" لا يوجد شيئٌ وُجد عبثاً في هذا الكون "
الإشاعةُ سلوكٌ بشريٌ شاذٌ، نهت عنهُ التشريعات السماوية، و جرّمتهُ التشريعات الوضعية، إلى جانبِ ارتباطها بالإنسـان ارتباطاً وثيقاً اعتباره الكائِن الوحيد الذي أكرمه الله –عزَّ و جلَّ- وميّزهُ عن باقي مخلوقاته على وجه البسيطة، بمَلَكَتَي "الادراك والارادة" مناط تأليفها و تداولها والتّعاطي معها.
الإشاعةُ ومن حيثُ منابعُها التّاريخية، فإنّه من الصّعوبَة رصدُ جُذورها التاريخيّة و التنقيب عنها، أي تحديدِ مكانِ وَزمانِ ظهورها منذ بدء الانسان انتقاله لِـحياةِ الجماعة في العصور القديمة، في حين
ينسب البعضُ تاريخَ ظهورِ ترويج الأخبارِ الزائِفةِ في العصرِ الحديثِ إلى تاريخِ وجودِ الأخبارِ نفسها، أي منذ إصدارِ أوّلَ صحيفةٍ عام 1700 ميلادية، و من ثَمّ أُضيفت المجلّات في القرِن "الثامِن عشر"، و لحِقَها نشأةُ الإذاعة والتلفزيون في القرن العشرين، و تبعها انتشار الإنترنت في القرن "الحادي والعشرين".
بِدونِ أدنى شكٍ، انعكس هذا التّطور الذي عرفتهُ وسائلُ الإعلامِ وتقنيّاته على وتيرة ترويج الأخبار للمستهلك "الفرد"، والتي من خلالها يحدد موقفه الشخصي من المواضيع والقضايا والإشكاليات التي تشغلُ اهتمامهُ، بالإضافة لتحديد الجماعات والتنظيمات اتجاهاتها حول الأحداث المطروحة، وبالتالي انعكس هذا الوضع تلقائِياً على وتيرة تفشّي الأخبارِ الزائفة والمعلومات المُضلِّلة، والتي نمتلك نحنُ جميعاً نزعَةَ نقلِ الأخبار السلبيّة أكثرَ من الإيجابيّة -حسب رأي فريق من علماء الاجتماع-.
ومن زاوية علم النفس، فإنّ الإشاعةَ وسيلةٌ فتاكةٌ من وسائلِ الحربِ النفسيّة والاجتماعية، تستخدمها الدُّولُ وقتَ الحروبِ والأزماتِ لِـكسرِ معنوياتِ جيوشِ الدولِ المستهدفةِ وضربِ الروحِ المعنويةِ لشعوبها وجبهاتِها الداخليّة، بهدفِ تحقيقِ التفوقِ المعنويّ عليها، والذي يعتبر مقدمةً لإلحاقِ الهزيمة بها وكسر إرادتها وتحقيقِ نصرٍ شاملٍ، تُبسطتُ السّيطرةُ والهيمنة من خلالِهِ في باقي المجالات.
وتُستخدَمُ "الإشاعات والمعلومات المفبركة" أحياناً من خلال تأليفها ونشرها بين أفرادِ المجتمعِ في ضربِ واغتيال بعضهم بعضاً معنويّا وشخصيّاً، كما وتعتبر أيضاً من الأمورِ التي قد يتأثر بها البعضُ بحيث يدخلُ الفردُ بسببها دائرة التفكير العميق إما بــــــ "نفيّ" أو "إبعاد ما قيل عنه" وإما "إصابته بنوع من الهلع والارتباك جراء ذلك"، ، وبالتالي محاصرة مشروع مؤلف الإشاعة، والهدفُ من إطلاق الشائعة من طرف الأفراد هو إثبات الذّاتِ فـقط، وهذا السلوك يمثل ضَعفاً نَفسياً وعَدَمَ اتّزانٍ لدى مُروّجي الشّائِعات.
وفي دراسةٍ أجراها عالمُ النّفس الأسترالي "ستيفان لاندوفسكي"، عن سبب تفشي المعلومات الكاذبة وانتشارها في غضون ثوانٍ حول العالم، استنتَجَ "لاندوفسكي" أنّ دِماغنا يستهلكُ طاقةً أقلَّ للتصديق عندما يكون البيان كاذباً "إما نحن كسولون" وإما أن "أدمغتنا كسولة" أو "كليهما"، فالبحث عن الحقيقة يتطلب وقتاً وجهداً، ونحن " لا نملك أياً منها".
