الاستعانة بمحام سيجد المتقاضي نفسه أمام أتعاب المحامي التي لن تكون في حدود 50 درهما. فهل يمكن القبول بهذا العسر؟
وفي حالة ما إذا كان المتقاضي معسرا، فإن أتعاب المحامي في إطار المساعدة القضائية هي 2500 درهم في القضايا المعروضة على المحكمة الابتدائية و3000 درهم في القضايا المعروضة على محاكم الاستئناف و3500 درهم في القضايا المعروضة على محكمة النقض. ومن المحتمل ارتفاع هذه المبالغ مستقبلا نظرا لأن بعض المحامين يرون أنها هزيلة (معاذ فخصي، “تنصيب المحامي بين واقع الحال ومشاريع المآل دراسة في ضوء مسودات مشاريع قانون المسطرة المدنية ومهنة المحاماة واستعمال الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية”، 20 يونيو 2020، https://www.aljami3a.com/). فهل من الصواب إثقال الميزانية العامة بمبالغ مالية لتغطية قضايا بسيطة؟
ثم إذا كان من المتوقع أن يحجم شخص عن التقاضي مستقبلا في حالة إقرار الغرامات التي يتضمنها مشروع قانون المسطرة المدنية، فإن اللجوء إلى القضاء في مادة الحالة المدنية لا مفر منه؛ وبالتالي فأتعاب المحامي ستحل محل الغرامات الواردة في مشروع المسطرة المدنية والتي اعتبرها المحامون ضربا لحق التقاضي.
2) إخضاع المتقاضي لاستبداد المحامي بالرأي
يطرح بحدة أحيانا مشكل اختلاف وجهات النظر بين الموكل والمحامي في طرق عرض وسائل الدفاع. فهل سيقبل المحامي مجاراة وجهة نظر موكله متى كانت صائبة أم سيصر على رؤيته وإن كانت خاطئة؟ ولنتصور مثلا حالة الأستاذ الجامعي في مادة المسطرة المدنية الذي يجد نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى المحامي، وهو الذي أطر بحوث الدكتوراه لكثير من الطلبة من بينهم محامون، فكيف سيتصرف إذا اختلف مع المحامي في وجهات النظر؟ وقس على ذلك أيضا المستشار القانوني الذي يحاجج محاميا علميا على المنابر الإعلامية. لا، بل إن الأمر يشمل أيضا البعض ممن لا يتوفرون على شهادات عليا في المجال القانوني، ولكنهم اكتسبوا الخبرة العملية بحكم تجاربهم. فهل نحرم كل هؤلاء من الحق في التمثيل الذاتي؟ وهل من الأفضل منح المتقاضي حق الدفاع عن نفسه أم إجباره على الالتجاء إلى المحامي؟ وطرح مثل هذه الأسئلة لا ينبغي أن يثير الاستغراب متى استحضرنا على سبيل المثال أن المواطنين الفرنسيين مدعوون للمشاركة في هيئة المحلفين بمحكمة الجنايات بفرنسا للنطق بأحكام قد تصل إلى السجن المؤبد، ولا يشترط فيهم حيازتهم لشهادات عليا في القانون. والمغرب بدوره كان يعمل إلى حدود سنة 1974 بهذا الإجراء الذي سجل النقيب عبد الرحمن بنعمرو أهميته (“بصدد مشروع تعديل بعض فصول قانون المسطرة الجنائية”، صورة رقمية لأعداد من جريدة الطريق لسنة 1991). وأيهما أخطر: المشاركة في إصدار حكم جنائي أم ممارسة المتقاضي لحقه في التمثيل الذاتي؟
3) تحميل المتقاضي أخطاء المحامي
يحفل الواقع بأمثلة لأخطاء المحامي التي يتحمل عواقبها المتقاضي. وفي هذا السياق عبر وزير العدل بمناسبة مناقشة مجلس النواب لمشروع قانون المسطرة المدنية عن قلقه بسبب كثرة قرارات محكمة النقض حول عدم قبول الدعوى الذي يتحمل مسؤوليته المحامي لا المتقاضي.
وقريبا من هذا المعطى، يتضح من قرار لمحكمة النقض أن متقاضيا خسر الدعوى بسبب عدم توقيع دفاعه للمقال الاستئنافي. فما ذنب المتقاضي؟
وبعيدا عن هذه المعطيات التي عرفت طريقها إلى العلن، يمكن الاستئناس بالحالات التي تبقى حبيسة المحادثات بين المتقاضين وأقربائهم وأصدقائهم. فعلى سبيل المثال خسر أحد الأصدقاء الدعوى لاعتبارات شكلية لم ينتبه إليها دفاعه. كما أن دفاع صديق آخر لم ينبس ببنت شفة في جلسة البحث، بعلة أنه قضى فترة التمرين بمكتب محامي الخصم. فهل هذا عرف مهني؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما ذنب المتقاضي أن يكون ضحية للأعراف السائدة بين المحامين؟
وأيهما أهون: خسارة الدعوى بسبب خطأ المحامي أم خسارتها بسبب اختيار المتقاضي الدفاع عن نفسه دون الاستعانة بمحام؟ لا شك أن الحالة الثانية هي الأقل ضررا، لأن المتقاضي سيوفر أتعاب المحامي. وأكثر من ذلك فإنها قد تعود بالنفع على المتقاضي لأنه سيستفيد من تمرين معرفي قد يفيده في المستقبل. وفي طليعة المستفيدين من هذا التمرين المعرفي خريجو كليات الحقوق الذين تحول قلة ذات اليد بينهم وبين الترشيح لمباريات المحاماة، نظرا لارتفاع واجب الانخراط في جداول هيئات المحامين بالمغرب بأضعاف عما هو عليه في بلدان أخرى حيث، على سبيل المثال، لا يتجاوز 800 أورو في فرنسا و500 أورو في إسبانيا.
