مقدمة:
تحولت الآثار الاقتصادية للفيروس التاجي "كوفيد 19"من مجرد تحليلات تنظيرية إلى واقع ملموس، فبعد ترديد نغمات محاصرة الفيروس المستجد، تسللت نغمة جديدة إلى أسماعنا، ورغم أنها كانت خافتة في البداية، إلا أن صيتها ارتفع على شاكلة أوركسترا العزف؛ حتى باتت مطلبًا رسميًا؛ نغمة التعويضات.
ففي البداية كان بعض المواطنين فقط هم من يطالبون حكوماتهم بتعويضهم عن الخسائر والأضرار التي لحقتهم جراء التزامهم بقرارات الحجر المنزلي وحظر التجول وفرض حالة الطوارئ. ثم ارتفع صوت النغمة أكثر فأكثر ليصدح في السماء، فتبنت بعض الحكومات مطالب المواطنين وأقرت بضرورة قيام جمهورية الصين الشعبية بدورٍ ما في تحمل الأضرار الاقتصادية الكارثية التي نتجت عن تفشي الفيروس المستجد.
فبجانب الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعتبر عازفًا رئيسيًا؛ ثمة عازفين يمكن اعتبارهم أقل رتبة في أوركسترا المطالبة بالتعويضات عن أضرار الفيروس التاجي "كوفيد 19" حيث توجد بقية الدول الصناعية الكبرى السبعة المعروفة بـ G7 ، والمؤلفة من الولايات المتحدة الأمريكية ثم بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكندا، وإلى جانب العازفين السبعة بدأت جوقة من الأشخاص المتضررين هنا وهناك، بدأت تغني مع الحكومات على نفس النغمة، على منصات التواصل الاجتماعي، مؤيدة فكرة التعويضات نفسها، تصدّر وسم #ChinaMustPay.
وفي الوقت الذي يفكر ويتشاور فيه الجميع حول قيمة التعويضات التي يجب أن تدفعها الصين، ارتأينا معرفة كيفية الحصول على التعويضات بداية: من يقاضي من؟ وما هي الأسس القانونية التي قامت عليها فكرة المطالبات القضائية الدولية ؟ وذلك للحصول على الجواب الذي ينتظره الجميع عن سؤال: هل الصين ملزمة بدفع تعويضات للعالم؟ بل يجب التفكير أولا، هل يمكننا مقاضاة الصين؟
وتشكل مطالبة الدول المتضررة لجمهورية الصين الشعبية بالتعويض عن الضرر الجسيم الذي تعرضت له جراء تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" وما نتج عنه من تزايد عدد الوفايات و تكبد شركاتها وقطاعات إنتاجها خسائر فادحة _تشكل_ مسألة مستعصية ولم يسبق أن عرضت في إطار القانون الدولي _إلى اليوم_ قضية وبائية مشابهة.
وهذا مرده إلى تخلف القانون الدولي عن مجاراة تطور العلاقات الدولية، فضلا عن تشابك المصالح... ناهيك عن غياب التضامن والتعاون بين أشخاص القانون الدولي، والاكتفاء فقط بتنسيق المصالح وصداقات المصالح، وتسوية المنازعات فيما بينها، نظرا لأن القانون الدولي هو قانون اتفاقي وعرفي في أغلب أحكامه... كل هذا في ظل غياب سلطة تشريعية دولية عليا.
فكان من الطبيعي تسجيل غياب الأحكام والقرارات القضائية الدولية التي قامت بترتيب المسؤولية الدولية على عاتق الدولة صاحبة النشاط غير المحظور والذي أضر بدولة أخرى.
ولهذا، فلا زال فقهاء القانون منقسمين إلى حدود اليوم، بخصوص تحميل الدولة المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن غير الأعمال الحربية... وبالتالي هناك توجهين فقهيين، أحدهما يجيز مطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" (أولا) والآخر يذهب خلاف ذلك (ثانيا) ولكل مبرراته وأسانيده التي يعتمدها، وسنحاول تناول كل منها، قبل الوقوف عند موقفنا.
أولا: مبررات التوجه المؤيد للمطالبة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"
لقد أكد العرف والفقه والقضاء الدولي وقرارات المحافل الدولية وما نصت عليه اتفاقيات دولية عديدة تتعلق بالمسؤولية الدولية والعرف الدولي، التزام الدولة المسؤولة عن الضرر بإصلاح ذلك الضرر بطريقة كافية، وذلك بناء على القاعدة المستقرة القائلة بأنّ كل ضرر يوجب المسؤولية.
وهكذا يقول المؤيدون لفكرة مطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" إن من يتسبب في أي ضرر عليه أن يتحمل مسؤوليته ويسعى إلى تصحيحه وجبره، وبالتالي على الصين أن تدفع تعويضات عما تسبب فيه الفيروس المستجد من خسائر وأضرار لدول العالم المتضررة، لأن هذا الوباء ضرب اقتصاد العالم في مقتل، وأحدث شللاً تاما لم يسبق له مثيل. لأن دولة الصين هي التي بدأ الفيروس المستجد بالانتشار من أراضيها وتأخرت في دق ناقوس الخطر، حتى وصل الانتشار أمصار الأرض كلها.
ويذهب البعض إلى القول بأنه يكفي من الناحية الموضوعية أن تكون الدولة هي السبب في وقوع الضرر، لإثارة مسؤوليتها القانونية، ويستندون على فكرة مفادها أن المسؤولية تبدأ بالضرر وتنتهي بالتعويض، دون حاجة لوجود رابطة سببية ضرورية بين نقطة البداية ونقطة النهاية، فيكفي وجود ضرر تعرض له شخص دولي من قبل شخص دولي آخر لقيام مسؤولية الدولة، فلا يشترط الخطأ العمدي، بل يكفي وجود خطأ غير عمد، فقد اعترف رئيس بلدية ووهان بخطأ السماح لخمسة ملايين شخص بالسفر خارج المدينة قبل أن يتم الإغلاق دون التحقق من وجود الفيروس المستجد.
وهو التوجه الذي استندت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رسمي، وشجع المجتمع الدولي على أن يتبع خطاها، مثل أستراليا وعدد من الدول الأوروبية وبعض دول آسيا، لتجسيد دور الضحية التي تطالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقتها والتي نتجت عن فعل أو امتناع عن فعل صادر من نشاط مارسته حكومة جمهورية الصين الشعبية، باعتبارها مصدر الوباء وأنها قصرت في الإبلاغ عن خطورته في بداية تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" وربما أخفت معلومات عن دول العالم وقامت بنشر معلومات مضللة حول كيفية تعامل الحكومات الأجنبية مع الوباء، في حين أن النظام العالمي الذي نعيش فيه، يلزم جميع الحكومات أن تنتهج “الصراحة والشفافية” فيما يخص أغلب الأمور.
وقد اتسعت لائحة البلدان التي تبنت وجهة النظر الأمريكية، حيث نُظر إلى الصين باعتبارها المسؤولة عن تفشي فيروس كوفيد 19 في باقي دول العالم، فقد تتبع باحثون مسيرة الفيروس المستجد وأكدوا أن الوتيرة المتوالية التي ينتشر بها الفيروس لا تسمح بحال من الأحوال أن يكون عدد الذين أصيبوا في الصين في حدود ما أعلنت عنه بكين فقط ، مشيرين إلى أن عدد الإصابات تجاوز 40 وفي أحسن تقدير 15 ضعف ما أعلنته الحكومة الصينية، ونقلته "الجارديان" البريطانية عن تقرير بريطاني علمي محكّم.
وقد قدم السناتور الجمهوري "توم كوتون" والنائب الجمهوري "دان كرينشو" مقترح قانون للسماح للولايات المتحدة الأمريكية بمقاضاة الصين في المحكمة الفيدرالية للحصول على تعويضات أضرار الوفاة والإصابات والأضرار الاقتصادية الناجمة عن الفيروس المستجد.
إذ أكد "كوتون" أنه تم إسكات الأطباء والصحافيين الذين حاولوا تحذير العالم من الفيروس التاجي، من خلال طرد الصحافيين واحتجاز المبلغين، وحجب المعلومات الحيوية التي أخرت الاستجابة العالمية للوباء، ما سمح للفيروس بالانتشار بسرعة النار في جميع أنحاء العالم، والتسبب في وفاة الآلاف من الأبرياء وفي أضرار اقتصادية كبيرة.
كما قام المدعي العام في "ولاية ميزوري" الأميركية "إريك شميت" بتقديم طلب قضائي إلى محكمة اتحادية يهدف إلى تحميل "بكين" مسؤولية تفشي المرض الناتج عن الفيروس التاجي "كوفيد 19"، كما حث الكونغرس الأمريكي على تشريع قانون يسمح بمقاضاة الصين على مسؤولية تفشي الوباء والتسبب في مقتل عشرات الآلاف من الأميركيين.
وبهذا تكون أولى الطلبات القضائية رفعتها "ولاية ميزوري" الأميركية، أمام القضاء الفيدرالي الأميركي، متهمة بكين بالكذب بشأن خطورة الفيروس المستجد وطبيعته المعدية. وطالبت بتحمل الحكومة الصينية المسؤولية عن الوفيات والأضرار الاقتصادية الجمّة التي يتكبدها العالم، بمن فيهم مواطني "ولاية ميزوري".
كما رفعت مجموعة "بيرمان" وهي إحدى شركات المحاماة الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية _رفعت_ طلبا قضائيا ضد الصين. ومفاد هذا الطلب إدانة الصين باعتبارها تسببت في انهيار الاقتصاد الأمريكي و الاقتصاد العالمي لإخفائها معلومات عن حقيقة وخطورة الفيروس المستجد الذي ظهر على أراضيها.
كما رفع محامون أميركيون طلبات قضائية جماعية تضمّ آلافاً من المطالبين بالتعويضات من أربعين دولة حول العالم، بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، أمام القضاء الفيدرالي في ولاية فلوريدا وفي مناطق أخرى. كما تقدم المحامي الأمريكي لاري كلايمان، في مارس الماضي، بطلب قضائي أمام محكمة منطقة شمال ولاية تكساس، طالبًا تغريم الصين 20 تريليون دولار.
وطالب مواطنون في أستراليا حكومتهم برفع طلبات قضائية دولية ضد الصين للحصول على تعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم جراء الوباء الذي كانت انطلاقته من الصين. وفي مصر أيضا، أرسل محامون مصريون إنذارًا إلى سفير بكين في القاهرة "لياو ليتشيانغ" وطالبوا بلاده بدفع 10 تريليونات دولار لمصر تعويضًا عن الخسائر التي لحقت بها بسبب تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19".
وقد خلصت دراسة بريطانية حول أزمة تفشي الوباء في المملكة المتحدة، أعدها مركز "هنري جاكسون" البريطاني المتخصص في الأبحاث السياسية، تحت عنوان "تعويض الفيروس التاجي: تقييم الذنب المحتمل للصين وسبل الاستجابة القانونية" _خلصت_ إلى ضرورة مطالبة المملكة المتحدة الصين بمبلغ 351 مليار جنيه إسترليني (430 مليار دولار) كتعويض عن الخسائر التي سببها انتشار الفيروس المستجد. وأكد التقرير أن مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبعة المعروفة بـ G7 تعرضت لخسائر اقتصادية فادحة، وبإمكانها أن ترغم الصين على دفع التعويضات، والتي لا يمكن حصرها بشكل نهائي في البداية، لأنها سوف تزداد بالطبع كلما طال أمد الأزمة.
