يثار، بمناسبة ممارسة الجمعيات المهنية القضائية لأنشطتها، دفع مفاده: أن دفاعها عن استقلالية السلطة القضائية ومطالباتها ببعض حقوق القضاة ومصالحهم المشروعة ليس من اختصاصاتها، لأن ذلك من طبيعة نقابية وليست مهنية. فما هي أدوار واختصاصات هذا النوع من الجمعيات؟
لم تدخر الإعلانات والوثائق الدولية ذات الصلة بمعايير حماية حقوق الإنسان؛ الأممية منها والإقليمية، جهدا في التدخل لتحديد أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها، باعتبارها تجسيدا أمْثل لممارسة حق القضاة في التنظيم والتكتل والتأطير المهني.
ولعل أبرز هذه الإعلانات التي حددت أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها، ما نص عليه الفصل 9 من مجموعة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية الصادرة عن الأمم المتحدة بمقتضى قراريها؛ الأول، تحت رقم 32-40، مؤرخ في 29-11-1985، والثاني تحت رقم 146-40، مؤرخ في 13-12-1985 إذ جاء فيه ما يلي: “للقضاة حرية تشكيل جمعيات للقضاة، أو منظمات أخرى، والانضمام إلى تلك الجمعيات أو المنظمات التي تمثل مصالحهم، وتعزز تدريبهم المهني، وتحمي استقلال السلطة القضائية”.
وقد تعزز هذا المقتضى بالبند 13-4 من مبادئ “بانغالور” لسنة 2001، والتي تعتبر تكميلا للمبادئ الأساسية أعلاه، وذلك بمقتضى قرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة الصادر شهر يوليوز 2006، حيث حدد جانبا مهما من أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها وفق ما يلي: “للقاضي أن يشكل أو ينضم إلى جمعيات القضاة أو يشارك في هيئات من شأنها تمثيل مصالح القضاة”.
ولم يشذ النظام العالمي للقضاة، الصادر بتاريخ 17-11-1999، عند تحديده لأدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها عن هذا المنحى، ذلك أن فصله 12 نص على ما يلي: “يتعين الاعتراف بحق تأسيس الجمعيات المهنية للقضاة، لتمكين القضاة من استشارتهم على الخصوص في تحديد القواعد المتعلقة بنظامهم الأساسي، والأخلاقيات المهنية، أو مجالات أخرى ذات صلة، وكذا وسائل العدالة، ولتمكينهم تأمين الدفاع عن مصالحهم المشروعة”.
وهو التوجه نفسه الذي اختاره الميثاق الأوروبي بشأن النظام الأساسي للقضاة، الصادر بتاريخ 10 يوليوز 1998، والذي نص على ما يلي: “7-1- الجمعيات المهنية المؤسسة من قبل القضاة، والتي يمكنهم الانخراط فيها بكل حرية، تساهم بالأساس في الدفاع عن حقوق القضاة المخولة لهم بمقتضى أنظمتهم الأساسية، وخاصة لدى السلطات والهيئات التي تتدخل في القرارات التي تهم القضاة. 8-1- يستشار القضاة من خلال ممثليهم ومنظماتهم المهنية في القرارات المتعلقة بإدارة المحاكم، وتحديد وسائلها، وتوزيعها على المستويين الوطني والمحلي. ويستشارون على النحو ذاته حول خطط تعديل قانونهم الأساسي وتحديد معايير الأجور والرعاية الاجتماعية”.
وقد سبق للمجلس الأوروبي أن أصدر توصية تمتح من نفس المعنى عند تحديده لبعض أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها، وذلك تحت رقم 12 سنة 1994، ونصها كما يلي: “يتمتع القضاة بحرية تكوين الجمعيات، منفردة أو مع هيئات أخرى، تكون مهامها حماية استقلال القضاة ومصالحهم”.
وعلاوة على ما تقدم من إعلانات ووثائق، فلم تتردد مبادئ “بيكين”، هي الأخرى، عند تحديد أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها بالنص على نفس المعنى، ومضمون نصها كما يلي: “للقضاة الحرية في تكوين الجمعيات أو الانضمام إليها وفق أحكام القانون لتمثيل مصالحهم وتعزيز تدريبهم المهني، واتخاذ الإجراءات المناسبة لحماية استقلالهم”.