نعم، بإمكان المتقاضي الاحتجاج على المحامي ومقاضاته. لكن كم سيكلف ذلك ماديا ومعنويا؟ وهل بإمكان المتقاضي الذي لا يتجاوز دخله 5000 درهم شهريا أن يخوض غمار معارك إضافية مع المحامي، وهو الذي لم يكفه دخله للتغلب على تكاليف دعواه الأصلية؟ وحتى إذا تجاوز مشكل الإمكانيات المادية، فهل بمقدوره أن يجد محاميا يقبل الدفاع عنه في هذه الحالة؟
4) ارتهان المتقاضي بالملفات المطلبية للمحامين
لعل المثال الأكثر دلالة هو الشكل الاحتجاجي الذي خاضه المحامون لمدة أسبوعين ابتداء من تاريخ 03 أكتوبر 2024، والذي شمل مقاطعة جلسات الجنايات والصناديق ما عدا ما ارتبط بأجل.
وأمام عدم تحقيق مطالبهم، صعد المحامون من وتيرة احتجاجهم من خلال الدخول في إضراب مفتوح تجسد في التوقف الشامل عن ممارسة مهام الدفاع ابتداء من فاتح نونبر 2024. لكن توقف هذا الشكل الاحتجاجي بعد حوالي أسبوعين.
والسؤالان المطروحان هنا:
– هل يمكن تفسير سكوت المتقاضي عن إضراب يتركه رهن الاعتقال أو يفوت عليه أجل الطعن بأنه تضامن مع المحامي في ملفه المطلبي أم بكون المتقاضي في موقف ضعف أمام المحامي؟
– ألا تدعو هذه الأشكال الاحتجاجية إلى إعادة النظر في السعي إلى تقرير إلزامية الاستعانة بمحام؟
5) ضرب حق التقاضي
إن كنا قد طرحنا تساؤلات من قبل حول كيفية تمكن المتقاضي من العثور على محام يقبل تمثيله في مواجهة محام آخر، فإن ما رشح عن مناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب يؤكد أن إلزامية الاستعانة بمحام تضرب في الصميم حق التقاضي الذي يتشبث به المحامون في مواجهة المشروع المذكور.
فالنائبة البرلمانية هند بناني الرطل رقت لحال المتقاضي في مواجهة المحامي في معرض مناقشة المادة 62 من مشروع قانون المسطرة المدنية، وتحدت وزير العدل متسائلة: “وجاوبني كيفاش غادي يدير يغلب هاذ المحامي؟ (…) شكون هاذ المحامي اللي غيترافع ليه باش يتابع محامي آخر؟”.
إنه تحد لم يجب وزير العدل عبد اللطيف وهبي عنه أول الأمر، لكنه لم يجد بدا من تقديم معطيات تفوق هذا التحدي قوة بمناسبة تبرير مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 376 من مشروع قانون المسطرة المدنية، وكثفها في جملة “دابا آش غنديرو لهذا المواطن، نقولو لو يلا عندك دعوة ضد القاضي ولا ضد المحامي سير انتحر، عندنا إشكال، عندنا إشكال كبير”.
وتتمثل هذه المعطيات في:
– عدم استساغة محكمة النقض للدفع الرامي إلى عدم قبول دعوى المتقاضي الذي لم يتوصل بإذن النقيب من أجل مقاضاة محام؛
– اضطرار متقاض لم يتمكن من إيجاد محام لينوب عنه في مواجهة محام آخر بخصوص النزاع حول تحديد الأتعاب إلى تقديم مذكرة حررها محام يزاول المحاماة في مدينة أخرى من دون وضع طابع واسم المحامي، لكن عدم قبول الدعوى كان بالمرصاد لهذه المذكرة؛
– عدم ترتيب الجزاء التأديبي على المحامي المعين في إطار المساعدة القضائية الذي لم يقم بالدفاع عن متقاض؛
– سرد واقعة حدثت منذ حوالي 20 سنة تتعلق بمعاناة متقاض من البحث عن محام ينوب عنه ضد قريب قاضية في ملف كراء، وبترافع 50 محاميا ضده بعد قبول المحامي عبد اللطيف وهبي الترافع لصالحه.
ومؤدى هذه المعطيات التي أدلى بها وزير العدل عبد اللطيف وهبي تحت قبة البرلمان أن شعار “الولوج المستنير إلى العدالة” الذي هو صيغة مهذبة لإلزامية الاستعانة بمحام يجعل حق التقاضي أمام نفق مظلم.
6) تهديد المتقاضي بالقانون الجنائي
يقترح “مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة» المنسوب إلى مكتب الجمعية في المادة 72 اعتبار المشتكي من تصرف المحامي “مرتكبا لجنحة التبليغ عن جرائم وهمية أو لم تقع، ويعاقب بالعقوبات المقررة لها في القانون الجنائي”، وذلك إذا ثبت أن الأفعال المنسوبة إلى المحامي “غير حقيقية أو لا تشكل مخالفة لقانون المهنة وقواعدها، أو للمقتضيات القانونية”. ويمنح المشروع في المادة 73 الحق لهيئة المحامين الانتصاب كطرف مدني في مواجهة المشتكي.
فعلاقة بالنقطة المتعلقة باستبداد المحامي بالرأي، كيف سيثبت المتقاضي أنه أخبر المحامي بوسيلة دفاع ناجعة لم يحبذها المحامي أو بعدم جدوى وسيلة الدفاع التي ارتأى المحامي تقديمها؟ هل سيحضر معه مثلا مفوضا قضائيا لتوثيق ما يروج بينه وبين المحامي؟ والتساؤل هو: ما معنى السعي إلى تقرير إلزامية الاستعانة بمحام، ووضع العراقيل أمام المتقاضي لتقديم شكواه؟
وما يثير الاستغراب هو أن المشروع المنسوب إلى الجمعية لا يجد غضاضة في تحجيم تفكير المتقاضي في التشكي من المحامي، في حين أن المحامين اعترضوا على ما تضمنته المادة 10 من مشروع قانون المسطرة المدنية المؤسسة للحكم بالغرامة على المتقاضي بسوء نية. ويبدو أن هذه المادة أرحم بالمتقاضي مما يعتزم المشروع المنسوب إلى الجمعية إقراره. فعلى الأقل، بالنسبة للمادة المذكورة لا تتجاوز العقوبة الغرامة، في حين أن المشروع المنسوب إلى الجمعية يستنجد بالقانون الجنائي الذي يرتب العقوبة الحبسية والغرامة، ويضيف انتصاب الهيئة كطرف مدني. وهكذا سيكون المتقاضي في مواجهة العقوبة من حبس وغرامة والمطالب المدنية للهيئة. والأطراف من ذلك، إن كان في الأمر ما يدعو إلى الطرافة، أن انتقاد المادة المذكورة يؤسس في جانب منه على أن المتقاضي هو المعني بمقاضاة خصمه الخاسر للدعوى، في حين أن المشروع المنسوب إلى الجمعية لا يكتفي بما يمكن للمحامي القيام به، وإنما يضيف انتصاب هيئة المحامين كطرف مدني. والتساؤل هو: مادام أن هيئة المحامين ستنتصب كطرف مدني، فكيف سيبحث المتقاضي عن محام ليدافع عنه؟ أليس من الأجدر الرجوع إلى الحق الأصيل للمتقاضي في التمثيل الذاتي؟ وما الحاجة إلى هذه المقتضيات الزجرية والمتقاضون في حالات كثيرة، كما أخبر وزير العدل بذلك، لا يقاضون المحامي في حالة الحكم بعدم قبول الدعوى التي هي حالة تجسد خطأ المحامي بشكل واضح؟ وأمام هذا الوضع المريح الذي يوجد فيه المحامون من حيث عدم مقاضاة المتقاضين لهم في أكثر الحالات، أفلا يتسع الصدر لتحمل شكوى المتقاضي من دفاعه؟
نعم، إن هذا المقتضى لا يزال في دائرة الاقتراح ولم يتم تبنيه رسميا من قبل المشرع. ولكن يجب التنبيه إلى خطورته على المتقاضي في حالة إدراجه في قانون المحاماة مستقبلا.
