يعتبر المرفق العام المظهر الإيجابي لنشاط الإدارة والذي تسعى من خلاله إلى إشباع الحاجات العامة لمرتفقيها، و تعد المرافق العامة من أهم موضوعات القانون الإداري و ترد إليها معظم النظريات و المبادئ التي ابتدعها القضاء الإداري، كمبدأ استمرارية المرفق العام في أداء خدمته.
يمتد مفهوم الاستمرارية في معناه الواسع إلى فكرة استمرارية الدولة بسلطاتها الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية والمؤسسات الدستورية المنصوص عليها. أما في معناه الضيق فيرتبط تحديدا بالمرفق العمومي، ليصبح مفهوم الاستمرارية يعني السير العادي والمنتظم للمرفق العمومي.
و قد نص دستور 2011 على هذا المبدأ من خلال الفصل 154، حيث " يتم تنظيم المرافق العمومية على أساس المساواة بين المواطنين و المواطنات في الولوج اليها، و الانصاف في تغطية التراب الوطني و الاستمرارية في أداء الخدمات.." كما نصت القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية على هذه المبدأ في إطار قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر.
لكن، هذا المبدأ وغيره من المبادئ يمكن أن تتميز بعدم الثبات والدوام على وتيرة واحدة مضطردة بسبب تهديد ناتج عن ظروف استثنائية، تضطر معها الدولة إلى تطبيق حالة من الحالات الاستثنائية كحالة الطوارئ الصحية التي سببها تفشي فيروس كوفيد19 المستجد.
ولما كانت حالة الطوارئ الصحية ترتبط بشكل وثيق بفكرة المحافظة على النظام العام، فإن الدولة وجدت نفسها مجبرة على اتخاد تدابير وإجراءات عاجلة لمواجهة الوضع الاستثنائي الجديد. وهو ما تجلى من خلال إصدار مجموعة من المراسيم انعكست على المرافق العمومية بحيث توقف بعضها كمرفق الخطوط الجوية الملكية المغربية، وظل بعضها الأخر يشتغل وفق ما فرضته ضرورة الموائمة المستمرة بين الصالح العام و بين الظرف الاستثنائي.
من هنا تطرح الإشكالية الرئيسية التالية : إلى أي حد يمكن الحديث عن استمرارية المرفق العام في ظل انتشار جائجة كورونا؟
سنحاول الإجابة عن الإشكالية من خلال محورين، بحيث سنخصص المحور الأول للحديث عن دور الإدارة الإلكترونية في استمرارية عمل المرافق العمومية، في حين سنتحدث في المحور الثاني عن الإجراءات المتخذة لضمان استمرارية المرفق العام.
المحور الاول : الإدارة الالكترونية كدعامة أساسية لاستمرارية المرفق العام
من المؤكد أن الدولة تسعى الى الظهور بمظهر الرقي والتميز عبر تقديمها لأجود الخدمات من خلال مرافقها العامة. إذ تعمل، وفقا لمبدأ استمرارية المرفق العام، على تسيير المرفق بانتظام واضطراد حتى لا يحدث خلل من شأنه أن ينتج عنه اضطراب و احتجاج بين الأفراد. فالانقطاع أو التوقف الفجائي للمرفق العام يعني تعطل مصالح الناس وحاجياتهم.
من أجل ذلك، ومن منطلق حق الإدارة في تغيير أسلوب إدارتها للمرفق العام وتماشيا مع التطورات الحاصلة على المستوى التكنولوجي، تمت ملائمة أسلوب إدارة المرفق العام مع هذه التغيرات المستمرة بحيث ترتب عنه ما يسمى بالإدارة الالكترونية.
إن تطبيق الإدارة الالكترونية داخل المرفق العام ساهم الى حد ما في ترسيخ هذا المبدأ بحيث صارت الخدمات تقدم عبر وسائل الكترونية، بشكل مستمر، دون التقيد بعنصري الزمان والمكان. وهذا ما يبدو من خلال تدشين البوابات الالكترونية التي تعمل على مدار الساعة.