وقد تكلف دليل حقوق الإنسان الخاص بالقضاة والمدعين العام والمحامين، الصادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة سنة 2003، بتحديد الغاية من العمل الجمعوي للقضاة، قائلا: “القضاة الذين تتاح لهم حرية تأسيس الجمعيات، يكونون أفضل قدرة على حماية استقلالهم، وحماية المصالح المهنية الأخرى” (ص 121).
وفضلا عن الإعلانات الأممية والإقليمية الأوروبية، فإن الإعلانات العربية الصادرة عن الآليات الدولية الإقليمية ذات الصلة لم تشذ عن نفس المعنى. من ذلك إعلان بيروت للعدالة الصادر عن مؤتمر العدالة العربي الأول سنة 1999، والذي نص في فصله 8 على ما يلي: “يباشر القضاة حرية الاجتماع لتمثيل مصالحهم على اختلافها، ولهم في سبيل ذلك تكوين تنظيم يضمهم لصون هذه المصالح، وبما يكفل اضطراد تقدمها”.
وإذا كان هذا عن إعلان بيروت، فإن إعلان القاهرة لاستقلال القضاء الصادر عن مؤتمر العدالة العربي الثاني لسنة 2003، نص في فصله الخامس على ما يلي: “تعزيز حرية القضاة في إقامة الجمعيات والأندية الخاصة بالقضاة التي تعبر عن آرائهم، وتدافع عن استقلال ومصالح القضاة”.
وإذا توضحت، مما تقدم، المعايير الدولية المُحدِّدة لأدوار الجمعيات المهنية واختصاصاتها، فإننا لا نعدم تحديد هذه الأدوار والاختصاصات في مرجعيتنا الوطنية التي يحتل فيها القانون محل الصدارة.
ولا يخفى على الممارس للمادة القانونية، أن المفهوم الدستوري لـ “القانون” لا يقتصر على التشريع فقط، بل يشمله إلى جانب: العرف، والشريعة الإسلامية في بعض القضايا، والمعاهدات والمواثيق الدولية وما تفرع عنها من إعلانات، والاجتهاد القضائي، وكذا القوانين الأساسية للتنظيمات السياسية والنقابية والجمعوية.
وبالرجوع إلى أسمى تشريع في البلاد، وهو دستور سنة 2011، نجده أحجم عن تحديد أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها في فصله 111، واكتفى بتكريس كليات ممارسة حق القضاة في التنظيم والتأطير المهنيين، قائلا في الفقرة الثانية منه ما يلي: “يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون”.
ولما كان الأمر كذلك، فقد تكلف القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بتحديد المعالم الكبرى لمضمون أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها، في تواؤمٍ تام مع المعايير الدولية المنصوص عليها في الإعلانات والوثائق السالف ذكرها، حيث أقر في مادته 110 حق الجمعيات المهنية للقضاة في إعداد تقارير حول “وضعية القضاء ومنظومة العدالة”، شأنه في ذلك شأن العديد من المؤسسات المنصوص عليها في المادة ذاتها.
ومعلوم أن موضوع “وضعية القضاء ومنظومة العدالة” الذي تختص به الجمعيات المهنية للقضاة، قد أوضحت تفاصيله المادة 108 من القانون نفسه، حيث جعلت من مشتملاته عدة قضايا فرعية، أهمها: دعم حقوق المتقاضين والسهر على حسن تطبيق قواعد سير العدالة، وتحسين أداء القضاة، ودعم نزاهة واستقلال القضاء، والرفع من النجاعة القضائية، وتأهيل الموارد البشرية، وتحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للقضاة.
