أثارت مخاطر الأوبئة والأمراض الفتاكة على مر العصور الكثير من الأسئلة وطرحت العديد من الإشكاليات الإجتماعية والقانونية ليمتد ذلك إلى الإقتصاد وأسواق المال والتجارة العالمية، وهو نفس النقاش الذي يطرحه الآن فيروس كورونا المستجد covid 19 الذي ظهر بالصين لينتشر بسرعة في جل بقاع العالم ، وقد أثر انتشار هذا الفيروس وبشكل سلبي على الحياة العامة ومعها المعاملات التجارية بمجموعة من الدول من بينها المغرب ، حيث أعلنت المملكة المغربية حالة الطوارئ الصحية وسنت أحكاما لها[1] ، وقررت تقييد الحركة لأجل غير مسمى بسائر أرجاء التراب الوطني غير أن ذلك لا يعني وقف عجلة الإقتصاد ولكن اتخاذ تدابير استثنائية تستوجب الحد من حركة المواطنين .
وقد خلف هذا الفيروس ركودا على مستوى الإقتصاد العالمي وفاقم الأزمات الإجتماعية ، وأرخى بظلاله على فئة الأجراء الذي ما فتئ المشرع المغربي يسعى إلى حماية هؤلاء باعتبارهم الفئة الضعيفة في العلاقة الشغلية من خلال مدونة الشغل .
والأكيد أن المغرب ليس في منأى عن هذا الوباء العالمي ، حيث توقفت العديد من المقاولات في المغرب بسبب القرار الإداري بوقف جميع الأنشطة الإقتصادية بالمملكة ، هذا الوضع الإستثنائي كان له بليغ الأثر على علاقات الشغل بين المشغلين والأجراء .
وقد أحاط المشرع عقد الشغل بمجموعة من الضمانات عند انتهائه ، حيث لا يمكن لطرفي العلاقة الشغلية إنهاؤه إلا وفق مبررات معينة مبنية على شكليات خاصة [2].
ويكتسي هذا الموضوع أهمية بالغة لكون أن فيروس كورونا متعدد التكييفات فناك من يعتبره حالة من حالات القوة القاهرة وهناك من ينفي عنه هذه الصفة .
ويطرح هذا الموضوع إشكالية جوهرية مفادها : مدى تأثير جائحة كورونا على عقود الشغل الفردية والجماعية ؟
كما يمكننا أن نطرح مجموعة من الأسئلة الفرعية المهمة لمناقشة هذا الموضوع بشكل دقيق : هل تتوفر في جائحة كورونا شروط القوة القاهرة ؟ و ما هي الطبيعة القانونية لفيروس كورونا Covid-19 في علاقته بتشريع الشغل ؟ وما هو أثر الحجر الصحي على عقد الشغل ؟
ولمناقشة هذا الموضوع نرتئي أن نعالجه وفق التصميم الآتي :
المطلب الأول : إنهاء عقود الشغل بسبب جائحة كورونا
المطلب الثاني : الأجر خلال مدة الحجر الصحي
المطلب الأول : إنهاء عقود الشغل بسبب جائحة كورونا
يعتبر تحليل الوقائع والتصرفات القانونية من الضرورة بمكان لإعطائها وصفا قانونيا معينا ووضعها في المكان المناسب لها ، ومن هنا تظهر لنا ضرورة التكييف القانوني لفيروس كورونا المستجد باعتبارها واقعة طبيعية ومنه استجلاء ما مدى إمكانية اعتبار فيروس كورونا المستجد ضمن حالات القوة القاهرة ؟ .
أولا : الطبيعة القانونية لفيروس كورونا Covid-19 في علاقته بتشريع الشغل.
إن التكييف القانوني لفيروس كورونا مسألة جد مهمة وعليها تنبني كل الأحكام الأخرى التي يمكن إسنادها فيما بعد، وفي هذا الإطار يمكن القول بأن فيروس كورونا هو جائحة عالمية كما وصفتها منظمة الصحة العالمية، وإن هذه الجائحة غير متوقعة خارجة عن إرادة الانسان ولا يستطيع دفعها أو تجنب الضرر الناتج عنها.
وبذلك نجد هذه الخصائص تتطابق بشكل كبير مع نظرية القوة القاهرة المكرسة في قانون الالتزامات والعقود[، حيت نص الفصل 269 على ما يلي: “القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الانسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية والفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق والجراد وغارات العدو وفعل السلطة ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا…”.
