يوم 31 يناير2020 ناقش الطالب الباحث أشرف الصابري، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي- الرباط- أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الخاص تحت عنوان " السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد المالي والإداري" أمام لجنة علمية مكونة من السادة الأساتذة الأفاضل :
ملخص موجز حول موضوع الأطروحة
تعد جرائم الفساد المالي والإداري من الجرائم الخطيرة التي تواجه البلدان، خصوصا النامية منها وكذا السائرة في طريق النمو، حيث أخذت تنخر في جسم مجتمعاتها، بدءا بالأمن والسياسة والاقتصاد والإدارة، ويكمن مظهر الخطورة بدرجة أساسية فيما يترتب عن هذه الظاهرة من شلل في عملية البناء الديمقراطي للمجتمعات، وعرقلة التطور الاقتصادي والتنموي، بما فيها إثقال القدرة المالية للدولة وتحريف وظائفها الإدارية وخدماتها الموجهة من قبل مؤسسات القطاع الخاص.
إن الواقع المعيش في العقود الأخيرة على مختلف الأصعدة الوطنية والدولية يشهد تناميا ملحوظا لظاهرة الفساد اتسع به مجاله، وشاعت صوره حتى أصبح سلوكا متسما بطابع الوجود شامل النطاق، محيطا بالنظم السياسية والاقتصادية على تنوعها، متغلغلا في جميع مستويات التنمية، وقد نتج عن اتساع دائرته وعالميته عواقب وخيمة أعاقت في البلدان النامية بشكل أو بآخر خطة التنمية الاقتصادية عن تحقيق غايتها، وعرقلت الاستثمار، وأساءت إلى الإصلاحات المعززة بالديمقراطية.
فالفساد بهذه الصورة وهذا المعنى، إذن، آفة وثقافة، شذوذ وانحراف، جريمة اقتصادية ومالية، وإشكالية تنموية حقيقية، فهو يعيق النمو ويهدد الأمن ويزعزع الاستقرار، ويهدر الموارد ويضر بالاقتصاد ويضيع الحقوق، وينزع الثقة ويفقد المصداقية ويمس في العمق علاقة الدولة بالمواطنين، ويحد من طموحات الشعب في التغيير، كما يمكن بيسر وسهولة ودون مجهود أو عمل من الإثراء المفاجئ وغير المبرر للعديد من الموظفين والمسؤولين الفاسدين، من ذوي السلطة النافذة أو المهام السامية، عن طريق الرشوة والاختلاس والغدر والتدليس، ونهب للمال العام، وكذلك عرقلة سير العدالة والتأثير فيها.
ويتضح مما تقدم أن الفساد لم يعد يتعلق بجريمة، إنما بفكرة إجرامية تستوعب الكثير من الصور؛ ذلك أن مظاهره لم تعد منحصرة في الصور التقليدية كالرشوة واختلاس المال العام واستغلال النفوذ المتعارف عليها في مختلف التشريعات الجنائية وترتكب في القطاع العام فحسب، بل اتخذت أوصافا متعددة وصورا جديدة، ترتكب بتقنيات وأساليب حديثة، امتدت من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وكذلك إلى سائر المؤسسات والمنظمات الدولية، فأضحت بذلك أكثر تعقيدا وإضرارا بمصالح الأفراد والمجتمع، لاسيما بعد ارتباطها بالجرائم المستحدثة والعابرة للحدود الوطنية.
ونتج بالموازاة مع التطور الملحوظ في نطاق جرائم الفساد، اختلاف الفقه والمنظمات المعنية بمكافحته شأنها شأن التشريعات الجنائية التي لم تقدم مفهوما دقيقا للفساد، تبعا لاختلاف المناهج المعتمدة لدراسة ظاهرة الفساد، وتعدد المرجعيات المستند إليها لتحديد أنواعه وصوره، بيد أن التعريف الذي قدمته المنظمة الدولية للشفافية يظل من أكثر تعريفات الفساد تداولا حين اعتبرته " إساءة استعمال السلطة لمن اؤتمن عليها لتحقيق مكاسب شخصية "، غير أن ما يعاب على هذا التعريف أنه حصر جرائم الفساد في القطاع العام دون القطاع الخاص، ويبدو ذلك واضحا من خلال عبارة "استغلال السلطة".
وبالرغم من ذلك، اتخذ كثير من الفقه هذا التعريف مرجعا أساسيا ومنطلقا لتمييز الفساد الإداري عن الفساد المالي، فاعتبروا الأول خروجا عن الإطار الوظيفي وما تتطلبه مقتضياته وأحكامه القانونية من أوامر و واجبات ونواه، سواء كان ذلك أثناء قيام الموظفين بمهامهم الوظيفية، أو عند تصرفهم في الوسائل والأدوات المسهلة لأداء مهام الوظيفة العمومية. أما الفساد المالي فيدخل في نطاقه مجمل الانحرافات المالية، ومخالفات القواعد والأحكام المالية المنظمة لسير العمل المالي في الدولة ومؤسساتها، وكذا مخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية وأحكام القانون الجنائي المتدخلة في هذا المجال.
وبناء على هذا التحديد، يتحقق الفساد الإداري بانتهاك الموظف العمومي للقوانين الإدارية والمنظمة للوظيفة العمومية، كأن يغيب عن العمل دون مبرر مشروع أو مغادرته أماكن العمل دون احترام التوقيت الإداري، في حين يتحقق الفساد المالي عن طريق استغلال الموظف منصبه لكسب الأموال، سواء عن طريق اختلاس أموال الدولة أو تلقي الرشاوى.
ويعزو هؤلاء تمييز الفساد المالي عن الفساد الإداري إلى طبيعة المخالفات المرتكبة من الموظف، والقانون الواجب تطبيقه عليه، بحيث إن مخالفة قوانين الوظيفة العمومية المنظمة لأداء الوظيفة العمومية، تفتح المجال لتطبيق العقوبات التأديبية المنصوص عليها في نفس القوانين المنظمة للمهنة، في حين إن مخالفة القوانين المالية تفتح المجال لتطبيق العقوبات التأديبية والعقوبات الجنائية في نفس الوقت. ومن هذا المنطلق، يبدو أن التحفظ على التوجه الفقهي القائم على التمييز بين الفساد المالي والإداري أفضل من تأييده، لاسيما عند دراسة مظاهر الفساد في نطاق السياسة الجنائية التي لا تعتمد في مواجهتها للظاهرة الإجرامية على التجريم والعقاب فقط.
صحيح أن مخالفة الموظف لضوابط القانون الإداري للمؤسسة، كالغياب عن العمل دون مبرر مشروع مثلا، يترتب عنها قيام المسؤولية التأديبية دون المسؤولية الجنائية، لكن هذا السلوك وإن كان يعد من مظاهر الفساد الإداري حسب التوجه الفقهي المذكور، فإنه في الوقت نفسه مدخل لارتكاب الفساد المالي؛ ذلك أن الأخير تربطه بالفساد الإداري علاقة ترابط وتكامل عصية عن الفصل أو التجزيء، إذ أن كل خلل إداري يساهم فيه الموظف ينتج عنه خلل مالي، وكل خلل مالي ينتج عنه خلل إداري، ومن ثم فكل فساد إداري هو فساد مالي، وكل فسادٍ مالي فسادٌ إداري، طالما أن جرأة الاستهتار بالقانون تؤدي إلى عدم التمييز بين قوانين الوظيفة العمومية والقوانين المالية أو القوانين الزجرية.
علاوة على ذلك، يضعنا ارتباط الموظف العمومي بالوظيفة العمومية والمال العام أمام حقيقة مفادها أن زيغ الموظف العمومي عن الإطار الوظيفي وأحكام أو مقتضيات أداء الوظيفة العمومية، في حد ذاته إساءة لاستخدام هذه الأخيرة من أجل تحقيق مآرب خاصة أو منافع ذاتية ضدا على قوانين وأعراف الوظيفة سواء لفائدته أو لصالح غيره. وهذه المنفعة لن تتأتى إلا عن طريق جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ وجريمتي الغدر وتبديد المال العام؛ أي إن انتهاك قواعد وأحكام أداء المهام الوظيفية المؤطرة بقانون الوظيفة العمومية، هو انتهاك أيضا لمقتضيات القانون الجنائي التي خصصها المشرع لحماية الشأن العام.
