يبق طرح وضعية الموظف على هذا النحو مباحا ومعللا في غياب لن أقول الإرادة السياسية بل الجرأة السياسية الفعلية المواطنة لذا جل فعاليات المشهد السياسي وفعاليات المشهد النقابي على التعامل الجدي مع ما يصطلح عليه بتقويم منظومة الوظيفة العمومية ككل. تعامل لا يجب أن يبق حبيس شعارات لمناظرات تظل توصياتها جاثمة بل تعامل يفضي إلى تأقلم واجبات وحقوق الموظف مع مقتضيات دستور 2011. فما هو عار من كل موضوعية وواقعية هو الصمت والتجاهل الحزبي والنقابي على الاستمرارية في تأطير موظف الألفية الثالثة بقوانين باتت متآكلة لتقادمها (منذ 1958) وعدم جرأتها على الإقدام على الدفع الجدي اتجاه تأقلم وتحيين وتجانس مضامينها وأسس دستور 2011.
قد يعيش الموظف هذه المرارة منذ بداية مساره المهني إذ يتم تصنيفه وفق من ساعده على التوظيف ووفق طبيعة المسؤول المباشر الذي يوضع تحت إشرافه. ذلك أن التوظيف وبالرغم من إخضاعه لقانون المباراة، فإنه لا يزال محاطا بعدم الشفافية والمصداقية لكون قانون المباراة قصد التوظيف لم يتم تعزيزه بآليات التتبع لعملية التوظيف لتبق المباراة آلية جوفاء للتوظيف ولا ترق إلى ما ينص عليه الدستور من تكافؤ الفرص. ففي غياب آليات التتبع بعد الإعلان عن المباراة، يبق مبدأ تكافؤ الفرص مجرد شعار ليس إلا. من يراجع أوراق المباراة؟ وهل من رقيب على مجريات الاختبارات الشفاهية؟ (...) وبالتالي فما يفرغ قانون مباراة التوظيف من مصداقيته هو المسار الذي يعرفه التوظيف بعد الإعلان عن المباراة. لا يجب إيهام الإطار المغربي بكون مبدأ المساواة يمر من خلال إلزامية المباراة لأن هذه الإلزامية وبكل بساطة لا تكتسي أية عدالة ولا مصداقية أي أن القانون يلزم المواطن باجتياز المباراة في حين أنه لا يلزم المؤسسة المعلنة عن المباراة بتعليل نتائج المباراة ولا بإيلاء المواطن حقه في الاستفسار عن نتائجه وحصوله على إثباتات نجاحه أو رسوبه. لا مكانة هنا بطبيعة الحال للحديث عن السر المهني، لكون الأمر بعيد كل البعد عن جوهر ومضمون السر المهني، بقدر ما يتعلق الأمر بالواجب المهني المعلوماتي للمؤسسة العمومية اتجاه المواطن وكذا حقه في الاطلاع على جدية معلومة ستحدد حاضره ومستقبله.
- الحقد المهني ميزة الوظيفة العمومية
ب"ترويض"ه أو ب"تطويع"ه (فاستعمال هذين المصطلحين راجع لكون بعض المسؤولين يعتبرون الموظف المستهدف، أي شيء، غير كونه إنسانا له حقوق وواجبات). وعلى غير دراية منه تنسج سيناريوهات وأكاذيب يتم تلفيقها له كالغياب المتكرر وعدم احترام مسؤوله المباشر وعدم إتقانه لعمله والغياب التام لانسجامه مع باقي الموظفين والكل يتم، يخيل إليهم، بتنسيق شبه تام خصوصا وأن الموظف في بداية مساره المهني غالبا ما لا يكون ملما بحقوقه أي بما له وما عليه. ومما يزيد الطينة بلة الغياب لدور فعلي وفعال للجان المتساوية الأعضاء والتي في الغالب ما يحبك انتخاب أعضاءها، إذا لم نقل يتم، من خلال الكواليس، تعيين أعضاءها لتمرير جميع أنواع ما هو سلبي في حق الموظف المنبوذ. أما الأمر العجاب فكون هذه اللجان مغيبة تماما في بعض المؤسسات بفعل أخطاء إدارية ولا مبالات القائمين على تدبير احترام القوانين المسطرة لتنظيم هذه اللجان. فتغييب أو تعطيل اللجان المتساوية الأعضاء هو إسقاط للفصل 11 من الظهير الشريف الصادر بمثابة نظام عام للوظيفة العمومية وبالتالي فهو خرق جلي لبند يعنى بحقوق تدبير شؤون الموظف من خلال تمثيليته. وبطبيعة الحال، فالموظف المنبوذ لا ضمانة له في التموقع بين أعضاء هذه اللجان لكون هذه الأخيرة لا ترغب في أن يكون من بين أعضاءها حتى لا يتمكن من الاطلاع على ما هو "محرم عليه". أعضاء غالبا ما تكون سمات أعضاءها عدم الأهلية والموافقة "العمياء" على كل ما يتم اقتراحه من طرف رئيس اللجنة الذي يكون غالبا مسؤولا عن الموارد البشرية. وعلى هذا النحو يكون السبيل لاضطهاد الموظف المنبوذ ميسرا لحرمانه من التدرج الإداري وإثقال ملفه بالإنذارات من خلال مجالس تأديبية صورية وربما تعرضه للطرد خاصة حينما يكون الموظف في غفلة عما يخوله له القانون لضمان حمايته من التدابير التعسفية الادارية. كيف يعقل الحديث عن قانونية التدابير المتخذة في بعض الإدارات العمومية ضد موظف في غياب هياكل تنظيمية بل ثمة موظفون مغيبون عن الهياكل التنظيمية وغير متوفرين على la fiche de fonction ؟ فكيف إذا تسمح الادارة لنفسها بتقييم عمل هؤلاء ؟ إدارات عمومية تحبك ظروف طرد من تشاء وتغييب وتشبيح من تشاء وتتستر وترقي من تشاء ؟ (...) إنه التدبير المزاجي في أبهى حلله. قد يبدو هذا غريبا ولكنه واقع معاش في عالم عجائب الوظيفة العمومية في المغرب.
