لعل من ابرز الاواليات المتوسل بها لتحديث عمق الدولة وإعادةإنتاج النظام السياسي بالمغرب، وتجديد موارده السياسية، مع تحسين أسس شرعيته، بل وتحسين أبعاد مشروعيته، نجد الخلق الإبداعي لجملة من التيمولوجيات ذات الحمولة السياسية : الإنصاف والمصالحة، الانتقال الديمقراطي، المفهوم الجديد للسلطة، العهد الجديد... وتصيير الدعائم النظرية لهذه المفاهيم تواجدات واقعية، حتى لا تكون مجرد "ابستيمولوجيات سياسية" جامدة. ومن بين هذه المفاهيم التي ارتأينا أن نقف عندها لإبرازالرهانات المستقبلية للدولة نجد "المغرب الاستشرافي"، كمقولة تعتبر نتاجا خالصا للمساهمة الحثيثة في رصد ما سبق واستشراف ما هو آتي، أو الوقفة "الرصينة" أمام الذات ومع الذات ومن اجل الذات، التي قام بها المغرب في المراحل الأولى من بداية الألفيةالثالثة، والتي يقول عنها الملك في خطاب يوليوز 2014 ما يلي : " إن الوقوف على أحوالالأمة يتيح لنا الفرصة لتحديد مدى التقدم الذي حققناه وذلك باستعمال جميع الآلياتالمعروفة لقياس هذه التطورات... فقد سبق لنا أن قمنا سنة 2005 بوقفة مع الذات من خلال تقرير الخمسينية لتقييم المنجزات وتحديد الاختلالات ومعرفة مستوى التطلعات منذ بداية الاستقلال بهدف وضع سياسات عمومية أكثرنجاعة"،أيأن الغاية العظمى المتوخاة من مثل هذه الوقفات هي التأسيس لسياسات عمومية ناجعة وفعالة، تتسم بخصائص ومبادئ الحكامة الجيدة وفق الميكانيزمات الدستورية الجديدة التي تنظر إلى ذلك على كونه جزء من الديمقراطية التشاركية.إن "المغرب الاستشرافي" كمقولة متماهية تيمولوجيا مع مفاهيم أخرى من قبيل : المغرب المأمول، مغرب المستقبل، المغرب الممكن، مغرب الحكامة... هو التيمة المنشودة في أعماق تقرير الخمسينية لسنة 2005، والذي توخىأساسا رسم آفاق استشرافية من خلال ما سماه بأجندة 2025، وهي الأجندة التي اقتضت بالدرجة الأولى تحصين مجموع المحاور الإستراتيجيةوالإصلاحات الكبرى التي تمفصلت حولها جل السياسات العمومية ببلادنا بغية إيجادأجوبة شافية للإشكاليات المرتبطة بصيرورة التنمية البشرية، وذلك كله عبر إثراء النقاش العمومي حولها وتنوير أفكارمتخذي وصناع القرار السياسي التنموي .وعموما فرهانات المغرب الاستشرافي تتبلور كما يلي :
- توطيد الممارسة السياسية العادية وتقوية التماسك الوطني وتحسين نظام الحكامة .
- بناء وتقوية اقتصاد تنافسي (نموذج الدول الصاعدة) .
- ربح رهان محاربة الإقصاءوإعادة تنظيم التضامنات والتغلب على الفقر.