فالموظف العمومي في ظل الإدارة الالكترونية يستطيع أن ينجز عمله داخل بيته بشكل أيسر ويرد على استفسارات المواطنين الواردة في الموقع الالكتروني. فمن شأن هذا الأسلوب ان يتجاوز بعض عيوب الإدارة التقليدية المتسمة بالبطء في تقديم خدماتها. فإلى أي حد ساهم هذا الأسلوب الحديث لإدارة المرفق العام في ضمان اشباع حاجات المواطنين، و بشكل متساو، في ظل جائحة كوفيد 19 ؟
أولا: مرفق التعليم/ التدريس عن بعد
لقد فرض فيروس كورونا على المغرب، كما على باقي دول العالم، اتخاد جملة من الإجراءات لمواجهة الخطر الداهم المهدد لحياة المواطنين وصحتهم. دفع هذا الامر السلطات العمومية ببلاغ لوزارة الداخلية، الى الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية ابتداء من 20 مارس 2020 إلى إشعار اخر، و ذلك حفاظا على صحة و سلامة المواطنين. ثم صدرت بعده مجموعة من المراسيم : مرسوم بقانون رقم 292 .20 .2 صادر في 28 رجب 1441 (23 مارس 2020) يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها. و تم بناء عليه إعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي كورونا – كوفيد 19 بموجب المرسوم رقم 399 .20 .2 صادر في 29 من رجب 1441 (24 مارس 2020).
بناء على ما تقدم، تم فرض مجموعة من القيود تمثلت في فرض الحجر الصحي و منع التجمعات العامة و وضع قيود على السفر.. و توقف مرفق التعليم الذي يعتبر مرفقا عاما ، عن تقديم خدماته عن قرب( التعليم الحضوري) [1] كإجراء احترازي وقائي. لكن في مقابل ذلك، و من منطلق أن الاستمرارية من روح المرفق العام و باعتبارها من أهم المبادئ العامة التي يقوم عليها القانون الإداري، فإنه تم اعتماد التعليم الالكتروني عن بعد لمواصلة الدروس. وهذا ما نصت عليه المادة 33 من القانون-الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، بحيث سيتم إدماج التعليم الالكتروني تدريجيا في أفق تعميمه. لكن في ظل هذا الوضع الاستثنائي غير المتوقع، حتم تنزيل بعض التدابير اللازمة لم تكن سابقا.
هكذا و على مستوى قطاع التربية الوطنية تم اطلاق البوابة الالكترونية '' TelmidTICE'' و التي توفر مضامين رقمية مصنفة حسب الاسلاك و المستويات التعليمية و كذا المواد الدراسية. من جهة أخرى، شرعت بعض القنوات الفضائية كالقناة الثقافية و الامازيغية و العيون، في بث الدروس المصورة سعيا من القطاع المعني الى ضمان تكافؤ الفرص و الانصاف في الاستفادة من التعليم عن بعد. هذا بالإضافة إلى الخدمة التشاركية “Microsoft teams’’ التي تتيح إمكانية التواصل المباشر بين المدرس و المتعلمين. و على مستوى قطاع التكوين المهني فقد تم اعتماد نفس الالية الالكترونية من خلال خلق اقسام افتراضية للتواصل المباشر بين المكونين و المتدربين. اما على مستوى قطاع التعليم العالي، فان بعض الجامعات وضعت محاضراتها ودروسها بمنصاتها الالكترونية في حين لجأت بعضها الاخر الى بث المحاضرات عبر أمواج الإذاعة الجهوية.
ثانيا: مرفق القضاء/ التقاضي عن بعد
يعتبر مرفق القضاء من أهم المرافق الحيوية التي توقفت جزئيا عن استقبال المرتفقين بعد قرار اعلان حالة الطوارئ الصحية بالمملكة، باعتباره فضاء يتجمع فيه الناس و من الممكن أن يشكل خطرا على صحة المرتفقين وكذاك على الأمن الصحي للقضاة و موظفي المحاكم بصفة عامة. لذلك و في اطار التدابير الاحترازية و الوقائية المتخذة للحد من انتشار كورونا تم اعتماد الحلول الرقمية لضمان استمرارية العمل الإداري و المرفق العام بصفة عامة في تقديم خدماته. وتمثل ذلك أساسا في إطلاق بوابة مكتب الضبط الالكتروني للمراسلات الإدارية الذي تم تطويره من طرف وكالة التنمية الرقمية. وتهدف هذه البوابة الى تمكين الإدارات والمرتفقين على حد سواء من إيداع مراسلاتهم عن بعد لدى الإدارات المعنية مقابل وصل رقمي بتأكيد الاستلام. ويأتي هذا التدبير تفعيلا لمنشور وزير منشور السيد وزير الاقتصاد و المالية و إصلاح الإدارة رقم 02/2020 بتاريخ 01 ابريل 2020 المتعلق بالخدمات الرقمية للمراسلات الإدارية، من جهة.