ومن الضروري التنبيه إلى أنه لا ينبغي توسيع حصانة المحامي لتطال المتقاضي الذي يرى بأن محاميه لم يقم بالمطلوب منه على أكمل وجه.
– ثانيا: مناقشة بعض الأفكار المؤسسة لإلزامية الاستعانة بمحام
انبرى محامون إلى تأسيس مطالبتهم بإلزامية الاستعانة بمحام على حجج منها ارتباطها بالنظام العام والتخصص وقانون المحاماة. وسنحاول مناقشة هذه الحجج كما يلي:
1) تبرير إلزامية الاستعانة بمحام بارتباطها بالنظام العام
ارتقى المحامي محمد الهيني (“الهيني يبرز مخاطر مشروع قانون المسطرة المدنية على حق المغاربة في التقاضي”، موقع أشكاين على يوتيوب، 24 يوليوز 2024) بإلزامية الاستعانة بمحام إلى درجة إدراجها ضمن النظام العام. والأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:
– هل “النظام العام” الذي تمسك الهيني به هو نفس “النظام العام” الذي اعتبره مفهوما “زئبقيا” في معرض انتقاده للمادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية؟
– بما أن “النظام العام” كبنيان قانوني وضع حجره الأساس في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789، فهل يمكن تصور أن مرسوم ثاني شتنبر 1790 الذي منع المحامين من تشكيل تنظيمات مهنية ومن حمل بذلة خاصة بهم مخالفا “للنظام العام”؟ وهل كان المحامون الفرنسيون الموافقون على هذا المنع غافلين عن مصادمته “للنظام العام”؟ وهل كان المحامي مكسيميليان دي روبسبيير (Maximilien de Robespierre) (1758-1794) المساهم في وضع الحجر الأساس “للنظام العام” جاهلا بمخالفة نظريته في “الدفاع الطبيعي” أو “الدفاع الحر” (أي دفاع المتقاضي عن نفسه بنفسه) “للنظام العام” في معرض مناقشة التنظيم القضائي الفرنسي يوم 14 دجنبر 1790؟ ألا تشي إشارته إلى اقتناع أعضاء الجمعية الوطنية بفكرة عدم قدرة القانون على منع المواطنين من حرية الدفاع عن قضاياهم بأنفسهم بأن “النظام العام” (الذي هو من بنات أفكار أولئك الأعضاء) بريء مما يتعلق بشؤون المحاماة؟ وهل فرنسا التي يشكل إعلان 1789 جزءا من كتلتها الدستورية في الوقت الراهن مخالفة “للنظام العام” في اعترافها بحق المتقاضي في التمثيل الذاتي؟
– هل الأصوب هو ما ذكره الهيني في أطروحته للدكتوراه الموسومة بـ”رقابة القضاء على أعمال هيئات النوظمة” من كون “الاستعانة بمحام” (وليس إلزاميتها) من حقوق الدفاع ومن استشهاده بما نصت عليه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية عن حق المتهم “في أن يدافع بنفسه عن نفسه، سواء بنفسه أو عن طريق الاستعانة بمدافع من اختياره”، أم تفسيره الحالي لحقوق الدفاع بما يفيد بإلزامية الاستعانة بمحام؟
وبالموازاة مع طرح هذه الأسئلة لا بد من استحضار قرار المجلس الدستوري رقم 943.19 م.د الصادر في 27 رمضان 1435 (25 يوليو 2014). فقد اعتبر هذا القرار أن اشتراط تقديم العرائض أمام المحكمة الدستورية “من طرف محام مسجل في جدول إحدى هيئات المحامين بالمغرب” مخالف للدستور. والسؤال هنا: هل هذا القرار ضد “النظام العام”؟
وفي المادة المدنية، فمن الأهمية بمكان استحضار اكتفاء جعفر حسون في تقرير هذه الإلزامية بالمادة 13 من القانون رقم 53.95 بشأن إحداث المحاكم التجارية والمادة 3 من القانون رقم 90.41 المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية بالمغرب. ومن ثمة، فلا معنى للحديث عن إلزامية الاستعانة بمحام في غير المحاكم الإدارية والتجارية.
وفي المادة الجنائية، فالإلزامية لا ترد في غير الحالات الواردة في المادة 316 من قانون المسطرة الجنائية.
