مجرد أن رفعت الحكومة ورقة التوت عن التزاماتها في الحوار الاجتماعي المركزي (اتفاق جولة أبريل 2024 تنفيذا لالتزامات الاتفاق الجماعي لـ 30 ابريل 2022)، دون الالتزام بالزيادة في مبالغ المعاشات على غرار التزامها بتحسين الدخل لفائدة موظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية وأجراء القطاع الخاص، حتى ضَجَّت جميع وسائل التواصل الاجتماعي ومختلف هيئات المتقاعدين بالاحتجاج مُستنكِرَة إغفال الزيادة في مبالغ المعاشات.
وفي هذا الاتجاه طالبت بعض جمعيات وهيئات المتقاعدين بتنظيم وقفات احتجاجية، وبعضها نَاصَر فكرة إحداث تنظيم نقابي خاص بالمتقاعدين بل إن البعض استَحبَّ تكوين حزب سياسي… واختلط الحابل بالنابل… وطغى الغَبَشُ على الرؤية !!
لكن معالجة الموضوع تستدعي الروية والهدوء والارتكان إلى الحصن المتين المتجسد في القانون للإحاطة بِمدَى تَضمُّن النصوص التشريعية والتنظيمية لآلياتٍ تُمكِّن من الزيادة في المعاشات أم أن هذا الأمر يندرج في باب الاستحالة الفعلية /القانونية؟
في هذا الصدد يُحِيل نظام الضمان الاجتماعي إمكانية إعادة تقدير معاشات الزمانـة والشيخوخة والمتـوفى عنهم إلى مرسوم تصدره الحكومة (الفصل 68 من الظهير الشريف بمثابة قانون بتاريخ 27 يوليوز 1972 يتعلق بالضمان الاجتماعي كما تم تغييره وتتميمه، جريدة رسمية »= ج.ر » عدد 3121 بتاريخ 23 غشت 1972)، مما يَشِي بأن رفع مبالغ هذه المعاشات رَهِينٌ بإرادة حكومية تتداخل /تتقاطع بشأنها عدة معطيات سياسة واقتصادية واجتماعية…
أما نظام المعاشات المدنية (القانون رقم 011 .71 بتاريخ30 ديسمبر 1971 المحدث بموجبه نظام المعاشات المدنية، ج. ر عدد 3087 مكرر بتاريخ 31 دجنبر 1971) والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد (ظهير شريف بمثابة قانون رقم 1. 77. 216 بتاريخ 4 أكتوبر 1977 يتعلق بإحداث النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، ج . ر عدد 3389 مكرر بتاريخ 13 أكتوبر 1977) فَتحكُم عملية رفع مبالغ معاشات متقاعديهما إجراءات قانونية/ فنية… قد تساهم إما في التمكين من الحصول على الزيادة المرغوبة وإما أن تنتصب عَقبَة في وجهها… مما يدفعنا للتطرق بالدراسة والتحليل والنقد للأسس القانونية الرامية للزيادة في مبالغ معاشات متقاعدي نظام المعاشات المدنية (أولا) والنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد (ثانيا)، لنخلص في الختم لتأكيد فرضية إمكانية الزيادة من استحالتها.
(أولا) رفع معاشات متقاعدي نظام المعاشات المدنية
وفق الفصل 44 _ 2 من نظام المعاشات المدنية تضاف إلى معاشات التقاعد ومعاشات ذوي الحقوق كل زيادة تطرأ على المرتب الأساسي (Traitement de base) المخصص للدرجة والسلم والرتبة التي كان ينتمي إليها الموظف أو المستخدم عند حذفه من أسلاك الإدارة، مما يدفعنا للتساؤل عن المقصود بالمرتب الأساسي؟ وهل يخضع فعلا لزيادة متتالية أو دورية؟ وما علاقته بالأجرة؟
ينص الفصل 26 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (ج. رعدد: 2459 بتاريخ 11دجنبر 1959) على أنه “تشتمل الأجرة على المرتب والتعويضات العائلية وغيرها من التعويضات والمنح المحدثة بمقتضى النصوص التشريعية والتنظيمية”، مما يفيد بأن الأجرة تتكون من العناصر التالية: المرتب، والتعويضات العائلية، والتعويضات والمنح المحدثة بمقتضى نصوص تشريعية وتنظيمية (= التعويضات الدائمة).