وسند مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبعة المعروفة بـ G7 أن هذه الخسائر الفادحة كان بالإمكان تجنبها لو كانت الصين صريحة في تعاملها مع الفيروس المستجد، ولم تقم بإخفاء الحقائق عنه، في حين واصلت الصين نفي انتقال هذا الفيروس بين البشر حتى 21 يناير الماضي، فضلاً عن محاولتها التعتيم على حقيقة الوباء ومصدره منذ ظهور الإصابات الأولى به في مدينة "ووهان" مطلع ديسمبر 2019، ناهيك عن افتقار تعامل بكين مع الفيروس للشفافية منذ الوهلة الأولى، الشيء الذي أعاق جهود العالم لاحتواء الوباء مبكراً وأسفر عن الأزمة الحادة التي يشهدها العالم حالياً. إذ أشارت عدة دراسات إلى أن عدد مصابي كورونا كان سينخفض بنسبة 95% إذا أعلنت عنه الصين مبكرًا فقط بثلاثة أسابيع على الأقل. في حين أن بكين لم تقيد حركة السفر حتى 14 يناير الماضي وسمحت بتنقل المصابين، وقالت وقتها أنه لا دليل واضح على انتقال الفيروس الجديد من شخص لآخر، حتى مع ظهور الحالات حول العالم.
بخلاف "تايوان" التي كانت محل إشادة دولية وإعلامية، "تايوان" تلك الجزيرة التي أعلنت عن استقلالها عن الصين منذ عام 1949، والتي لا زالت جمهورية الصين الشعبية تنظر إليها كمقاطعة، _ودون الخوض في هذا النقاش_ فقد بزغ نجم "تايوان" في هذه الأزمة لاستجابتها السريعة والفعالة مع الوباء في المرحلة الأولى من تفشي المرض، ومستوى الشفافية المرتفع الذي أبانت عليه، منذ تحذيرها أولاً من فيروس غامض خطير ينتشر بين البشر في الصين ووصولاً إلى اتّخاذها نموذجاً في مكافحة الفيروس التاجي "كوفيد 19"على أراضيها ، فقد بعثت برسائل تحذير لمنظمة الصحة العالمية في 31 ديسمبر تؤكد انتشار الفيروس المستجد بين البشر، وهي التحذيرات التي تجاهلتها "منظمة الصحة العالمية" و "بكين" التي أبقت على مطار "ووهان" مفتوحاً أمام حركة الطيران الدولي خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يناير، الشيء الذي أدى إلى تفشي الفيروس المستجد وتفاقم الأزمة. وقد وجه اللوم فعلا من قبل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لمنظمة الصحة العالمية باعتبارها أعطت توصيات مضللة تضمنت استمرار فتح الحدود الأمريكية أمام الصين، وهو ما لم تلتفت له واشنطن.
فاستراتيجية الصين انتهكت بشكل مباشر موافقتها على قانون اللوائح الصحية الدولية الذي يحث الدول على إخطار منظمة الصحة العالمية بالأحداث التي قد تشكل حالة طوارئ صحية عامة ذات اهتمام دولي خلال أربعة وعشرين ساعة. كما يُطلب من الدول مواصلة التواصل مع منظمة الصحة العالمية في الوقت المناسب بصورة دقيقة ومفصلة بما يكفي من المعلومات الصحية العامة المتاحة لها في هذا الحدث المبلغ عنه.
ورغم أن القانون الدولي هو قانون اتفاقي وعرفي في أغلب أحكامه، وهو في الغالب عبارة عن مجموعة من القواعد غير المدّونة بشكل رسمي، والمُستمدة من ممارسات عامة تم قبولها بشكل واسع لتصبح كأنها قانون، فإن القواعد المتفق عليها تتضمن آلية لتحديد ما إذا كان هناك حدث معين مؤهلًا لأن يكون حالة طوارئ، وهو ما تم تعديله في عام 2005 ليشمل أية أمراض معدية جديدة، والذي جاء على خلفية استجابة الصين البطيئة لمتلازمة الجهاز التنفسي أو السارس، في عامي 2002 و2003. وتنص المواد التي اعتمدتها لجنة القانون الدولي، التابعة للأمم المتحدة في 2001 على أن البلد المسؤول عن فعل غير مشروع “ملزم بتقديم تعويض كامل عن الضرر الناجم”.
كما أن الدراسة الصادرة عن مركز "هنري جاكسون" البريطاني، قامت بتسليط الضوء على بعض القرارات الخاطئة التي اتخذتها الحكومة البريطانية بناءً على المعلومات الخاطئة التي أعلنت عنها الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية، مثل عدم إلغاء الرحلات الجوية بين لندن ووهان. وتضمنت ذات الدراسة أدلة على أن الصين انتهكت بشكل مباشر معاهدة الرعاية الصحية الدولية، وذلك بسبب إخفاء المعلومات والحقائق عن الفيروس المستجد، ولم تتعامل بشكل شفاف.
كما قامت صحيفة "بيلد" الألمانية بنشر فاتورة ضخمة موجهة للحكومة الصينية للمطالبة بتعويض برلين عن الخسائر الكارثية لوباء كورونا بالنسبة لأكبر اقتصاد أوروبي، وهكذا تكون ألمانيا قد دخلت على خط الهجوم الغربي على الصين بسبب المسؤولية المفترضة لبكين عن تفشي الفيروس المستجد، وبالتالي للمطالبة بالتعويض عن الأضرار الاقتصادية الكارثية التي طالت العالم بسبب هذه الجائحة.
و يرى بعض أنصار هذا التوجه المؤيد لمطالبة الصين بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس، أن إثبات مصدر الضرر، جلي وواضح وضوح الشمس في النهار، ولا لبس فيه، ودفع هذا المنحى الحكومة الأميركية وحكومات عدة دول إلى تبني مطالب مواطنيها وإثارة مسؤولية جمهورية الصين الشعبية وإلزامها بأداء التعويضات لجبر الأضرار التي لحقت باقتصادها ومواطنيها جراء تفشي الفيروس. لأن التقارير الدولية أشارت إلى فشلها في إدارة هذه الكارثة العالمية بشفافية وفعالية.
ورغم تسجيل غياب الأحكام والقرارات القضائية الدولية التي اعتمدت نظرية المخاطر لترتيب المسؤولية الدولية على عاتق الدولة صاحبة النشاط غير المحظور والذي أضر بدولة أخرى، فهذا الأمر لن يقف عائقا أمام المحاكم الأميركية، التي تعتمد في الجانب الإجرائي على القانون الاتحادي لتؤسس مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، وهي تعترف بالصلاحية القانونية العابرة للحدود، كما أنها لا تشترط في هذه المسألة توافر عنصر الخطأ العمد، من قبل الحكومة الصينية، بل تكتفي بركن الضرر والعلاقة السببية بين الضرر والفعل الضار الذي يسببه شخص دولي لشخص دولي آخر، لتقرير مسؤوليته الدولية ومطالبته بالتعويض.
ولقد سبق لإحدى المحاكم الأميركية أن قضت، في قضية مسبك "الزنك والرصاص" أنشأته كندا على حدودها الجنوبية المحاذية للولايات المتحدة الأميركية، ولمسافة 15 كلم داخل الحدود الكندية، والذي تسبب بأضرار بيئية جسيمة للبيئة وللمزارعين الأميركيين وأضرار اقتصادية كان لها تأثير على الاقتصاد الأميركي، وذلك نتيجة لتضرر الأراضي والمحاصيل الزراعية بالأبخرة والأدخنة السامة المنبعثة من المصنع، نظرا لاحتواء تلك الأبخرة على غازات مشبعة بالكبريت.
واستندت المحكمة آنذاك على قواعد القانون الدولي وقانون الولايات المتحدة الأميركية، والتي مفادها أنه لا يجوز لأية دولة أن تستعمل إقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة ينتج عنها وصول غازات ضارة إلى إقليم دولة أخرى، بحيث تحدث أضرارا بذلك الإقليم، أو بالممتلكات، أو بالأشخاص الموجودة عليه، بحيث تكون هذه النتائج على جانب من الجسامة، وبالتالي أمكن إثبات الضرر وفقا لنظرية "المخاطر" بطريقة واضحة، واقتنعت المحكمة بجسامة هذا الضرر البيئي، فألزمت الحكومة الكندية بدفع التعويضات للحكومة الأميركية عن الأضرار التي تكبدها مواطنوها والناجمة عن نشاط المسبك "الزنك والرصاص".
ويرى بعض الفقه الدولي إن تبني تلك المحكمة للمسؤولية الموضوعية وبالضبط لنظرية "المخاطر"، دون اشتراط خرق التزام دولي اتفاقي أو عرفي، يؤشر على وجود تلك النظرية في أحكام القضاء الدولي، وإن هذا القضاء ذو طبيعة تطورية تواكب مستجدات الحياة الدولية وتطور مفهوم الضرر في المسؤولية المدنية، يلزم الدولة المتسببة في تفشي الوباء بالتعويض. وذلك مواكبة لتطور الضرر البيولوجي. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تطوير وتوسيع أكثر لقواعد المسؤولية الدولية على أسس جديدة ملائمة، لكي لا تبقى عاجزة عن تحقيق العدل الذي يبقى الهدف الأساسي لأي قانون، ولا يخفى على أحد أن القانون الدولي قانون لا يتوقف عن التطور.
ويرى البعض الآخر بضرورة إخضاع الصين للمثول أمام محكمة العدل الدولية، بسبب عدم التزامها بواجب "الاخطار السريع" ومشاركة المعلومات المتعلقة بالأوبئة، ولتجاوز مشكلة توافر الاختصاص القضائي، هناك من يرى أنّه يمكن الاستناد على المادة 75 من دستور منظمة الصحة العالمية، والتي جاء فيها "أي مسألة أو نزاع يتعلق بتفسير أو تطبيق هذا الدستور لا تتم تسويته عن طريق التفاوض أو جمعية الصحة يُحال إلى محكمة العدل الدولية ..." ويرى بعض أنصار التوجه المؤيد لمطالبة الصين بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس أنه لا بد من تفسير موسع للمادة 75 من دستور منظمة الصحة العالمية، كما ثبت توجه محكمة العدل الدولية في تبني تفسير موسع لاختصاصها في العام الماضي في قضية نظرت فيها بين أوكرانيا وروسيا، حيث تبنت المادة 22 من اتفاقية "عدم التمييز العنصري" بهذا المفهوم الموسع لإرساء اختصاصها في نظر تلك القضية ، لتمرير قرارها على ذلك الأساس.
وهكذا، يمكن تصوّر مسائلة الصين قانونياً عن انتهاكها لمبدأ "الاخطار السريع" حيث يمكن لأي دولة متضررة من انتشار فيروس "كوفيد 19"، أن تقوم بتسجيل طلبها لدى محكمة العدل الدولية، دون حاجة للجوء إلى جمعية الصحة كشرط لأن تُحال القضية إلى محكمة العدل الدولية. كما يمكن الاستناد على المادتين 21 و 22 من دستور منظمة الصحة العالمية واللتان تمنحان جمعية الصحة العالمية سلطة اعتماد لوائح تنفيذية مثل اللوائح الصحية الدولية، وعلى أنّها باعتمادها تلك اللوائح "تدخل حيز التنفيذ بالنسبة لجميع الأعضاء".
كما يمكن للدولة المتضررة من انتشار فيروس "كوفيد 19" الادعاء بأن الصين انتهكت المادة 64 من دستور منظمة الصحة العالمية، التي جاء فيها "يقدم كل عضو تقارير إحصائية ووبائية بطريقة تحددها جمعية الصحة". كما تلزم المادة 6 الدول الأطراف، بإخطار منظمة الصحة العالمية بحدث قد يشكل حالة طوارئ صحية عمومية تثير قلقًا دوليًا، بدقّة وفي الوقت المناسب. وكما أن المادة 7 تلزم الدول الأطراف بأنّه في حال كان للدولة أدلة على حدث يشير إلى إمكانية وقوع وباء أن تسارع إلى "تزويد منظمة الصحة العالمية بجميع المعلومات الصحية العمومية ذات الصلة".
وبالتالي يمكن للدولة المتضررة من انتشار فيروس "كوفيد 19" أن تدعي أمام محكمة العدل الدولية أن الصين انتهكت المادة 64 من دستور منظمة الصحة العالمية وانتهاك المادتين 6 و 7 من اللوائح الصحية الدولية.