على أن الحديث عن القواعد الآمرة كقواعد من “النظام العام” صدر عن بعض الفقهاء (محمد جلال السعيد، مدخل لدراسة القانون، 1993، توزيع دار الأمان، الرباط، ص 35) لا جميعهم، وأنه ليس من الضروري أن ترتقي كل القواعد الآمرة إلى مصاف قواعد “النظام العام” (عماد طارق البشري، فكرة النظام العام في النظرية والتطبيق دراسة مقارنة بين القوانين الوضعية والفقه الإسلامي، النادي الشبابي، المكتب الإسلامي، 2005، نسخة إلكترونية، ص 99—100) وأن قواعده “تعكس المبادئ العامة أو القيم المقدسة في المجتمع” (م.ج.السعيد). وإذن، هل يمكن تصور ارتقاء إلزامية الاستعانة بمحام إلى مصاف هذه القيم المقدسة؟
2) تبرير إلزامية الاستعانة بمحام بالتخصص
من بين ما يبرر به المحامي معاذ فخصي للقول بهذه الإلزامية تخصص المحامي في مجال العدالة (سبقت الإشارة إلى دراسته الموسومة بـ “تنصيب المحامي بين واقع الحال ومشاريع المآل…”). ولكن نرى أن هذا الدفع بالتخصص يستقيم لمنع غير المحامين من ممارسة مهنة المحاماة، وليس لمنع المتقاضي من الدفاع عن نفسه.
يضاف إلى ذلك أن المحامي ليس هو وحده المختص في مجال العدالة، بل يشاركه في هذا الاختصاص خريجو الدراسات القانونية بشكل عام. فعلى سبيل المثال تصعب المنازعة في قدرة الأستاذ الجامعي في مادة المسطرة المدنية على مباشرة الإجراءات المسطرية بنفسه. وأكثر من ذلك، ذكر أستاذ جامعي أنه قدم استشارة علمية حول ملف قضائي. فهل تقصى مثل هذه الكفاءات من التمثيل الذاتي؟
وأكثر من ذلك، فالتشبث بفكرة التخصص يطرح إشكالا بالنسبة للمحامي نفسه. فمثلا كيف يقبل المحامي المساواة في مجال التقاضي المدني بين محام حائز على شهادة الدكتوراه في القانون المدني وبين محام حائز على شهادة الإجازة في القانون العام، وكيف يرضى بالمساواة في مجال التقاضي الإداري بين محام حائز على شهادة الدكتوراه في القانون الإداري وبين محام حائز على شهادة الإجازة في القانون الخاص، ولا يتعامل بنفس المقياس مع غير المحامين من خريجي الدراسات القانونية؟
ثم إن المطلوب عدم إحاطة تخصص المحامي المتخذ كذريعة لمنع المتقاضي من التمثيل الذاتي بهالة من التقديس تخفي مرتبة الدراسات القانونية كفرع من العلوم الاجتماعية التي لا ترقى من حيث الدقة إلى مصاف العلوم الحقة التي تشكو من أزمة اليقين. ومن ثمة لا يمكن النظر إلى قول المتخصص في أي مجال بأنه الحقيقة المطلقة. ولعل المثال القريب منا الاختلاف حول تدابير التصدي لجائحة كورونا بمناسبة محاولة فرض جواز التلقيح الذي رفضه المحامون. فهل سيفرض جواز من نوع آخر على المتقاضي بدعوى التخصص؟
3) تبرير إلزامية الاستعانة بمحام بقانون المحاماة
يحظى الرأي المستند إلى قانون المحاماة للتقرير في مدى إلزامية الاستعانة بمحام بانتشار واسع. وكمعبر عن هذا الرأي المحامي خالد خالص الذي أبدى أسفه على عرض مشروع قانون المسطرة المدنية الذي هو “قانون عام” قبل عرض قانون المحاماة الذي هو “قانون خاص”، لأن “المتعارف عليه تشريعيا” هو أن قانون المحاماة هو المنوط به تقرير “متى يكون المحامي إجباريا، ومتى يكون اختياريا”.
يبدو أن هذه الأفكار ارتقت إلى مصاف البديهيات التي لا تحتاج إلى إثبات. ومع ذلك نرى أنه حان الوقت لإعادة النظر فيها، لأنها تأسست على أسس بعيدة عن الإنصاف والمنطق. والكشف عن هذه الأسس يفرض الرجوع إلى التطور التاريخي لعلاقة قانون المحاماة بتنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، حتى إذا اتضحت معالم هذا التطور تيسر عرض نتائجه وبيان مجانبة تلك الأفكار للصواب.
أ- قصة تدخل قانون المحاماة في تنظيم حق التمثيل الذاتي
إن قانون المحاماة لم يكن له وجود مستقل ضمن الترسانة القانونية التي وضعتها الحماية الفرنسية في المنطقة الخاضعة لنفوذها باللغة الفرنسية سنة 1913، وقانون المسطرة المدنية هو الذي نظم ما يتعلق بـ”المحامين” (Des avocats) في الفصول من 34 إلى 44 (ويمكن أيضا إضافة الفصل 47). أما مسألة “إجبارية أو اختيارية المحامي” فلا أثر لها في هذه الفصول.
وعندما استقلت مهنة المحاماة بقانون خاص بها (بعد أن كانت تصدر من حين لآخر مقتضيات منظمة لهيئات المحامين ببعض المدن المغربية)، مع الظهير الصادر باللغة الفرنسية بتاريخ 10 يناير 1924 (2 جمادى الثانية 1342) المتعلق بـ” L’organisation du barreau et l’exercice de la profession d’avocat” (“تنظيم سلك المحامين وتعاطي مهنة المحاماة” حسب الصيغة العربية الموضوعة سنة 1954)؛ لم يقترب هذا الظهير من مسألة “إجبارية أو اختيارية المحامي”، على غرار قانون المحاماة الفرنسي لسنة 1920 الذي كان خاليا من تنظيم هذه المسألة.
ويمكن تفسير هذا الاتجاه بمحاولة الحماية الفرنسية مراعاة الأصول المرعية قضائيا في فرنسا بحكم أن المحاكم الفرنسية المحدثة بالمغرب كانت مختصة أساسا بالفصل في القضايا التي أحد أطرافها فرنسي أو من الرعايا الفرنسيين.
واستمر الأمر على هذا المنوال إلى سنة 1950 ليخطو قانون المحاماة خطوته الأولى في تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي. فمع ظهير 30 ربيع الثاني 1369 الموافق 18 فبراير 1950 تدخل قانون المحاماة في تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، من خلال اشتراط الفصل 66 في صيغته الجديدة لمتابعة المتقاضي لقضيته في ما يتعلق بالطلبات والمذكرات الدفاعية والتقارير أهليته لذلك وترخيص رئيس المحكمة. وعمل ظهير 23 رجب 1373 الموافق 29 مارس 1954 على تفصيل ما أسس له ظهير 1950.