كانت الإشاعة، وما زالت، بحاجةٍ إلى فضاءٍ عامٍ يمكّنُ الناسَ من إطلاقِها وتَداوُلِها، وبعدَما كانت ميادين المدن والأسواق والمقاهي ووسائل المواصلات والمجالس وقاعات الأفراح وبيوت العزاء أبرز هذه الفضاءات، وبينما كانت الإشاعة تتنقّل ببطءٍ نسبي لارتباطها بسرعة وسائل التواصل المتوفرة في الفترات الماضِية، أضحَت اليوم تنتشِرُ حول العالمِ بسرعةٍ هائلة بشكلٍ غير معقول، بعدما حوَّلت التطوراتِ التقنيّة العالمَ بأسرِهِ إلى قريةٍ صغيرة.
إن طرحنا هذا يتجسّدُ في ظاهرةٍ تقومُ على مبدأِ تضخيمِ الحقائِق أو تشويهها أو محاولةِ خلقِ أحداثٍ أو فبركتِها، واتَّسع نِطاقها بشكلٍ يفوقُ كلَّ التوقّعاتِ بِـفضّلِ التّطوراتِ التّكنولوجيّة التي عرفَتها البشريّة "الثورة الصناعية الرابعة -انترنت الأشياء".
إلى جانِبِ ذلك ، أصبحت "الإشاعة" تعتمدُ على وسائلَ كثيرةٍ لــتحقيقِ أهدافِها، كـــــــالحواسيب والهواتف الذكية و الأجهِزةٍ اللوحيّة الالكترونية، و غيرها من التّقنيات التي ساهمت في تكريسِ الواقِع الافتراضي "منصات التواصل الاجتماعي ومختلف تطبيقات التراسل الفوري"، الأمر الذي أدى لـــزيادة نُسقِ تَفشي المعلوماتِ المفبركَة والإشاعات عَبرهما، و بدأت تتّخذُ أبعاداً عالميةً متخطية البُعد المحلي، وذلك بعد أن قلّصت من قُطرِ الدائِرة التي تُرى منها المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة، إذ أصبَحت هذه الدائرةُ، ذاتَ سعةٍ كونية شاملةٍ، و متغلبةٍ على الحدودِ والمسافات.
وفي ذاتِ السياق، تزدهِرُ "الإشاعات والمعلومات المُضلّلَة" في فتراتِ الكوارثِ الطّبيعيّة والأزماتِ السياسيّة والاجتماعيّة والصحيّة والحروب والنزاعات، إذ قد تـؤدي وظائفَ تعجزُ عنها الجيوشُ والحقائق العلمية
والنُظم الإعلاميّة، وهذا ما حصلَ عندما استقبلت دول العالم مُكرهةً ضيفها الثقيل المسمى "كوفيد19"، هذا الكائن الغير مرئي والذي حيّر العُلماءَ وقَلَب كلّ المعادلات السَياسيَة والاقتصاديَة السائدة، وخلط جميع الأوراق في مناحي الحياةِ كافةً.
توازِياً مع ذلك، عصفت جائحة "الأخبار الزائفة" التي لا تقل خطورتها عن الكارثة التي سببتها أزمة فيروس كورونا المستجد بالعـالم، مما نتج عنها سيلٌ من المعلوماتِ المضلّلة والأخبارِ الزّائفة التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، تمثّلت في "مقولات مزيفة منسوبة لمسؤولين أو لعلماء وأطباء، نظريات مؤامرة انتشرت كالنار في الهشيم حول أصل الفيروس وحقيقة انتشاره وصلت حتى التشكيك في وجوده من الأساس".
إلى جانب ذلك، تمَّ "فبركة ونشر أحداث ووقائع حدثت في السابق"، و إعادِة توظيفها لخدمة أهداف ومشاريع خبيثة لخدمة "جماعات الضغط و المصالح" و المعارضة السّياسة، واتّضح فيما بَعد أنها تعود لِــحوادثَ قديمةٍ وكوارثَ طبيعيةٍ "زلازل-أعاصير" . وأصبحت تدُورُ على قدمٍ وساق، وتفوقُ سرعة انتشارها انتشارَ الفيروس بــحد ذاته، ما شكّلَ قلقاً إضافياً لدى عامةِ الناس، تكمُن خُطورَته في كونه يتجاوز أهداف الإثارة والتحريض والمناورة، إلى نشر الهلع والخوف وتدمير القدرة المناعية للشعوب في مواجهة فيروس كوفيد-19 القاتل.