ويتكون هذا المرتب (Traitement) من تعويض عن الإقامة ومن مُرَتَّبٍ أساسي (Traitement de base)، حيث بخصوص هذا الأخير تُحدَث فيما يخص أسلاك موظفي الدولة الجاري عليهم النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية سلالم أجور تُخَصَّص لها أرقام استدلالية مع تحديد قيمتها السنوية الإجمالية (بخصوص شبكة الأرقام الاستدلالية أنظر المرسوم رقم 2-62-344 بتاريخ 8 يوليوز 1963 بتحديد سلالم الأجور وشروط ترقي موظفي الدولة في الرتبة والدرجة، ج.ر عدد 2648 بتاريخ 26 يوليوز 1963 ونصوص أخرى ذات صلة).
وبناء عليه، فإن أي زيادة تطرأ على المرتب الأساسي، أي الزيادة في القيمة السنوية للأرقام الاستدلالية، تُفضِي بقوة القانون إلى الزيادة في معاشات المتقاعدين… وهذه حقيقة قانونية تُفرِح جميع المتقاعدين… لكن الواقع الحقيقي يُخالِف هذه الحقيقة لِعدَم تفعيلها…
فقد كان المرتب الأساسي (Traitement de base) في مرحلة سابقة يُعتبر بمثابة العنصر الأساسي للأجرة، غير أن الأمر لم يعد كذلك بعد تَخْصِيصِ التعويضات الدائمة المحدثة بنصوص تشريعية وتنظيمية بكل زيادة تَطْرأ على الأجرة دون المرتب الأساسي الذي لم تَطْرَق بابه أي زيادة منذ فاتح يوليوز 1997 (المرسوم رقم 2. 96. 815 بتاريخ 11 نوفمبر1996،ج. ر عدد4436 بتاريخ 5 ديسمبر1996) مما حَالَ دون الزيادة في معاشات متقاعدي نظام المعاشات المدنية باستثناء ما ترتب عن التخفيض الجزافي للضريبة على الدخل.
ومَرَدُّ عدم تفعيل هذه الآلية (الزيادة في المرتب الأساسي) يتجسد في كون إِعْمالها يترتب عنه تكاليف باهظة بالنسبة للميزانية العامة… وإن كان هذا الدفْع له جانب كبير من الصواب المِيزانِيَاتي، فإنه لا يَحُول دون النَّبْشِ عن آليات لمراجعة منظومة الأجور بغاية محاربة التمييز الأَجْرِي بين الموظفين، واعتماد قواعد أساسية لمنظومة أجور/ معاشات تتسِّم بالعدالة والمساواة لفائدة الموظفين والمستخدمين والأجراء والمتقاعدين على حَدٍّ سواء.
(ثانيا) إعادة التقييم السنوي للنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد
لئن كانت الزيادة لا تعرف سبيلا إلى معاشات متقاعدي نظام المعاشات المدنية إلَّا عبر آلية الزيادة في المرتب الأساسي الصعبة التفعيل والمَوْسُومة بالاستحالة في العقود الأخيرة، فإن معاشات متقاعدي النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد (= النظام الجماعي) تعرف تطورا بواسطة تحديد نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام الجماعي.
ويتجسد الإطار القانوني لتحديد هذه النسبة في الفقرة الثالثة من الفصل 35 من المرسوم رقم 2.20.935 بتاريخ 27 يوليو2021 بتغيير وتتميم المرسوم رقم 2.77.551 بتاريخ 4 أكتوبر 1977 بتحديد كيفيات تطبيق النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد -النظام العام-(ج.ر عدد 6284 بتاريخ 19 أغسطس 2021)، والتي تفيد بأنه:
_ تُحدد نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام في ثلثي (3/2) نسبة تطور أجرة النظام السنوية المتوسطة برسم السنة المعنية،
_ ويُحدد أقصاها (أي نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام) في نسبة تطور الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك من نفس السنة.