بناء على ذلك، نخلص إلى أن الحديث عن الفساد المالي بمعزل عن الفساد الإداري، غير مستساغ، بدليل أن التشريعات الجنائية حينما تصدت بالتجريم والعقاب لصور الفساد المرتكبة في القطاع العام، لم تقم أي تمييز بين الجرائم التي يمكن اعتبارها فسادا ماليا وتلك التي تعد فسادا إداريا، إنما اكتفت بالتنصيص على ما يمكن اعتباره من قبيل جرائم الفساد كما هو الحال بالنسبة إلى التشريع الجنائي المغربي، حين أفرد لجرائم الفساد بابا مشتركا في مجموعة القانون الجنائي تحت عنوان "في الجنايات و الجنح التي يرتكبها الموظفون ضد النظام العام"، محددا هذه الجرائم في تلك المخلة بواجبات الوظيفة العمومية، والجرائم الماسة بالمال العام، وهي منصوص عليها وعلى عقوباتها من الفصل 241 إلى الفصل 256 من مجموعة القانون الجنائي.
وفي خضم النقاش المستفيض حول تحديد مفهوم الفساد وصوره المستحدثة، وحول مدى ارتباطه بالجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية وجريمة غسل الأموال، وما ترتب عنهما من عجز القانون الجنائي الكلاسيكي على احتوائهما، أصدرت منظمة الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، كأول وثيقة تعنى بمكافحة جرائم الفساد المرتكبة على المستوى الوطني والدولي، داعية من خلالها دول الأعضاء إلى ترجمة أحكامها في تشريعاتها الداخلية، حتى يتسنى لها بناء توجه جديد في السياسة الجنائية الدولية والوطنية، تكون مواكبة للتطورات الحاصلة بخصوص الظاهرة الإجرامية بشكل عام وجرائم الفساد بشكل خاص.
وتشكل أحكام هذه الاتفاقية إستراتجية شاملة لمكافحة الفساد تعتمد على اتخاذ مجموعة من التدابير التشريعية وغير التشريعية لبناء منظومة قانونية ترتكز أهم دعائمها على بناء منظومة النزاهة في كل من القطاع العام والقطاع الخاص وباقي المؤسسات والمنظمات الدولية. وذلك عن طريق تبني سياسة جنائية تقوم في الشق المتعلق بالتجريم على تحديد صور الفساد وتجريمها، واستحداث آليات خاصة بالكشف عن الجرائم وملاحقة مرتكبيها، وتعزيز التعاون القضائي الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب في الشق الإجرائي، فضلا عن الأخذ بالسياسات العامة التي ترمي إلى الوقاية من الفساد، بدءا بإرساء مقومات الحكامة الإدارية والمالية، ومرورا بتفعيل أدوار المؤسسات الرقابية وتقوية أدائها، وصولا إلى تعزيز التعاون بين الحكومات وفعاليات المجتمع المدني، والانفتاح على وسائل الإعلام والصحافة، فضلا عن إعداد برامج التربية والتكوين في مجال مكافحة الفساد أو الوقاية منه، للإسهام بشكل جماعي ومشترك في إنجاح المعركة ضد الفساد.
على أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إذا كانت لم تقدم تعريفا لجرائم الفساد، فإن الأحكام المتعلقة بالتجريم الواردة فيها حددت قائمة لجرائم الفساد تضم إضافة إلى الجرائم التقليدية المذكورة في التشريع المغربي، جرائم أخرى مستحدثة بما يفهم معه أن مفهوم الفساد أخذ مظهرا توسعيا امتدت فيه سياسة التجريم إلى مختلف الصور والمظاهر التي تواجه نظم العدالة الجنائية الوطنية والدولية على حد سواء. أما فيما يخص الأحكام الإجرائية، فقد اتسمت بالتعدد والتنوع إذ يتصل بعضها اتصالا وثيقا بالأدوار التي تضطلع بها الهيئات الفاعلة في مجال الرقابة والوقاية من الفساد، لتعزيز التواصل بين هذه الهيئات والمؤسسات القضائية لتفادي إفلات مرتكبي جرائم الفساد من المتابعة، فيما بعضها الآخر وسع من نطاق آليات البحث والتحري عن الجرائم على المستوى الوطني والدولي.
وتسعى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من هذه التدابير إلى بناء سياسة جنائية دولية ووطنية منسجمة ومتكاملة بالنسبة للدول الأعضاء وقادرة في نفس الوقت على التصدي لظاهرة الفساد بمختلف صوره ومظاهره.
وما من شك في أن استمرار الفساد وتفشيه في مختلف القطاعات والمؤسسات التابعة للدولة، جعل من المبادرات التي انخرط فيها المغرب منذ الاستقلال إلى بداية التسعينيات، ردود أفعال غير مدروسة يغلب عليها الطابع الانتقائي والسياسي، سواء على مستوى صياغة النصوص القانونية المتصلة بالتجريم أو على مستوى محاكمة الأشخاص المتورطين في ارتكاب جرائم الفساد.
من جهتها، أشارت الدراسات والتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية المعنية بمكافحة الفساد، إلى أن الدول النامية أو السائرة في طريق النمو، بما فيها المغرب، تعرف مستويات متدنية في قيم النزاهة واحترام سيادة القانون، معتبرة أن التداعيات الخطيرة المترتبة عن الفساد يجب أن يقابلها وعي دولي بأهمية محاربته والوقاية منه، فيما شددت على أن مصداقية الدول في محاربتها لمختلف مظاهر الفساد تتوقف على اتخاذ جملة من الإصلاحات، من بينها على سبيل المثال، إصلاح قوانين الوظيفة العمومية، والعمل على إعادة الثقة في المرفق العام عن طريق تعزيز الحكامة الإدارية والمالية، وكذا الحد من السلطات المخولة للحكومات في تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية وإخضاع مجمل القرارات الصادرة عنها للرقابة والتقييم.
هكذا وفي ظل تنامي الوعي الدولي والوطني بأهمية محاربة الفساد، التزم المغرب بتبني مبادرات كثيرة تروم احتواء مظاهر الفساد وتطهير المرافق العمومية من مختلف صنوف الفساد. وفي هذا الصدد، شكلت حكومة التناوب، عام 1998، محطة هامة في مسلسل التخليق، عبر اعتماد ميثاق حسن التدبير واتخاذ مجموعة من التدابير تهم إصلاح الإدارة وتأهيل المنظومة القانونية والتنظيمية.
وتعد تجربة حكومة التناوب التي دعمت بإرادة سياسية انبثقت من جهة عن توجيهات المؤسسة الملكية الحريصة على إنجاح برامج تخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد، ومن جهة أخرى عن توصيات الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، أول فرصة فتح فيها النقاش العمومي حول قضايا الفساد بشكل علني على نحو جعلها قضية وطنية تهم كل الشرائح الاجتماعية ومختلف الفاعلين من مؤسسات حكومية وغير حكومية، وذلك من أجل تشخيص الظاهرة وتوحيد الجهود لمكافحتها في أفق القضاء على الأسباب المؤدية إليها.
منذ تلك التجربة، أصبحت ظاهرة الفساد تشكل هاجسا رئيسا في سياسات الحكومات المتعاقبة، وهو ما تعكسه المكتسبات التشريعية والتنظيمية والمؤسساتية التي تم تحقيقها في الفترة الممتدة من سنة 1999 إلى حدود سنة 2004.
مكتسبات تتمثل، على سبيل المثال لا الحصر، في إحداث ديوان المظالم، وإلغاء المحكمة الخاصة للعدل، ودسترة الرقابة العليا على المال العام، وإصدار مدونة المحاكم المالية، إلى جانب تعديل أحكام القانون الجنائي، والمسطرة الجنائية في الجوانب المتصلة بجرائم الفساد، بالإضافة إلى إصدار قوانين أخرى منها ما يلزم الإدارة بتعليل قراراتها، ومنها ما يلزم فئة من الموظفين العموميين التصريح بممتلكاتهم إجباريا قبل وبعد التحاقهم بالوظيفة العمومية.