وقد تم التعديل على الرغم من اعتبار المشرع أن ظهير 1924 (أي قانون المحاماة) “يتمم قانون المرافعات [أي قانون المسطرة المدنية] في ما يخص تمثيل المتداعين أمام المحاكم” (الجريدة الرسمية عدد 2163 بتاريخ 5 شعبان 1373 (9 أبريل 1954)، ص 1063)، بما يعنيه ذلك من أن قانون المحاماة ليس هو الأصل في تقرير “متى يكون المحامي إجباريا، ومتى يكون اختياريا”.
وقد تم تبرير هذا التعديل بـ”أن الحرية التي أعطيت للمتداعين يستعملها هؤلاء في أغلب الأحيان بكيفية تضر بهم في الدفاع عن مصالحهم كما تضر بحركة تسيير العدلية على الوجه اللائق بها” (نفس الجريدة الرسمية المشار إليها، ص 1064)، أي ما يعبر عنه اليوم ب”الولوج المستنير إلى العدالة”.
ويبقى الباب مفتوحا أمام الباحثين مستقبلا لتمحيص مدى جدية التبرير الذي قدمه تعديل 1950 /1954 على ضوء واقع التقاضي آنذاك، ومدى ارتباط هذا التعديل بالأحداث السياسية التي اتسمت باشتداد عود المقاومة المغربية ضد فرنسا.
وبعد الاستقلال استمر قانون المحاماة في تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي من حيث منح المتقاضي ذي الكفاءة إمكانية التقاضي بنفسه بصدد المسطرة الكتابية تحت رقابة رئيس المحكمة الذي أصبحت له صلاحية سحب الإذن في أي وقت، وذلك مع الظهير الشريف رقم 1.59.102 بشأن تنظيم هيئات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة الصادر بتاريخ 10 ذو القعدة 1378 موافق 18 مايو 1959 (الفصل 33). واستمر الأمر على هذا المنوال مع المرسوم الملكي بمثابة قانون رقم 816.65 بتاريخ 28 رمضان 1388 (19 دجنبر 1968) تنظم بموجبه نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة (الفصل 33)، والقانون رقم 19.79 الذي تنظم بموجبه نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة (الفصل 34).
وتأتي الخطوة الثانية مع الظهير الشريف رقم 1.93.162 الصادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) المعتبر بمثابة قانون يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة، والذي سمح للمتقاضي بتقديم المقالات والمستنتجات والمذكرات الدفاعية في المرحلة الابتدائية في حالة عدم وجود عدد كاف من المحامين في دائرة نفوذ المحكمة (المادة 32). وهكذا تم الانتقال من وضع يقر بحق التمثيل الذاتي بالرغم من العمل على تقييده إلى وضع آخر لم يعد ممكنا الحديث فيه عن حق التمثيل الذاتي وإنما عن آلية تسد النقص في عدد المحامين.
كيف يمكن تفسير هذا الانتقال؟
يحتفظ الموقع الإلكتروني “مغرس” بمقال منشور على جريدة “العلم” بتاريخ 17 دجنبر 2008 يفيد بأن مشروع جمعية هيئات المحامين الموضوع سنة 1987 كان هو الأساس لما تضمنه ظهير 1993. إلا أنه تعذر علينا العثور على هذا المشروع، ومن ثمة لم نتمكن من معرفة إن كان الشرط الجديد المتعلق بالنقص في عدد المحامين واردا أو غير وارد في هذا المشروع.
وأيا كان الأمر، فمن المعروف أن عقد التسعينيات من القرن الماضي عرف اصطفاف قطاع واسع من المحامين إلى جانب المعارضة السياسية تجلى مثلا في دلالة انتصاب 1200 محام لمؤازرة محمد نوبير الأموي ضد الحكومة المغربية، مما أدى إلى تعزيز موقع المحامين كجماعة ضغط على المستويين المهني والسياسي.
وتأتي الخطوة الثالثة مع القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، والذي لم يتضمن الإشارة إلى ممارسة المتقاضي بنفسه لإجراءات التقاضي، كما أضاف مقتضى جديدا ضمن بالمادة 31.
نعم، من الممكن تفسير غياب تلك الإشارة بتوفر الأعداد الكافية من المحامين بمختلف دوائر نفوذ المحاكم بعد مرور حوالي 15 سنة على صدور ظهير 1993، وإن كان الأمر يحتاج إلى بيانات إحصائية تؤكد وفرة أعداد المحامين. ولكن الجديد الذي أتى به القانون رقم 28.08 يؤكد اتجاه قطاع وازن من المحامين إلى قطع دابر حق التمثيل الذاتي من خلال محاولة تفسيره في اتجاه تقرير إلزامية الاستعانة بمحام.
والربط بين هذا القانون والبصمة القوية للمحامين عليه ليس من باب إطلاق الكلام على عواهنه. فأصل هذا القانون مسودة أعدها وزير العدل محمد بوزوبع (وقد كان محاميا) لم تحولها الحكومة إلى مشروع قانون، ليتكفل بعد ذلك الفريق الاشتراكي بتقديمها على شكل مقترح قانون تم العمل على تعبيد الطريق أمامه بتوسل مباركة جميع المحامين أعضاء مجلس النواب له وإقناع الحكومة بعدم الاعتراض عليه. وهذا ما يستفاد مما ذكره المحامي عبد الكبير طبيح (“مجال مهام المحامي بين قانون المهنة والقوانين التي صدرت بعد دستور 2011″، الموقع الإلكتروني أنوار بريس، 25 نوفمبر 2023)
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فـ”مشروع القانون المنظم لمهنة المحاماة” المنسوب إلى مكتب الجمعية والصادر سنة 2019 يضيف في المادة 36 منه الإدارات والجمعيات “وغيرها” إلى القائمة الواردة في المادة 31 الحالية، لتصبح الصيغة المقترحة كما يلي: “لا يسوغ أن يمثل الأشخاص الذاتيون والمعنويون والإدارات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والشركات، والجمعيات وغيرها، أو يؤازروا أمام القضاء إلا بواسطة محام”. كما رتبت المادة 37 من المشروع عدم قبول الدعوى كجزاء، في اتجاه جديد لم تعرفه مختلف القوانين التي توالت لتنظيم مهنة المحاماة بالمغرب، عن تقديم المقالات والمستنتجات والمذكرات الدفاعية من قبل غير المحامين المغاربة والمحامين الأجانب المأذون لهم بالترافع بالمغرب.