وهذا عين ما نص عليه القانون الأساسي لـ “نادي قضاة المغرب”، والمصادق عليه من قبل السلطات المختصة وفق الشكليات والشروط المنصوص عليها في القانون، ذلك أن مادته الرابعة هي من تولت تفصيل هذه القضايا عند تحديدها للأهداف التي تأسس من أجلها، وهو النص الواجب التطبيق في هذا الشأن باعتباره قانونا بالمفهوم الدستوري، إذ جاء فيها ما يلي: “يمارس نادي قضاة المغرب نشاطه في كل التراب المغربي، ويحرص بكل الوسائل على تحقيق الأهداف التالية: الدفاع عن الضمانات الأساسية للحقوق وحريات المواطنين؛ الدفاع عن السلطة القضائية واستقلالها؛ لمُّ شمل قضاة المغرب والدفاع عن حقوقهم وهيبتهم وكرامتهم واستقلالهم؛ التعريف والالتزام بالأعراف والتقاليد والأخلاقيات القضائية؛ رفع مستوى أداء القضاة لمهامهم القضائية؛ إذكاء روح التضامن والإخاء في صفوف القضاة؛ تحسين الوضعية الاجتماعية للمنخرطين وأفراد أسرهم؛ تنمية البحوث والدراسات في مجالات الفقه والقانون والقضاء؛ المساهمة والمشاركة في إعداد مشاريع القوانين التي لها صلة بالقضاء؛ الرفع من معنويات القضاة وتكريمهم”.
ولم تبق أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها حبيسة لما تقدم ذكره من إعلانات ووثائق وقوانين، بل تم تكريسها من لدن الاجتهاد القضائي الدستوري أيضا، ذلك أن المحكمة الدستورية المغربية كانت واضحة في تبنيها لما استقر عليه النظر الدولي بهذا الشأن، خصوصا في الشق المتعلق بتمثيل هذه الجمعيات لمصالح القضاة والتعبير عنها، إذ قضت في قرارها عدد 992-16، في الملف الدستوري عدد 1474-16، الصادر بتاريخ 15-03-2016، بـ: “جواز تعبير القضاة عن مصالحهم المشروعة من خلال الجمعيات المهنية، التي أباح لهم الدستور إنشاءها بموجب الفقرة الثانية من فصله 111”.
ولم يَرِد تحديد أدوار واختصاصات الجمعيات المهنية للقضاة في ما سلف من مرجعيات فحسب، بل تطرقت إليها مرجعيات وطنية أخرى، أهمها التوجيهات الملكية السامية التي تضمنتها كلمة صاحب الجلالة الملك محمد السادس -حفظه الله- في افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء، بتاريخ فاتح مارس سنة 2002، حيث حدد بمقتضاها أدوار الجمعيات المهنية للقضاة في: “حمل مشعل استقلال القضاء والدفاع عن حقوق القضاة”؛ مع ما تنطوي عليه فكرة الدفاع من معاني الترافع ودلالات التمثيل.
ومن هذه المرجعيات الوطنية، أيضا، رأي المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي حدد أدوار الجمعيات المهنية للقضاة واختصاصاتها بشكل واضح لا لبس فيه، قائلا في مذكرته حول مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ما يلي: “تحدد الجمعية المهنية تبعا لموضوع قانونها الأساسي الذي يجب أن ينصب على الدفاع عن الحقوق الأساسية والمصالح المهنية للقضاة، ولمرفق العدالة، والنهوض بالتكوين المهني للقضاة، واستقلال السلطة القضائية”.
وقد تعززت هذه الترسانة من المرجعيات برأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في مذكرته الصادرة تحت رقم 29-2020 حول مشروع قانون المنظمات النقابية، حيث ذهب إلى أن أدوار الجمعيات والتكتلات المهنية للقضاة يتمثل “في الدفاع عن مصالحهم المعنوية والمادية” (ص: 10).
ويتحصل من مختلف المرجعيات المبسوطة أعلاه، سواء الدولية منها أو الوطنية، أن مضمون أدوار واختصاصات الجمعيات المهنية للقضاة يتحدد بمقتضى جملة من العناصر مجتمعة في ما بينها، أهمها:
الأول: تمثيل القضاة ومصالحهم المهنية المشروعة أمام المؤسسات ذات الصلة بهذه المصالح، خصوصا لدى السلطات والهيئات والمجالس التي تتدخل في القرارات التي تهم القضاة، ولو كانت حكومية أو برلمانية.