وإذا كان هذا ما يمكن قوله بخصوص مبررات التوجه المؤيد لمطالبة الصين بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" فما هي مبررات التوجه المعارض لهذه المطالبة؟
ثانيا: مبررات التوجه المعارض للمطالبة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"
أكدت عدة دراسات علمية أنه لا وجود لدليل يثبت أن الفيروس المستجد "كوفيد 19" تم صنعه في مختبر ما أو تمت هندسته بأي شكل آخر، بعدما حلّل العلماء بيانات تسلسل جينوم كورونا المستجد والفيروسات ذات الصلة. فقد نشر في فبراير الماضي سبعة وعشرون عالما ينتمون لتسع دول ليس من بينها الصين، نشروا بيانا مشتركا بينهم في الدورية الطبية "ذا لانسيت" وقد أعربوا فيها عن قلقهم تجاه الشائعات والخرافات المنتشرة والمتداولة حول مصدر وأصل الفيروس التاجي "كوفيد 19"، وأكد العلماء الذين درسوا الفيروس المستجد واستنتجوا بأغلبية ساحقة أن هذا الفيروس نشأ في الحياة البرية بشكل طبيعي تمامًا، كما هو حال بالنسبة للعديد من الفيروسات التي أصابت البشرية.
ويذهب أنصار التوجه المعارض لمطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" إلى القول بأنه ليس كل فعل ضار أو امتناع ضار يعتبر حتما إخلالا بالقانون الدولي، ومن ثم يرتب لزوما مسؤولية قانونية. فقد يكون تصرف دولة معينة مشروعا تماما، ومع ذلك يرتب ضررا يمس بمصالح دولة أخرى.
كما يعتبر أنصار التوجه المعارض لمطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" أن حكومة الصين رغم تقصيرها المزعوع في التعامل مع الفيروس المستجد، وعدم كشفها عن خطورته، فهي محمية بمبدأ الحصانة السيادية ويعتبرون أن سوء سلوك النظام الذي لا شك فيه، لا يشكل أسباباً كافية لتجاوز هذه الحصانة، لأن قانون الحصانات السيادية يحظر مقاضاة الدول الأجنبية مع استثناءات قليلة للغاية، كما أن انعدام اليقين العلمي بشأن خطورة هذا الفيروس في المراحل الأولى لظهوره يعتبر مبررا كافيا لعدم قيام مسؤولية جمهورية الصين الشعبية.
فمن المعروف من الناحية القانونية أن كل خرق لالتزام دولي من قبل دولة ما، يوجب مساءلتها تجاه الدولة المعتدى عليها أو المتضررة. ومن هذا المنطلق، فالمسؤولية الدولية تتسم ببعض المميزات الخاصة بها، فالمسؤولية الدولية لا تقع إلّا على عاتق دولة، أو منظمة دولية، وهي وحدها ملزمة إصلاح الضرر الذي نتج عن تصرّفها غير المشروع. كما أن المسؤولية الدولية لا تتقرر إلا لمصلحة دولة متضررة.
ولكي تتقرر المسؤولية الدولية، وتنتج آثارها بأن يتم تحميلها لمن ثبتت بحقه، وينشأ من ثم التزام بإصلاح كل ما ترتب من أضرار، لا بد من توافر عناصر تلك المسؤولية الدولية المتمثلة في ثبوت الخطأ أو الفعل غير المشروع الصادر عن أحد أشخاص القانون الدولي، ثم ثبوت الضرر لدولة أو دول أخرى، ثم إثبات وجود علاقة سببية بالضرر أو نسبة الفعل غير المشروع إلى شخص قانون الدولي.
ويقول "هيرويوكي بانزاي" أستاذ القانون في جامعة "واسيدا" في طوكيو، أنه سيكون من الصعب المطالبة بالتعويضات دون إثبات وجود علاقة سببية بالضرر. ويضيف أن المدعين سيحتاجون إلى إثبات أن الصين كان لديها استيعاب علمي لمخاطر الفيروس المستجد، لكنها لم تتخذ الإجراءات المناسبة، وأن هذا أدى مباشرة إلى الإضرار بدول العالم وضرب الاقتصاد العالمي في مقتل... وحتى لو كان هناك خرق للإجراءات المنصوص عليها في اللوائح الصحية الدولية، فإن أكثر ما يمكن فعله هو المطالبة بخطوات لمنع تكرار ذلك مستقبلا.
ففي ظل تصاعد الاتهامات الدولية للصين بالافتقار للشفافية مع شعبها وبقية شعوب العالم خلال المراحل المبكرة من تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"، قدّم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين مقترحات قوانين لتعديل قانون "الحصانات السيادية الأجنبية" لإيجاد استثناء لمسائلة جمهورية الصين الشعبية عن الأضرار الناجمة عن معالجتها الخطيرة لتفشي الفيروس المستجد.
لكننا نعتقد أن مقترحات أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين للتخلص من الحصانة السيادية للصين، مقترحات مجانبة للصواب، لأنه في اللحظة التي تبدأ فيها أي دولة بتجريد دول أخرى من الحصانة السيادية، فإنها تفتح على نفسها الباب لدعاوى قضائية في المحاكم الأجنبية لـدى الدول الأخرى، التي من المحتمل جدا أن تقرر أن تفعل نفس الأمر، وهو ما لم يتنبه له أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، في ظل اندفاعهم نحو إيجاد آليات قانونية وقضائية للحصول على التعويض. فإذا كان السيف على رقبة الصين هذا العام، فقد يكون على رقبة الولايات المتحدة الأمريكية في قادم الأيام. فمثلًا وباء الأنفلونزا الذي تفشى عام 1918 يُعتبر غامضا مثله مثل الفيروس التاجي "كوفيد 19" وغير واضح المصدر والمعالم إلى اليوم، لكن ظلت الولايات المتحدة الأمريكية ضمن قائمة دول المنشأ المحتملة. كما أن فيروس "إتش 1 إن 1" المعروف ب "أنفلونزا الخنازير" الذي انتشر مؤخرا، سُجلت أولى حالاته في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2009. فإذا سعت اليوم الولايات المتحدة الأمريكية وباقي دول العالم لمقاضاة الصين، فإنها سوف تسمح بلا شك للدول الأخرى بمقاضاتها عن أضرار الماضي والمستقبل، لأنها ستشكل سابقة قضائية في التاريخ.
ووفقا لقانون الحصانة السيادية للدولة فإن أفعال وممتلكات الدولة لا تخضع للولاية التشريعية والقضائية والإدارية للدول الأخرى. علاوة على ذلك، فإن تفشي الأمراض الوبائية واسعة النطاق هو حدث عالمي يمس بالصحة العامة، فمن لديه بعض المعرفة العملية بقانون الحصانة السيادية الأجنبية سيكتشف على الفور بأن المحاكم الأمريكية ليس لديها أساس للولاية القضائية في هذا الصدد.
ففي الواقع لا توجد آلية قضائية دولية يمكن بموجبها مقاضاة الدول في مثل هذه الحالات، بل تعذر من قبل على عدة دول متضررة في عدة مرات، تحميل دول أخرى المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن العمليات الحربية، رغم ثبوتها وثبوت عدوان الدول التي أعلنت الحروب والإبادات الجماعية... والتي لا زالت أثارها مستمرة إلى اليوم مثل الحروب الكيماوية التي خلفت ولا زالت تخلف أمراضا وراثية ظاهرة للعيان... فما بالكم بالأضرار الناتجة عن العمليات غير الحربية والأوبئة المنتشرة، كأضرار الجائحة العالمية، رغم وجود التقصير المزعوم في التعامل معها بشفافية من طرف الصين منذ الوهلة الأولى، حيث اكتفت بمحاصرة "ووهان" عن نفسها ولم تحاصرها عن العالم، حيث أبقت على مطار "ووهان" مفتوحاً أمام حركة الطيران الدولي خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يناير، الشيء الذي أدى إلى تفشي الفيروس المستجد وتفاقم الأزمة.
كما أن اللجوء لمحكمة العدل الدولية يتطلب بالأساس موافقة بكين ولكن حتى لو تم اللجوء لهذه المحكمة الدولية وقضت المحكمة على الصين بالتعويض فإن الأخيرة ستتجاهل ذلك. فقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن قضت بأن بناء الصين لجزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي ينتهك القانون الدولي، فتجاهلت بكين ذلك الحكم ببساطة، بل الأكثر من ذلك صرح مسؤول صيني بصريح العبارة بأن الحكم “ليس أكثر من قطعة ورق ! ”.
وقد كان بإمكان الدول المتضررة اتخاذ اللازم والشروع في إغلاق حدودها الجوية والبحرية والبرية مباشرة بعد تحسسها خطورة الأمر بدل الإبقاء على فتحها منذ الوهلة الأولى، ثم إغلاقها بعد تفشي الفيروس بسرعة. ففي هذه الحالة سيصعب الفصل بين الضرر الناتج عن تأخر الصين في الإعلان وبين الضرر المترتب عن تأخر الدول المتضررة ذاتها في اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة. فهنا إذا اقتنعت المحاكم الدولية بثبوت مسؤولية الصين عن الأضرار الناتجة عن تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" ، فعليها أن تقتنع أيضا بتشطير المسؤولية لأن بعض الأضرار سببها الفيروس المستجد، وبعضها الآخر سببه برود بعض الدول في التعامل مع هذا الفيروس. كما أن إشادة منظمة الصحة العالمية بدور الصين في مكافحة الفيروس، سيجعل قرار ملاحقة الصين قضائيًا هو طعن في نزاهة وشفافية منظمة الصحة في الوقت ذاته باعتبارها منظمة عالمية، وحينها سيفقد المجتمع الدولي ثقته في جل منظماته الدولية، وسنكون في غنى عن ما يسمى "المنتظم الدولي" فكيف يُتوقع الاندفاع والمسارعة في اتخاذ إجراء ضد الصين في جريمة لا تتوافر الأدلة الكافية لإثباتها، وإذا توافرت فإن أمريكا ورفاقها يصنعون مقصلةً لا يأمن أيّ منهم سيوضع تحتها مستقبلا هو الآخر، لأنه كما أشرنا أعلاه، ففي اللحظة التي تبدأ فيها أي دولة بتجريد دول أخرى من الحصانة السيادية، فإنها تفتح على نفسها الباب لدعاوى قضائية في المحاكم الأجنبية لـدى الدول الأخرى، التي من المحتمل جدا أن تقرر أن تفعل نفس الأمر.
فعملية التقاضي صعبة في هذا الصدد نظرا لعدم وجود سوابق قضائية مماثلة، كما لا يخفى أن المعاهدات الصحية الدولية تطرقت لاحتمالية تفشي وباء عالمي ينتقل من دولة إلى أخرى، لكن لم تنص أي معاهدة على أن تدفع الدولة مصدر الوباء تعويضًا للدول الأخرى المتضررة. فمعظم المعاهدات لا تتضمن ضمن بنودها ما إذا كان انتهاك هذه الأخيرة يتيح للدول المتضررة المطالبة بتعويض مادي عن الأضرار.
وإذا كان القانون الدولي العرفي يفرض على الدولة التي تنتهك القانون الدولي أن تلتزم بالتعويض الكامل عن الضرر الناجم عن انتهاكها. وهو السند الذي استند عليه أنصار التوجه المؤيد للمطالبة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"، إلى جانب أمور أخرى كعدم شفافية الصين مع العالم، وتضليلها لمنظمة الصحة العالمية، فعلى مدار العدد الكبير من الأوبئة التي تعرضت لها البشرية، لم تدخل تلك القاعدة الدولية العرفية أبدًا حيز التنفيذ، حتى لو توافرت الشروط التي وضعها أنصار التوجه المؤيد لمطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"، مثل انتهاك قوانين الشفافية أو الامتناع عن اتخاذ تدابير وقائية لمنع تفشي الفيروس. فعلى مدار التاريخ حدثت سجالات لفظية بين الدول عن كون إحداها هي المسئولة عن تفاقم أزمة وبائية ما، لكن لم تقم أي دولة بجدية بالمطالبة بالتعويضات عن الأضرار.