إن هذه الرهانات المجسدة لاختيار المغرب الاستشرافي ستعرف انطلاقة جديدة ذات أبعادإستراتيجية مع الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش،والذي كان عنوانه الابرز "الرفع من قيمة الرأسمال غير المادي"، والذي من بين ما جاء فيه "إنما نريدها وقفة تأمل وتساؤل مع الذات، بكل صراحة وصدق وموضوعية حول ما طبع مسيرتنا من ايجابيات وسلبيات، للتوجه نحو المستقبل بكل ثقة وعزم وتفاؤل"، ليضيف الملك في نفس الخطاب إن "التساؤل وإجراء هذه الوقفة مع الذات, لا يعني الشك, أو التردد أو عدم وضوح الرؤية,بل على العكس من ذلك, فطريقنا واضح واختياراتنا مضبوطة, فنحن نعرف أنفسنا ونعرف ماذا نريد والى أين نسير" ،وليؤكد في نفس السياق على ان "النموذج التنموي المغربي, قد بلغ درجة من النضج, تؤهلنا لاعتماد معايير متقدمة وأكثر دقة, لتحديد جدوى السياسات العمومية والوقوف على درجة تأثيرها الملموس على حياة المواطنين , وهو ما أكده البنك الدولي ،إذ ابرز ان القيمة الإجمالية للمغرب شهدت خلال السنوات الأخيرة, ارتفاعا ملموسا وخاصة بفضل النمو الكبير لرأسماله غير المادي ... ويعتبر الرأسمال البشري غير المادي من احدث المعايير المعتمدة دوليا لقياس القيمة الإجمالية للدول ..وللوقوف على حقيقة الوضع, نوجه المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي بتعاون مع بنك المغرب , ومع المؤسسات الوطنية المعنية وبتنسيق مع المؤسسات الدولية المختصة للقيام بدراسة لقياس القيمة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 ونهاية 2013 .. .إن الهدف من هذه الدراسة ليس فقط إبراز قيمة الرأسمال غير المادي لبلادنا وإنما لضرورة اعتماده كمعيارأساسي خلال وضع السياسات العمومية وذلك لتعميم استفادة جميع المغاربة من ثروات وطنهم... وبما أن قياس الثروة غير المادية، يعتبر آلية للمساعدة على اتخاذ القرار،فإننا ندعو لان يشمل الإحصاء العام للسكان الذي سيتم القيام به خلال هذه السنة المؤشرات المتعلقة بالرأسمال غير المادي للمغرب بمختلف مكوناته". على هذا الأساس تتمظهر الأبعادالإستراتيجية لعملية الإحصاء العام للسكان والسكنى، كمعيار من معايير قياس نجاعات السياسات العمومية المتخذة وبلورة التصورات المستقبلية والاستشرافية، كما أنهابالإضافةإلى كونها عملية تقنية، إداريةوسياسية، فهي بالدرجة الأولىإستراتيجية وطنية كبرى، تسعى أساساإلى وضع آليات موضوعية وحكاماتية لدراسة وتحليل الواقع الراهن واستشراف اشراقات المستقبل المنظور ورهانات المستقبل البعيد. وتبقى الغايات الكبرى المنتظر من العملية الإحصائيةأن تقوم بها (كما يرى ذلك الملك في الرسالة الموجهة لرئيس الحكومة حول الإحصاء العام للسكان والسكنى في 28 فبراير من هذه السنة) :
- التوفير- وبصفة دورية- لقاعدة معطيات أساسيةومحينة حول مختلف مستويات التراب الوطني لإتاحة التقييم الموضوعي لأداء السياسات العمومية في مجال التنمية.
- الانبثاق كأداة ضرورية لإعداد مخططات جديدة تكون في مستوى طموح الشعب لتحقيق المزيد من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية وفي مجال التنمية البشرية ،من اجل ضمان العيش الكريم لكل المواطنين ومواكبة ما يعرفه العالم من تطور متسارع في ميادين الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا والقيم المجتمعية وفي مجال التنمية البشرية.