هذا الكمّ الهائِل من الروايات والقصص المُضلِّلة التي ألّفها كثيرون، وشغلت الرأي العام على المستوى الدولي والوطني، كان سبباً لتتحرك حكومات الدنيا ومعها مختلف الفعاليات المجتمعية " أحزاب، هيئات سياسية وقضائية، جمعيات، سياسيون، أطباء، خبراء، مختصون..." و المنظمات الدولية ذات الصلة، للتفاعُلِ معها بأقصى سرعةٍ ممكنة.
تبعا لذلك انطلقت نداءات وحملاتٍ اعلاميةٍ على نطاقٍ عالميٍ، تحذر من الإشاعات ومروجيها، وتوضح للرأيّ العام خطورةَ التعاطي مع الأكاذيب والأخبار المفبركة التي تروّجُ عبرَ وسائل التواصل الإجتماعي، وتدعو شعوب الأرض للحذرِ وعدَم التعاطي مع هذه الأكاذيب، وتحصُرُ تلقّي الأخبار والمعلومات التي تتعلق بالفيروس وطبيعته من مصادرها الرسمية " منظمة الصحة العالمية والسلطات الحكومية ذات العلاقة".
ولمواجهةِ هذه الظاهرةِ الخطيرةِ، ولتوعيةِ الرأي العام "العالمي والمحلي" طُرحت مبادراتٌ، وعُقدت مؤتمرات وندواتٌ على نطاقٍ دولي ووطنيٍ بصورةٍ "حضورية أو عبر تقنية التواصل عن بعد"، تناوَلت الظاهرة وأسبابَ تفشّيها ومظاهِرها وتداعِياتِها على مناعةِ الشعوبِ في مواجهةِ جائِحة كورونا، كما ونُوقِشت خلالها الأفكار والوسائل التي تحد منها، وسبل مواجهتها ومعالجتها.
وشكّلت الحُكومات غرفَ عملياتٍ، وخلايا أزمةٍ، وفرقَ متخصصةٍ في أمنِ المعلوماتِ " الأمن السبيراني" على مستوى كلِّ قطاعٍ من القطاعاتِ الحيويّة، تعمل ليل نهار على مراقبة نشاط الأفراد والعصابات مرتكبي هذه الأفعال الإجرامية، ومتابعة مسارَ المعطياتِ والمعلومات الرائجة على مواقع التواصل الإجتماعي، ورصد الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة منها، وفرزها، وتتبع مسارها، وتحديد منابعها، لتتمكن من معالجتها على أسسٍ سليمةٍ، وضبطِ مرتكبيها الأشرار وتقديمهم للقضاء وفق القوانين الجاري بها العمل، ليقول كلمتهُ في هذا الشأن، باعتبارهِ الجهةَ المنوط بها دستورياً حمايةَ الحقوقِ والحريات الأساسية للمواطنين والمواطنات.
وفي ذات الشأن، عكفت الحكومات لـعقدِ مؤتمراتٍ صحفيةٍ يوميةٍ لتبليغ المواطنينَ بكل جديد بشأن الوضع الوبائي، والخطوات التي تتخذها في مواجهته، وترد على أسئلة الصحفيين وتساؤلات الناس حتى لا تفسحَ مجالاً لترويج الأخبار الزائفة، فضلاً عن اعتمادِها على أساليبِ الردِّ بمحتوىً مضادٍ للمحتوى المفبرك، يفندُ الأكاذيب التي يتضمنها المحتوى المفبرك، ويظهر الحقائق للرأي العام مما لا يدعُ مجالاً للشك.
ومع تفشّي ظاهرةِ المعلوماتِ المُضلّلَةِ والأكاذيبِ بصورةٍ عكست تأثيراً "كارثياً" على معنوياتِ الشعوب، سيّما في ظل التّوتّر والخوف وعدم الاستقرار الذي يجتاح بلدان العالم أجمع بسبب تفشي وباء كوفيد-19، أعلنت دولٌ عديدةٌ حول العالمِ " المملكة المغربية –روسيا-الجزائر-مصر-السعودية...إلخ" قراراتٍ وقوانينَ صارمةً لمواجهةِ الشائعات ومروجي الأخبار المزيفة حول الفيروس، وردعِ كل من تسوّلُ لهُ ضربَ الروح المعنوية للمجتمعاتِ، وإبعادُ ذلك عن أمنها واستقرارها في هذا الظرف الحسّاس من حياة البشرية جمعاء.
