MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



حصانة المرافعة في القانون المغربي، مداخلة للدكتور خالد خالص

     



المداخة التي ألقاها الدكتور خالد خالص

يوم 20 أبريل 2024 حول "حصانة المرافعة" بمناسبة الندوة التي نظمتها هيئة المحامين بالرباط بشراكة مع نادي قضاة المغرب وترانسبارانسي المغرب والجمعية المغربية لاستقلال القضاء بخصوص"الضمانات القانونية والمؤسساتية لاستقلال القضاة والمحامين".


السيد نقيب هيئة المحامين بالرباط؛
السيد وزير الدولة،
السيد رئيس جمعية هيئات المحامين بالمغرب،
السادة النقباء؛
السيد رئيس نادي قضاة المغرب؛
السيد رئيس " ترنسبارانسي المغرب"؛
السيد رئيس الجمعية المغربية لاستقلال القضاء؛
زميلاتي زملائي؛
أيها الحضور الكريم كل باسمه وصفته ومركزه والاحترام الواجب لشخصه؛

أود في البداية أن أتقدم بشكري وامتناني الى كل من السيد نقيب هيئة المحامين بالرباط والسيد رئيس "ترنسبارانسي ماروك"، على هذه الدعوة الكريمة، وهذا التشريف، للمشاركة والمساهمة معكم في هذه الندوة الفكرية الهامة، حول "الضمانات القانونية والمؤسساتية لاستقلال القضاة والمحامين"، بمداخلة حول "حصانة المرافعة"، للوقوف على مدى الحماية التي يوفرها المشرع المغربي للمحامي، ليتمكن هذا الأخير من تحمل مسؤوليته الجسيمة، والقيام بمهامه داخل الجلسة، بدون خوف من التهديد أو المتابعة أو الاعتقال.
والى جانب مسؤولية المحامي فإن المسؤولية الملقاة على عاتق القضاة هي مسؤولية كبيرة وخطيرة أيضا لأن القضاة – وأعني هنا الجنسين - مطالبون بالتطبيق العادل للقانون لتحقيق العدالة والمساهمة بشكل وافر في إقرار السلم الاجتماعي.
ولكي يتمكن القاضي من القيام بمهامه هاته بدون خوف أو تهديد، فإن الدستور المغربي وفر له حماية قوية، لم يوفرها لغيره من أصحاب المهن القانونية الأخرى، وذلك بمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، وبمعاقبة كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، وبمنع القاضي من تلقي أي أوامر أو تعليمات، أو الخضوع لأي ضغط. كما أوجب على القاضي، كلما أعتبر أن استقلاله مهدد، إحالة الأمر على المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ولم يلزمه إلا بتطبيق القانون وبإصدار أحكام القضاء، على أساس التطبيق العادل للقانون لا غير.
إلا أن القاضي، ولإن كان يترأس الجلسات، ويعمل على تسييرها، ويتحمل مسؤولية سلطة حفظ نظامها وإصدار الاحكام، فإن المحاكمة لا يختص بها القاضي لوحده، بل هي عمل جماعي يتدخل فيه إلى جانب القاضي العديد من الفاعلين، كل من موقعه، حسب نوع القضية المعروضة على القضاء، انطلاقا من المتقاضي ودفاعه، وكاتب الضبط، والنيابة العامة، وقاضي التحقيق والشهود والترجمان والخبير وغيرهم. ولكل واحد من هؤلاء الفاعلين واجبات إن تقاعس عن القيام بها أحدهم أختلت المحاكمة.
وأمام ما يقوم به المحامي من مهام جسام، وما يتحمله من مسؤوليات قد تعصف به مدنيا أو تأديبيا وحتى جنائيا، فان المجتمع لا يعتبره مجرّد رقم يقدم خدمات قانونية، بل ينظر اليه كرجل قانون، يلعب دورا أساسيا وبارزا في منظومة العدالة، ورجل مهني يشارك ويساهم في تحقيق العدالة، ورجل يؤثر في مجتمعه أيما تأثير.
ولم يأتي ذلك من فراغ، بل لأن المحاماة وإن كانت مهنة حرة مستقلة، إلا أنها تحمل في طياتها رسالة إنسانية سامية، شريفة ونبيلة، رسالة مبادئ ومواقف، تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة، وفي إرساخ دولة القانون، وكفالة حق الدفاع، عن حياة وحريات وشرف وكرامة وأموال المواطنين، الأمر الذي يجعل من المحامي فاعلا أساسيا في العالم القانوني والقضائي والحقوقي.