بعد هذا السرد التاريخي الذي لم نجد بدا من عرضه على الرغم من طوله، ننتقل إلى عرض النتائج الخطيرة التي تمخض عنها تطاول قانون المحاماة على تنظيم حق المتقاضي في التمثيل الذاتي.
ب- نتائج تدخل قانون المحاماة في تنظيم التمثيل الذاتي
تتمثل النتيجة الأولى في إدخال انحراف جعل قانون المحاماة يتجاوز تنظيم المهنة إلى التقرير في حق المتقاضي. وهكذا امتد قانون المحاماة إلى تنظيم ما لا ينبغي له تنظيمه، في مخالفة لما عليه الحال في بلدان سبقت المغرب إلى التنظيم الحديث لشؤون القضاء مثل فرنسا التي لا يقترب فيها التشريع الخاص بالمحاماة من حق المتقاضي في التمثيل الذاتي.
النتيجة الثانية هي فتح الباب أمام انحراف أكثر خطورة من انحراف 1950/1954 اتسعت هوته مع الزمن، وأدى إلى استئساد قانون المحاماة على حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، حتى أقبر هذا الحق وعوض بالمادة 31 التي أراد لها بعض المحامين تفسيرا وحيدا يتجلى في حق المحامي في إلزام المتقاضي بالاستعانة به. ولعل المثال الواضح لهذا التفسير رأي النقيب حسن بيراوين الذي استند إلى هذه المادة للقول بالنيابة القانونية الإلزامية للمحامي، والذي اعتبر أنها أقوى دلالة من المادة 32 في تقرير هذه النيابة (“النيابة القانونية الإلزامية للمحامي”، هسبريس، 10 يونيو 2020). وتتجلى أهمية ودلالة رأي النقيب بيراوين متى استحضرنا أن حديثه كان باسم هيئة المحامين بالدار البيضاء، وما تفيده صفة النقيب من مزاولة حاملها للمحاماة لفترة تمتد إلى ما قبل سنة 2008، وما تفترضه بالتالي من اطلاعه على الهموم التي كانت حاضرة عند المحامين الداعمين لمسودة وزير العدل محمد بوزوبع.
والنتيجة الثالثة هي السعي إلى إقبار حق التمثيل الذاتي تحت ذريعة أولوية تطبيق قانون المحاماة كـ”قانون خاص” على تطبيق قانون المسطرة المدنية كـ”قانون عام”.
والنتيجة الرابعة هي أن الاستناد إلى قانون المحاماة يستهدف حصر النقاش في دائرة ضيقة لا تستحضر النماذج التشريعية المبقية على حق التمثيل الذاتي في البلدان التي سبقت المغرب إلى تحديث مرفق العدالة والتي لا يمكن الطعن فيها بمبرر انتهاكها لحقوق التقاضي والدفاع، وذلك بخلاف عادة المحامين في استحضار هذه التجارب بمناسبة مناقشة مواضيع أخرى.
إنها نتائج واضحة، لكن يتعين الوقوف بصفة خاصة عند النتيجتين الثانية والثالثة.
فبالنسبة للنتيجة الثانية، فصياغة المادة 31 التي تنص على أنه “لا يسوغ أن يمثل الأشخاص الذاتيون والمعنويون والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والشركات، أو يؤازروا أمام القضاء إلا بواسطة محام، ما عدا إذا تعلق الأمر بالدولة والإدارات العمومية تكون نيابة المحامي أمرا اختياريا” تبدو ملتبسة. ذلك أن القول إن “نيابة المحامي أمرا اختياريا” بالنسبة للدولة والإدارات العمومية قد يفيد ضمنيا إلزامية استعانة المتقاضين من غير الدولة والإدارات العمومية بمحام، ومن هنا يمكن فهم تشبث البعض بالمادة 31 كأساس لتلك الإلزامية.
ونفتح قوسين لنتساءل عما إذا كان تحفظ الحكومة على مسودة وزير العدل محمد بوزوبع يشمل أيضا المادة 31، وعما إذا كان قصد واضعي هذه المادة بالصيغة المذكورة منصرفا آنذاك إلى جعلها تنفذ إلى تقرير الإلزامية. وهذا ما لا نجد له إشارة إليه في عرض عبد الكبير طبيح لملابسات خروج القانون رقم 28.08 إلى حيز الوجود.
ويفند جعفر حسون تأسيس “إلزامية توكيل محام مطلقا” على المادة 31. ذلك أن هذه الأخيرة تتعلق فقط بـ”حصر مهام وصلاحية تمثيل الأطراف في محام يحمل هذه الصفة قانونا”، أي بمبدأ “احتكار مهنة تمثيل الأطراف أمام القضاء” أو بـ”استبعاد أي مهنة أخرى من ادعاء هذه الصلاحية”. ويضيف معطى آخر يستبعد حسب فهمنا تفسير البعض للمادة 32 بتلازم المسطرة الكتابية بإلزامية الاستعانة بمحام، وذلك من خلال تقريره أن المادة 32 تحمي مبدأ احتكار تمثيل المهنة أمام القضاء “إقليميا وقطريا بتقييد ممارسة المحامين الأجانب بشروط وإجراءات خاصة”. وينبه إلى دلالة عبارة “مهام المهنة” كعنوان للفرع الثاني (المشتمل على المواد من 30 إلى 34) من الباب الثالث من القانون رقم 28.08.
والمستفاد مما ذكره جعفر حسون خطأ فكرة اختصاص قانون المحاماة بالتقرير في مدى إلزامية الاستعانة بمحام.
وبالنسبة للنتيجة الثالثة التي مؤداها الاستناد إلى قانون المحاماة في تقرير “إجبارية أو اختيارية المحامي” انطلاقا من تطبيق قاعدة أولوية النص الخاص على النص العام، فـ”القانون الخاص” أي قانون المحاماة لا يحق له التقرير في إباحة أو منع المتقاضي من التمثيل الذاتي. كما أنه، مع ما سبق بيانه من رأي جعفر حسون، لا يتعلق بتقرير “إجبارية أو اختيارية المحامي”.