وبعد إبرام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد سنة 2003 ومصادقة المغرب عليها سنة 2007، عرف موضوع مكافحة الفساد بالمغرب منعطفا جديدا حيث انتقل من مرحلة التخليق إلى مرحلة البرمجة والشروع في تطوير الترسانة القانونية وتعزيز الإطار المؤسساتي، لملاءمة التشريع الوطني مع أحكام الاتفاقية الدولية المعنية بمكافحة الفساد.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات الرامية إلى تعزيز السياسة الجنائية في بعديها الزجري والوقائي، تجسدت في إصدار نصوص قانونية جديدة وإحداث عدد من المؤسسات والهيئات، نذكر منها على سبيل المثال، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وإصدار القانون المتعلق بمكافحة غسل الأموال، لتتوج هذه المرحلة بتبني برنامج عمل للوقاية من الفساد ومحاربته امتد من سنة 2010 إلى سنة 2012.
وتكمن الأهداف المعلن عنها في هذا البرنامج في إرساء علاقات شفافة للإدارة بالمرتفقين، وتدعيم قيم النزاهة والاستحقاق بالإدارة، وتقوية الرقابة الداخلية بالإدارة العمومية، وتعزيز الشفافية في مجال التدبير المالي، وإصلاح منظومة الصفقات العمومية، ومواصلة إصلاح المنظومة القانونية المتعلقة بالوقاية من الرشوة ومحاربتها، وتشجيع الشراكة والتعاون على المستويين الوطني والدولي، إلى جانب برامج قطاعية تشرف كل وزارة على تنفيذها.
ولعل أهم ما تحقق من تفعيل هذا البرنامج، إحداث أقسام الجرائم المالية على مستوى بعض محاكم الاستئناف كجهة قضائية متخصصة تؤول إليها ولاية الاختصاص والبت في جرائم الفساد ، وإصدار القانون المتعلق بحماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين عن جرائم الفساد، وتعديل قانون مكافحة غسل الأموال، فضلا عن إصدار قوانين تنظيمية تهم الجانب الرقابي والوقائي من جرائم الفساد.
ورغم كل هذه المجهودات المبذولة في سبيل إنجاح منظومة النزاهة بالمغرب، والمكتسبات المحققة على المستوى التشريعي والمؤسساتي، إلا أنها لم تكن في مستوى انتظارات المواطنين، حيث ما زالت مظاهر الفساد تنخر مختلف المصالح الإدارية والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية، ولا أدل على ذلك، تبوؤ المغرب لمراتب مخجلة في المؤشر العالمي لإدراك الفساد.
هذا ما أدى مرة أخرى إلى فتح النقاش العمومي حول ظاهرة الفساد، ولاسيما خلال المرحلة السياسية الجديدة التي دشنتها حركة 20 فبراير الداعية بشكل واضح إلى تعزيز المسار الديمقراطي والانصهار مع التحديات الحديثة في مجال الحكامة والشفافية وحفظ المال العام ومكافحة الفساد بمختلف تصنيفاته.
وفي خضم هذا النقاش، جاءت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 لتعزيز الصرح التشريعي والمؤسساتي لمكافحة الفساد، وذلك عن طريق إحداث مؤسسات جديدة وتطوير بعضها الآخر، من حيث توسيع نطاق اختصاصاتها ودعم استقلاليتها، كل ذلك من أجل إعادة بناء العلاقة بين الإدارة والمواطن، على أسس حديثة وفقا لقيم الشفافية وتخليق المرفق العام، فضلا عن إصدار نصوص قانونية جديدة، وتعديل أحكام القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، والتنظيم القضائي، بهدف ملاءمتهما مع الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها، لاسيما ما يتعلق منها باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على وجه التخصيص.
وقد توجت هذه المجهودات بإعلان الحكومة عن تبني إستراتيجية وطنية لمحاربة الفساد تزاوج بين التدابير التشريعية وتلك المؤسساتية، تمتد من سنة 2015 إلى حدود سنة 2025 بمقاربة تشاركية في الإعداد والطرح والتنفيذ من مختلف الفعاليات المجتمعية، مع إحداث لجنة وطنية لمكافحة الفساد، ومنحها صلاحيات تتبع تنفيذ برامج الإستراتجية وتقييمها.
إن المعطيات السابقة تؤكد أن المغرب قد انخرط منذ الاستقلال إلى حدود اليوم في ورش تخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد، باعتماد سياسات عمومية تميزت بالتدرج والتطور، انطلقت من البعد الزجري الصرف، وصولا إلى البعد الوقائي، ما جعله متبنيا لسياسة جنائية في مواجهة جرائم الفساد، قائمة في جانب منها على سياسة التجريم والعقاب، وفي الجانب الآخر على سياسة الوقاية.
من هنا تبرز أهمية موضوع الدراسة من الناحية العملية والنظرية معا، على اعتبار أن بحث المشرع المغربي عن الحلول الممكنة لمكافحة جرائم الفساد فرضت عليه في فترات زمنية محددة تبني مجموعة من الخيارات، كما فرضت عليه استبدالها بأخرى لمسايرة الفترات الزمنية اللاحقة، سعيا منه إلى مواكبة التطور الملحوظ الذي تعرفه جرائم الفساد وما تتسم به من خصوصيات، لاسيما وأن هذا الصنف من الجرائم ذي طبيعة مركبة تساهم في ارتكابها عوامل متعددة، منها ما يتعلق بالجوانب السياسية والثقافية والأخلاقية، ومنها ما يتصل بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع.
ولما كان الهدف من السياسة الجنائية هو الحد من الظاهرة الإجرامية بواسطة نظام فعال للتجريم يحمي المصالح العليا للمجتمع، ونظام عقابي ملائم ومتناسب يوفر الضوابط المثلى للمحاكمة العادلة بواسطة قضاء يتمتع بالاستقلالية والنزاهة، فإن مضامين السياسة الجنائية المقررة من المشرع المغربي لمواجهة جرائم الفساد كثيرا ما تناولها الفقه المغربي بالدراسة والتحليل، لكنه قلما تساءل عن الفلسفة العامة المؤطرة لها، وعما إذا كانت أدوار المؤسسات القضائية وغير القضائية تساعد على مكافحة الفساد أو الحد من نسبه.
نعني بذلك أن كل جانب من جوانب السياسة الجنائية المقررة من المشرع لمواجهة جرائم الفساد، يجب ألا تقتصر دراسته على رصد النصوص القانونية المنظمة للتجريم والعقاب، والنصوص القانونية المحددة لمهام المؤسسات الفاعلة في مجال الرقابة أو الوقاية من الفساد، بقدر ما تتطلب دراسته في السياق العام الذي فرض على المشرع أن يتبنى خيارا دون آخر، وذلك من خلال إبراز مجمل الدوافع المتحكمة في إعداد السياسة التشريعية وصياغة النصوص القانونية، وصولا إلى الغاية والأهداف التي يروم المشرع تحقيقها؛ أي إنه تجب دراسة مختلف النصوص القانونية الرامية إلى مكافحة الفساد في ضوء الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحكمت في وضعها، ومعرفة مدى توفر الآليات المتطلبة لإنجاح تطبيقها، ومدى مسايرتها للتطور الملحوظ الحاصل بخصوص هذا الصنف من الجرائم.
