صدر بتاريخ 25 مارس 2020 منشور عن السيد رئيس الحكومة بخصوص تأجيل الترقيات وإلغاء مباريات التوظيف، وذلك في سبيل تعبئة الموارد المالية المتاحة لمواجهة الإنعكاسات السلبية لانتشار وباء فيروس كورونا في بلادنا.
وفي هذا الصدد، فإن ما تضمنه هذا المنشور يثير العديد من التساؤلات والملاحظات سنحاول إثارتها في هذه الورقة.
أولا: تأجيل الترقيات، هل يشمل تأجيل إجراءات الترسيم، مادام الترسيم هو في حد ذاته ترقية من رتبة إلى أخرى، أم أن الأمر يتعلق فقط بالترقيات من درجة إلى أخرى لاسيما وأن هذه الأخيرة هي من تحتاج إلى موارد مالية معتبرة خلافا للأولى؛
ثانيا: البند رقم 2 من المنشور ذكر أن مباريات التوظيف سوف يتم تأجيلها بينما موضوع المذكرة هو إلغاء المباريات لا تأجيلها، وشتان بين الإلغاء الذي يفيد إعدام تلك المباريات كأنها لم تكن وبين التأجيل الذي يبقي الحياة للمباريات على أن تقام في وقت لاحق للمواعيد المقررة لها سلفا.
وبالتمعن مليا في عبارات البند رقم 2، يتضح أن الأمر يتعلق بإلغاء المباريات وليس بتأجيلها، ودليلنا على ذلك هي العبارة المستعملة في السطرين الثاني والثالث التي تقول "علما أنه سيتم العمل على الإستجابة لحاجيات الإدارات العمومية من التوظيفات، بعد تجاوز الأزمة بحول الله وفي حدود الإمكانيات المتاحة"، فصائغوا هذا البند لم يقفوا عند تبيان أن حاجيات الإدارات من الموارد البشرية سيتم العمل على الاستجابة لها بل أضافوا عبارة ذات دلالة قوية وهي "في حدود الامكانيات المتاحة"، مما يفيد صراحة أن الإمكانيات المالية التي ستكون متوفرة حين تجاوز هذه الظرفية الناجمة عن وباء كورونا هي من سيتحكم في عدد المناصب المالية التي ستخصص لكل إدارة، ومن آثار ذلك أن الإدارات التي أعلنت عن مباراة لتوظيف 50 منصبا على سبيل المثال قد لا تتوفر لها من الموارد بعد مرور الأزمة ما يكفي لتوظيف هذا العدد بل قد تتخلى عن عملية التوظيف كليا حسب ما سيفرزه واقع الحال آنذاك، وإن هي أرادت أن تقلص من عدد المناصب التي سيتبارى عليها المترشحون فسيكون لزاما عليها الإعلان عن مباراة جديدة للتوظيف، وهو ما يفيد أن الإعلان الثاني للمباراة سيكون قرارا إداريا جديدا لفتح مباراة جديدة وليس إعلانا لاستئناف المباراة التي تم الإعلان عنها سلفا، وهذا بحكم التغيير الذي سيطال عدد المناصب المطلوبة للتوظيف والتي كما سبق القول ستتحدد تبعا للموارد المالية المتاحة في حينه.
علاوة على ذلك، فلو تعلق الأمر بتأجيل المباريات فما كان سيحتاج لهذا المنشور، لكون جميع المباريات التي كانت مبرمجة في تواريخ الحظر الصحي أجلت إلى أجل غير مسمى، منها ما تم إعلان تأجيله في بوابة التشغيل العمومي ومنها ما أجل بحكم الواقع الذي يحظر فيه التجمع بالنظر لخطورة انتشار الوباء، فتأجيل الشيء يأتي لاستبعاد الأجل المحدد له وهو الشيء الذي كان قبل خروج المنشور، لذلك فالأمر يتعلق بإلغاء المباريات لا بتأجيلها؛
ثالثا: البند رقم 2 أيضا عندما استثنى مباريات التوظيف التي سبق الإعلان عن نتائجها من التأجيل –والأصح هو الإلغاء كما أوضحنا ذلك أعلاه-، فهو لم يبين هل الأمر يتعلق بالنتائج النهائية للمباريات أم أنه يشمل حتى نتائج الإختبارات الكتابية باعتبارها جزء أصيل لا يتجزأ من نتيجة المباراة.