إن مصدر الفيروس المستجد مشكلة علمية معقدة جدا، فقط الخبراء والعلماء هم الذين يستطيعون البحث والتوصل إلى كشف الحقيقة، فكيف يمكن بكل بساطة استخلاص كل هذه النتائج التي لا تمت للواقع بصلة من دون الاستناد إلى أي حقيقة علمية؟ إن الحقيقة المقبولة دوليا، هي أن الصين استجابت للوباء وأبلغت عنه بطريقة منفتحة وشفافة ومسؤولة منذ البداية وحتى النهاية وقد أشادت منظمة الصحة العالمية بأن ”سرعة الصين وحجم العمليات التي قامت بها يعتبران نادرين على مستوى العالم“. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
كل هذا يفرض علينا سؤالًا بديهيًا: ألم تقم بعض الدول المتضررة بالفيروس المستجد بأية جرائم في حق الدول والشعوب الأخرى تستوجب جبر الضرر؟ وإذا كانت قد قامت بذلك فعلا، فهل اعترفت أو اعتذرت أو دفعت لهم تعويضات لجبر الضرر، أو على الأقل للتخفيف منه ؟
إجابة السؤال الأول: بلى، قامت بجرائم عدة تستوجب الاعتذار والتعويض وجبر الضرر. أما إجابة السؤال الثاني: لا.
فقس على ذلك !
فليس من المنطق ألا نعتذر عن أخطائنا، وفي الوقت نفسه لا نتوقف عن ملاحقة أية دولة أخرى مهما كان اقتصادها طلبًا للاعتذار والتعويضات أو تنازلات سياديّة في مجالات متعددة...
لقد حان الوقت لمطالبة الدول "العظمى" الغنية والمتهاونة في تحمل مسؤولياتها بأن تدفع "ضريبة مخاطر" للدول الفقيرة، خصوصا في إفريقيا، لتعطيلها من طرف هذه الدول عن الخروج من دائرة الفقر. ونقول أن ما يجب أن تحصل عليه هذه الدول في المقام الأول، في عز هذه الأزمة، هو تعويضات من الدول "العظمى" فهذه الصدمة الاقتصادية التي تعاني منها القارة الآن تولدت من قبل، وتفاقمت أكثر مع الأزمة الصحية التي ظهرت في الصين لتنتشر في باقي دول العالم، وستتفاقم أكثر مع استمرار الأزمة الصحية، بل ستستمر بعدها لا محالة، وهي صدمة قللت بشدة من الفرص التي كانت متاحة لإفريقيا لرفع مئات الملايين من سكانها من حالة الفقر وتجسير الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وبالإمكان تقدير قيمة التعويضات المستحقة لإفريقيا وذلك بالتشاور مع الاتحاد الإفريقي والدول المنضوية تحت عضويته، إلى جانب المنظمات العالمية والإقليمية، بما في ذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومصرف التنمية الإفريقي والاتحاد الأوروبي، ومن ثم تكلف الصين وبقية دول مجموعة العشرين بآلية التعويضات بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي وكل بلد إفريقي على حدة، بعدما استفادت هذه الدول وغيرها من خيرات وثروات إفريقيا، دون أن تستفيد إفريقيا من خيراتها وثرواتها. فالكل يعرف أين ثروة إفريقيا، ولا داعي لطرح سؤال أين ثروة إفريقيا؟
إننا ﻧﺮﻳﺪ ﺍلاﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺭﺱ ﻭ ﺃﺧﺪ ﺍﻟﻌﺒﺮﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ ﺷﻌوﺒﺎ ﻭ ﺣﻜﻮﻣات ... ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻻ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻭ ﺳﻨﻌﻮﺩ ﻟﺤﻴﺎﺗﻨﺎ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ !
ﻟﻜﻦ ﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻃﺒﻴﻌية، فحياة "الطبيعة" عادلة أكثر منها، نحن ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ حياة جديدة وعالم ﺟﺪﻳﺪ ﺗﺘﻜﺎﻓﺊ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻔﺮﺹ ﻭ ﻳﺘﺴﺎﻭﻯ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩ ﺟﺪﻳﺪ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﺟﺪﻳﺪ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺻﺤﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ لعالم ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﺐ ﻭ الأستاذ ﻭﺭﺟﻞ النظافة ﻭﺍﻟﺒﺎﺣﺚ ﻭﺍﻟﻤﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﻄﺎﻟﺐ ﻭﺍﻟﺘﻠﻤﻴﺬ... نحن ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ عالم ﺑﺪﻭﻥ ﺗﺒذﻳﺮ للثروات ﻭتبخيس للإﻣﻜﺎﻧﺎت ﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ التي تزخر بها دول "العالم الثالث"... فالكفاءات التي كشفتها أزمة "كورونا" معظمها من دول "العالم الثالث" وأثبتت أنه ليس بعالم "ثالث" بل عالم غني وفريد، أريد له أن يهمش، ويكون في الترتيب الثالث !! بدل أن يكون عالم واحد، يتقدم للأمام، دون تفرقة بين أجزائه لخلق عدة عوالم.
فإفريقيا تعتبر موطناً لأكثر من %70 من حالات الفقر المدقع في العالم بأسره، حيث يعاني أكثر 400 مليون شخص من الفقر في مختلف أنحاء القارة، ويرزح العديد من بلدان القارة تحت طائلة أزمات الموازنة، الناتجة عن سوء إدارة الإيرادات المحلية وارتفاع الديون العمومية وانخفاض الإنتاجية. كذلك تعاني المؤسسات الصحية بإفريقيا من نقص حاد في الأدوية، والتجهيزات الطبية، الشيء الذي يتسبب في وفاة الكثير من الأبرياء نتيجة الإصابة بأمراض كان يمكن علاجها أو التعامل معها بسهولة. ناهيك عن الأمية والهدر المدرسي الذي ابتلي به أبناء القارة السمراء... كان ذلك قبل وقوع الجائحة، وليس من المستغرب انهيار النمو الاقتصادي للقارة، وتآكل المكاسب التنموية الصغيرة التي تمكنت من تحقيقها بعد الأزمة العالمية السابقة. وليس من المستبعد أن يدمر ما تبقى في البلدان الإفريقية المتهالكة أصلاً، والتي تفتقر للاحتياطات المالية المطلوبة لتقديم الدعم لمواطنيها الذين فرض عليهم الامتثال لقرارات الحجر الصحي والبقاء في المنازل.
أما الأسعار الخاصة بالسلع، فحدث ولا حرج، فقد ارتفعت بمعدلات فلكية بسبب الجائحة، فقد أدت إلى المزيد من عدم الاستقرار في الأوضاع المالية والاقتصادية للبلدان الإفريقية، لتصارع لوحدها من أجل البقاء وتلبية الاحتياجات الغذائية القصيرة الأجل لسكانها الفقراء، كل هذا في الوقت الذي أعلنت فيه البلدان المتقدمة في آسيا وأوروبا والأمريكتين عن حزم إسعافية طارئة ضخمة موجهة لشعوبها وشركاتها.
فعندما بدأ الفيروس يكتسح دول المعمور، وأحدث جروحاً غائرة في أوضاع الفئات الأكثر ضعفاً في مختلف أنحاء العالم، ظهرت قيمة التربية والتعليم والبحث العلمي... وهزالة الميزانيات المخصصة له. كما ظهر العالم مكشوفا بلا نظام صحي قوي وبلا تجهيزات كافية وبلا استعدادات لأي أزمة صحية، وظهرت شركات الأدوية والمختبرات كمجرد مضاربين في البورصة، وفي هذه اللحظة بالضبط وأمام ندرة المعدات والتجهيزات الطبية والصحية... وعدم كفاية الأطباء والأطر الصحية... اضطرت بعض دول العالم "الثالث"، للانحناء أمام حاجتها للاستيراد وطلب التعاون والمساعدة، لكن بالمقابل فبعض دول العالم "الثالث"، أبانت على قدراتها في تحقيق ذاتها بعد استقلالها، والتخلص من أثار الاستعمار.
لقد تأخر عالمنا كثيراً في تبني سياسة جديدة لتجنب المخاطر العالمية ، خصوصا تلك التي تترك الفئات الهشة والفقيرة عرضة للمعاناة بسبب إخفاقات الأغنياء والأقوياء. وتتخذ هذه المخاطر صورا متباينة تطفو إلى السطح كل لحظة، مثل الأضرار البيئية والتغيرات المناخية والعمليات الإرهابية وانعدام الأمن الغذائي وتفشي الجرائم وظهور الأزمات الصحية فضلا عن أعمال الشغب، والاحتجاجات العارمة، والإضراب وركود المستوى المعيشي... وفي الغالب تكون الدول الأوفر حظا هي مصدر كل هذه المخاطر.
فهذا الوضع الذي يتحمل فيه فقراء "العالم الثالث" الذين لا حول لهم ولا قوة، يتحملون على عاتقهم أعباء التقدم والتنمية في البلدان "المتقدمة" وضع يجب أن لا يستمر.
إجمالا، فعندما نمر بالأزمة، نحتاج إلى إعادة تقييم قدرتنا على التعامل مع التهديدات غير التقليدية لمجتمعاتنا، ولا يمكننا تجاوز الصدمة مرة أخرى دون الاستعداد بشكل أفضل. وفي اللحظة، وفي خضم جائحة الفيروس التاجي المستجد، وتناغما مع ما اختتم به ابن خلدون توصيفه، في مقدمته ، لأهوال أوبئة وطواعين عام 749هـ ــ 1348م وتداعياتها على الإنسان والعمران، بالقول: «وإذا تبدلت الأحوالُ جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلقٌ جديدٌ، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث»، تقطرت وتنسلت تنظيرات المفكرين والمنظرين وقادة الدول والسياسيين والإعلاميين، وانبرت الصحف والدوريات ذائعة الصيت... في تبيان مدى جهوزية الفيروس التاجي المستجد "كوفيدــ19" لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد... والنظام العالمي الجديد الذي نتوخاه نريده أن يقوم على تقديم يد العون لدول العالم النامية لمساعدتها على النهوض، وليس تركها طريحة تتلقى الهبات والصدقات، ونريد الإعلان عن تدشين نظام تعليمي وصحي عالمي أكثر فعالية وعدالة، ليكون نواة لنظام دولي إنساني، بعدما أكدت جائحة كورونا، وجوبية التعاون العالمي من منطلق المسؤولية الجماعية الدولية من خلال تفعيل آليات الإنذار المبكر، واستراتيجيات التنسيق المشترك ودعم نظام الحوكمة الدولي ومراكز البحث العلمي... بغية مواجهة الأزمات خصوصا تلك الأزمات الوبائية، التي تبين للجميع صعوبة واستحالة تصدي دولة بمفردها لها، مهما كانت إمكاناتها.
إن النموذج الحالي القائم على تقديم المساعدات التنموية بيد وأخذ الخيرات بيد أخرى، هو نموذج فاشل و ليس بمقدوره تحقيق أي تغيير جذري وحقيقي وملموس في توزيع الثروة، إننا بحاجة ماسة إلى نموذج جديد يقطع مع سياسة الماضي، ويقوي المواطنين ويرفع مكانتهم، ويمكنهم من المشاركة في اتخاذ القرارات ومسارات الخروج من أزمة الفقر والهشاشة وبناء الأنظمة التعليمية والصحية والقدرات الاقتصادية... فليس من الصعب العودة عن السياسات والقرارت الخاطئة، بل الأصعب هو التمادي فيها، فالمساعدات وحدها لا تكفي، وإلا فإن اللوم عندئذ سيقع على مجموعة من الدول، لا الصين وحدها.
لقد حان الوقت لبلورة نموذج تنموي جديد في العالم، على أن تكون نقطة البداية منح الدول "العظمى" لفقراء العالم "الثالث" مستحقاتهم؛ على العالم أن يدفع، من أجل العالم.