وحتى لا يقال إن خيارات المشرع في مواجهة جرائم الفساد مجرد واجهة مزينة أمام الرأي العام الوطني والدولي، فلابد من الـتأكيد على أنه قد بذل مجهودا ولا يزال يدعم السياسة الجنائية الخاصة بجرائم الفساد، رغبة منه في ملاءمتها مع توجهات السياسة الجنائية الدولية المنبثقة عن أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
ونستدل على ذلك بدستور فاتح يوليوز 2011 ، الذي جاء بمجموعة من المبادئ الهادفة إلى تخليق الحياة العامة، كإرساء مقومات الحكامة الجيدة، وتكريس قيم النزاهة والشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، فضلا عن تأهيل المنظومة القانونية الزجرية عن طريق إصدار نصوص قانونية جديدة وتعديل بعض المقتضيات الأخرى.
وعليه، إذا كانت خيارات المشرع المغربي في مواجهة جرائم الفساد تساير توجهات السياسة الجنائية الدولية، ولا سيما في مجال التجريم والعقاب، فإننا نتساءل منذ البداية عما إذا كان قد وفر في مقابل ذلك الآليات المؤسساتية والإمكانيات المادية والبشرية الضامنة لتفعيل السياسة الجنائية وبلوغ مراميها وأهدافها؟
انطلاقا من هذا السؤال، يطرح موضوع الدراسة إشكاليات عديدة منها ما يتصل بالإطار القانوني للسياسة الجنائية، ومنها ما يتعلق بالإطار المؤسساتي.
بناء عليه، لما كانت السياسة الجنائية تعتمد على التخطيط والتنظيم مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المختلفة المحيطة بالظاهرة الإجرامية، وتسعى إلى بلوغ أهداف محددة بما يجعلها أداة ملائمة للبحث عن الحلول الممكنة لمكافحة الظاهرة الإجرامية، فهل وُفق المشرع المغربي في تبني سياسة جنائية منسجمة وقادرة على مكافحة جرائم الفساد؟
الإجابة عن الإشكالية المركزية والأسئلة المتفرعة عنها، اخترنا تبني مفهوم السياسة الجنائية باعتباره مفهوما نظريا وعلميا يضم في طياته بعدا زجريا يتأسس على القواعد الموضوعية والإجرائية للنص الجنائي، وآخر وقائيا رقابيا تضطلع به المؤسسات الفاعلة في مجال الرقابة الوقاية من الفساد، حيث إن هذه الأبعاد ستمكننا من تناول مختلف الجوانب المرتبطة بسياسة التجريم وسياسة العقاب المتعلقة بأفعال الفساد، وكذا طرق وأساليب تحريك الدعوى العمومية وتقنيات البحث والتحري، علاوة على رصد مختلف المؤسسات الفاعلة والمتدخلة في مجال الرقابة والوقاية ومدى تقاطع أدوارها مع أهداف السياسة الجنائية.
ومن أجل أن يكون تحليل هذه العناصر متوازنا ومتسقا نظريا ومنسجما مع المنهجية العلمية ارتأينا اعتماد مقاربة متعددة المناهج، كون أن مضامين السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد تقتضي تبني المنهج الاستقرائي والتحليلي، لدراسة وتحليل النصوص الجنائية الموضوعية والإجرائية، وكذا ما هو مقرر في أحكام الاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة بالموضوع، وتحليلها قدر الإمكان في ضوء الاتجاهات الفقهية والاجتهادات القضائية.
طبيعة هذا الموضوع تتطلب أيضا الاستعانة بالمنهج المقارن متى اقتضته ضرورة البحث في مسألة مقارنة التشريع الجنائي المغربي بباقي التشريعات الأجنبية للوقوف على مدى تقدم السياسة الجنائية المغربية في معالجتها لإشكاليات جرائم الفساد.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة تقتصر على بحث الموضوع في القانون المغربي، وأن المقارنة بين أحكام التشريع المغربي وباقي التشريعات الأخرى وإن تم الأخذ بها في بعض المحاور دون أخرى، فهي غير مقصودة في حد ذاتها، إنما الهدف من ذلك يروم استجلاء النقائص والأحكام غير المتضمنة في التشريع المغربي، محاولين استلهامها من التشريع المقارن، وهذا ما يبرر اختيارنا لثلاثة نماذج من التشريع المقارن، تتمثل في التشريع الجنائي الجزائري لكونه من التشريعات العربية السباقة إلى تخصيص جرائم الفساد بقانون مستقل، والتشريع الجنائي المصري باعتباره من بين التشريعات الرائدة في مجال حماية المال العام ونزاهة الوظيفة العمومية، فضلا عن الجوانب المتصلة بجرائم الفساد في التشريع الجنائي الفرنسي، الذي يعد مرجعا أساسيا بالنسبة للتشريع الجنائي المغربي.
ويترتب عن اعتماد هذه المناهج، تشخيص مضامين السياسة الجنائية المقررة من المشرع المغربي لمواجهة جرائم الفساد، من خلال إبراز أهم الجوانب التي وُفّق فيها وكذا تلك التي جَانَب فيها التوفيق، ورصد أهم الثغرات القانونية ومكامن الخلل والمؤاخذات التي تطال النصوص القانونية سواء في مجال التجريم والعقاب أو في مجال الرقابة والوقاية، وتقديم بعض المقترحات والتصورات التي ستسهم في تأهيل السياسة الجنائية المغربية في هذا الباب، ولن يتحقق هذا المسعى إلا من خلال الاستئناس بالمنهج النقدي الذي يظهر محاسن ومساوئ الآراء والاتجاهات الفقهية، وكذلك التوجهات التشريعية.
وانطلاقا من هذا الاختيار المنهجي القائم على استنطاق النص والمقارنة والاستنتاج، فإن الخطة العامة التي سنسير على هديها للإجابة عن الإشكالية المركزية والأسئلة الفرعية المرتبطة بها ستكون وفق التصميم التالي:
- الدكتور محمد محبوبي رئيسا؛
- الدكتور عبد الحفيظ بلقاضي مشرفا؛
- الدكتور أمين أعزان عضوا؛
- الدكتورة أمينة السليماني عضوة.
ملخص موجز حول موضوع الأطروحة
تعد جرائم الفساد المالي والإداري من الجرائم الخطيرة التي تواجه البلدان، خصوصا النامية منها وكذا السائرة في طريق النمو، حيث أخذت تنخر في جسم مجتمعاتها، بدءا بالأمن والسياسة والاقتصاد والإدارة، ويكمن مظهر الخطورة بدرجة أساسية فيما يترتب عن هذه الظاهرة من شلل في عملية البناء الديمقراطي للمجتمعات، وعرقلة التطور الاقتصادي والتنموي، بما فيها إثقال القدرة المالية للدولة وتحريف وظائفها الإدارية وخدماتها الموجهة من قبل مؤسسات القطاع الخاص.
إن الواقع المعيش في العقود الأخيرة على مختلف الأصعدة الوطنية والدولية يشهد تناميا ملحوظا لظاهرة الفساد اتسع به مجاله، وشاعت صوره حتى أصبح سلوكا متسما بطابع الوجود شامل النطاق، محيطا بالنظم السياسية والاقتصادية على تنوعها، متغلغلا في جميع مستويات التنمية، وقد نتج عن اتساع دائرته وعالميته عواقب وخيمة أعاقت في البلدان النامية بشكل أو بآخر خطة التنمية الاقتصادية عن تحقيق غايتها، وعرقلت الاستثمار، وأساءت إلى الإصلاحات المعززة بالديمقراطية.
فالفساد بهذه الصورة وهذا المعنى، إذن، آفة وثقافة، شذوذ وانحراف، جريمة اقتصادية ومالية، وإشكالية تنموية حقيقية، فهو يعيق النمو ويهدد الأمن ويزعزع الاستقرار، ويهدر الموارد ويضر بالاقتصاد ويضيع الحقوق، وينزع الثقة ويفقد المصداقية ويمس في العمق علاقة الدولة بالمواطنين، ويحد من طموحات الشعب في التغيير، كما يمكن بيسر وسهولة ودون مجهود أو عمل من الإثراء المفاجئ وغير المبرر للعديد من الموظفين والمسؤولين الفاسدين، من ذوي السلطة النافذة أو المهام السامية، عن طريق الرشوة والاختلاس والغدر والتدليس، ونهب للمال العام، وكذلك عرقلة سير العدالة والتأثير فيها.