من جهة أخرى، عرفت بعض المحاكم المغربية، ولأول مرة، مستجد على مستوى جلسات المحاكمة، إذ صارت هذه الأخيرة تتم عن بعد في القضايا الزجرية باستخدام تكنولوجيا التواصل " الفيديو" بين القضاة و المحامين و المتهم النزيل بالمؤسسة السجنية.
المحور الثاني : الإجراءات المتخذة من طرف السلطة التنفيذية لضمان استمرارية المرافق العامة
أولا : ترشيد النفقات العمومية
تطرح هذه الظرفية الاستثنائية مجموعة من التحديات مرتبطة أساسا بإشكالية الإيرادات العمومية التي تقلصت إلى حد كبير بسبب توقف بعض الشركات و المقاولات و غيرها عن العمل، و هذا يعني فقدان مبالغ مهمة من الضرائب و الرسوم و الأتاوى لصالح الدولة و الجماعات الترابية. هل يؤثر ذلك على استمرارية المرافق العامة ؟
من المتفق عليه أن مواجهة هذه الجائحة يتطلب موارد مالية كبيرة مقابل ترشيد معقلن للنفقات العمومية. ومن أجل توفير السيولة المالية اللازمة لضمان استمرارية بعض المرافق العامة خاصة مرفق الصحة، تم إحداث، بموجب مرسوم، حساب خصوصي تحت عنوان '' الصندوق الخاص لتدبير ومواجهة وباء فيروس كورونا[2]" خصص له 10 مليارات درهم من الميزانية العامة للدولة، وساهم في تمويله أشخاصا اعتبارية و أخرى ذاتية.
في هذا السياق أصدر رئيس الحكومة منشورا تحت رقم 2020/03 بتاريخ 25 مارس 2020 يتعلق بتأجيل الترقيات وتأجيل مباريات التوظيف، وذلك لتخفيف العبء عن الميزانية العامة و توجيه النفقات لدعم مرفق الصحة و القطاعات المتضررة من الأزمة. غير أن هذا المنشور استثنى قطاع الصحة و باقي القطاعات الأخرى كالأمن و القوات المسلحة، بحيث أعلنت وزارة الصحة عن مباريات للتوظيف تهم بالدرجة الأولى الأطباء و الممرضين سعيا منها لضمان استمرارية مرفق الصحة في مواجهة الوباء. كما أوقفت الرخص الخاصة بالعطل السنوية على أساس أن هذه الفترة تحتاج إلى تكاثف الجهود.
في السياق نفسه، أصدر رئيس الحكومة منشورا موجها إلى الوزراء والوزراء المنتدبين والمندوبين السامين و المندوب العام حول التدبير الأمثل للالتزامات بنفقات الدولة و المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية خلال فترة حالة الطوارئ الصحية، بحيث يتعين تقليص أو إلغاء النفقات غير الضرورية خلال هذه المرحلة، و الالتزام فقط بالنفقات الإجبارية و نفقات التسيير التي لها علاقة بضمان استمرارية المرفق العمومي.
ثانيا : تعديل الميزانيات الجماعية لضمان استمرارية المرافق العامة
من الواضح أن الجماعات الترابية تعتبر شريكا لا غنى عنه للدولة في حماية و حفظ صحة المواطنين. فهي الأخرى انخرطت في جهود الوقاية من انتشار كوفيد 19 من خلال الأدوار التي تضطلع بها. فطبقا لمبدأ التفريع، تتولى الجماعة الترابية ممارسة اختصاصات ذاتية تتمثل أساسا في تنظيف الطرقات و الساحات العمومية و جميع الفضاءات العمومية الواقعة في نفوذها الترابي، و عليه فهي تضطلع بعملية التنظيف و التعقيم لمختلف المرافق العمومية المحلية بالمدينة، مثل مرفق النقل العمومي و الحضري ( كالطاكسيات و الحافلات)، و مرفق الأسواق الجماعية و مرفق المحطة العمومية و كذا المرافق الأخرى كالمحاكم و مقر العمالات و الجماعات..