تحولت الآثار الاقتصادية للفيروس التاجي "كوفيد 19"من مجرد تحليلات تنظيرية إلى واقع ملموس، فبعد ترديد نغمات محاصرة الفيروس المستجد، تسللت نغمة جديدة إلى أسماعنا، ورغم أنها كانت خافتة في البداية، إلا أن صيتها ارتفع على شاكلة أوركسترا العزف؛ حتى باتت مطلبًا رسميًا؛ نغمة التعويضات.
ففي البداية كان بعض المواطنين فقط هم من يطالبون حكوماتهم بتعويضهم عن الخسائر والأضرار التي لحقتهم جراء التزامهم بقرارات الحجر المنزلي وحظر التجول وفرض حالة الطوارئ. ثم ارتفع صوت النغمة أكثر فأكثر ليصدح في السماء، فتبنت بعض الحكومات مطالب المواطنين وأقرت بضرورة قيام جمهورية الصين الشعبية بدورٍ ما في تحمل الأضرار الاقتصادية الكارثية التي نتجت عن تفشي الفيروس المستجد.
فبجانب الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعتبر عازفًا رئيسيًا؛ ثمة عازفين يمكن اعتبارهم أقل رتبة في أوركسترا المطالبة بالتعويضات عن أضرار الفيروس التاجي "كوفيد 19" حيث توجد بقية الدول الصناعية الكبرى السبعة المعروفة بـ G7 ، والمؤلفة من الولايات المتحدة الأمريكية ثم بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكندا، وإلى جانب العازفين السبعة بدأت جوقة من الأشخاص المتضررين هنا وهناك، بدأت تغني مع الحكومات على نفس النغمة، على منصات التواصل الاجتماعي، مؤيدة فكرة التعويضات نفسها، تصدّر وسم #ChinaMustPay.
وفي الوقت الذي يفكر ويتشاور فيه الجميع حول قيمة التعويضات التي يجب أن تدفعها الصين، ارتأينا معرفة كيفية الحصول على التعويضات بداية: من يقاضي من؟ وما هي الأسس القانونية التي قامت عليها فكرة المطالبات القضائية الدولية ؟ وذلك للحصول على الجواب الذي ينتظره الجميع عن سؤال: هل الصين ملزمة بدفع تعويضات للعالم؟ بل يجب التفكير أولا، هل يمكننا مقاضاة الصين؟
وتشكل مطالبة الدول المتضررة لجمهورية الصين الشعبية بالتعويض عن الضرر الجسيم الذي تعرضت له جراء تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" وما نتج عنه من تزايد عدد الوفايات و تكبد شركاتها وقطاعات إنتاجها خسائر فادحة _تشكل_ مسألة مستعصية ولم يسبق أن عرضت في إطار القانون الدولي _إلى اليوم_ قضية وبائية مشابهة.
وهذا مرده إلى تخلف القانون الدولي عن مجاراة تطور العلاقات الدولية، فضلا عن تشابك المصالح... ناهيك عن غياب التضامن والتعاون بين أشخاص القانون الدولي، والاكتفاء فقط بتنسيق المصالح وصداقات المصالح، وتسوية المنازعات فيما بينها، نظرا لأن القانون الدولي هو قانون اتفاقي وعرفي في أغلب أحكامه... كل هذا في ظل غياب سلطة تشريعية دولية عليا.
فكان من الطبيعي تسجيل غياب الأحكام والقرارات القضائية الدولية التي قامت بترتيب المسؤولية الدولية على عاتق الدولة صاحبة النشاط غير المحظور والذي أضر بدولة أخرى.
ولهذا، فلا زال فقهاء القانون منقسمين إلى حدود اليوم، بخصوص تحميل الدولة المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن غير الأعمال الحربية... وبالتالي هناك توجهين فقهيين، أحدهما يجيز مطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" (أولا) والآخر يذهب خلاف ذلك (ثانيا) ولكل مبرراته وأسانيده التي يعتمدها، وسنحاول تناول كل منها، قبل الوقوف عند موقفنا.
أولا: مبررات التوجه المؤيد للمطالبة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"
لقد أكد العرف والفقه والقضاء الدولي وقرارات المحافل الدولية وما نصت عليه اتفاقيات دولية عديدة تتعلق بالمسؤولية الدولية والعرف الدولي، التزام الدولة المسؤولة عن الضرر بإصلاح ذلك الضرر بطريقة كافية، وذلك بناء على القاعدة المستقرة القائلة بأنّ كل ضرر يوجب المسؤولية.
وهكذا يقول المؤيدون لفكرة مطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" إن من يتسبب في أي ضرر عليه أن يتحمل مسؤوليته ويسعى إلى تصحيحه وجبره، وبالتالي على الصين أن تدفع تعويضات عما تسبب فيه الفيروس المستجد من خسائر وأضرار لدول العالم المتضررة، لأن هذا الوباء ضرب اقتصاد العالم في مقتل، وأحدث شللاً تاما لم يسبق له مثيل. لأن دولة الصين هي التي بدأ الفيروس المستجد بالانتشار من أراضيها وتأخرت في دق ناقوس الخطر، حتى وصل الانتشار أمصار الأرض كلها.
ويذهب البعض إلى القول بأنه يكفي من الناحية الموضوعية أن تكون الدولة هي السبب في وقوع الضرر، لإثارة مسؤوليتها القانونية، ويستندون على فكرة مفادها أن المسؤولية تبدأ بالضرر وتنتهي بالتعويض، دون حاجة لوجود رابطة سببية ضرورية بين نقطة البداية ونقطة النهاية، فيكفي وجود ضرر تعرض له شخص دولي من قبل شخص دولي آخر لقيام مسؤولية الدولة، فلا يشترط الخطأ العمدي، بل يكفي وجود خطأ غير عمد، فقد اعترف رئيس بلدية ووهان بخطأ السماح لخمسة ملايين شخص بالسفر خارج المدينة قبل أن يتم الإغلاق دون التحقق من وجود الفيروس المستجد.
وهو التوجه الذي استندت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رسمي، وشجع المجتمع الدولي على أن يتبع خطاها، مثل أستراليا وعدد من الدول الأوروبية وبعض دول آسيا، لتجسيد دور الضحية التي تطالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقتها والتي نتجت عن فعل أو امتناع عن فعل صادر من نشاط مارسته حكومة جمهورية الصين الشعبية، باعتبارها مصدر الوباء وأنها قصرت في الإبلاغ عن خطورته في بداية تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" وربما أخفت معلومات عن دول العالم وقامت بنشر معلومات مضللة حول كيفية تعامل الحكومات الأجنبية مع الوباء، في حين أن النظام العالمي الذي نعيش فيه، يلزم جميع الحكومات أن تنتهج “الصراحة والشفافية” فيما يخص أغلب الأمور.
وقد اتسعت لائحة البلدان التي تبنت وجهة النظر الأمريكية، حيث نُظر إلى الصين باعتبارها المسؤولة عن تفشي فيروس كوفيد 19 في باقي دول العالم، فقد تتبع باحثون مسيرة الفيروس المستجد وأكدوا أن الوتيرة المتوالية التي ينتشر بها الفيروس لا تسمح بحال من الأحوال أن يكون عدد الذين أصيبوا في الصين في حدود ما أعلنت عنه بكين فقط ، مشيرين إلى أن عدد الإصابات تجاوز 40 وفي أحسن تقدير 15 ضعف ما أعلنته الحكومة الصينية، ونقلته "الجارديان" البريطانية عن تقرير بريطاني علمي محكّم.
وقد قدم السناتور الجمهوري "توم كوتون" والنائب الجمهوري "دان كرينشو" مقترح قانون للسماح للولايات المتحدة الأمريكية بمقاضاة الصين في المحكمة الفيدرالية للحصول على تعويضات أضرار الوفاة والإصابات والأضرار الاقتصادية الناجمة عن الفيروس المستجد.
إذ أكد "كوتون" أنه تم إسكات الأطباء والصحافيين الذين حاولوا تحذير العالم من الفيروس التاجي، من خلال طرد الصحافيين واحتجاز المبلغين، وحجب المعلومات الحيوية التي أخرت الاستجابة العالمية للوباء، ما سمح للفيروس بالانتشار بسرعة النار في جميع أنحاء العالم، والتسبب في وفاة الآلاف من الأبرياء وفي أضرار اقتصادية كبيرة.
كما قام المدعي العام في "ولاية ميزوري" الأميركية "إريك شميت" بتقديم طلب قضائي إلى محكمة اتحادية يهدف إلى تحميل "بكين" مسؤولية تفشي المرض الناتج عن الفيروس التاجي "كوفيد 19"، كما حث الكونغرس الأمريكي على تشريع قانون يسمح بمقاضاة الصين على مسؤولية تفشي الوباء والتسبب في مقتل عشرات الآلاف من الأميركيين.
وبهذا تكون أولى الطلبات القضائية رفعتها "ولاية ميزوري" الأميركية، أمام القضاء الفيدرالي الأميركي، متهمة بكين بالكذب بشأن خطورة الفيروس المستجد وطبيعته المعدية. وطالبت بتحمل الحكومة الصينية المسؤولية عن الوفيات والأضرار الاقتصادية الجمّة التي يتكبدها العالم، بمن فيهم مواطني "ولاية ميزوري".
كما رفعت مجموعة "بيرمان" وهي إحدى شركات المحاماة الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية _رفعت_ طلبا قضائيا ضد الصين. ومفاد هذا الطلب إدانة الصين باعتبارها تسببت في انهيار الاقتصاد الأمريكي و الاقتصاد العالمي لإخفائها معلومات عن حقيقة وخطورة الفيروس المستجد الذي ظهر على أراضيها.
كما رفع محامون أميركيون طلبات قضائية جماعية تضمّ آلافاً من المطالبين بالتعويضات من أربعين دولة حول العالم، بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، أمام القضاء الفيدرالي في ولاية فلوريدا وفي مناطق أخرى. كما تقدم المحامي الأمريكي لاري كلايمان، في مارس الماضي، بطلب قضائي أمام محكمة منطقة شمال ولاية تكساس، طالبًا تغريم الصين 20 تريليون دولار.
وطالب مواطنون في أستراليا حكومتهم برفع طلبات قضائية دولية ضد الصين للحصول على تعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم جراء الوباء الذي كانت انطلاقته من الصين. وفي مصر أيضا، أرسل محامون مصريون إنذارًا إلى سفير بكين في القاهرة "لياو ليتشيانغ" وطالبوا بلاده بدفع 10 تريليونات دولار لمصر تعويضًا عن الخسائر التي لحقت بها بسبب تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19".
وقد خلصت دراسة بريطانية حول أزمة تفشي الوباء في المملكة المتحدة، أعدها مركز "هنري جاكسون" البريطاني المتخصص في الأبحاث السياسية، تحت عنوان "تعويض الفيروس التاجي: تقييم الذنب المحتمل للصين وسبل الاستجابة القانونية" _خلصت_ إلى ضرورة مطالبة المملكة المتحدة الصين بمبلغ 351 مليار جنيه إسترليني (430 مليار دولار) كتعويض عن الخسائر التي سببها انتشار الفيروس المستجد. وأكد التقرير أن مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبعة المعروفة بـ G7 تعرضت لخسائر اقتصادية فادحة، وبإمكانها أن ترغم الصين على دفع التعويضات، والتي لا يمكن حصرها بشكل نهائي في البداية، لأنها سوف تزداد بالطبع كلما طال أمد الأزمة.
وسند مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبعة المعروفة بـ G7 أن هذه الخسائر الفادحة كان بالإمكان تجنبها لو كانت الصين صريحة في تعاملها مع الفيروس المستجد، ولم تقم بإخفاء الحقائق عنه، في حين واصلت الصين نفي انتقال هذا الفيروس بين البشر حتى 21 يناير الماضي، فضلاً عن محاولتها التعتيم على حقيقة الوباء ومصدره منذ ظهور الإصابات الأولى به في مدينة "ووهان" مطلع ديسمبر 2019، ناهيك عن افتقار تعامل بكين مع الفيروس للشفافية منذ الوهلة الأولى، الشيء الذي أعاق جهود العالم لاحتواء الوباء مبكراً وأسفر عن الأزمة الحادة التي يشهدها العالم حالياً. إذ أشارت عدة دراسات إلى أن عدد مصابي كورونا كان سينخفض بنسبة 95% إذا أعلنت عنه الصين مبكرًا فقط بثلاثة أسابيع على الأقل. في حين أن بكين لم تقيد حركة السفر حتى 14 يناير الماضي وسمحت بتنقل المصابين، وقالت وقتها أنه لا دليل واضح على انتقال الفيروس الجديد من شخص لآخر، حتى مع ظهور الحالات حول العالم.