ويتضح مما تقدم أن الفساد لم يعد يتعلق بجريمة، إنما بفكرة إجرامية تستوعب الكثير من الصور؛ ذلك أن مظاهره لم تعد منحصرة في الصور التقليدية كالرشوة واختلاس المال العام واستغلال النفوذ المتعارف عليها في مختلف التشريعات الجنائية وترتكب في القطاع العام فحسب، بل اتخذت أوصافا متعددة وصورا جديدة، ترتكب بتقنيات وأساليب حديثة، امتدت من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وكذلك إلى سائر المؤسسات والمنظمات الدولية، فأضحت بذلك أكثر تعقيدا وإضرارا بمصالح الأفراد والمجتمع، لاسيما بعد ارتباطها بالجرائم المستحدثة والعابرة للحدود الوطنية.
ونتج بالموازاة مع التطور الملحوظ في نطاق جرائم الفساد، اختلاف الفقه والمنظمات المعنية بمكافحته شأنها شأن التشريعات الجنائية التي لم تقدم مفهوما دقيقا للفساد، تبعا لاختلاف المناهج المعتمدة لدراسة ظاهرة الفساد، وتعدد المرجعيات المستند إليها لتحديد أنواعه وصوره، بيد أن التعريف الذي قدمته المنظمة الدولية للشفافية يظل من أكثر تعريفات الفساد تداولا حين اعتبرته " إساءة استعمال السلطة لمن اؤتمن عليها لتحقيق مكاسب شخصية "، غير أن ما يعاب على هذا التعريف أنه حصر جرائم الفساد في القطاع العام دون القطاع الخاص، ويبدو ذلك واضحا من خلال عبارة "استغلال السلطة".
وبالرغم من ذلك، اتخذ كثير من الفقه هذا التعريف مرجعا أساسيا ومنطلقا لتمييز الفساد الإداري عن الفساد المالي، فاعتبروا الأول خروجا عن الإطار الوظيفي وما تتطلبه مقتضياته وأحكامه القانونية من أوامر و واجبات ونواه، سواء كان ذلك أثناء قيام الموظفين بمهامهم الوظيفية، أو عند تصرفهم في الوسائل والأدوات المسهلة لأداء مهام الوظيفة العمومية. أما الفساد المالي فيدخل في نطاقه مجمل الانحرافات المالية، ومخالفات القواعد والأحكام المالية المنظمة لسير العمل المالي في الدولة ومؤسساتها، وكذا مخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية وأحكام القانون الجنائي المتدخلة في هذا المجال.
وبناء على هذا التحديد، يتحقق الفساد الإداري بانتهاك الموظف العمومي للقوانين الإدارية والمنظمة للوظيفة العمومية، كأن يغيب عن العمل دون مبرر مشروع أو مغادرته أماكن العمل دون احترام التوقيت الإداري، في حين يتحقق الفساد المالي عن طريق استغلال الموظف منصبه لكسب الأموال، سواء عن طريق اختلاس أموال الدولة أو تلقي الرشاوى.
ويعزو هؤلاء تمييز الفساد المالي عن الفساد الإداري إلى طبيعة المخالفات المرتكبة من الموظف، والقانون الواجب تطبيقه عليه، بحيث إن مخالفة قوانين الوظيفة العمومية المنظمة لأداء الوظيفة العمومية، تفتح المجال لتطبيق العقوبات التأديبية المنصوص عليها في نفس القوانين المنظمة للمهنة، في حين إن مخالفة القوانين المالية تفتح المجال لتطبيق العقوبات التأديبية والعقوبات الجنائية في نفس الوقت. ومن هذا المنطلق، يبدو أن التحفظ على التوجه الفقهي القائم على التمييز بين الفساد المالي والإداري أفضل من تأييده، لاسيما عند دراسة مظاهر الفساد في نطاق السياسة الجنائية التي لا تعتمد في مواجهتها للظاهرة الإجرامية على التجريم والعقاب فقط.
صحيح أن مخالفة الموظف لضوابط القانون الإداري للمؤسسة، كالغياب عن العمل دون مبرر مشروع مثلا، يترتب عنها قيام المسؤولية التأديبية دون المسؤولية الجنائية، لكن هذا السلوك وإن كان يعد من مظاهر الفساد الإداري حسب التوجه الفقهي المذكور، فإنه في الوقت نفسه مدخل لارتكاب الفساد المالي؛ ذلك أن الأخير تربطه بالفساد الإداري علاقة ترابط وتكامل عصية عن الفصل أو التجزيء، إذ أن كل خلل إداري يساهم فيه الموظف ينتج عنه خلل مالي، وكل خلل مالي ينتج عنه خلل إداري، ومن ثم فكل فساد إداري هو فساد مالي، وكل فسادٍ مالي فسادٌ إداري، طالما أن جرأة الاستهتار بالقانون تؤدي إلى عدم التمييز بين قوانين الوظيفة العمومية والقوانين المالية أو القوانين الزجرية.
علاوة على ذلك، يضعنا ارتباط الموظف العمومي بالوظيفة العمومية والمال العام أمام حقيقة مفادها أن زيغ الموظف العمومي عن الإطار الوظيفي وأحكام أو مقتضيات أداء الوظيفة العمومية، في حد ذاته إساءة لاستخدام هذه الأخيرة من أجل تحقيق مآرب خاصة أو منافع ذاتية ضدا على قوانين وأعراف الوظيفة سواء لفائدته أو لصالح غيره. وهذه المنفعة لن تتأتى إلا عن طريق جريمتي الرشوة واستغلال النفوذ وجريمتي الغدر وتبديد المال العام؛ أي إن انتهاك قواعد وأحكام أداء المهام الوظيفية المؤطرة بقانون الوظيفة العمومية، هو انتهاك أيضا لمقتضيات القانون الجنائي التي خصصها المشرع لحماية الشأن العام.
بناء على ذلك، نخلص إلى أن الحديث عن الفساد المالي بمعزل عن الفساد الإداري، غير مستساغ، بدليل أن التشريعات الجنائية حينما تصدت بالتجريم والعقاب لصور الفساد المرتكبة في القطاع العام، لم تقم أي تمييز بين الجرائم التي يمكن اعتبارها فسادا ماليا وتلك التي تعد فسادا إداريا، إنما اكتفت بالتنصيص على ما يمكن اعتباره من قبيل جرائم الفساد كما هو الحال بالنسبة إلى التشريع الجنائي المغربي، حين أفرد لجرائم الفساد بابا مشتركا في مجموعة القانون الجنائي تحت عنوان "في الجنايات و الجنح التي يرتكبها الموظفون ضد النظام العام"، محددا هذه الجرائم في تلك المخلة بواجبات الوظيفة العمومية، والجرائم الماسة بالمال العام، وهي منصوص عليها وعلى عقوباتها من الفصل 241 إلى الفصل 256 من مجموعة القانون الجنائي.
وفي خضم النقاش المستفيض حول تحديد مفهوم الفساد وصوره المستحدثة، وحول مدى ارتباطه بالجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية وجريمة غسل الأموال، وما ترتب عنهما من عجز القانون الجنائي الكلاسيكي على احتوائهما، أصدرت منظمة الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، كأول وثيقة تعنى بمكافحة جرائم الفساد المرتكبة على المستوى الوطني والدولي، داعية من خلالها دول الأعضاء إلى ترجمة أحكامها في تشريعاتها الداخلية، حتى يتسنى لها بناء توجه جديد في السياسة الجنائية الدولية والوطنية، تكون مواكبة للتطورات الحاصلة بخصوص الظاهرة الإجرامية بشكل عام وجرائم الفساد بشكل خاص.