وللإحاطة بمضمون هذه الفقرة يتعين تعريف كل من أجرة النظام السنوية المتوسطة والرقم الاستدلالي عند الاستهلاك.
فأجرة النظام السنوية المتوسطة عن سنة معينة تعادل حاصل قسمة مجموع الأجور السنوية الممنوحة لجميع المنخرطين في النظام المبينة في التصريحات التي قدمها المُنضَمون برسم السنوات السابقة على مجموع الخدمات المصرح بها.
أما الرقم الاستدلالي عند الاستهلاك فيعتبر مؤشرا سوسيو اقتصاديا يُستعمل لقياس التطور النسبي للأثمان عند التقسيط، في الزمان والمكان، لِسَلَّةٍ تضم مختلف المواد والخدمات التي تمثل العادات الاستهلاكية للساكنة المرجعية.
ويستعمل هذا الرقم الاستدلالي للقيام بعدة عمليات من قَبِيلِ تحليل الظرفية الاقتصادية، غير أنه يستعمل أساسا كأداة لقياس المعدل العام للتضخم إذ أن معدل التضخم ليس إلا النسبة المئوية لِتَغيُّر هذا المؤشر بين فترتين.
والتفاعل الجَدَلِي بين كل العناصر السالفة الذكر (نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام و(3/2) نسبة تطور أجرة النظام السنوية المتوسطة ونسبة تطور الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك) يُفضِي إلى تحديد نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام (نسبة الزيادة في المعاشات) برسم سنة معينة في حدود ثلثي (3/2) نسبة تطور أجرة النظام السنوية المتوسطة مع تحديد أقصى نسبة لإعادة التقييم السنوي للنظام في نسبة تطور الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك من نفس السنة.
ولتوضيح الأمر ندرج المثال التالي على أساس أن:
– نسبة تطور أجرة النظام السنوية المتوسطة برسم سنة معينة= ستة في المائة (6%)،
– نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام برسم نفس السنة = أربعة في المائة (4%) (= 3/2 نسبة تطور أجرة النظام السنوية المتوسطة المحددة في 6%)،
– نسبة تطور الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك من نفس السنة= خمسة في المائة (5%).
فالخلاصة تؤكد على أنه يتم الاحتفاظ بنسبة إعادة التقييم السنوي للنظام المحددة في أربعة في المائة (4%)، لعدم تجاوزها نسبة تطور الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك من نفس السنة المحدد في خمسة في المائة (5%).
وغني عن البيان أنه في حالة تجاوز نسبة إعادة التقييم السنوي للنظام نسبة تطور الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك فإنه يتم التخفيض من نسبة إعادة التقييم السنوي في حدود نسبة تطور الرقم الاستدلالي المذكور.
في الختم:
جوابا عن فرضية إمكانية أو استحالة رفع مبالغ المعاشات المبينة في البدء أعلاه، يتضح أن الإمكانية المعنية مُتاحَة بشكل قانوني وفعلي لمتقاعدي النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد مع ضرورة تحصين هذا المُكتَسب من القَضْمِ والتقليص !!
في حين أن الزيادة في معاشات متقاعدي نظام المعاشات المدنية مقيدة بشروط صعبة التحقيق لِنَخْلُص إلى وجود استحالة فعلية بمثابة صعوبة التنفيذ على حد قول المسطرة المدنية (صعوبة تنفيذ مقتضيات الفصل 2-44 من نظام المعاشات المدنية!)