بخلاف "تايوان" التي كانت محل إشادة دولية وإعلامية، "تايوان" تلك الجزيرة التي أعلنت عن استقلالها عن الصين منذ عام 1949، والتي لا زالت جمهورية الصين الشعبية تنظر إليها كمقاطعة، _ودون الخوض في هذا النقاش_ فقد بزغ نجم "تايوان" في هذه الأزمة لاستجابتها السريعة والفعالة مع الوباء في المرحلة الأولى من تفشي المرض، ومستوى الشفافية المرتفع الذي أبانت عليه، منذ تحذيرها أولاً من فيروس غامض خطير ينتشر بين البشر في الصين ووصولاً إلى اتّخاذها نموذجاً في مكافحة الفيروس التاجي "كوفيد 19"على أراضيها ، فقد بعثت برسائل تحذير لمنظمة الصحة العالمية في 31 ديسمبر تؤكد انتشار الفيروس المستجد بين البشر، وهي التحذيرات التي تجاهلتها "منظمة الصحة العالمية" و "بكين" التي أبقت على مطار "ووهان" مفتوحاً أمام حركة الطيران الدولي خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يناير، الشيء الذي أدى إلى تفشي الفيروس المستجد وتفاقم الأزمة. وقد وجه اللوم فعلا من قبل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لمنظمة الصحة العالمية باعتبارها أعطت توصيات مضللة تضمنت استمرار فتح الحدود الأمريكية أمام الصين، وهو ما لم تلتفت له واشنطن.
فاستراتيجية الصين انتهكت بشكل مباشر موافقتها على قانون اللوائح الصحية الدولية الذي يحث الدول على إخطار منظمة الصحة العالمية بالأحداث التي قد تشكل حالة طوارئ صحية عامة ذات اهتمام دولي خلال أربعة وعشرين ساعة. كما يُطلب من الدول مواصلة التواصل مع منظمة الصحة العالمية في الوقت المناسب بصورة دقيقة ومفصلة بما يكفي من المعلومات الصحية العامة المتاحة لها في هذا الحدث المبلغ عنه.
ورغم أن القانون الدولي هو قانون اتفاقي وعرفي في أغلب أحكامه، وهو في الغالب عبارة عن مجموعة من القواعد غير المدّونة بشكل رسمي، والمُستمدة من ممارسات عامة تم قبولها بشكل واسع لتصبح كأنها قانون، فإن القواعد المتفق عليها تتضمن آلية لتحديد ما إذا كان هناك حدث معين مؤهلًا لأن يكون حالة طوارئ، وهو ما تم تعديله في عام 2005 ليشمل أية أمراض معدية جديدة، والذي جاء على خلفية استجابة الصين البطيئة لمتلازمة الجهاز التنفسي أو السارس، في عامي 2002 و2003. وتنص المواد التي اعتمدتها لجنة القانون الدولي، التابعة للأمم المتحدة في 2001 على أن البلد المسؤول عن فعل غير مشروع “ملزم بتقديم تعويض كامل عن الضرر الناجم”.
كما أن الدراسة الصادرة عن مركز "هنري جاكسون" البريطاني، قامت بتسليط الضوء على بعض القرارات الخاطئة التي اتخذتها الحكومة البريطانية بناءً على المعلومات الخاطئة التي أعلنت عنها الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية، مثل عدم إلغاء الرحلات الجوية بين لندن ووهان. وتضمنت ذات الدراسة أدلة على أن الصين انتهكت بشكل مباشر معاهدة الرعاية الصحية الدولية، وذلك بسبب إخفاء المعلومات والحقائق عن الفيروس المستجد، ولم تتعامل بشكل شفاف.
كما قامت صحيفة "بيلد" الألمانية بنشر فاتورة ضخمة موجهة للحكومة الصينية للمطالبة بتعويض برلين عن الخسائر الكارثية لوباء كورونا بالنسبة لأكبر اقتصاد أوروبي، وهكذا تكون ألمانيا قد دخلت على خط الهجوم الغربي على الصين بسبب المسؤولية المفترضة لبكين عن تفشي الفيروس المستجد، وبالتالي للمطالبة بالتعويض عن الأضرار الاقتصادية الكارثية التي طالت العالم بسبب هذه الجائحة.
و يرى بعض أنصار هذا التوجه المؤيد لمطالبة الصين بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس، أن إثبات مصدر الضرر، جلي وواضح وضوح الشمس في النهار، ولا لبس فيه، ودفع هذا المنحى الحكومة الأميركية وحكومات عدة دول إلى تبني مطالب مواطنيها وإثارة مسؤولية جمهورية الصين الشعبية وإلزامها بأداء التعويضات لجبر الأضرار التي لحقت باقتصادها ومواطنيها جراء تفشي الفيروس. لأن التقارير الدولية أشارت إلى فشلها في إدارة هذه الكارثة العالمية بشفافية وفعالية.
ورغم تسجيل غياب الأحكام والقرارات القضائية الدولية التي اعتمدت نظرية المخاطر لترتيب المسؤولية الدولية على عاتق الدولة صاحبة النشاط غير المحظور والذي أضر بدولة أخرى، فهذا الأمر لن يقف عائقا أمام المحاكم الأميركية، التي تعتمد في الجانب الإجرائي على القانون الاتحادي لتؤسس مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، وهي تعترف بالصلاحية القانونية العابرة للحدود، كما أنها لا تشترط في هذه المسألة توافر عنصر الخطأ العمد، من قبل الحكومة الصينية، بل تكتفي بركن الضرر والعلاقة السببية بين الضرر والفعل الضار الذي يسببه شخص دولي لشخص دولي آخر، لتقرير مسؤوليته الدولية ومطالبته بالتعويض.
ولقد سبق لإحدى المحاكم الأميركية أن قضت، في قضية مسبك "الزنك والرصاص" أنشأته كندا على حدودها الجنوبية المحاذية للولايات المتحدة الأميركية، ولمسافة 15 كلم داخل الحدود الكندية، والذي تسبب بأضرار بيئية جسيمة للبيئة وللمزارعين الأميركيين وأضرار اقتصادية كان لها تأثير على الاقتصاد الأميركي، وذلك نتيجة لتضرر الأراضي والمحاصيل الزراعية بالأبخرة والأدخنة السامة المنبعثة من المصنع، نظرا لاحتواء تلك الأبخرة على غازات مشبعة بالكبريت.
واستندت المحكمة آنذاك على قواعد القانون الدولي وقانون الولايات المتحدة الأميركية، والتي مفادها أنه لا يجوز لأية دولة أن تستعمل إقليمها أو تسمح باستعماله بطريقة ينتج عنها وصول غازات ضارة إلى إقليم دولة أخرى، بحيث تحدث أضرارا بذلك الإقليم، أو بالممتلكات، أو بالأشخاص الموجودة عليه، بحيث تكون هذه النتائج على جانب من الجسامة، وبالتالي أمكن إثبات الضرر وفقا لنظرية "المخاطر" بطريقة واضحة، واقتنعت المحكمة بجسامة هذا الضرر البيئي، فألزمت الحكومة الكندية بدفع التعويضات للحكومة الأميركية عن الأضرار التي تكبدها مواطنوها والناجمة عن نشاط المسبك "الزنك والرصاص".
ويرى بعض الفقه الدولي إن تبني تلك المحكمة للمسؤولية الموضوعية وبالضبط لنظرية "المخاطر"، دون اشتراط خرق التزام دولي اتفاقي أو عرفي، يؤشر على وجود تلك النظرية في أحكام القضاء الدولي، وإن هذا القضاء ذو طبيعة تطورية تواكب مستجدات الحياة الدولية وتطور مفهوم الضرر في المسؤولية المدنية، يلزم الدولة المتسببة في تفشي الوباء بالتعويض. وذلك مواكبة لتطور الضرر البيولوجي. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تطوير وتوسيع أكثر لقواعد المسؤولية الدولية على أسس جديدة ملائمة، لكي لا تبقى عاجزة عن تحقيق العدل الذي يبقى الهدف الأساسي لأي قانون، ولا يخفى على أحد أن القانون الدولي قانون لا يتوقف عن التطور.
ويرى البعض الآخر بضرورة إخضاع الصين للمثول أمام محكمة العدل الدولية، بسبب عدم التزامها بواجب "الاخطار السريع" ومشاركة المعلومات المتعلقة بالأوبئة، ولتجاوز مشكلة توافر الاختصاص القضائي، هناك من يرى أنّه يمكن الاستناد على المادة 75 من دستور منظمة الصحة العالمية، والتي جاء فيها "أي مسألة أو نزاع يتعلق بتفسير أو تطبيق هذا الدستور لا تتم تسويته عن طريق التفاوض أو جمعية الصحة يُحال إلى محكمة العدل الدولية ..." ويرى بعض أنصار التوجه المؤيد لمطالبة الصين بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس أنه لا بد من تفسير موسع للمادة 75 من دستور منظمة الصحة العالمية، كما ثبت توجه محكمة العدل الدولية في تبني تفسير موسع لاختصاصها في العام الماضي في قضية نظرت فيها بين أوكرانيا وروسيا، حيث تبنت المادة 22 من اتفاقية "عدم التمييز العنصري" بهذا المفهوم الموسع لإرساء اختصاصها في نظر تلك القضية ، لتمرير قرارها على ذلك الأساس.
وهكذا، يمكن تصوّر مسائلة الصين قانونياً عن انتهاكها لمبدأ "الاخطار السريع" حيث يمكن لأي دولة متضررة من انتشار فيروس "كوفيد 19"، أن تقوم بتسجيل طلبها لدى محكمة العدل الدولية، دون حاجة للجوء إلى جمعية الصحة كشرط لأن تُحال القضية إلى محكمة العدل الدولية. كما يمكن الاستناد على المادتين 21 و 22 من دستور منظمة الصحة العالمية واللتان تمنحان جمعية الصحة العالمية سلطة اعتماد لوائح تنفيذية مثل اللوائح الصحية الدولية، وعلى أنّها باعتمادها تلك اللوائح "تدخل حيز التنفيذ بالنسبة لجميع الأعضاء".
كما يمكن للدولة المتضررة من انتشار فيروس "كوفيد 19" الادعاء بأن الصين انتهكت المادة 64 من دستور منظمة الصحة العالمية، التي جاء فيها "يقدم كل عضو تقارير إحصائية ووبائية بطريقة تحددها جمعية الصحة". كما تلزم المادة 6 الدول الأطراف، بإخطار منظمة الصحة العالمية بحدث قد يشكل حالة طوارئ صحية عمومية تثير قلقًا دوليًا، بدقّة وفي الوقت المناسب. وكما أن المادة 7 تلزم الدول الأطراف بأنّه في حال كان للدولة أدلة على حدث يشير إلى إمكانية وقوع وباء أن تسارع إلى "تزويد منظمة الصحة العالمية بجميع المعلومات الصحية العمومية ذات الصلة".
وبالتالي يمكن للدولة المتضررة من انتشار فيروس "كوفيد 19" أن تدعي أمام محكمة العدل الدولية أن الصين انتهكت المادة 64 من دستور منظمة الصحة العالمية وانتهاك المادتين 6 و 7 من اللوائح الصحية الدولية.