وفي هذا الإطار، ذهبت بعض القراءات إلى أن عبارة "الإعلان عن نتائجها" يقصد بها النتائج النهائية، على اعتبار أن النجاح في الإختبارات الكتابية لا يدخل في خانة "نتيجة المباراة"، فهذه الأخيرة –حسب هذه القراءات دائما- تفيد المباراة بأكملها وليس شقا منها، وبالتالي فإن هذا الرأي يقول بأن المباريات التي أعلن عن نتائجها النهائية هي وحدها المعنية بالإستثناء من الإلغاء دون المباريات التي تم الإعلان عن نتائج اختباراتها الكتابية.
وعلى الرغم من وجاهة هذه القراءات، فإننا لا نؤيدها، وذلك لكون نتيجة المباراة وصف لا يطلق على المباراة الشفوية لوحدها حتى يصح ما ذهبت إليه هذه القراءات، بل إن الإختبارات الكتابية عندما تنشر لائحة الناجحين فيها فهي تسمى نتيجة وعلى أساس هذه النتيجة تحدد أسماء المترشحين الناجحين لاجتياز الإختبارات الشفوية، والنقط المحصل عليها في الإختبارات الكتابية يتم الإحتفاظ بها لتنضاف إليها النقط المحصل عليها في الإختبارات الشفوية لتحديد الناجحين النهائيين، وهو ما يعني أن عبارة "نتيجة المباراة" لا يمكن بأي حال أن تنسحب على الإختبارات الشفوية دون الإختبارات الكتابية فهما كل لا يمكن تجزأته، ومن ثمة فإنه لا يصح القول بأن ما ورد في البند رقم 2 من منشور السيد رئيس الحكومة يفيد أن المترشحين الذين تم الإعلان عن نجاحهم في الإختبارات الكتابية سقط حقهم نتيجة إلغاء هذه المباريات، بل وعلى العكس تماما فإننا نرى أن هذه النتائج غير معنية بالإلغاء ويشملها الإستثناء الذي أوردته عبارة "ما عدا تلك التي سبق الإعلان عن نتائجها".
وتعزيزا لما ذكرناه، فإنه من المعلوم أن اجتياز الإختبار الكتابي بنجاح يولد حقا مكتسبا للناجح لاجتياز الإختبار الشفوي، وحرمان المعني بالأمر من هذا الحق يعد إجحافا في حقه، والحق المكتسب هذا مصدره الدستور الذي يأتي في قمة التراتبية القانونية، إذ هو انعكاس لمعنى عدم جواز رجعية القوانين المنصوص عليه في الفقرة الأخيرة من الفصل 6 من الدستور، فالأصل ألا يسري القانون إلا من حين نفاذه والعمل به ولا يطبق على الوقائع التي حصلت قبل صدوره، والحكمة من ذلك ضمان الحقوق المكتسبة التي ترتبت على الوقائع الماضية وجعل أصحابها في مأمن من إلغائها أو ضياعها ليكون الناس على ثقة بالحقوق واطمئنانا إلى القوانين، أما الإستثناء في قاعدة رجعية القوانين فلا تكون إلا في حالة القانون الأصلح للمتهم طبقا لمقتضيات المادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والفصل 5 من مجموعة القانون الجنائي المغربي.
أما الدفع بأن المرسوم الذي صدر بتاريخ 23 مارس 2020 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها يخول بمقتضى مادته 3 للحكومة أن تتخذ بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية ومناشير وبلاغات جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها حالة الطوارئ بغض النظر عن جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، فإنه دفع غير ذي أساس لعدة اعتبارات، أولها أن الفقرة الأخيرة من الفصل 6 من الدستور واضحة في عدم جواز رجعية القانون كما بينا ذلك أعلاه والأحكام الدستورية غير معنية بعبارة "على الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل" وإلا ما كان ليستند المرسوم بقانون في بناءاته على فصول من الدستور، ثاني هذه الإعتبارات أن المادة الثالثة التي تخول للحكومة اتخاذ هذه الإجراءات قيدت موضوع التدابير الحكومية التي يمكن اتخاذها بغاية وهدف يتمثل في الحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتأجيل المباريات كفيل بتحقيق هذه الغاية دون أن يتم إلغاؤها والتسبب في ضرب حقوق مكتسبة.