وقد يقول قائل ولما لا يستفيد متقاعدو نظام المعاشات المدنية من الزيادة في المعاشات على غرار مُنتسِبي النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد؟
وهو سؤال يبدو لدى البعض منطقي…غير أنه لا يَتَسَاوَقُ مع المنطق القانوني…
وعِلَّة ذلك تتمثل في كون نظام المعاشات المدنية يعمل بتقنية التوزيع الذي تقوم على أساس التضامن بين الأجيال مع تَحمُّلِ المساهمين لنفقات معاشات المتقاعدين، بخلاف النظام الجماعي الذي يمزج بين تقنيتي التوزيع والرسملة حيث ترتكز الرسملة على معاملة كل منخرط بشكل انفرادي ويُفتح له حساب فردي يُشكِّل المرجع الأساسي لاحتساب معاشه.
وفي ظل استحالة رفع مبالغ معاشات منتسبي نظام المعاشات المدنية المُرْتَهِن لتقنية التوزيع، يظل السؤال الحارق يفرض نفسه …ما العمل؟ ما الحل؟
هل هو نسخ الفصل 2-44 من نظام المعاشات المدنية؟ ولنفرض جدلا أنه تم النسخ فإنه يجب تحديد آلية جديدة للزيادة في مبالغ المعاشات… وهنا هل يتعين الانحياز إلى الزيادات التي تَطَالُ التعويضات الدائمة المُحدَثة بنصوص تشريعية وتنظيمية للزيادة في مبالغ المعاشات؟
من المعلوم أن الزيادة في الأجور عبر الرفع من مقادير التعويضات الدائمة تَمس في فترات متباينة هيئات دون أخري (مرة هيئة الأطباء والصيادلة وجراحي الأسنان المشتركة بين الوزارات، ومرة هيئة الأساتذة الباحثين بالتعليم العالي….) مما يفيد أن من سيستفيد من المحالين على التقاعد، في هذه الحالة، هم المتقاعدون المنتمون سابقا للهيئات التي لحقت الزيادة مبالغ تعويضاتها الدائمة فقط دون بقية المتقاعدين…. في حين أن المتقاعد يفقد صفة الموظف وتوابعها من امتيازات وزيادات من تاريخ الإحالة على التقاعد…. كما أن الأخذ بهذا الطرح ضرب صَارِخٌ لمبدإ المساواة بين المتقاعدين.
ومن غَيَبَاتِ هذه الاستحالة يمكن اقتراح رفع مبالغ المعاشات كلما كانت هناك زيادة عامة في أجور الموظفين …وهذا الاقتراح يروم الحيلولة دون تدهور القوة الشرائية للمتقاعدين والحفاظ عليها من الموت بالضربة القاضية… إلى حين اعتماد آلية تَتوَخَّى رفع الأجور والمعاشات بصفة دورية كلما بلغ التضخم نسبة معينة مَنْعًا لتآكل القوة الشرائية.
وديمومة هذا التَآكُل تُفضِي إلى ضعف النمو الاقتصادي بما يترتب عنه من مآسي اجتماعية قد تُقوِّض أسس الدولة الاجتماعية، من قَبِيلِ ارتفاع نسبة البطالة وضعف التوظيف والتشغيل وبالتالي حرمان أنظمة التقاعد من موارد مالية محتملة جَرَّاء تَقلُّص عدد المنخرطين بسب البطالة المرتفعة.
وهذه الوضعية تؤدي حتما إلى اختلال التوازن المالي لهذه الأنظمة لِاسْتِرجَاعِه لابد من العمل على التخفيض من معدل البطالة الذي يخضع لتقلبات السوق…ويَظَل مخرج الإغاثة الحكومي لعودة التوازن المالي المفقود مُنْحصِر في إلزامية الزيادة في نسبة المساهمات ورفع سن الإحالة على التقاعد والتخفيض من مبالغ المعاشات (بدلا من الزيادة في قيمتها !!) … واعتماد « إصلاح جديد » …ضمن دوامةٍ في شكل زَوْبعَةٍ قد لا تنتهي… ولن تساهم بشكل فعال في إرساء القواعد الصلبة للدولة الاجتماعية !