وحتى إذا فسرت المادتان 31 و32 بما يفيد تنظيم التمثيل الذاتي إطلاقا أو تقييدا، فإن الحذر مطلوب في استعمال قاعدة أولوية النص الخاص على النص العام. فمن خلال بحث أولي عن هذه القاعدة عبر الشبكة العنكبوتية، وجدنا تسجيل ندرة المراجع المتخصصة (وليس العامة) التي اتخذت هذه القاعدة موضوعا لها في الفقه الفرنسي، والتحذير من مغبة استسهال التعامل معها، ووضع قرارات لمحكمة النقض الفرنسية تحت المجهر في هذا المضمار (Aurélia Siri, « Des adages Lex posterior derogat priori et Specialia generralibus derogant : Contribution à l’étude des modes de résolution des conflits de normes en droit français» – Christine Desnoyer, « Du bon usage de la règle Specialia generabilus derogant : Le contre-exemple de la jurisprudence relative à l’articulation des articles 1386 et 1384 al. 1 du Code civil»). ويبدو أن الأبحاث الفرنسية قد تعززت، بالإضافة إلى المرجعين المشار إليهما بين القوسين الأخيرين، بصدور كتاب لـ “Léa Lucienne” في السنة الماضية تحت عنوان “Specialia generalibus derogant”. وبالنسبة للمغرب، فقد سبق للصحفي جواد غسال أن ذكر بأن له رأيا خاصا حول هذه القاعدة (“مشروع قانون المسطرة المدنية.. هل يجهز على المحاماة فعلا؟”، الموقع الإلكتروني اليوم 24، 19 نونبر 2014). وبما أنه كان يشغل مهمة المستشار الإعلامي لوزير العدل والحريات مصطفى الرميد، فأغلب الظن أن هذا الأخير اطلع على هذا الرأي الذي ورد في معرض الدفاع عنه ووافق عليه، إن لم يكن قد دققه وصوبه. ونتمنى من المحامي الرميد أن يقدم رأيا علميا حول هذه القاعدة وكيفية إعمالها في ما يتعلق بموضوعنا، خاصة وأنه ذو تكوين يزاوج بين المعرفة القانونية ومعرفة أصول الفقه الإسلامي.
– ثالثا: نحو إعادة الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي
يمكن التوسل في إعادة الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي باستحضار تعامل التجارب الأجنبية مع حق المتقاضي في التمثيل الذاتي لما فيه من إشارة إلى الاعتراف بهذا الحق وعدم القدرة على محوه، والمطالبة بمراجعة مضامينه عندنا بعدما تم تقزيمه بشكل ملحوظ.
1) حق المتقاضي في التمثيل الذاتي في بعض التجارب الأجنبية
في منطقة المغرب الكبير، يبقى للمتقاضي الموريتاني حقه في التمثيل الذاتي في غير المحاكم التي تستلزم وجوب توكيل المحامي. وللمتقاضي الجزائري الحق في تقديم المقال بنفسه أو بواسطة وكيله أو محاميه. وللمتقاضي الليبي رفع الدعوى بناء على طلبه، ما لم يقض القانون بخلاف ذلك، كما له الحضور بنفسه أو توكيل محام عنه أو إنابة أقربائه وأصهاره إلى الدرجة الثالثة. وللمتقاضي التونسي عدم تنصيب المحامي في مجال الأحوال الشخصية، وهذا بخلاف ما ذهب إليه معاذ فخصي الذي اكتفى بقانون المحاماة التونسي كتشريع مقارن لتبرير مطالبته بإلزامية المحامي في كل القضايا، ولم يستحضر قانون المسطرة المدنية التونسي.
وفي منطقة الشرق الأوسط، فللمتقاضي السعودي حق الترافع عن نفسه.
وفي الدول الأوروبية، اتجهت فرنسا، مع التعديل المدخل على قانون المسطرة المدنية الفرنسية سنة 2019 إلى القطع مع معيار لا يزال يتردد بقوة في المغرب على الرغم من أن مشروع قانون المسطرة المدنية يراد له أن يكون تشريعا صالحا للخمسين سنة المقبلة، وهو معيار تلازم المسطرة الكتابية مع إلزامية الاستعانة بمحام وارتباط المسطرة الشفوية بعدم هذه الإلزامية؛ ووضعت معيارا آخر بمقتضاه يحق للمتقاضي الاستغناء عن الاستعانة بمحام متى قلت القيمة المالية للنزاع عن مبلغ 10 000 أورو ( Charles Simon, «Identifier les nouveaux cas de représentation obligatoire», https://www.tendancedroit.fr/wp-content/uploads/2021 ). وبدوره يجد المتقاضي الألماني نفسه معفى من الاستعانة بمحام متى لم تتجاوز القيمة المالية للنزاع مبلغ 5 000 أورو.
وفي كندا، ليس بمستغرب أن نجد دليلا رقميا متاحا على الشبكة العنكبوتية لفائدة الأشخاص غير الممثلين بمحامين من قبيل «Répondre aux besoins des PNRA dans le système canadien de justice ».
وإذن، وباستحضار هذه النماذج المقارنة التي منها من يمتد التاريخ الحديث للمحاماة بها إلى ما يفوق تاريخ المحاماة عندنا، يتضح أن حق التمثيل الذاتي لا يزال يحتفظ براهنيته، وإن اختلفت درجة حضوره من دولة إلى أخرى؛ وأن تقرير إلزامية الاستعانة بمحام سيكون مسلكا غير محمود، خاصة مع اعتبار المشاكل المثارة في المحور الأول، والتي تحتل العلاقة غير المتكافئة بين المتقاضي وبين المحامي حيزا كبيرا منها.
ولا نخفي أن استدعاء التجارب المقارنة يفيد أيضا في التنبيه إلى عدم صحة إلزامية الاستعانة بمحام، وفي مراجعة منطق الاتجاه نحو الاستثناء الذي يراد تثبيته بصدد هذه الإلزامية في المغرب بخلاف دول أخرى.
2) ضرورة ترسيخ حق التمثيل الذاتي وبتوسيع مشمولاته.