وتشكل أحكام هذه الاتفاقية إستراتجية شاملة لمكافحة الفساد تعتمد على اتخاذ مجموعة من التدابير التشريعية وغير التشريعية لبناء منظومة قانونية ترتكز أهم دعائمها على بناء منظومة النزاهة في كل من القطاع العام والقطاع الخاص وباقي المؤسسات والمنظمات الدولية. وذلك عن طريق تبني سياسة جنائية تقوم في الشق المتعلق بالتجريم على تحديد صور الفساد وتجريمها، واستحداث آليات خاصة بالكشف عن الجرائم وملاحقة مرتكبيها، وتعزيز التعاون القضائي الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب في الشق الإجرائي، فضلا عن الأخذ بالسياسات العامة التي ترمي إلى الوقاية من الفساد، بدءا بإرساء مقومات الحكامة الإدارية والمالية، ومرورا بتفعيل أدوار المؤسسات الرقابية وتقوية أدائها، وصولا إلى تعزيز التعاون بين الحكومات وفعاليات المجتمع المدني، والانفتاح على وسائل الإعلام والصحافة، فضلا عن إعداد برامج التربية والتكوين في مجال مكافحة الفساد أو الوقاية منه، للإسهام بشكل جماعي ومشترك في إنجاح المعركة ضد الفساد.
على أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد إذا كانت لم تقدم تعريفا لجرائم الفساد، فإن الأحكام المتعلقة بالتجريم الواردة فيها حددت قائمة لجرائم الفساد تضم إضافة إلى الجرائم التقليدية المذكورة في التشريع المغربي، جرائم أخرى مستحدثة بما يفهم معه أن مفهوم الفساد أخذ مظهرا توسعيا امتدت فيه سياسة التجريم إلى مختلف الصور والمظاهر التي تواجه نظم العدالة الجنائية الوطنية والدولية على حد سواء. أما فيما يخص الأحكام الإجرائية، فقد اتسمت بالتعدد والتنوع إذ يتصل بعضها اتصالا وثيقا بالأدوار التي تضطلع بها الهيئات الفاعلة في مجال الرقابة والوقاية من الفساد، لتعزيز التواصل بين هذه الهيئات والمؤسسات القضائية لتفادي إفلات مرتكبي جرائم الفساد من المتابعة، فيما بعضها الآخر وسع من نطاق آليات البحث والتحري عن الجرائم على المستوى الوطني والدولي.
وتسعى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من هذه التدابير إلى بناء سياسة جنائية دولية ووطنية منسجمة ومتكاملة بالنسبة للدول الأعضاء وقادرة في نفس الوقت على التصدي لظاهرة الفساد بمختلف صوره ومظاهره.
- أهمية الموضوع واشكالياته
وما من شك في أن استمرار الفساد وتفشيه في مختلف القطاعات والمؤسسات التابعة للدولة، جعل من المبادرات التي انخرط فيها المغرب منذ الاستقلال إلى بداية التسعينيات، ردود أفعال غير مدروسة يغلب عليها الطابع الانتقائي والسياسي، سواء على مستوى صياغة النصوص القانونية المتصلة بالتجريم أو على مستوى محاكمة الأشخاص المتورطين في ارتكاب جرائم الفساد.
من جهتها، أشارت الدراسات والتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية المعنية بمكافحة الفساد، إلى أن الدول النامية أو السائرة في طريق النمو، بما فيها المغرب، تعرف مستويات متدنية في قيم النزاهة واحترام سيادة القانون، معتبرة أن التداعيات الخطيرة المترتبة عن الفساد يجب أن يقابلها وعي دولي بأهمية محاربته والوقاية منه، فيما شددت على أن مصداقية الدول في محاربتها لمختلف مظاهر الفساد تتوقف على اتخاذ جملة من الإصلاحات، من بينها على سبيل المثال، إصلاح قوانين الوظيفة العمومية، والعمل على إعادة الثقة في المرفق العام عن طريق تعزيز الحكامة الإدارية والمالية، وكذا الحد من السلطات المخولة للحكومات في تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية وإخضاع مجمل القرارات الصادرة عنها للرقابة والتقييم.
هكذا وفي ظل تنامي الوعي الدولي والوطني بأهمية محاربة الفساد، التزم المغرب بتبني مبادرات كثيرة تروم احتواء مظاهر الفساد وتطهير المرافق العمومية من مختلف صنوف الفساد. وفي هذا الصدد، شكلت حكومة التناوب، عام 1998، محطة هامة في مسلسل التخليق، عبر اعتماد ميثاق حسن التدبير واتخاذ مجموعة من التدابير تهم إصلاح الإدارة وتأهيل المنظومة القانونية والتنظيمية.
وتعد تجربة حكومة التناوب التي دعمت بإرادة سياسية انبثقت من جهة عن توجيهات المؤسسة الملكية الحريصة على إنجاح برامج تخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد، ومن جهة أخرى عن توصيات الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، أول فرصة فتح فيها النقاش العمومي حول قضايا الفساد بشكل علني على نحو جعلها قضية وطنية تهم كل الشرائح الاجتماعية ومختلف الفاعلين من مؤسسات حكومية وغير حكومية، وذلك من أجل تشخيص الظاهرة وتوحيد الجهود لمكافحتها في أفق القضاء على الأسباب المؤدية إليها.
منذ تلك التجربة، أصبحت ظاهرة الفساد تشكل هاجسا رئيسا في سياسات الحكومات المتعاقبة، وهو ما تعكسه المكتسبات التشريعية والتنظيمية والمؤسساتية التي تم تحقيقها في الفترة الممتدة من سنة 1999 إلى حدود سنة 2004.
مكتسبات تتمثل، على سبيل المثال لا الحصر، في إحداث ديوان المظالم، وإلغاء المحكمة الخاصة للعدل، ودسترة الرقابة العليا على المال العام، وإصدار مدونة المحاكم المالية، إلى جانب تعديل أحكام القانون الجنائي، والمسطرة الجنائية في الجوانب المتصلة بجرائم الفساد، بالإضافة إلى إصدار قوانين أخرى منها ما يلزم الإدارة بتعليل قراراتها، ومنها ما يلزم فئة من الموظفين العموميين التصريح بممتلكاتهم إجباريا قبل وبعد التحاقهم بالوظيفة العمومية.
وبعد إبرام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد سنة 2003 ومصادقة المغرب عليها سنة 2007، عرف موضوع مكافحة الفساد بالمغرب منعطفا جديدا حيث انتقل من مرحلة التخليق إلى مرحلة البرمجة والشروع في تطوير الترسانة القانونية وتعزيز الإطار المؤسساتي، لملاءمة التشريع الوطني مع أحكام الاتفاقية الدولية المعنية بمكافحة الفساد.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات الرامية إلى تعزيز السياسة الجنائية في بعديها الزجري والوقائي، تجسدت في إصدار نصوص قانونية جديدة وإحداث عدد من المؤسسات والهيئات، نذكر منها على سبيل المثال، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وإصدار القانون المتعلق بمكافحة غسل الأموال، لتتوج هذه المرحلة بتبني برنامج عمل للوقاية من الفساد ومحاربته امتد من سنة 2010 إلى سنة 2012.
وتكمن الأهداف المعلن عنها في هذا البرنامج في إرساء علاقات شفافة للإدارة بالمرتفقين، وتدعيم قيم النزاهة والاستحقاق بالإدارة، وتقوية الرقابة الداخلية بالإدارة العمومية، وتعزيز الشفافية في مجال التدبير المالي، وإصلاح منظومة الصفقات العمومية، ومواصلة إصلاح المنظومة القانونية المتعلقة بالوقاية من الرشوة ومحاربتها، وتشجيع الشراكة والتعاون على المستويين الوطني والدولي، إلى جانب برامج قطاعية تشرف كل وزارة على تنفيذها.
ولعل أهم ما تحقق من تفعيل هذا البرنامج، إحداث أقسام الجرائم المالية على مستوى بعض محاكم الاستئناف كجهة قضائية متخصصة تؤول إليها ولاية الاختصاص والبت في جرائم الفساد ، وإصدار القانون المتعلق بحماية الضحايا والشهود والخبراء والمبلغين عن جرائم الفساد، وتعديل قانون مكافحة غسل الأموال، فضلا عن إصدار قوانين تنظيمية تهم الجانب الرقابي والوقائي من جرائم الفساد.