وحتى يتمكن المحامي من تحمل مسؤولية الدفاع عن الغير، فقد جعل المشرع من واجباته أن يكون مستقلا داخل الجلسة وخارجها، سواء عن القاضي أو عن غيره، طبقا للمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب، والتي جعلها الدستور المغربي في تصديره تسمو على التشريعات الوطنية، وطبقا للقانون المنظم للمهنة (المواد 1، 3، 4، 12، 58 ...) وطبقا للأنظمة الداخلية للهيئات، ولأعراف وتقاليد وأخلاقيات مهنة المحاماة.
والاستقلال يعني أن على المحامي إقامة مسافة كافية بينه وبين الآخرين حتى لا يتحكموا فيه، سواء تعلق الأمر بحريته في التفكير، أو بحريته في الكلمة وحريته في الحركة، في إطار الهالة والوقار الذي يقتضيه المقام، إذ لا يمكن للمحامي الدفاع عن مصالح الغير، إن لم يكن هو أولا وقبل غيره حرا ومستقلا.
وفي هذا الإطار، ولضمان استقلال المحامين، ودعم دولة القانون، ارتأى المشرع بأن يوفر للمحامي الحماية الكافية، وأن يعزز له الضمانات التي تساعده على تخطي صعاب مهامه، لتفادي المخاطر التي قد تنتج عن ممارسة رسالته داخل الجلسة وخارجها.
ومن جملة الضمانات المقررة لفائدة المحامي بالقانون المنظم لمهنة المحاماة، ما ورد في الباب الخامس منه، تحت عنوان "حصانة الدفاع"، حيث تنص المادة 58 منه على أن "للمحامي أن يسلك الطريقة التي يراها ناجعة طبقا لأصول المهنة في الدفاع عن موكله. ولا يسأل عما يرد في مرافعاته الشفوية، أو في مذكراته مما يستلزم حق الدفاع. ولا يمكن اعتقال المحامي بسبب ما قد ينسب له من قذف أو سب أو إهانة، من خلال أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته المهنية أو بسببها. وتحرر المحكمة محضرا بما قد يحدث من إخلال، وتحيله على النقيب، وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما".
فالمشرع خص المرافعة بمقتضى هذه المادة بحصانة قوية، إذ يستحيل على المحامي أن يمارس مهامه وهو غير مستقل، ولا أن يجهر بالحق بكامل الحرية والصراحة والجرأة والحماس، إن لم يكن محصنا من أي تهديد أو ضغط أو متابعة أو اعتقال يستهدف إخراسه.
وتعتبر المادة 58 التي ناضل من أجلها المحامون، من أهم التعديلات التي جاء بها قانون 2008 لتكريس وتعزيز حصانة المحامي عند أدائه لرسالته، وعدم متابعته بمناسبة مرافعاته، ولتعزيز استقلاله واستقلال هيئته في نفس الوقت، إذ أصبح مجلس الهيئة هو المختص الوحيد في تأديب المحامي عند إخلاله بنظام الجلسة -في حدود ما تنص عليه هذه المادة- تحت رقابة القضاء.
فإذا كان الفصل 44 من قانون المسطرة المدنية، ينص على أنه "إذا صدرت خطب تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا من أحد الوكلاء الذين لهم بحكم مهنتهم حق التمثيل أمام القضاء، حرر رئيس الجلسة محضرا وبعثه إلى النيابة. فإذا تعلق الأمر بمحام بعثه إلى نقيب الهيئة"، فإن الفصل 341 من نفس القانون كان ينص على أنه "إذا صدرت من محامين أقوال تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا أمكن لمحكمة الاستئناف أن تطبق عليهم بقرار مستقل، العقوبات التأديبية إما بالإنذار أو التوبيخ وحتى الحرمان من مزاولة المهنة لمدة لا تتجاوز شهرين أو ستة أشهر في حالة العود في نفس السنة".