وإذا كان هذا ما يمكن قوله بخصوص مبررات التوجه المؤيد لمطالبة الصين بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" فما هي مبررات التوجه المعارض لهذه المطالبة؟
ثانيا: مبررات التوجه المعارض للمطالبة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"
أكدت عدة دراسات علمية أنه لا وجود لدليل يثبت أن الفيروس المستجد "كوفيد 19" تم صنعه في مختبر ما أو تمت هندسته بأي شكل آخر، بعدما حلّل العلماء بيانات تسلسل جينوم كورونا المستجد والفيروسات ذات الصلة. فقد نشر في فبراير الماضي سبعة وعشرون عالما ينتمون لتسع دول ليس من بينها الصين، نشروا بيانا مشتركا بينهم في الدورية الطبية "ذا لانسيت" وقد أعربوا فيها عن قلقهم تجاه الشائعات والخرافات المنتشرة والمتداولة حول مصدر وأصل الفيروس التاجي "كوفيد 19"، وأكد العلماء الذين درسوا الفيروس المستجد واستنتجوا بأغلبية ساحقة أن هذا الفيروس نشأ في الحياة البرية بشكل طبيعي تمامًا، كما هو حال بالنسبة للعديد من الفيروسات التي أصابت البشرية.
ويذهب أنصار التوجه المعارض لمطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" إلى القول بأنه ليس كل فعل ضار أو امتناع ضار يعتبر حتما إخلالا بالقانون الدولي، ومن ثم يرتب لزوما مسؤولية قانونية. فقد يكون تصرف دولة معينة مشروعا تماما، ومع ذلك يرتب ضررا يمس بمصالح دولة أخرى.
كما يعتبر أنصار التوجه المعارض لمطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" أن حكومة الصين رغم تقصيرها المزعوع في التعامل مع الفيروس المستجد، وعدم كشفها عن خطورته، فهي محمية بمبدأ الحصانة السيادية ويعتبرون أن سوء سلوك النظام الذي لا شك فيه، لا يشكل أسباباً كافية لتجاوز هذه الحصانة، لأن قانون الحصانات السيادية يحظر مقاضاة الدول الأجنبية مع استثناءات قليلة للغاية، كما أن انعدام اليقين العلمي بشأن خطورة هذا الفيروس في المراحل الأولى لظهوره يعتبر مبررا كافيا لعدم قيام مسؤولية جمهورية الصين الشعبية.
فمن المعروف من الناحية القانونية أن كل خرق لالتزام دولي من قبل دولة ما، يوجب مساءلتها تجاه الدولة المعتدى عليها أو المتضررة. ومن هذا المنطلق، فالمسؤولية الدولية تتسم ببعض المميزات الخاصة بها، فالمسؤولية الدولية لا تقع إلّا على عاتق دولة، أو منظمة دولية، وهي وحدها ملزمة إصلاح الضرر الذي نتج عن تصرّفها غير المشروع. كما أن المسؤولية الدولية لا تتقرر إلا لمصلحة دولة متضررة.
ولكي تتقرر المسؤولية الدولية، وتنتج آثارها بأن يتم تحميلها لمن ثبتت بحقه، وينشأ من ثم التزام بإصلاح كل ما ترتب من أضرار، لا بد من توافر عناصر تلك المسؤولية الدولية المتمثلة في ثبوت الخطأ أو الفعل غير المشروع الصادر عن أحد أشخاص القانون الدولي، ثم ثبوت الضرر لدولة أو دول أخرى، ثم إثبات وجود علاقة سببية بالضرر أو نسبة الفعل غير المشروع إلى شخص قانون الدولي.
ويقول "هيرويوكي بانزاي" أستاذ القانون في جامعة "واسيدا" في طوكيو، أنه سيكون من الصعب المطالبة بالتعويضات دون إثبات وجود علاقة سببية بالضرر. ويضيف أن المدعين سيحتاجون إلى إثبات أن الصين كان لديها استيعاب علمي لمخاطر الفيروس المستجد، لكنها لم تتخذ الإجراءات المناسبة، وأن هذا أدى مباشرة إلى الإضرار بدول العالم وضرب الاقتصاد العالمي في مقتل... وحتى لو كان هناك خرق للإجراءات المنصوص عليها في اللوائح الصحية الدولية، فإن أكثر ما يمكن فعله هو المطالبة بخطوات لمنع تكرار ذلك مستقبلا.
ففي ظل تصاعد الاتهامات الدولية للصين بالافتقار للشفافية مع شعبها وبقية شعوب العالم خلال المراحل المبكرة من تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"، قدّم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين مقترحات قوانين لتعديل قانون "الحصانات السيادية الأجنبية" لإيجاد استثناء لمسائلة جمهورية الصين الشعبية عن الأضرار الناجمة عن معالجتها الخطيرة لتفشي الفيروس المستجد.
لكننا نعتقد أن مقترحات أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين للتخلص من الحصانة السيادية للصين، مقترحات مجانبة للصواب، لأنه في اللحظة التي تبدأ فيها أي دولة بتجريد دول أخرى من الحصانة السيادية، فإنها تفتح على نفسها الباب لدعاوى قضائية في المحاكم الأجنبية لـدى الدول الأخرى، التي من المحتمل جدا أن تقرر أن تفعل نفس الأمر، وهو ما لم يتنبه له أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، في ظل اندفاعهم نحو إيجاد آليات قانونية وقضائية للحصول على التعويض. فإذا كان السيف على رقبة الصين هذا العام، فقد يكون على رقبة الولايات المتحدة الأمريكية في قادم الأيام. فمثلًا وباء الأنفلونزا الذي تفشى عام 1918 يُعتبر غامضا مثله مثل الفيروس التاجي "كوفيد 19" وغير واضح المصدر والمعالم إلى اليوم، لكن ظلت الولايات المتحدة الأمريكية ضمن قائمة دول المنشأ المحتملة. كما أن فيروس "إتش 1 إن 1" المعروف ب "أنفلونزا الخنازير" الذي انتشر مؤخرا، سُجلت أولى حالاته في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2009. فإذا سعت اليوم الولايات المتحدة الأمريكية وباقي دول العالم لمقاضاة الصين، فإنها سوف تسمح بلا شك للدول الأخرى بمقاضاتها عن أضرار الماضي والمستقبل، لأنها ستشكل سابقة قضائية في التاريخ.
ووفقا لقانون الحصانة السيادية للدولة فإن أفعال وممتلكات الدولة لا تخضع للولاية التشريعية والقضائية والإدارية للدول الأخرى. علاوة على ذلك، فإن تفشي الأمراض الوبائية واسعة النطاق هو حدث عالمي يمس بالصحة العامة، فمن لديه بعض المعرفة العملية بقانون الحصانة السيادية الأجنبية سيكتشف على الفور بأن المحاكم الأمريكية ليس لديها أساس للولاية القضائية في هذا الصدد.
ففي الواقع لا توجد آلية قضائية دولية يمكن بموجبها مقاضاة الدول في مثل هذه الحالات، بل تعذر من قبل على عدة دول متضررة في عدة مرات، تحميل دول أخرى المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن العمليات الحربية، رغم ثبوتها وثبوت عدوان الدول التي أعلنت الحروب والإبادات الجماعية... والتي لا زالت أثارها مستمرة إلى اليوم مثل الحروب الكيماوية التي خلفت ولا زالت تخلف أمراضا وراثية ظاهرة للعيان... فما بالكم بالأضرار الناتجة عن العمليات غير الحربية والأوبئة المنتشرة، كأضرار الجائحة العالمية، رغم وجود التقصير المزعوم في التعامل معها بشفافية من طرف الصين منذ الوهلة الأولى، حيث اكتفت بمحاصرة "ووهان" عن نفسها ولم تحاصرها عن العالم، حيث أبقت على مطار "ووهان" مفتوحاً أمام حركة الطيران الدولي خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر يناير، الشيء الذي أدى إلى تفشي الفيروس المستجد وتفاقم الأزمة.
كما أن اللجوء لمحكمة العدل الدولية يتطلب بالأساس موافقة بكين ولكن حتى لو تم اللجوء لهذه المحكمة الدولية وقضت المحكمة على الصين بالتعويض فإن الأخيرة ستتجاهل ذلك. فقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن قضت بأن بناء الصين لجزر اصطناعية في بحر الصين الجنوبي ينتهك القانون الدولي، فتجاهلت بكين ذلك الحكم ببساطة، بل الأكثر من ذلك صرح مسؤول صيني بصريح العبارة بأن الحكم “ليس أكثر من قطعة ورق ! ”.
وقد كان بإمكان الدول المتضررة اتخاذ اللازم والشروع في إغلاق حدودها الجوية والبحرية والبرية مباشرة بعد تحسسها خطورة الأمر بدل الإبقاء على فتحها منذ الوهلة الأولى، ثم إغلاقها بعد تفشي الفيروس بسرعة. ففي هذه الحالة سيصعب الفصل بين الضرر الناتج عن تأخر الصين في الإعلان وبين الضرر المترتب عن تأخر الدول المتضررة ذاتها في اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة. فهنا إذا اقتنعت المحاكم الدولية بثبوت مسؤولية الصين عن الأضرار الناتجة عن تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19" ، فعليها أن تقتنع أيضا بتشطير المسؤولية لأن بعض الأضرار سببها الفيروس المستجد، وبعضها الآخر سببه برود بعض الدول في التعامل مع هذا الفيروس. كما أن إشادة منظمة الصحة العالمية بدور الصين في مكافحة الفيروس، سيجعل قرار ملاحقة الصين قضائيًا هو طعن في نزاهة وشفافية منظمة الصحة في الوقت ذاته باعتبارها منظمة عالمية، وحينها سيفقد المجتمع الدولي ثقته في جل منظماته الدولية، وسنكون في غنى عن ما يسمى "المنتظم الدولي" فكيف يُتوقع الاندفاع والمسارعة في اتخاذ إجراء ضد الصين في جريمة لا تتوافر الأدلة الكافية لإثباتها، وإذا توافرت فإن أمريكا ورفاقها يصنعون مقصلةً لا يأمن أيّ منهم سيوضع تحتها مستقبلا هو الآخر، لأنه كما أشرنا أعلاه، ففي اللحظة التي تبدأ فيها أي دولة بتجريد دول أخرى من الحصانة السيادية، فإنها تفتح على نفسها الباب لدعاوى قضائية في المحاكم الأجنبية لـدى الدول الأخرى، التي من المحتمل جدا أن تقرر أن تفعل نفس الأمر.
فعملية التقاضي صعبة في هذا الصدد نظرا لعدم وجود سوابق قضائية مماثلة، كما لا يخفى أن المعاهدات الصحية الدولية تطرقت لاحتمالية تفشي وباء عالمي ينتقل من دولة إلى أخرى، لكن لم تنص أي معاهدة على أن تدفع الدولة مصدر الوباء تعويضًا للدول الأخرى المتضررة. فمعظم المعاهدات لا تتضمن ضمن بنودها ما إذا كان انتهاك هذه الأخيرة يتيح للدول المتضررة المطالبة بتعويض مادي عن الأضرار.
وإذا كان القانون الدولي العرفي يفرض على الدولة التي تنتهك القانون الدولي أن تلتزم بالتعويض الكامل عن الضرر الناجم عن انتهاكها. وهو السند الذي استند عليه أنصار التوجه المؤيد للمطالبة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"، إلى جانب أمور أخرى كعدم شفافية الصين مع العالم، وتضليلها لمنظمة الصحة العالمية، فعلى مدار العدد الكبير من الأوبئة التي تعرضت لها البشرية، لم تدخل تلك القاعدة الدولية العرفية أبدًا حيز التنفيذ، حتى لو توافرت الشروط التي وضعها أنصار التوجه المؤيد لمطالبة الدول المتضررة بالتعويض عن ضرر تفشي الفيروس التاجي "كوفيد 19"، مثل انتهاك قوانين الشفافية أو الامتناع عن اتخاذ تدابير وقائية لمنع تفشي الفيروس. فعلى مدار التاريخ حدثت سجالات لفظية بين الدول عن كون إحداها هي المسئولة عن تفاقم أزمة وبائية ما، لكن لم تقم أي دولة بجدية بالمطالبة بالتعويضات عن الأضرار.