ورغم كل هذه المجهودات المبذولة في سبيل إنجاح منظومة النزاهة بالمغرب، والمكتسبات المحققة على المستوى التشريعي والمؤسساتي، إلا أنها لم تكن في مستوى انتظارات المواطنين، حيث ما زالت مظاهر الفساد تنخر مختلف المصالح الإدارية والقطاعات الاجتماعية والاقتصادية، ولا أدل على ذلك، تبوؤ المغرب لمراتب مخجلة في المؤشر العالمي لإدراك الفساد.
هذا ما أدى مرة أخرى إلى فتح النقاش العمومي حول ظاهرة الفساد، ولاسيما خلال المرحلة السياسية الجديدة التي دشنتها حركة 20 فبراير الداعية بشكل واضح إلى تعزيز المسار الديمقراطي والانصهار مع التحديات الحديثة في مجال الحكامة والشفافية وحفظ المال العام ومكافحة الفساد بمختلف تصنيفاته.
وفي خضم هذا النقاش، جاءت الوثيقة الدستورية لسنة 2011 لتعزيز الصرح التشريعي والمؤسساتي لمكافحة الفساد، وذلك عن طريق إحداث مؤسسات جديدة وتطوير بعضها الآخر، من حيث توسيع نطاق اختصاصاتها ودعم استقلاليتها، كل ذلك من أجل إعادة بناء العلاقة بين الإدارة والمواطن، على أسس حديثة وفقا لقيم الشفافية وتخليق المرفق العام، فضلا عن إصدار نصوص قانونية جديدة، وتعديل أحكام القانون الجنائي والمسطرة الجنائية، والتنظيم القضائي، بهدف ملاءمتهما مع الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية المصادق عليها، لاسيما ما يتعلق منها باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على وجه التخصيص.
وقد توجت هذه المجهودات بإعلان الحكومة عن تبني إستراتيجية وطنية لمحاربة الفساد تزاوج بين التدابير التشريعية وتلك المؤسساتية، تمتد من سنة 2015 إلى حدود سنة 2025 بمقاربة تشاركية في الإعداد والطرح والتنفيذ من مختلف الفعاليات المجتمعية، مع إحداث لجنة وطنية لمكافحة الفساد، ومنحها صلاحيات تتبع تنفيذ برامج الإستراتجية وتقييمها.
إن المعطيات السابقة تؤكد أن المغرب قد انخرط منذ الاستقلال إلى حدود اليوم في ورش تخليق الحياة العامة ومكافحة الفساد، باعتماد سياسات عمومية تميزت بالتدرج والتطور، انطلقت من البعد الزجري الصرف، وصولا إلى البعد الوقائي، ما جعله متبنيا لسياسة جنائية في مواجهة جرائم الفساد، قائمة في جانب منها على سياسة التجريم والعقاب، وفي الجانب الآخر على سياسة الوقاية.
من هنا تبرز أهمية موضوع الدراسة من الناحية العملية والنظرية معا، على اعتبار أن بحث المشرع المغربي عن الحلول الممكنة لمكافحة جرائم الفساد فرضت عليه في فترات زمنية محددة تبني مجموعة من الخيارات، كما فرضت عليه استبدالها بأخرى لمسايرة الفترات الزمنية اللاحقة، سعيا منه إلى مواكبة التطور الملحوظ الذي تعرفه جرائم الفساد وما تتسم به من خصوصيات، لاسيما وأن هذا الصنف من الجرائم ذي طبيعة مركبة تساهم في ارتكابها عوامل متعددة، منها ما يتعلق بالجوانب السياسية والثقافية والأخلاقية، ومنها ما يتصل بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع.
ولما كان الهدف من السياسة الجنائية هو الحد من الظاهرة الإجرامية بواسطة نظام فعال للتجريم يحمي المصالح العليا للمجتمع، ونظام عقابي ملائم ومتناسب يوفر الضوابط المثلى للمحاكمة العادلة بواسطة قضاء يتمتع بالاستقلالية والنزاهة، فإن مضامين السياسة الجنائية المقررة من المشرع المغربي لمواجهة جرائم الفساد كثيرا ما تناولها الفقه المغربي بالدراسة والتحليل، لكنه قلما تساءل عن الفلسفة العامة المؤطرة لها، وعما إذا كانت أدوار المؤسسات القضائية وغير القضائية تساعد على مكافحة الفساد أو الحد من نسبه.
نعني بذلك أن كل جانب من جوانب السياسة الجنائية المقررة من المشرع لمواجهة جرائم الفساد، يجب ألا تقتصر دراسته على رصد النصوص القانونية المنظمة للتجريم والعقاب، والنصوص القانونية المحددة لمهام المؤسسات الفاعلة في مجال الرقابة أو الوقاية من الفساد، بقدر ما تتطلب دراسته في السياق العام الذي فرض على المشرع أن يتبنى خيارا دون آخر، وذلك من خلال إبراز مجمل الدوافع المتحكمة في إعداد السياسة التشريعية وصياغة النصوص القانونية، وصولا إلى الغاية والأهداف التي يروم المشرع تحقيقها؛ أي إنه تجب دراسة مختلف النصوص القانونية الرامية إلى مكافحة الفساد في ضوء الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحكمت في وضعها، ومعرفة مدى توفر الآليات المتطلبة لإنجاح تطبيقها، ومدى مسايرتها للتطور الملحوظ الحاصل بخصوص هذا الصنف من الجرائم.
وحتى لا يقال إن خيارات المشرع في مواجهة جرائم الفساد مجرد واجهة مزينة أمام الرأي العام الوطني والدولي، فلابد من الـتأكيد على أنه قد بذل مجهودا ولا يزال يدعم السياسة الجنائية الخاصة بجرائم الفساد، رغبة منه في ملاءمتها مع توجهات السياسة الجنائية الدولية المنبثقة عن أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
ونستدل على ذلك بدستور فاتح يوليوز 2011 ، الذي جاء بمجموعة من المبادئ الهادفة إلى تخليق الحياة العامة، كإرساء مقومات الحكامة الجيدة، وتكريس قيم النزاهة والشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، فضلا عن تأهيل المنظومة القانونية الزجرية عن طريق إصدار نصوص قانونية جديدة وتعديل بعض المقتضيات الأخرى.
وعليه، إذا كانت خيارات المشرع المغربي في مواجهة جرائم الفساد تساير توجهات السياسة الجنائية الدولية، ولا سيما في مجال التجريم والعقاب، فإننا نتساءل منذ البداية عما إذا كان قد وفر في مقابل ذلك الآليات المؤسساتية والإمكانيات المادية والبشرية الضامنة لتفعيل السياسة الجنائية وبلوغ مراميها وأهدافها؟
انطلاقا من هذا السؤال، يطرح موضوع الدراسة إشكاليات عديدة منها ما يتصل بالإطار القانوني للسياسة الجنائية، ومنها ما يتعلق بالإطار المؤسساتي.
بناء عليه، لما كانت السياسة الجنائية تعتمد على التخطيط والتنظيم مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المختلفة المحيطة بالظاهرة الإجرامية، وتسعى إلى بلوغ أهداف محددة بما يجعلها أداة ملائمة للبحث عن الحلول الممكنة لمكافحة الظاهرة الإجرامية، فهل وُفق المشرع المغربي في تبني سياسة جنائية منسجمة وقادرة على مكافحة جرائم الفساد؟
الإجابة عن الإشكالية المركزية والأسئلة المتفرعة عنها، اخترنا تبني مفهوم السياسة الجنائية باعتباره مفهوما نظريا وعلميا يضم في طياته بعدا زجريا يتأسس على القواعد الموضوعية والإجرائية للنص الجنائي، وآخر وقائيا رقابيا تضطلع به المؤسسات الفاعلة في مجال الرقابة الوقاية من الفساد، حيث إن هذه الأبعاد ستمكننا من تناول مختلف الجوانب المرتبطة بسياسة التجريم وسياسة العقاب المتعلقة بأفعال الفساد، وكذا طرق وأساليب تحريك الدعوى العمومية وتقنيات البحث والتحري، علاوة على رصد مختلف المؤسسات الفاعلة والمتدخلة في مجال الرقابة والوقاية ومدى تقاطع أدوارها مع أهداف السياسة الجنائية.