نشيرُ في هذا الصددِ، إلى أنَّ هذهِ المقتضياتِ عُرِفت نقاشاً حقوقياً واجتماعياً واسعاً، ولم تحظَ بقبولِ الكثيرِ من الفعالياتِ المجتمعيةِ، بحجةِ أنها تمسُّ مبدأ "حرية التعبيرِ المقدّس" التي كرستها كلُّ دساتيرِ الدنيا، وكما أنه يعرقل تطويرَ صناعةِ الصحافة، ويحُولُ دونَ أن تكونَ حرةً، تعدديةً، مستقلةً، آمنةً وذاتَ جودةٍ عاليةٍ، ويحُولُ أيضاً دونَ الوصولِ إلى المعلوماتِ والابتكاراتِ في مجالِ التقنيات الرقمية وتطويرِ وسائل الإعلام والمجتمع.
وقد توجّهت دولٌ عربيةٌ واسلاميةٌ لطلبِ رأي رجالِ الدين في هذا الموضوع، والذين بدورِهم أصدَروا فتاوي تحرّم إتيان هذهِ الأفعال، وتؤكد على خطورتها على الفرد والمجتمع على حد سواء، وذلك اعتماداً على قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" ((الحجرات-6))
ومن خلالِ الواقِعِ، نجدُ أنَّ هذه الجهود تكلّلت بالنجاح في الحدّ من تفشّي ظاهِرةِ الأخبارِ الزّائِفة على مواقِّع التواصلِ الإجتماعي –تحديداً المتعلقةُ بــجائِحةِ كورونا-، لأسبابٍ عدةٍ، أهمها: سرعـةُ تدخل الحكومات في وضعِ حدٍ لها، ومثاليّة الخطواتِ التي اتخذتها لحَصرِ آثارها الكارثية، وتنسيق الجهود والمواقف بين مختلفِ الفاعلين المحليين والدوليين بــانسيابية تامةٍ في هذا الشأن.
وبما أن الإشاعةَ سلوكٌ بشريٌ غيرَ بريٍء على الإطلاق ، و محرّمٌ في الديانات والشرائع، و مجرّمٌ في القوانين والأعراف و المواثيق، اقترن هذا السلوك " الإشــاعة " بالأخبار الزائفة التي يظلُ هدُفها دائماً و دوماً في إحداثَ بلبلةٍ و إثارة فتنةٍ و تأجيج الجبهة الدّاخليّة في المجتمعات، إلى جانبِ نشرِ الخوفِ والهلعِ في نفسيات الأفـراد سيّما في أوقات الأزماتِ والِمـحَنِ، و زَعزَعةَ ثِقة المواطِن بجهازِ الدولةِ من جهةٍ، و مجتمعِه من جهةٍ أخرى .
بناءً على ما سبق، و لمحاصرةِ ظاهرة "صناعة الأخبار الزائفة"، التي أصبحت حِرفةً لدى فئة من الأشرار، و لمدى خطورتِها على نفسيةِ الأفراد و مكوناتِ المجتمع و هيبة جهاز الدولة، أرى ضرورةَ اتباعِ خطواتٍ استباقيةٍ لضربِ هذه المشاريعِ الخبيثة، و هي في مَهدِها -أي قبل أن تتبلور وتصبحَ ملموسةَ وتنتشرَ في الواقِع الافتراضِي الذي لا حدودَ لهُ-، و أرى أيضاً حلاً مثالياً في تغليظِ العقوبةِ بحقِ أصحابِ فِكرتِها و المشاركين فيها و كلّ من له يداً في صناعتها، ليكونوا عبرةً لغيرهم ، و نموذجاً لمن يُفكرٌ بالتخطيط أو المشاركة أو دعمِ مشاريع مثلها أو مشاريعَ مشابهةٍ لها شأنُها الإضرارُ بمصالحِ الفرد و المجتمعِ و الدولة.
وأختمُ مؤكداً على ضرورةِ استثمارِ الوسائلِ المتاحة لــتوعية الرأي العام بمخاطِر صِناعةِ وترويجِ الأخبار الزائفة، وعلى أهمية وضع خطط ومشاريع استراتيجية لمحاربَةِ الأمية الإعلامية والمعلوماتية والنهوض بالمساواة بين الجنسين في وسائل الإعلام، ووسائط الإعلام المجتمعي باعتبارها ضرورية للتعددية الإعلامية.
الله الموفق المستعان
الرباط في:25-08-2020
حازم مصطفى شملخ ّ: باحث جامعي وناشط حقوقي في مركز إنماء الفلسطيني لحقوق الإنسان