إن مصدر الفيروس المستجد مشكلة علمية معقدة جدا، فقط الخبراء والعلماء هم الذين يستطيعون البحث والتوصل إلى كشف الحقيقة، فكيف يمكن بكل بساطة استخلاص كل هذه النتائج التي لا تمت للواقع بصلة من دون الاستناد إلى أي حقيقة علمية؟ إن الحقيقة المقبولة دوليا، هي أن الصين استجابت للوباء وأبلغت عنه بطريقة منفتحة وشفافة ومسؤولة منذ البداية وحتى النهاية وقد أشادت منظمة الصحة العالمية بأن ”سرعة الصين وحجم العمليات التي قامت بها يعتبران نادرين على مستوى العالم“. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
كل هذا يفرض علينا سؤالًا بديهيًا: ألم تقم بعض الدول المتضررة بالفيروس المستجد بأية جرائم في حق الدول والشعوب الأخرى تستوجب جبر الضرر؟ وإذا كانت قد قامت بذلك فعلا، فهل اعترفت أو اعتذرت أو دفعت لهم تعويضات لجبر الضرر، أو على الأقل للتخفيف منه ؟
إجابة السؤال الأول: بلى، قامت بجرائم عدة تستوجب الاعتذار والتعويض وجبر الضرر. أما إجابة السؤال الثاني: لا.
فقس على ذلك !
فليس من المنطق ألا نعتذر عن أخطائنا، وفي الوقت نفسه لا نتوقف عن ملاحقة أية دولة أخرى مهما كان اقتصادها طلبًا للاعتذار والتعويضات أو تنازلات سياديّة في مجالات متعددة...
لقد حان الوقت لمطالبة الدول "العظمى" الغنية والمتهاونة في تحمل مسؤولياتها بأن تدفع "ضريبة مخاطر" للدول الفقيرة، خصوصا في إفريقيا، لتعطيلها من طرف هذه الدول عن الخروج من دائرة الفقر. ونقول أن ما يجب أن تحصل عليه هذه الدول في المقام الأول، في عز هذه الأزمة، هو تعويضات من الدول "العظمى" فهذه الصدمة الاقتصادية التي تعاني منها القارة الآن تولدت من قبل، وتفاقمت أكثر مع الأزمة الصحية التي ظهرت في الصين لتنتشر في باقي دول العالم، وستتفاقم أكثر مع استمرار الأزمة الصحية، بل ستستمر بعدها لا محالة، وهي صدمة قللت بشدة من الفرص التي كانت متاحة لإفريقيا لرفع مئات الملايين من سكانها من حالة الفقر وتجسير الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وبالإمكان تقدير قيمة التعويضات المستحقة لإفريقيا وذلك بالتشاور مع الاتحاد الإفريقي والدول المنضوية تحت عضويته، إلى جانب المنظمات العالمية والإقليمية، بما في ذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومصرف التنمية الإفريقي والاتحاد الأوروبي، ومن ثم تكلف الصين وبقية دول مجموعة العشرين بآلية التعويضات بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي وكل بلد إفريقي على حدة، بعدما استفادت هذه الدول وغيرها من خيرات وثروات إفريقيا، دون أن تستفيد إفريقيا من خيراتها وثرواتها. فالكل يعرف أين ثروة إفريقيا، ولا داعي لطرح سؤال أين ثروة إفريقيا؟
إننا ﻧﺮﻳﺪ ﺍلاﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺭﺱ ﻭ ﺃﺧﺪ ﺍﻟﻌﺒﺮﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺑﺎﺀ ﺷﻌوﺒﺎ ﻭ ﺣﻜﻮﻣات ... ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻻ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻭ ﺳﻨﻌﻮﺩ ﻟﺤﻴﺎﺗﻨﺎ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ !
ﻟﻜﻦ ﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻃﺒﻴﻌية، فحياة "الطبيعة" عادلة أكثر منها، نحن ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ حياة جديدة وعالم ﺟﺪﻳﺪ ﺗﺘﻜﺎﻓﺊ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻔﺮﺹ ﻭ ﻳﺘﺴﺎﻭﻯ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻗﺘﺼﺎﺩ ﺟﺪﻳﺪ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﺟﺪﻳﺪ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺻﺤﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ لعالم ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﺐ ﻭ الأستاذ ﻭﺭﺟﻞ النظافة ﻭﺍﻟﺒﺎﺣﺚ ﻭﺍﻟﻤﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﻄﺎﻟﺐ ﻭﺍﻟﺘﻠﻤﻴﺬ... نحن ﻧﺮﻳﺪ ﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﺇﻟﻰ عالم ﺑﺪﻭﻥ ﺗﺒذﻳﺮ للثروات ﻭتبخيس للإﻣﻜﺎﻧﺎت ﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ التي تزخر بها دول "العالم الثالث"... فالكفاءات التي كشفتها أزمة "كورونا" معظمها من دول "العالم الثالث" وأثبتت أنه ليس بعالم "ثالث" بل عالم غني وفريد، أريد له أن يهمش، ويكون في الترتيب الثالث !! بدل أن يكون عالم واحد، يتقدم للأمام، دون تفرقة بين أجزائه لخلق عدة عوالم.
فإفريقيا تعتبر موطناً لأكثر من %70 من حالات الفقر المدقع في العالم بأسره، حيث يعاني أكثر 400 مليون شخص من الفقر في مختلف أنحاء القارة، ويرزح العديد من بلدان القارة تحت طائلة أزمات الموازنة، الناتجة عن سوء إدارة الإيرادات المحلية وارتفاع الديون العمومية وانخفاض الإنتاجية. كذلك تعاني المؤسسات الصحية بإفريقيا من نقص حاد في الأدوية، والتجهيزات الطبية، الشيء الذي يتسبب في وفاة الكثير من الأبرياء نتيجة الإصابة بأمراض كان يمكن علاجها أو التعامل معها بسهولة. ناهيك عن الأمية والهدر المدرسي الذي ابتلي به أبناء القارة السمراء... كان ذلك قبل وقوع الجائحة، وليس من المستغرب انهيار النمو الاقتصادي للقارة، وتآكل المكاسب التنموية الصغيرة التي تمكنت من تحقيقها بعد الأزمة العالمية السابقة. وليس من المستبعد أن يدمر ما تبقى في البلدان الإفريقية المتهالكة أصلاً، والتي تفتقر للاحتياطات المالية المطلوبة لتقديم الدعم لمواطنيها الذين فرض عليهم الامتثال لقرارات الحجر الصحي والبقاء في المنازل.
أما الأسعار الخاصة بالسلع، فحدث ولا حرج، فقد ارتفعت بمعدلات فلكية بسبب الجائحة، فقد أدت إلى المزيد من عدم الاستقرار في الأوضاع المالية والاقتصادية للبلدان الإفريقية، لتصارع لوحدها من أجل البقاء وتلبية الاحتياجات الغذائية القصيرة الأجل لسكانها الفقراء، كل هذا في الوقت الذي أعلنت فيه البلدان المتقدمة في آسيا وأوروبا والأمريكتين عن حزم إسعافية طارئة ضخمة موجهة لشعوبها وشركاتها.
فعندما بدأ الفيروس يكتسح دول المعمور، وأحدث جروحاً غائرة في أوضاع الفئات الأكثر ضعفاً في مختلف أنحاء العالم، ظهرت قيمة التربية والتعليم والبحث العلمي... وهزالة الميزانيات المخصصة له. كما ظهر العالم مكشوفا بلا نظام صحي قوي وبلا تجهيزات كافية وبلا استعدادات لأي أزمة صحية، وظهرت شركات الأدوية والمختبرات كمجرد مضاربين في البورصة، وفي هذه اللحظة بالضبط وأمام ندرة المعدات والتجهيزات الطبية والصحية... وعدم كفاية الأطباء والأطر الصحية... اضطرت بعض دول العالم "الثالث"، للانحناء أمام حاجتها للاستيراد وطلب التعاون والمساعدة، لكن بالمقابل فبعض دول العالم "الثالث"، أبانت على قدراتها في تحقيق ذاتها بعد استقلالها، والتخلص من أثار الاستعمار.
لقد تأخر عالمنا كثيراً في تبني سياسة جديدة لتجنب المخاطر العالمية ، خصوصا تلك التي تترك الفئات الهشة والفقيرة عرضة للمعاناة بسبب إخفاقات الأغنياء والأقوياء. وتتخذ هذه المخاطر صورا متباينة تطفو إلى السطح كل لحظة، مثل الأضرار البيئية والتغيرات المناخية والعمليات الإرهابية وانعدام الأمن الغذائي وتفشي الجرائم وظهور الأزمات الصحية فضلا عن أعمال الشغب، والاحتجاجات العارمة، والإضراب وركود المستوى المعيشي... وفي الغالب تكون الدول الأوفر حظا هي مصدر كل هذه المخاطر.
فهذا الوضع الذي يتحمل فيه فقراء "العالم الثالث" الذين لا حول لهم ولا قوة، يتحملون على عاتقهم أعباء التقدم والتنمية في البلدان "المتقدمة" وضع يجب أن لا يستمر.
إجمالا، فعندما نمر بالأزمة، نحتاج إلى إعادة تقييم قدرتنا على التعامل مع التهديدات غير التقليدية لمجتمعاتنا، ولا يمكننا تجاوز الصدمة مرة أخرى دون الاستعداد بشكل أفضل. وفي اللحظة، وفي خضم جائحة الفيروس التاجي المستجد، وتناغما مع ما اختتم به ابن خلدون توصيفه، في مقدمته ، لأهوال أوبئة وطواعين عام 749هـ ــ 1348م وتداعياتها على الإنسان والعمران، بالقول: «وإذا تبدلت الأحوالُ جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحوّل العالم بأسره، وكأنه خلقٌ جديدٌ، ونشأةٌ مستأنفةٌ، وعالَمٌ مُحدَث»، تقطرت وتنسلت تنظيرات المفكرين والمنظرين وقادة الدول والسياسيين والإعلاميين، وانبرت الصحف والدوريات ذائعة الصيت... في تبيان مدى جهوزية الفيروس التاجي المستجد "كوفيدــ19" لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد... والنظام العالمي الجديد الذي نتوخاه نريده أن يقوم على تقديم يد العون لدول العالم النامية لمساعدتها على النهوض، وليس تركها طريحة تتلقى الهبات والصدقات، ونريد الإعلان عن تدشين نظام تعليمي وصحي عالمي أكثر فعالية وعدالة، ليكون نواة لنظام دولي إنساني، بعدما أكدت جائحة كورونا، وجوبية التعاون العالمي من منطلق المسؤولية الجماعية الدولية من خلال تفعيل آليات الإنذار المبكر، واستراتيجيات التنسيق المشترك ودعم نظام الحوكمة الدولي ومراكز البحث العلمي... بغية مواجهة الأزمات خصوصا تلك الأزمات الوبائية، التي تبين للجميع صعوبة واستحالة تصدي دولة بمفردها لها، مهما كانت إمكاناتها.
إن النموذج الحالي القائم على تقديم المساعدات التنموية بيد وأخذ الخيرات بيد أخرى، هو نموذج فاشل و ليس بمقدوره تحقيق أي تغيير جذري وحقيقي وملموس في توزيع الثروة، إننا بحاجة ماسة إلى نموذج جديد يقطع مع سياسة الماضي، ويقوي المواطنين ويرفع مكانتهم، ويمكنهم من المشاركة في اتخاذ القرارات ومسارات الخروج من أزمة الفقر والهشاشة وبناء الأنظمة التعليمية والصحية والقدرات الاقتصادية... فليس من الصعب العودة عن السياسات والقرارت الخاطئة، بل الأصعب هو التمادي فيها، فالمساعدات وحدها لا تكفي، وإلا فإن اللوم عندئذ سيقع على مجموعة من الدول، لا الصين وحدها.
لقد حان الوقت لبلورة نموذج تنموي جديد في العالم، على أن تكون نقطة البداية منح الدول "العظمى" لفقراء العالم "الثالث" مستحقاتهم؛ على العالم أن يدفع، من أجل العالم.