سيلاحظ القارئ عن حق انصراف محاولتنا عن تأطير وتأصيل حق المتقاضي في التمثيل الذاتي، واهتمامها بالمقابل بإبراز خطورة إلزامية الاستعانة بمحام ومناقشة بعض الآراء المنادية بهذه الإلزامية. والعذر هو سبق من يملك دراية فقهية وتجربة قانونية إلى الخوض في تأصيل هذا الحق.
حقا، إن الرأي الذي صدح به جعفر حسون في جو مشحون ابتعدت فيه المطالبة بإلزامية الاستعانة بمحام عن جادة التأصيل الفقهي لهو جدير بالاعتبار والدارسة من قبل المهتمين بالشأن القانوني. ونتمنى أن ينكب عليه المحامون من أجل تقييمه إيجابا أو سلبا.
وحسبنا من رأي جعفر حسون تأكيده أن حق التقاضي هو “حق ذاتي أصيل للفرد ذاته”، وأن “الأصل في التقاضي أن يمارس ويباشر من صاحب الحق والمصلحة فيه، وأن وضع المحامي هو وضع وكيل عن صاحب الحق الأصلي ومتكلم باسمه”.
وانطلاقا من هذا التأصيل، واستحضارا لمجمل العناصر التي أوردنا، نطرح الأفكار الآتية:
– ضرورة تكريس وترسيخ حق المتقاضي في التمثيل الذاتي في قانوني المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية؛
– ضرورة توسيع مشمولات حق المتقاضي في التمثيل الذاتي من حيث الامتداد إلى المسطرة الكتابية وليس فقط الاقتصار على المسطرة الشفوية؛
– استحضار الاتجاه خارج المغرب إلى القطع مع التمييز بين المسطرة الشفوية والمسطرة الكتابية؛
– ضرورة إعادة صياغة المواد 30 و31 و32 من القانون رقم 28.08 في اتجاه القطع مع التفسير الذي يروم مصادرة حق المتقاضي في التمثيل الذاتي.
وعلى اعتبار السعي الحثيث وراء إلزامية تنصيب المحامي من دون اعتبار للحق الأصيل للمتقاضي في التمثيل الذاتي ومن دون استحضار للانحراف الموروث عن الحماية الفرنسية وتبعاته، ومع محاولة تسييج “الحقوق المكتسبة” للمحامين بأكثر مما تتضمنه القانون 28.08 من قبيل اقتراح ترتيب عدم قبول الدعوى في حالة عدم تنصيب المحامي و جزاءات جنائية في حالة عدم قدرة المتقاضي على إثبات عدم قيام المحامي بتمثيله على أحسن وجه، وتقديم تبرير مفاده خسران المتقاضين لدعاواهم في حالة تقاضيهم من دون محام، فلا يمكن أن ينتج ذلك إلا مطالب مشروعة.
وأول هذه المطالب مراجعة السلطة التقديرية للمحامي في عرض وسائل الدفاع. فإذا كان وزير العدل قد أعرب عن ضجره من كثرة الأحكام الواردة على محكمة النقض والمتعلقة بعدم قبول الدعوى، فمن الأهمية بمكان اتخاذ هذا المعطى كمؤشر على أن المحامي معرض للخطأ في عرض وسائل الدفاع أكثر مما هو معرض له من أخطاء مؤداها عدم قبول الدعوى. وفي هذا السياق ينبغي إعادة النظر في تعبير وزير العدل في بيان مسؤولية المحامي بقوله “ايلا حكم برفض الطلب ما عندي مشكل، دافعت عليك وما قنعتش القاضي، أما عدم القبول، سوء تسيير المحامي لملف موكله”، لأنه من غير المقبول أن يكون هاجس المحامي الاكتفاء بتجاوز هاجس عدم قبول الدعوى. وفي هذا السياق لا بد من إعادة النظر في السلطة التقديرية للمحامي في عرض وسائل الدفاع، خاصة عندما يتعلق الأمر بترك وسيلة دفاع قوية يقترحها المتقاضي واختيار وسيلة أخرى غير مجدية.
وينصب المطلب الثاني على مراجعة المادة 72 من المشروع المنسوب إلى الجمعية. فإن كان المحامون يسعون إلى تعزيز وضعهم الاعتباري، فعلى الأقل ينبغي إخراج شكاية المتقاضي ضد دفاعه من الإضافة التي أدرجها المشروع في باب حصانة الدفاع. كما أنه من باب مراعاة الوضعية التي يكون عليها المتقاضي لا بد من تدقيق “السب والقذف” الممكن صدورهما عنه تجاه محاميه في إطار المادة 70 من المشروع نفسه. وفي السياق نفسه، ينبغي إخراج البحث العلمي والتحقيق الإعلامي حول الحالات الواقعية لتشنج العلاقة بين المتقاضي ودفاعه من المس “بسمعة أو شرف أو كرامة مهنة المحاماة أو مؤسساتها المهنية” الوارد في المادة 71 من المشروع نفسه.
ويرمي المطلب الثالث إلى إعمال “توازن الأسلحة” بين المتقاضي والمحامي. فإذا كان التوجه العام للمحامين هو السعي إلى التقرير الشامل لإلزامية الاستعانة بمحام انطلاقا من تفسير خاص لقانون المحاماة دون مساءلة للانحراف الذي داخله منذ أكثر من سبعين سنة وما ترتب عنه مع الزمن من نتائج بعيدة عن الإنصاف، وتحصين المحامي ضد المتقاضي الذي هو أصلا في علاقة غير متكافئة مع المحامي، ومن دون تأصيل فقهي للإلزامية؛ فلا ينبغي أن ينظر باستغراب إلى المتقاضي الذي يطالب المحامي بتحقيق نتيجة لا ببذل عناية فقط. وإن بدا هذا المطلب متطرفا، فالسعي إلى تقرير إلزامية الاستعانة بمحام لا يقل تطرفا عنه؛ وإن حاول الرافضون له الاستعانة بالتأصيل الفقهي لدفعه، فليؤصلوا فقهيا وحقوقيا لإسقاط حق المتقاضي في التمثيل الذاتي من لائحة حقوق الإنسان.
وفي الختام نطرح السؤال الآتي:
هل سيعيد البرلمان، الذي شهد مقره تسجيل وزير العدل ونائبة معارضة للعلاقة غير المتكافئة بين المتقاضي والمحامي، الاعتبار لحق المتقاضي في التمثيل الذاتي؟