عاش المغرب منذ أول تجربة نيابية عرفتها البلاد سنة 1963 مرحلة سياسية مطبوعة بأزمة الديمقراطية تجسدت أساسا في تزوير الانتخابات والتلاعب بإرادة الناخبين وخلق خرائط سياسية مصطنعة انبثقت عنها مأساة منتخبة مغشوشة على صعيد البرلمان والجماعات المحلية والغرف المهنية انطلاقا من استراتيجية سلطوية لضرب التوجه الديمقراطي وتكريس الواقع «المخزني» بكل دلالاته وتمييع الحياة السياسية وتيئيس الشعب المغربي من التجارب الديمقراطية وضرب المشروعية بكل أبعادها السياسية والحقوقية. وكان الجهاز الإداري يلجأ إلى مختلف أساليب التزوير لإفساد العمليات الانتخابية، بما في ذلك حرمان المواطنين من حقهم في الترشيح بمبررات متعددة الأسباب ومختلفة الذرائع تجمعها إرادة مبيتة في صنع خرائط سياسية لخدمة توجه سياسي معين وتنفيذ استراتيجية مخدومة ضدا على القوانين الجاري بها العمل ، بما فيها أحكام الدستور ومقتضيات القوانين الانتخابية.
وجاء العهد الجديد الذي دشنه جلالة الملك محمد السادس برؤية جديدة للعمل السياسي وتصور جديد للمسار الديمقراطي عندما اعتبر جلالته أن التفعيل المتواصل للمفهوم الجديد للسلطة وإصلاح القضاء قد جعلا كل الفاعلين السياسيين على اختلاف مشاربهم يتطلعون بثقة وطمأنينة لسهر الأجهزة الادارية والقضائية على سلامة الاستحقاقات الانتخابية، وأن الروح الوطنية تملي علينا العمل من أجل أن يكون هناك فائز واحد هو الديمقراطية التي تجد كل المشارب السياسية الوطنية موقعها الحقيقي فيها ضمن مشهد سياسي سليم؛ وأن ترسيخ مصداقية الانتخابات يقضي منافسة مفتوحة ونبذ كل ممارسة سياسوية ودنيئة لم يعد لها مكان في مغرب اليوم؛ وأن الديمقراطية الحقة ليست وصفة جاهزة، وإنما تنبني على مصداقية المؤسسات ومدى مساهمتها في تعزيز الحكامة الجيدة وتحقيق التنمية البشرية؛ وأن التحدي المطروح على مغرب اليوم والغد ليس هو المفاضلة بين التيارات السياسية، كيفما كانت مشاربها، وإنما هو الحسم بين الديمقراطية والالتزام، وبين التسيب والسلبية، بين الحداثة والانفتاح، بين التزمت والانغلاق، إنه بكلمة واحدة، المعركة الحقيقية بين التقدم والتأخر في عالم لا يزيد إلا تحديا على تحديات وصراعا على صراعات وسباقا ضد الساعة؛ عندما تساءل جلالته في خطابه السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية 2000 ـ 2001: «فهل من قدرنا أن تكون الممارسة الديمقراطية السليمة نوعا من الحلم الضائع أو السراب الخادع؟»
وبالفعل، يمكن القول إن الإستحقاقات الانتخابية التي عرفتها البلاد في ظل الانتقال الديمقراطي قد تميزت نوعا ما بحياد الجهاز الاداري عدم تدخله السافر والمفضوح في العمليات الانتخابية، مما جعلها تشكل نقلة نوعية في الحياة السياسية المغربية.
ولكن هذا الحياد لازالت تشوبه ممارسة تضرب في الصميم مصداقية الانتخابات ولا تخدم تعزيز دعائم بناء الصرح الديمقراطي السليم وترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات، هذه المتمثلة في إبعاد ناخبين عن المشاركة في الانتخابات كمرشحين بطرق ملتوية كما حصل بمناسبة الانتخابات الخاصة بتجديد ثلث مجلس المستشارين الأخيرة بكل من الجهة الشرقية وجهة طنجة ـ تطوان، حيث أنصف المجلس الدستوري أصحاب الطعون بإلغاء 3 مقاعد بالجهة الشرقية و 5 أخرى بجهة طنجة تطوان بسبب شطط السلطة وامتناعها عن تسلم ترشيحات بعض الاشخاص دون سند قانوني.