الثاني: المطالبة بتحسين الوضعية الاجتماعية والمادية للقضاة، والترافع من أجلها، وهو ما يعتبر قاسما مشتركا بين اختصاصات الجمعيات المهنية للقضاة والعمل الاقتراحي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، تطبيقا للجمع بين منطوق المادتين 108 و110 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
الثالث: الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية، ومختلف الضمانات الممنوحة للقضاة تحصينا لهذه الاستقلالية.
الرابع: الدفاع عن حقوق القضاة المكرسة في أنظمتهم الأساسية، ومختلف مصالحهم المهنية المشروعة، والمساهمة في اطراد تقدمها، وهو ما يعتبر حكرا على الجمعيات المهنية للقضاة دون غيرها، إذ هي المنوط بها آلية “الدفاع” وفق ما تقدم من مستندات ومرتكزات.
الخامس: الاستشارة في تحديد وتعديل القواعد المتعلقة بالنظام الأساسي للقضاة، وتلك المتعلقة بتنظيم وتسيير المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فضلا عن مدونة الأخلاقيات المهنية، ومختلف وسائل العدالة المتعلقة بتدبير المحاكم.
السادس: الاستشارة في مجال تحديد معايير أجور القضاة، ونظام الرعاية الاجتماعية المتعلقة بهم.
وإذا تقرر هذا، فلا مندوحة من القول بخطأ أي توصيف نقابي لممارسة فعل الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية التي تختص به الجمعيات المهنية للقضاة، وكذا مطالباتها ببعض حقوق القضاة ومصالحهم المشروعة، وبيان ذلك من أربعة وجوه:
أولها: أن دفاع الجمعيات المهنية للقضاة عن استقلالية القضاء ومختلف حقوق القضاة ومصالحهم المشروعة، ليس عملا نقابيا، وإنما هو من صميم أدوارها واختصاصاتها كما هي مقررة في المرجعيات التي سبق بسطها.
ثانيها: أن الممارسة النقابية المحظورة بمقتضى المادة 97 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، هي التي تتم بالانخراط في ممارسة نشاط نقابي منظم من قبل نقابة مهنية أو دعت إليه.
ثالثها: أن المحكمة الدستورية ربطت بشكل وثيق بين النشاط النقابي الممنوع وبين منع القضاة من الانخراط في المنظمات النقابية، وذلك في قرارها المذكور أعلاه، حيث قررت ما يلي: “حيث إن ممارسة نشاط سياسي أو نقابي أو الانتماء إلى حزب سياسي أو نقابة مهنية، يعد إخلالا صريحا بمقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 111 من الدستور التي تمنع على القاضي الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية”.
رابعها: أنه، ونظرا لاتحاد ممارسة نشاط نقابي مع ممارسة نشاط سياسي في حكم المنع بالنسبة للقضاة طبقا للمادة 97 أعلاه، هو أن المادة 7 من القانون رقم 11.57 المتعلق باللوائح الانتخابية وعمليات الاستفتاء، لم تمنعهم من التقييد باللوائح الانتخابية، وخولتهم حق المشاركة السياسية عن طريق التصويت واختيار من يمثلهم سياسيا في تدبير السياسات العمومية للبلاد، سواء في الانتخابات التشريعية أو الجماعية أو في الاستفتاء، مع أن هذه الممارسة هي من صميم الأنشطة السياسية، إلا أنها تبقى جائزة بمقتضى المادة 97 المذكورة، نظرا إلى أن ممارستها من طرفهم تتم بمعزل عن الانخراط في أي حزب سياسي.
وترتيبا على كل ما سلف، فإن ممارسة الجمعيات المهنية القضائية لأدوارها واختصاصاتها في مجال الدفاع عن استقلالية السلطة القضائية وحقوق القضاة ومصالحهم المشروعة، لا علاقة له بالعمل النقابي المحظور على القضاة، بل هو نشاط جمعوي، ولكنه ليس جمعويا عاديا وإنما هو مهني ينصب على كل الشؤون المهنية للقضاء والقضاة.