ومن أجل أن يكون تحليل هذه العناصر متوازنا ومتسقا نظريا ومنسجما مع المنهجية العلمية ارتأينا اعتماد مقاربة متعددة المناهج، كون أن مضامين السياسة الجنائية في مواجهة جرائم الفساد تقتضي تبني المنهج الاستقرائي والتحليلي، لدراسة وتحليل النصوص الجنائية الموضوعية والإجرائية، وكذا ما هو مقرر في أحكام الاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة بالموضوع، وتحليلها قدر الإمكان في ضوء الاتجاهات الفقهية والاجتهادات القضائية.
طبيعة هذا الموضوع تتطلب أيضا الاستعانة بالمنهج المقارن متى اقتضته ضرورة البحث في مسألة مقارنة التشريع الجنائي المغربي بباقي التشريعات الأجنبية للوقوف على مدى تقدم السياسة الجنائية المغربية في معالجتها لإشكاليات جرائم الفساد.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة تقتصر على بحث الموضوع في القانون المغربي، وأن المقارنة بين أحكام التشريع المغربي وباقي التشريعات الأخرى وإن تم الأخذ بها في بعض المحاور دون أخرى، فهي غير مقصودة في حد ذاتها، إنما الهدف من ذلك يروم استجلاء النقائص والأحكام غير المتضمنة في التشريع المغربي، محاولين استلهامها من التشريع المقارن، وهذا ما يبرر اختيارنا لثلاثة نماذج من التشريع المقارن، تتمثل في التشريع الجنائي الجزائري لكونه من التشريعات العربية السباقة إلى تخصيص جرائم الفساد بقانون مستقل، والتشريع الجنائي المصري باعتباره من بين التشريعات الرائدة في مجال حماية المال العام ونزاهة الوظيفة العمومية، فضلا عن الجوانب المتصلة بجرائم الفساد في التشريع الجنائي الفرنسي، الذي يعد مرجعا أساسيا بالنسبة للتشريع الجنائي المغربي.
ويترتب عن اعتماد هذه المناهج، تشخيص مضامين السياسة الجنائية المقررة من المشرع المغربي لمواجهة جرائم الفساد، من خلال إبراز أهم الجوانب التي وُفّق فيها وكذا تلك التي جَانَب فيها التوفيق، ورصد أهم الثغرات القانونية ومكامن الخلل والمؤاخذات التي تطال النصوص القانونية سواء في مجال التجريم والعقاب أو في مجال الرقابة والوقاية، وتقديم بعض المقترحات والتصورات التي ستسهم في تأهيل السياسة الجنائية المغربية في هذا الباب، ولن يتحقق هذا المسعى إلا من خلال الاستئناس بالمنهج النقدي الذي يظهر محاسن ومساوئ الآراء والاتجاهات الفقهية، وكذلك التوجهات التشريعية.
وانطلاقا من هذا الاختيار المنهجي القائم على استنطاق النص والمقارنة والاستنتاج، فإن الخطة العامة التي سنسير على هديها للإجابة عن الإشكالية المركزية والأسئلة الفرعية المرتبطة بها ستكون وفق التصميم التالي:
- الباب الأول: الأحكام الموضوعية المقررة لجرائم الفساد
- الباب الثاني: الأحكام الإجرائية والمؤسساتية المقررة لجرائم الفساد
- على مستوى سياسة التجريم
- عدم ضبط مفهوم جرائم الفساد؛
- لا يزال المشرع المغربي يميز بين جرائم الفساد التقليدية وجرائم الفساد المستحدثة بأحكام الاتفاقية الأممية لمكافحة جرائم الفساد؛
- عدم تجميع جرائم الفساد في فرع أو باب مستقل؛
- نزع صفة الفساد عن بعض الجرائم الواردة في أحكام القانون الجنائي والاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، كما هو الشأن بالنسبة لإخفاء الأشياء المتحصل عليها من جريمة، وغسل الأموال؛
- غياب الدقة والوضوح في صياغة النصوص القانونية المنظمة لبعض الجرائم، وعدم حصر العناصر التي يتحقق بها الركن المادي للجريمة، كما هو الحال بالنسبة لجريمة الرشوة المرتكبة في القطاع الخاص، وجريمة الاختلاس المال العام وتبديده.
- على مستوى سياسة العقاب
- ترتب عن عدم ضبط سياسة التجريم اختلال سياسة العقاب، ذلك أن المشرع تعامل بنوع من الازدواجية في إقرار الجزاء، وذلك وفق ما يلي:
- توحيد أحكام الجزاء بالنسبة لجرائم الفساد التقليدية وتجاهل تماما الجرائم المستحدثة كأنه ينكر عنها صفة الفساد، سواء تعلق الأمر بالعقوبات العادية أو بالعقوبات المشددة ؛
- فبالنسبة للعقوبات العادية، سجلنا تفاوتا ملحوظا وانعدام التناسب بين العقوبات المقررة للجنايات والجنح ودرجة خطورتها المدمرة لمبدأ المساواة في الولوج إلى المرفق العام سواء كان الفاعل شخصا طبيعيا أو معنويا؛
- عدم توحيد الحدين الأدنى والأقصى؛ مما أدى إلى غياب الانسجام في الغاية من توقيع الجزاء بين واضعي النص ومطبقيه، أي بين المشرع والقضاء. ( ففي كثير من الحالات لاحظنا بأن المشرع ينحو إلى الشدة والصرامة، في الوقت الذي يتجه فيه القضاء إلى تخفيف العقوبة أو وضع حد لتنفيذها متى تصالح المتهم مع الإدارة وأرجع المبالغ المختلسة كما تبين ذلك في العديد من الأحكام القضائية.
- أما بخصوص العقوبات المشددة فالمشرع لم يستقر على معيار موحد وواضح المعالم يستند إليه في تبني سياسة عقابية مشددة، إذ يأخذ تارة بمعيار الخطورة الإجرامية، وتارة أخرى بمعيار الضرر، فضلا عن المزاوجة بين المعيارين؛
- على مستوى السياسة الإجرائية
- أهل المشرع السياسة الإجرائية لجرائم الفساد لكنه لم يكن موفقا في أجرأة ذلك، ويبدوا هذا واضحا بعد إحداث أقسام الجرائم المالية كما يلي:
- فشل المشرع المغربي في تبني مبدأ التخصص القضائي في جرائم الفساد، بحيث نجد أن مختلف المحاكم تبت في قضايا الفساد. المحكمة الابتدائية، محاكم الاستئناف – قسم الجرائم المالية- محكمة النقض كمحكمة موضوع وليست محكمة قانون، المحاكم العسكرية؛
- غياب وحدة الإجراءات المتبعة أمام المحاكم الزجرية.
- صعوبة تكييف الأفعال في ظل الإبقاء على معيار الضرر وتنامي إشكالية تنازع الاختصاص؛
- غياب قضاء تحقيق متخصص؛
- غياب شرطة قضائية متخصصة .
- على مستوى المؤسسات الفاعلة في مجال الرقابة والوقاية من الفساد
- تعدد وتنوع المؤسسات الرقابية والوقائية وقصور في الأداء؛
- غياب التنسيق بين المؤسسات الفاعلة في مجال الرقابة والوقاية فيما بينها، وبين المؤسسات القضائية؛
- عدم امتلاك بعض المؤسسات الرقابية والوقائية حرية المبادرة في ممارسة مهامها الرقابية ؛
- تداخل الاختصاصات والمهام الرقابي لدى كثير من المؤسسات، كما هو الشأن بالنسبة للمفتشية العامة للإدارة الترابية ، والمفتشية العامة لوزارة المالية، والمحاكم المالية ؛
- عبء الاستقلالية وتحدي ممارسة المهام؛
- عدم امتلاك في صلاحياتها ما يجعل التقارير الصادرة عنها تثير المسؤولية القانونية.