ومن خلال ما سبق نستنتج أن الشروط اللازمة للتمسك بالقوة القاهرة هي ثلاثة عدم التوقع واستحالة الدفع، ويضاف إلى هذين الشرطين شرط ثالث وهو عدم صدور خطأ من الطرف المتمسك بالقوة القاهرة.
وهذه الشروط السالفة الذكر تنطبق مبدئيا وفيروس كورونا المستجد، فهذه الجائحة هي غير متوقعة، ويستحيل دفعها في الوقت الحالي جراء الانفلات الكبير وعدم السيطرة على الفيروس من طرف جميع الدول المتضرر، كما أنه من المستبعد الأن الحديث عن الخطأ من جانب المتضرر.
وهذا ما تم تأكيده على مستوى القضاء الفرنسي في قرار[3] ، حديث صادر عن الغرفة السادسة لمحكمة الاستئناف كولمار أقر بشكل صريح بأن جائحة كورونا تعتبر بمثابة قوة قاهرة يمكن التمسك بها على هذا الإساس، وذلك عندما اعتبرت عدم حضور المتهم ودفاعه لجلسة الحكم بسبب إصابة المتهم بفيروس كورونا قوة قاهرة.
غير أنه عندما نقول بأن جائحة كورونا هي قوة قاهرة فإنه يجب وضع الأمور في نطاقها القانوني حسب الحالة المطروحة، فإذا كان بإمكان المقاولة التي لم تتمكن من الحصول على المواد الأولية للإنتاج مثلا بسبب إغلاق الحدود ووقف الرحلات من وإلى المغرب التمسك بالقوة القاهرة للتحلل من التزاماتها، فإنه لا يمكن للمقاولات الأخرى التي تتوفر على كافة وسائل الإنتاج والتصدير بشكل عادي كما كانت من قبل أن تغلق أبوابها وتدفع بالقوة القاهرة للتحلل من التزاماتها في مواجهة الأجراء[4].
ونحن من جانبنا نعتبر بأن جائحة كورونا ما هي إلا تطبيق من تطبيقات القوة القاهرة ، كلما توافرت شروط هده الأخيرة .
ثانيا : مدى مساهمة فيروس كورونا في إنهاء العلاقة الشغيلة
من الناحية القانونية يمكن اعتبار أن جائحة كورونا سبب مباشر أو غير مباشر في إنهاء العلاقة الشغيلة بين الأجير والمشغل، وفي هذا الاطار يلزم التمييز بين عقد الشغل المحدد المدة و غير المحدد المدة، ففي ما يخص عقد شغل غير المحدد المدة ، إذا أصيب الأجير بفيروس كورونا مثلا فإنه مبدئيا يتوقف عقد الشغل ولا ينتهي غير أنه في حالة تجاوز مدة التوقف 180 يوما فإن الأجير بصفة تلقائية يعتبر مستقيلا من العمل، وبالتالي تنتهي العلاقة الشغلية، أما فيما يخص عقد الشغل المحدد المدة فإن الفقرة الثانية من المادة 33 من مدونة الشغل نصت على أنه ” يستوجب قيام أحد الطرفين بإنهاء عقد الشغل المحدد المدة، قبل حلول أجله، تعويضا للطرف الآخر، مالم يكن الانهاء مبررا، بصدور خطأ جسيم عن الطرف الآخر، أو ناشئا عن قوة قاهرة.”
و باستقرائنا لمقتضيات المادة أعلاه يتبين لنا أنه يمكن أن يكون هناك إنهاء مبرر لعقد الشغل المحدد المدة وبدون أي تعويض في حالة صدور خطأ جسيم من طرف الأجير أو إذا كان ناشئا عن قوة قاهرة، و قد أسلفنا الذكر أن جائحة كورونا تعتبر بمثابة قوة قاهرة يمكن التمسك بها على هذا الأساس.