وتمارس الجماعة الترابية أيضا اختصاص نقل الأموات والدفن، وهي بالتالي تتولى من خلال مكتبها الصحي القيام بهذه المهام آخذة بعين الاعتبار الاحتياطات اللازمة للحيلولة دون إصابة عمالها بفيروس كورونا.
كما تتولى الجماعة الترابية ممارسة اختصاصات مشتركة بشكل تعاقدي بينها و بين الدولة و أخرى منقولة من هذه الأخيرة. دون إغفال سلطات الضبط الإداري التي يمارسها الرئيس الجماعي من خلال قرارات تنظيمية تأخد شكل المنع أو الإذن أو الأمر.
إن القيام بهذه الاختصاصات يتطلب من الجماعة الترابية أن ترصد مبالغ مالية مهمة لهذا الغرض. وهذا الأمر يستدعي إعادة النظر في الميزانية الجماعية و ملائمتها مع الظرف الاستثنائي خصوصا إذا علمنا أن هذه الأخيرة تم إعدادها بناء على المعطيات التوقعية في الظروف العادية.
في هذا السياق، أصدرت وزارة الداخلية دورية بتاريخ 28 مارس 2020 تسمح من خلالها لرؤساء مجالس الجماعات الترابية بمختلف مستوياتها بتعديل الميزانيات دون اللجوء إلى مداولة المجالس، سواء ببرمجة اعتمادات جديدة أو بإعادة البرمجة عن طريق التحويلات وذلك بتنسيق وتأشير سلطات المراقبة الممثلة في العامل والوالي. هكذا، عمدت عدة جماعات ترابية بالمملكة إلى تحويل فصول من ميزانياتها إلى فصول أخرى مرتبطة بمواجهة جائحة كورونا، و ذلك لضمان استمرارية المرافق العمومية في تقديم خدماتها للمرتفقين.
ختاما، يتضح مما سبق ومن الواقع الراهن الذي نعيشه حاليا، أن السلطات العمومية كانت سباقة في اتخاد الإجراءات والتدابير الوقائية والتي كانت لها الفعالية في تجنيب البلاد من الكارثة الخطيرة. لكن، مقابل ذلك تم تسجيل مجموعة من الانتقادات الموجهة للمرافق العامة، كمرفق التعليم. فإذا كان القطاع المعني قد لجأ إلى طريقة التعليم عن بعد ضمانا لاستمرارية المرفق العمومي إلا أن هذه الاستمرارية ظلت تطرح أكثر من سؤال في الوقت الذي يعرف فيه المغرب تأخرا على مستوى البنية التحتية التكنولوجية، فكيف يمكن للمتعلم أن يتابع دروسه عن بعد، في حين لا يملك لوحة الكترونية وانترنت يمكنه من ربطه بالمدرس و بالمواقع الالكترونية؟ هذا السؤال يزداد متاهة حين نربطه بمبدأ المساواة في الانتفاع من خدمات المرفق العمومي، حيث هناك فئة كبيرة من المتعلمين خاصة في العالم القروي، لا يستفيدون من هذه الخدمة، و هذا يكرس إلى حد كبير التفاوتات بين العالم الحضري و العالم القروي. هناك انتقادات كثيرة لا يسع الحديث عنها لكن نكتفي بالتساؤل التالي: إذا كانت جائحة كورونا قد عرت عن واقع بعض المرافق العمومية بحيث اتسمت بعدم مواكبتها للتحولات الكبرى خاصة الالكترونية منها، فهل ستعمل الدولة على تدارك هذا التأخر الحاصل على مستوى المرافق الحيوية كالتعليم و الصحة و تسعى بالتالي، إلى تقديم الجودة في خدماتها ؟ أم ستكتفي برفع شعار الإصلاحات و الرؤى الاستراتيجية دون تقديم حلول واقعية ؟
[1] توقفت الدراسة يوم 16 مارس 2020، أي قبل أربعة أيام من إعلان حالة الطوارئ الصحية.
[2] أحدث الصندوق الخاص بكورونا بتعليمات من الملك محمد السادس و تبرع بملياري درهم من ماله الخاص لدعمه.