ومن ثم تبرز – كما يؤكد ذلك دائما الملك محمد السادس في رسالته الموجهة للمشاركين في الندوة الدولية حول "الإحصاء في خدمة التنمية" بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للإحصاء في 20 أكتوبر 2010 – "أهميةالإحصاء ودوره عبر التاريخ في تطور المعرفة وتقدم البشرية في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.لقد أصبحالإحصاء في عالم مطبوع بشتى التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، أداة مرجعية في تنويرصناع القرار في تحديد واختيار برامج التنمية والمستهدفين منها ،من فئات اجتماعية ومناطق جغرافية... كما يعد آلية منهجية لا غنى عنها لتقييم السياسات العمومية وما تقتضيه من مراجعة عند الاقتضاء، بل إن ما يضطلع به الإحصاء اليوم من مهام يجعل منه خدمة عمومية حقيقية اتخذت بحكم عولمة الاقتصاد والقيم أبعادا دولية. ومن ثم يقتضي الحرص على دقة مفاهيمه وشفافية مناهجه والتوزيع الأوسع لنتائج أعماله مع الالتزام باحترام المعايير والمناهج المعتمدة من طرف المنظمات الجهوية والدولية المختصة". وبذلك توضح التصورات الملكية المتعلقة بعملية الإحصاء، كون هذه الأخيرة هي "مشروع امة"، على الجميع الانخراط بوعي ومسؤولية لإنجاحها كاستحقاق تاريخي كفيل بصنع "الأمجاد الاستشرافية "لبلادنا في كل محطة من المحطات المرتبطة به والمنتظمة له – كل عشر سنوات- من اجل تحقيق هدفين حيويين وهما التمكين من معطيات دقيقة لتسيير عملية اتخاذ القرار وبناءها على أسسممنهجة وموضوعية ثم المساهمة الفعالة في تقييم السياسات العمومية في شتى الميادين ومختلف المجالات،وعلى ضوء ذلك استشراف نمط حكامة يتسم بالريادة والكفاية. في هذا الصدد يرى عبد الخالق التهامي الأكاديمي المختص في شؤون الإحصاءوالأستاذ بالمعهد الوطني للاقتصاد التطبيقي في موقع "اليوم 24 " على أن "عملية الإحصاء العام للسكان والسكنى تتسم بأهمية بالغة نظرا لكونها تصبح قاعدة البيانات الأساسية في جميع السياسات والمخططات التنموية "،وهي الأهمية التي جعلت من البعد الإحصائي–الإحصاءات والبحوث والدراسات – يحظى بمكانة رائدة في الأجندة الملكية، وهو ما يؤكده الملك في رسالته الموجهة للمشاركين في الندوة الدولية حول الإحصاء السالفة الذكر،إذأهاب فيها " بالإحصائيين لمضاعفة الجهود للإسهام بدورهم في نشر الثقافة الاقتصادية وسط الرأي العام، خدمة للتملك الجماعي للمعطيات الموضوعية للواقع الوطني والإحاطة الدقيقة والشاملة لرعايانا الأوفياء ببرامج السياسات العمومية باعتبارها رافعة لنموذجنا الديمقراطي والتنموي الهادف لتحقيق تقدم وازدهار بلدنا"،مما جعل " الإشراف الملكي" على هذا الورش الكبير يبرز بشكل جلي ومنذ الوهلة الأولى في الحرص الأكيد على إعطاءالإشارات الدالة على سهر المؤسسة الملكية على حسن سير العملية الإحصائية وجعلها تمر في أحسن الظروف وتحقق المبتغيات المرجوة منها ،وذلك بالنظر كله للطابع الحيوي والاستراتيجي المرتبط بها المتمثل أساسا في الوصول إلى الطموحات المرسومة في آفاق المغرب الاستشرافي والرهانات الحكاماتية المتعلقة به .وعموما، يعتبر الإحصاء العام للسكان والسكنى لهذه السنة، الثاني في عهد الملك محمد السادس، بعد الإحصاء الذي اجري في عام 2004 والسادس في تاريخ المغرب المستقل، فرصة سانحة للجواب على السؤال الملكي المطروح في خطاب الذكرى 61 لثورة الملك والشعب "أين وصل المغرب اليوم؟" وكذا محطة لا محيد عنها للإقناع والبرهنة في كون المغرب الاستشرافي هو مغرب قادر وبكفاءة على ولوج نادي الدول الصاعدة.