المطلب الثاني : الأجر خلال مدة الحجر الصحي
طبقا لمقتضيات المادة 32 من مدونة الشغل التي تنص على أنه “يتوقف عقد الشغل مؤقتا أثناء… تغيب الأجير لمرض أو إصابة يثبتها الطبيب إثباتا قانونيا” وبذلك فإن عقود الشغل غير محددة المدة التي كانت سارية و توقفت نتيجة إصابة الأجير بوباء كورونا فإنها ستعود للاستئناف بمجرد تعافي الأجير شريطة عدم تجاوز مدة المرض مائة وثمانين يوما متوالية كما تم التنصيص على ذلك بمقتضى المادة 272 من مدونة الشغل، ولا يتحمل المشغل مسؤولية أداء الأجر عن الغياب مالم ينص عقد الشغل أو اتفاقية الشغل الجماعية أو النظام الداخلي على خلاف ذلك وهذا ما تمت الاشارة اليه في المادة 273 من مدونة الشغل، وهنا يبقى الأجير مشمول بالحماية التي يوفرها نظام الضمان الاجتماعي أثناء المرض.
إن الخوض في غمار الأجر خلال مدة الحجر الصحي يجب النظر فيه بمنظارين : أولا حماية الأجير ، وثانيا عدم الإلحاق بالمشغل أضرار فادحة من شأنها إثقال كاهله بما لا يطيق وبالتالي إعلان المقاولة إفلاسها .
يمكن إيجاد حل وسط يخدم كثيرا الفئة المشغلة وهو تعجيل كل العطل خلال هاته الجائحة المؤدى عنها خلال أي فترة من فترات السنة غير أنه في الحالة التي يكون فيها المشغل قد سبق له وأن حدد تواريخ العطل بعد استشارة مندوبي الأجراء والممثلين النقابيين في حالة وجودهم، فإن قرار تغيير هذه الفترة سواء بالتقديم أو التأخير فإنه يتطلب موافقة الأجراء المعنيين من جهة، وإشعار مفتش الشغل من جهة أخرى، مع إدخال هذه التغييرات على الملصق وسجل العطل، وهذا ما تم التنصيص عليه في الفقرتين الثانية والثالثة من المادة 245 من مدونة الشغل .
كما أن هاته الفترة التي يعيشها العالم بأسره تعرف نوعا من التضامن بين الأفراد ، ولذلك لا بأس من المشاورة بين الفئة المشغلة و فئة المآجرين لإيجاد حل يخدم الطرفين والخروج من هاته الجائحة بأقل الأضرار ، غير أن الشرط الأساسي الذي يلزم احترامه هنا هو التراضي والاتفاق بين الطرفين.
ختاما يمكن القول أن فيروس كورونا يشكل أكبر أزمة على مستوى العالم في هذا القرن ، ولكن ما يعاب على المشرع المغربي في المادة الشغلية هو أنه لم يكن موفقا إلى حد كبير في تنظيمه للقوة القاهرة وإنما أشار إليها في نصوص متناثرة محتشمة ، وهو الأمر الذي أدى إلى الإختلاف في تكييف فيروس كورونا . والمعول عليه هو اجتهادات القضاة لا سيما تفسيرات محكمة النقض .
[1] -وذلك بمقتضى مرسوم رقم 2.20.293 الصادر في 28 رجب 1441 ( 24 مارس 2020 ) ، المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها ، منشور بالجريدة الرسمية عدد 6867 مكرر 29 رجب 1441 ( 24 مارس 2020 ) ، وما تجدر الإشارة إليه هو أن هذين المرسومين يطرحان إشكالية الأجل حيث لم يتم تعيين تاريخ بداية حالة الطوارئ لا في المرسوم المتعلق بأحكام الطوارئ ( المادة 6 منه )، ولا المتعلق بإعلان حالة الطوارئ ، ما سيكون له بليغ الأثر حول استئناف الآجال القانونية المنصوص عليها لا سواء في القوانين الموضوعية ولا نلك المتعلقة باستئناف الأحكام القضائية الرائجة أمام محاكم المملكة ، في انتظار ما سيسفر عنه الإجتهاد القضائي حول هذه النقطة .
[2] أمينة رضوان ، مدى مساهمة فيروس كورونا في إنهاء العلاقة الشغلية ، مقال منشور في مجلة الباحث ، العدد 17 ، أبريل 2020
[3] -قرار صادر عن الغرفة السادسة لمحكمة الإستئناف كولمار بتاريخ 12 مارس 2020، منشور بالموقع الإلكتروني :
https//www.lexis360.fr
https//www.lexis360.fr
[4] -ميلود عشعاش ، إشكالات علاقات الشغل في ظل تفشي وباء كورونا المستجد كوفيد -19 ، مقال منشور في مجلة القانون والأعمال الدولية بتاريخ 11 أبريل 2020.