ويأتي هذا القرار الصادر عن المجلس الدستوري الموكول إليه مهمة النظر في الطعون الانتخابية ومراقبة دستورية وإقرار نتائج الاستفتاءات كما تنص على ذلك مقتضيات الفصل 8 من الدستور، لارجاع المشروعية إلى نصابها وإعطاء دولة الحق والقانون مدلولها الحقيقي مادامت هذه الممارسة تتنافى وأحكام الدستور التي تجعل المغاربة سواسية أمام القانون، سواسية في الحقوق والواجبات، سواسية في التمتع بالحقوق السياسية والمدنية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية؛ تتنافى والقوانين الإنتخابية الجاري بها العمل، بما فيها مدونة الإنتخابات لسنة 1997 وما أدخل عليها من تعديلات التي جاءت لتزويد المغرب بنظام انتخابي عصري ومحكم يرتكز على توزيع عقلاني للمسؤولية في المجال الإنتخابي بين الدولة والأطراف المعنية تحت المراقبة الدائمة للقضاء، لتشكل بذلك منظومة قانونية موحدة وحديثة تستهدف تحقيق نزاهة وسلامة ومصداقية الاستحقاقات الانتخابية وتعتمد كأساس مبدأ تساوي الحظوظ وتكافؤ الفرص بين مرشحي الهيئات السياسية على مختلف توجهاتها بما يضمن التنافس الشريف بينهم ابتداء من عملية الترشيح الى إعلان النتائج، حيث نص القانون رقم 9.97 المتعلق بمدونة الانتخابات في بابه الثاني بشكل واضح ولايقبل التغليط والمغالطة على شروط أهلية الترشيح وموانعه. كما نص الفرع الثالث من الباب الثالث من مدونة الانتخابات بدقة متناهية على عمليات إيداع وتسجيل الترشيحات، حيث أوجبت المادة 45 إيداع التصريحات بالترشيح من طرف كل مرشح أو وكيل لائحة بمقر السلطة المكلفة بتلقي الترشيحات على أساس أن ترفق لوائح المرشحين أو التصريحات الفردية بالترشيح بنسخة من بطائق السوابق لكل مرشح مسلمة من طرف الإدارة العامة للأمن الوطني أو بنسخة من السجل العدلي حتى لا يفاجأ المرشح في الأخير بأنه لايتوفر على أهلية الترشيح.
وبمقتضى المادة 46، يجب على السلطة المكلفة بتلقي التصريحات بالترشيح رفض الترشيحات المودعة خلافا لأحكام مدونة الانتخابات أو المقدمة من طرف مرشح غير مؤهل قانونا للانتخاب.
وبالموازاة مع ذلك، تسلم السلطةالمكلفة بتلقي التصريحات بالترشيح لكل مرشح وصلا مؤقتا عن ايداع الترشيح فورا. كما يجب عليها أن تسلمه وصلا نهائيا في ظرف 48 ساعة من إيداع الترشيح إذا كانت تتوفر فيه الشروط القانونية المطلوبة. ويبلغ رفض الترشيح الذي ينبغي أن يكون معللا إلى المعني بالأمر مقابل وصل أو إبراء داخل الأجل السالف الذكر.
وهذا يعني أن الأحكام التي جاءت بها مدونة الانتخابات لم تترك أي مجال للتلاعب بإرادة الناخبين ومصادرة حقهم في الترشيح ولا أي فرصة لافتعال مثل هذه الممارسات التي يذهب ضحيتها منتخبون أبرياء ويؤدي ثمنها المسار الديمقراطي رغم أن القضاء الدستوري يبقى الحصن الحصين لضمان إرجاع المشروعية إلى نصابها.
لحسن بنساسي
العلم