ومن المفيد الإشارة إلى أنه حتى في حالة الإستثناء التي تفوق حالة الطوارئ الصحية التي تعيشها بلادنا اليوم، فإن الدستور حرص على التنصيص بالواضح الذي لا يقبل معه تأويل أن الحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور تبقى مضمونة، ومعلوم أن حالة الطوارئ الصحية هو وضع لا يرقى إلى حالة الإستثناء، وهو ما يفترض معه ضمان الحقوق الأساسية للناجحين في المباريات الكتابية والمتمثلة في حفظ مراكزهم القانونية التي اكتسبوها بعد نجاحهم.
رابعا: ورد في الفقرة ما قبل الأخيرة من منشور السيد رئيس الحكومة أن التدابير الإستثنائية التي تضمنها المنشور لا تشمل الموظفين والأعوان التابعين للإدارات المكلفة بالأمن الداخلي ومهنيي قطاع الصحة، وهو ما يشوبه الكثير من الغموض، سواء بالنسبة للفئة الأولى المتعلقة بأعوان وموظفي الأمن الداخلي أو بالنسبة للفئة الثانية المتعلقة بمهنيي الصحة.
فبالنسبة للفئة الأولى يطرح التساؤل حول الموظفين والأعوان المعنيين بالذات، هل يقتصر الأمر على الموظفين والأعوان الذين ينتمون إلى الإدارات الأمنية للهيئات المناط بها الحفاظ على النظام والأمن العمومي الداخلي أم أنه يشمل حتى الموظفين والأعوان التابعين لهذه الهيئات لكنهم ينتمون إلى الإدارات المدنية، وتزداد فداحة هذا التساؤل عندما يكون هؤلاء –أي المنتمين إلى الإدارات المدنية والخاضعين بذلك إلى النظام الأساسي للوظيفة العمومية- يشتغلون في إحدى المديريات التابعة للإدارة الأمنية، وهو ما يجعل التساؤل ملحا حول مدى شموليتهم بالإستثناء المنصوص عليه في المنشور.
أما الفئة الثانية، فإن الملاحظة المثارة حولها لا تبتعد كثيرا عما أثير حول نظيرتها، فعبارة "مهنيي الصحة" تقصي الموظفين والعاملين بالقطاع الصحي وتحصر نطاق الإستثناء في أصحاب المهن الصحية من الأطباء والممرضين.
إن الراجح من استثناء قطاعي الأمن الداخلي والصحة هو ما يبدله العاملون في هذين القطاعين من مجهودات جبارة وتضحيات فريدة نتيجة وجودهم في الصفوف الأولى في هذه الظرفية الحساسة التي تمر بها بلادنا، وهو أمر محمود لتشجيعهم على البدل والعطاء حتى نتجاوز هذه الظرفية الصعبة، لكن ذلك لا ينفي أن ثمة موظفين وأعوان إداريين ينتمون إلى نفس القطاع ويشتغلون جنبا إلى جنب مع زملائهم المكلفين بالأمن الداخلي ومهنيي الصحة لتيسير مهامهم في أداء الواجب الوطني بالدقة التي تقتضيها الظرفية، وقد تتعطل هذه المرافق عند غيابهم، لذلك فإن عدم إدراجهم في نطاق الإستثناء الذي تضمنه المنشور كان مجانبا للصواب.
ختاما، يتضح لنا أن منشور السيد رئيس الحكومة لم يصغ بالطريقة الجيدة التي من شأنها توضيح مقاصده، فقد ترك ورائه من البياضات ما جعله مبهما وخلف تساؤلات وقراءات مختلفة، وهو ما يفترض معه التوضيح والبيان لتلافي أي ازدواجية في التطبيق من طرف المخاطبين به.