فالمشرع لم يكن في السابق يفرق بين سلطة الاتهام وبين سلطة الحكم في مجال التأديب أمام الهيئة القضائية بمحكمة الاستئناف دون غيرها، حيث منحها الحق في إصدار عقوبات الإنذار والتوبيخ، بل وقد تصل العقوبة إلى الحرمان من مزاولة المهنة لمدة شهرين وأكثر، وهو الأمر الذي لم يكن مقبولا من قبل المهنيين والحقوقيين لأن القاضي كان خصما وحكما في نفس الوقت، وكانت تنتفي فيه الصفات التي يلزمه بها الدستور ولا سيما صفة التجرد والاستقلال.
وباعتبار أن الفصل 341 من ق.م.م كان يتنافى ومبادئ شروط المحاكمة العادلة والاستقلال الجماعي للمحامين، بل وباعتباره أصبح بعد سنة 2008 يتناقض مع المادة 58 من قانون مهنة المحاماة، فإن تعديلا قد تم على هذا الفصل سنة 2011 حيث أصبح ينص على أنه " إذا صدرت من محامين أقوال تتضمن سبا أو إهانة أو قذفا تحرر المحكمة محضرا بذلك وتحيله على النقيب وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ ما قد يكون لازما"، وهو الأمر الذي صار ينسجم مع المادة 58 من القانون المنظم للمهنة.
ودائما في إطار التنسيق بين القوانين، جاءت المادة 86 من القانون رقم 88.13 المؤرخ في 10 أغسطس 2016 المتعلق بالصحافة والنشر، لتقرر خلافا للفصل 57 من قانون الصحافة لسنة 1958 و 2003 بأنه: "لا تقبل أي دعوى بالقذف أو السب الناتج عن نشر بيان صحيح صادر عن حسن نية حول المرافعات القضائية بالجلسات العلنية للمحاكم ولا عن المذكرات أو المحررات المدلى بها لدى المحاكم والمناقشة علانية بجلساتها العمومية، غير أن القضاة المحالة عليهم القضية والمخول إليهم البث في جوهرها، أن يأمروا بحذف البيانات المتناولة للقذف والسب.
غير أن ما تضمنه القذف وكان خارجا عن صميم القضية يمكن أن يفتح مجالا لإقامة دعوى عمومية وإما لإقامة دعوى مدنية من لدن الطرف المعني.
وإذا تعلق الأمر بمحام يجب على المحكمة المعنية، مهما كانت درجتها، أن تحرر محضرا تحيله على نقيب هيئة المحامين التي ينتمي اليها المحامي المعني وعلى الوكيل العام للملك لاتخاذ المتعين".
فالمشرع المغربي يضمن للمحامي "حصانة المرافعة "، ويقال عنها أيضا "حصانة البذلة"، من خلال القانون المنظم لمهنة المحاماة (المادة 58) ومن خلال قانون المسطرة المدنية (المادة 44 و341) ومن خلال القانون المتعلق بالصحافة والنشر (المادة 86) ويستوي أن تكون المرافعة شفوية أو من خلال مقالات أو مذكرات او مستنتجات.
إلا أن حصانة المرافعة ليست بحصانة مطلقة، كما أن حرية التعبير التي يتمتع بها المحامي ليست بحرية مطلقة. ذلك أن المشرع يضفي على جلسة المحاكمة الحماية القانونية اللازمة لضمان حسن سيرها، واحترام القائمين عليها من أي إخلال قد يضر بهالتها، كما يلزم المشرع المحامي من خلال قسم المهنة المنصوص عليه بالمادة 12 من القانون المنظم لمهنة المحاماة وبمقتضى أخلاقيات المهنة بالتحلي بالاحترام الواجب للقضاء.
ومن تم فإن الحصانة، حسب النصوص المذكورة، لا تحمي المحامي إلا من الاعتقال، بسبب ما ينسب له من قذف أو سب أو إهانة، من خلال أقوال أو كتابات صدرت عنه أثناء ممارسته المهنة أو بسببها، إلا أنها لا تعفيه من المسائلة التأديبية، حيث يتم تحرير محضر بما حدث ويحال على النقيب وعلى الوكيل العام لاتخاذ ما قد يكون لازما.
كما أن حصانة المرافعة لا تمتد الى باقي جرائم الجلسات (المعروفة أيضًا بالإخلال بالنظام العام في قاعة المحكمة أو بازدراء المحكمة)، التي قد يرتكبها المحامي داخل جلسة المحاكمة أثناء نظر الدعوى، وقد تكون أفعال تشويش أو إخلال لا يرقى إلى مرتقى الجريمة، أو أن تشكل تلكم الأفعال جريمة سواء كانت جناية أو جنحة أو مخالفة، وهي في كلا الحالتين تخل بالنظام الواجب توفيره للمحكمة.