- إدماج موظف قد يشكل إشكالية قانونية وإنسانية
- التعويضات والترقيات وتكريس الحقد المهني
4- شبه غياب ثقل فعاليات المشهد النقابي عن المؤسسات العمومية
التعليل الوحيد لغياب التمثيليات النقابية عن بعض المؤسسات العمومية يكمن في فقدان ثقة الموظف في دور هذه النقابات وبات الموظفون يفضلون تشكيل تجمعات خاصة للإحتجاج ولفت الانتباه لمشاكلهم داخل مؤسسة عمومية مؤازرين في ذلك بالاعلام لحل مشاكلهم. ذلك أن الفعاليات النقابية باتت فاقدة لكل مصداقية لذا العديد من الموظف، والدليل هو هزالة المنخرطين بها، ومواقفها التي لا تعدو أن تتجاوز التنديد وبعض الوقفات المحتشمة التي تقوم بها من حين لآخر دون اثر يذكر. وفقدان الثقة فيها يرجعه البعض إلى تقلبات مواقفها بالنظر لتبعيتها للأحزاب السياسية فهي تارة معارضة عندما تكون أحزابها في المعارضة وتارة مؤيدة عندما تكون أحزابها في الحكومة وبالتالي فلا استقلالية لها ولا مواقف ثابتة لها. علاوة على هذا كله، فهي ظلت في معزل عن الحركية الشعبية التي شهدها المغرب وآثارها على دمقرطة أجهزتها وأنماط اشتغالها.
فغياب التمثيليات النقابية مقابل محدودية مهام اللجان المتساوية الأعضاء وغياب أية بوادر لإصلاح فعلي لمنظومة الوظيفة العمومية (للانشغالات السياسية للحكومة الهائمة في إشكالية ترميم فعالياتها عوض انشغالها بهموم المواطن المغربي)، تبقى جل الإدارات المغربية خاضعة لتدبير مزاجي للمسؤولين مع ما يوازي ذلك من تجاوزات غير قانونية جعلت منها "فزاعة" الموظف والذي لجهله للقانون ولغياب التأطير والمؤازرة النقابية بات ينظر إلى الادارة العمومية كما لو كانت "ديناصورا" جعلت الموظف يتوهم بكون مقاضاة إدارة عمومية عند الضرر وكسب قضيته من سابع المستحيلات. ربما قد يرغب الكثير من المسؤولين الادارين في الابقاء على هذا الوهم إلا أنهم يعلمون أن الواقع هو واقع آخر واقع دولة الحق والقانون وأن الموظف لا يوجد في حالة مواجهة مع إدارة أو حكومة بل هو في حالة طلب من الإدارة أو الحكومة العمل على إنصافه من خلال تفعيل القانون.
- الانتهازية تلك الميزة الأخرى للوظيفة العمومية في المغرب.
لا جدال في كون تشريح هيكلة العديد من الادارات العمومية سيبرز للعيان تواجد إدارة عامة يرأسها مسؤول وموظفون ثلة منهم محضوضة لا مؤهلات لها تموقعت ضمن هذه الثلة بفعل الانتهازية التي تتقن تفعيلها بل تجعل من ممارستها هوايتها الخاصة من خلال سحق الآخر وتقديمه "كبش فداء" عند كل كارثة إدارية، وكثير منهم منبوذون ومحقود عليهم والذين يتاجر الكل في قضاياهم. فتحديث الوظيفة العمومية هو قبل كل شيء تحديث للعقليات، تحديث شمولي حزبي ونقابي ومجتمع مدني، يعبد السبيل لتجاوز تلك العقليات البائدة الجاثمة ضد التغيير والمراهنة على إبقاء الحال على ما هو عليه، ليتلوه سمو أخلاقي معاملاتي يؤمن بسمو المؤهلات عوض التملق والاسترزاق الوظيفي على حساب الآخر. من الأكيد أن حالة الادارة في بلد معين تعكس جليا الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية لمجتمع برمته. بل أن وضعية إدارة عمومية هي تجسيد مصغر لوضعية بلد بأكمله.