ومن جهة أخرى، فإن الحصانة لا ترافق المحامي خارج قاعة الجلسات، كإفشاء السر المهني، وسرية التحقيق، ونشر ما يروج في الجلسات السرية، ونشر الأخبار الكاذبة، والأخبار الماسة بمقومات المجتمع، واستعمال العالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف السب والقذف والإهانة والتشهير والتحريض والابتزاز والاعتداء على الحياة الخاصة للغير، وغيرها من الجرائم التي أصبحت ترتكب من قبل بعض المحامين حيث لن تشفع لهم حصانة البذلة من المسائلة والمتابعة وحتى الاعتقال والادانة ...
ولقد وزع نقيب هيئة المحامين الأسبق لهيئة كبيرة بالمغرب منشورا يستنكر فيه الخرجات الغير موفقة لبعض النقباء ولبعض المحامين عبر بعض المنصات الرقمية كما تم تأديب بعض الزملاء هنا وهناك لعدم احترامهم لأخلاقيات المهنة.
وحتى نكون على بينة من مدى حضور حصانة البذلة من غيابها فإننا نورد هنا بعض الأمثلة على سبيل الاستئناس لكل غاية مفيدة:
- الحالة الأولى تخص محاميا دافع بقوة عن موكله المتهم بالفساد حيث اتهم مسؤولين حكوميين بالتواطؤ حيث تم تمتيعه بحصانة المرافعة بالرغم من الشكايات التي قدمت ضده من أجل متابعته بتهمة التشهير.
- الحالة الثانية تتعلق بتصريحات أدلى بها محام في مؤتمر صحافي في قضية يترافع فيها وباعتبار أن التصريحات لم تصدر داخل جلسة قضائية فقد تم تأديبه من قبل مجلس الهيئة لتجاوزه حدود الاخلاقيات المهنية ولم تمته هيئة التأديب بحصانة المرافعة.
- الحالة الثالثة تتعلق بمحام نشر مقالات تنتقد بشدة قرارات قضائية حيث تجاوز النقد حدود اللباقة معتمدا على حصانة المرافعة لتجنب التبعات القانونية إلا أن القضاء اعتبر بأن نشر الآراء خارج الإطار القضائي لا يخضع لحصانة البذلة.
- الحالة الرابعة تخص محاميا رافق مفوضا قضائيا لتبليغ قرار النقيب بتحديد الاتعاب لموكله حيث وقع تشابك بالأيدي بينه والموكل انتهى بضرب هذا الأخير حسب شهادة الشهود حيث لم تنفع معه حصانة الدفاع
- الحالة الخامسة تم طرد محام من الجلسة لمجرد أنه احتج بصوت مرتفع على القاضي الذي كرر نفس السؤال ثلاث مرات لمتقاضي وهدده بالسجن وتم الطعن في هذا الحكم الذي تم إلغاؤه.
- الحالة السادسة وكانت في ظل القوانين السابقة تخص محاميا تدخل بصورة عنيفة أمام الهيئة بمحكمة الاستئناف بالرباط وهو يصيح بأعلى صوته ويقول بأن "هذا ليس بسلوك وأن المحكمة خرجت عن الحياد وأن لها موقف من الدفاع" حيت حرر محضر بالواقعة أحيل على الوكيل العام الذي أحاله على نقيب الهيئة الذي أحاله على مجلس الهيئة الذي أصدر مقررا بعدم الاختصاص فطعن الوكيل العام للملك في المقرر حيث أصدرت محكمة الاستئناف (غرفة المشورة) قرارا بمؤاخذة المحامي المعني.
- الحالة السابعة تسجيل أو تصوير المحامي لوقائع الجلسة بدون إذن المحكمة؛
ولابد من الإشارة بل ومن التنبيه بانه لابد للمحامي في ظل التطورات الرقمية بأن يستحضر كيف يوازن بين حصانة المرافعة التي تكون حبيسة قاعة المحاكمة والتزامات المحامين الأخلاقية والمهنية لتظل هذه الحصانة تخدم الغرض منها ألا وهو حماية العدالة وكفالة حق الدفاع.
هذا ما لدي قوله عن حصانة المرافعة في القانون المغربي
أشكركم على اصغائكم وسعة صدركم؛
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
دكتور في الحقوق
محامي بهيئة المحامين بالرباط



السبت 27 أبريل 2024
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter