مقـــدمــة
إن أهم ما يطبع المجال العقاري بالمغرب ؛هي خاصية تعدد الأنظمة القانونية التي تحكم هذا الأخير و التي لا يمكن فهمها وتفسيرها إلى عن طريق التاريخ أو الدين أو الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية و السياسية ، الأمر الذي يطرح إشكالية تنوع المرجعيات القانونية المعتمدة؛ فنجد على سبيل المثال ليس إلا ، العقارات الواقعة ضمن الملك العام للدولة ، ظهير فاتح يوليوز 1914 ، والعقارات التي تندرج ضمن الأملاك الخاصة للدولة، و العقارات التي تملكها الجماعات القروية ، ثم هناك عقارات الخواص وهي إما ملكية فردية أو شائعة، هذه الأخيرة تعرف الازدواجية على مستوى القانون المنظم، فهناك عقار عادي غير محفظ يخضع لقواعد الفقه الإسلامي ومدونة الحقوق العينية وهناك عقار محفظ، تنظمه مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 الموافق 12 غشت 1912 كما تم تغييره وتعديله.
فهذه الازدواجية التشريعية تنعكس على كافة التصرفات العقارية الناقلة للملكية بعوض أو بدون متى انصب جوهرها على إحدى العقارات المذكورة.
وعقد البيع هو تمثيل صارخ لهذا الانعكاس، فتارة نجده خاضعا لمقتضيات قانون الالتزامات والعقود وتارة أخرى نجد أحكام الفقه والشريعة هي المعتمدة في حالة عقار غير محفظ، أو نجده منضما بمقتضى تشريعات خاصة، واستثنائية نخص بالذكر قانون التحفيظ العقاري وقوانين أخرى مكملة.
وعليه فالفصل الأول من ظهير 12 غشت 1912 ينص صراحة على أن: "... يرمي التحفيظ إلى جعل العقار المحفظ خاضعا للنظام المقرر في هذا القانون، من غير أن يكون في الإمكان إخراجه منه فيما بعد..."
وبطبيعة الحال فعقد البيع- موضوع عرضنا- الواقع على عقار محفظ يسري عليه المبدأ المذكور أعلاه؛ فيصبح خاضعا للنظام المقرر في هذا القانون من غير أن يكون في الإمكان إخراجه فيما بعد.
وبخضوع عقد البيع لقانون التحفيظ العقاري تطرح عدة تساؤلات:
- إلى أي حد يتأثر عقد البيع بآثار التحفيظ؟ بصيغة أخرى، ما مدى تحقق عقد البيع الواقع على عقار في طور التحفيظ؟ وبصيغة أدق إلى أي حد يؤثر مبدأ التطهير جوهر مسطرة التحفيظ على عقد البيع المراد تنفيذه؟؟ وبخصوص هذه الإشكالات سنفرد لها مبحث مستقل يهم البيوع المنصبة على العقار في طور التحفيظ، أي المسطرة الإدارية السابقة لتأسيس الرسم العقاري.
فيما سنخصص مبحثا ثانيا إلى إشهار البيع العقاري وتقييده في الرسم العقاري، في محاولة متواضعة لتسليط الضوء على إشكالات عقد البيع الواقع على العقار المحفظ.
ولن يفوتنا التطرق بإيجاز لسلطات المحافظ ودوره الجوهري في إتمام عقد البيع، سواء في المرحلة الإدارية للتحفيظ أو خلال المرحلة اللاحقة لتأسيس الرسم العقاري، معتمدين في تطرقنا للموضوع على التصميم الآتي:
المبحث الأول : عقد البيع الواقع على عقار في طور التحفيظ
الفرع الأول : عقد البيع الخاضع لمسطرة التحفيظ عقد تحققه رهين بمآل هذه المسطرة
أ – الفصل 83 من ظهير التحفيظ (خلاصة إصلاحية)
ب – الفصل 84 أو التقييد بسجل التعرضات
الفرع الثاني : مبدأ التطهير ومدى تأثيره على عقد البيع
أ – مفهوم الأثر التطهيري لمسطرة التحفيظ
ب – موقف القضاء من مبدأ التطهير
الفرع التالث : المادة 29 كصمام أمان للحد من إجحاف مبدأ التطهير (المواد 2 و62)
المبحث الثاني : عقد البيع الواقع على عقار محفظ
الفرع الأول : آثار تقييد عقد البيع بسجلات العقارية
أ – مبدأ الحجية
ب – مبدأ تسلسل التقييدات
الفرع الثاني : بعض التحفظات الواردة على الرسم العقاري وتأثيرها على نفاد عقد البيع
أ – تحفظات ذات طابع جبائي
ب – تحفظات ذات طابع قانوني
ج – تحفظات ذات طبيعة تقنية لاحقة لتقييد عقد البيع
المبحث الثالث : دور المحافظ كطرف متدخل في نفاد عقد البيع
خاتمة:
المبحث الأول : عقد البيع الواقع على عقار في طور التحفيظ
كما سبق وأن أشرنا إليه في المقدمة، فالمقصود بالتحفيظ العقاري هو إخراج العقار من نظام العقارات الغير المحفظة، الخاضعة لأحكام الفقه المالكي والأعراف المحلية، وإخضاعه لنظام العقارات المحفظة المنظمة بظهير 12ِ غشت 1912 .
وبحكم القانون والواقع تسري على عقد البيع الواقع على العقار المحفظ، أحكام القوانين المذكورة أعلاه.
فيصبح هذا العقد بالإضافة إلى ماتستلزمه الأحكام العامة المنظمة لعقود البيع، نخص بالذكر مقتضيات المادة 489 من ق.ل.ع على مستوى التأسيس " الكتابة في محرر ثابت التاريخ "، رهين بتمام مسطرة التحفيظ لتحققه واكتسابه القوة الثبوتية والحجية اللازمة لنفاذه بين الأطراف والأغيار.
فإلى أي حد تؤثر مسطرة التحفيظ على عقود البيع الخاضعة لها؟
الفرع الأول : عقد البيع الخاضع لمسطرة التحفيظ عقد تحققه رهين بمآل هذه المسطرة
إن مسطرة التحفيظ هي مجموع إجراءات إدارية تقوم في جوهرها على مبدأ إشهار الحقوق المراد تحفيظها، وفتح آجالات للتعرض لمنازعتها والمطالبة بها وقد تتخللها مسطرة قضائية، الكل الهدف منه هو تطهير العقار من كل شائبة قد تعتريه، والتحقق من سلامة وضعيته القانونية والمادية على السواء ،بهدف إنشاء رسم عقاري يعتبر بمثابة شهادة ميلاد تجب جميع الحقوق السالفة الغير المضمنة به.
فإن أقدم شخص على شراء عقار في طور التحفيظ بموجب عقد بيع صحيح مستوف لجميع أركانه فله أن يتدخل في المسطرة بموجب طريقتين:
أ – الفصل 83 من ظهير التحفيظ (خلاصة إصلاحية)
يمكن لصاحب كل حق وقع إنشاؤه أو تغييره أو الإقرار به أثناء جريان مسطرة التحفيظ، أن يطلب نشره بالجريدة الرسمية بعد إيداع الوثائق المتبثة له بالمحافظة العقارية، حيث تتابع المسطرة في اسمه إذ يكتسب صفة طالب التحفيظ.
ومن ثم فكل صاحب حق عيني آل إليه بموجب عقد بيع له أن يسلك هذه المسطرة في حدود الحق المنقول ملكيته.
ب – الفصل 84 أو التقييد بسجل التعرضات
وهناك طريقة ثانية لولوج مسطرة التحفيظ وهي تسجيل عقد البيع الناقل لحق عيني خاضع للإشهار بسجل التعرضات، وذلك من أجل ترتيبه والتمسك به في مواجهة الغير، عن طريق تقييده في الرسم العقاري في الرتبة التي عينت له؛ إذا سمحت إجراءات المسطرة بذلك.
يبقى أن سلوك إحدى هذه المساطر هو أمر اختياري بالدرجة الأولى.
لنستنتج مما سبق، أن عقد البيع رغم توفره على كافة الأركان الأساسية يبقى رهين بمآل المسطرة، فالحق موضوع هذا العقد هو بمثابة حق محتمل قد يتحقق أو لا يتحقق، كنتيجة طبيعية للأثر التطهيري لمسطرة التحفيظ.
الفرع الثاني : مبدأ التطهير ومدى تأثيره على عقد البيع
حسب منطوق المادة 2 و 62 من قانون التحفيظ العقاري يتضح لنا، أنه يترتب عن قرار التحفيظ تطهير العقار من جميع الحقوق السابقة عليه، أي السابقة على التحفيظ، واكتساب رسم الملك المنجز من قبل المحافظ على الملكية العقارية وبقرار منه صفة نهائية غير قابل لأي طعن كيفما كان نوعه.
أ – مفهوم الأثر التطهيري لمسطرة التحفيظ
فحسب جانب من الفقه فقاعدة التطهير تنطوي على وجهين متلازمين لعملة واحدة، أحدهما سلبي والأخر إيجابي:
- فتحفيظ العقار يطهره من جميع الحقوق السابقة عنه والغير المدلى بها أثناء جريان مسطرة التحفيظ، فهذه الحقوق تتلاشى وتصبح معدومة لايمكن الاحتجاج بها بأي وجه كان، وهذا هو الجانب السلبي للقاعدة؛ بل هو إجحاف صريح، خاصة إذا علمنا أن الخلفية التاريخية لإقرار هذه القاعدة لا تخلو من ظلم وأطماع استعمارية بالدرجة الأولى، إذ كان من شأنها تسهيل الاستحواذ على أراضي الفلاحين البسطاء عن طريق إقرار المستعمر الفرنسي آنذاك لمسطرة غير مفهومة لديهم لغة ومضمونا بل وقضاء، فالعقود المبرمة بين الفرنسيين والأهالي (indigène) كانت باللغة الفرنسية وفي حالة النزاع فهي تعرض على قاض فرنسي يمارس عمله القضائي باللغة الفرنسية، لتتضح الرؤية وتتجلى لنا معاناة الفلاح المغربي البسيط آنذاك.
- على أن هناك الجانب الإيجابي لهذه القاعدة، باعتبار أن الرسم العقاري المؤسس هو بمثابة نقطة الصفر بالنسبة للعقار، ويكسب هذا الأخير حجية مطلقة وقوة إثباتية من جراء مسطرة الإشهار الطويلة والمعقدة الهادفة إلى تطهير العقار من كل نزاع قبل الإقدام على تحفيظه، وبالتالي إدخاله في الدورة الاقتصادية القائمة على الائتمان وتداول العقارات كضمان لعمليات الرهن الرسمي محرك الاقتصاد الوطني.
وإلى جانب الفقه نجد القضاء كفاعل أساسي في إحقاق الأمن الاجتماعي، و الذي بدوره تطرق إلى مفهوم الآثار التطهيري من زاوية أخرى، إذن فماهو موقف القضاء المغربي من مبدأ التطهير؟
ب – موقف القضاء من مبدأ التطهير
لقد جاء موقف القضاء متدرجا بشأن إطلاقية قاعدة التطهير كأثر مباشر وأساسي ناتج عن مسطرة التحفيظ، فحسب قرار صادر عن محكمة الإستناف بالرباط سنة 1926 في قضية تهم شخص مالك على الشياع تقدم بمطلب التحفيظ دون التصريح بشركائه، وبعد سلوك المسطرة تم تحفيظ هذا العقار في اسم طالب التحفيظ، ليتقدم بعد ذلك الشريك بطلب تقييد نصيبه أمام المحكمة التي قضت بقبول الدعوة من حيث الموضوع وأكدت قاعدة أن التحفيظ لا ينال من حق الشريك.
غير أن اجتهاد المجلس الأعلى سار في اتجاه مخالف وذالك منذ تأسيسه سنة 1957 حيث اعتبر "أن التحفيظ يطهر العقار المحفظ من جميع الحقوق والشوائب ويشكل نقطة الانطلاق الجديدة في حياة العقار حيث يقطع صلته بالماضي" (قرار صادر بتاريخ 9-5-1990 منشور بمجلة الإشعاع العدد الرابع).
لنخلص في الأخير أن قاعدة التطهير تنعكس مباشرة على عقود البيع الواقعة على عقارات في طور التحفيظ، فإما أن يتحقق العقد ويقيد الحق لفائدة صاحبه بالرسم العقاري وإما أن يلغى الحق موضوع العقد إما لعدم ثبوته أثناء جريان المسطرة أو لعدم الاحتجاج به أصلا في المرحلة السابقة لتأسيس الرسم العقاري. لنتساءل عن إمكانية التخفيف من حدة هذا الأثر ألتطهيري الملازم لمسطرة التحفيظ، وبتالي إعطاء حصانة لعقود البيع التي لم يطلها التطهير بسبب الإغفال أو استحالة الإدراج خلال سريان المسطرة لسبب قاهر.
الفرع الثالث : المادة 29 كصمام أمان للحد من إجحاف مبدأ التطهير (المواد 2 و62)
سنتطرق في هذه النقطة لقراءة أكثر مرونة للمادة 29 من القرار الوزيري الصادر في 3 يونيو 1915 ، والتي جاء في جوهر مضمونها ؛ أنه يمكن لأصحاب الحقوق أن يطلبوا إصلاح ما وقع من السهو والغلط و الخلل في الرسم العقاري، كما يمكن للمحافظ القيام بإصلاح من تلقاء نفسه إذا تبين له من خلال الوثائق المعتمدة لتأسيس الرسم العقاري وجود أحد هذه الحالات السابقة .
فهناك اتجاه أول فسر هذا المقتضى تفسيرا ضيقا ، فاعتبر أن الخطأ الواجب إصلاحه ، هو الخطأ المادي الذي لا يمس جوهر الحق ، و لا يتعارض مع مبدأ التطهير أي الواقع على الرسم العقاري بشأن التقييدات اللاحقة لتأسيسه، وهذا التوجه قد تبنته إدارة المحافظة العقارية.
ثم هناك تفسير ثاني أكثر مرونة و ملائمة و الذي أعطى مفهوم عملي للمادة 29 فأجاز إمكانية إصلاح الخطأ الواقع على الرسم العقاري حتى ولو تعلق بحق طاله التطهير،شريطة أن يكون هذا الحق قد تبث تحققه لكن تم إغفاله عن سهو أثناء صدور قرار التحفيظ ؛ وقد أيد هذا المنحى الإجتهاد القضائي من خلال قرار المجلس الأعلى الصادر بتاريخ 21 يناير 1980 فقد جاء في معرض إحدى حيثيته : " و حيث يستخلص من نص الفصل 29 ....أن إصلاح الخطأ الذي وقع في الرسم العقاري لا تقدم به دعوى مبتدئة أمام القضاء، وإنما يقوم به المحافظ من تلقاء نفسه..."و الحالة هنا تخص حكم بصحة تعرض لم يتم تضمينه أثناء تأسيس الرسم العقاري.
المبحث الثاني : عقد البيع الواقع على عقار محفظ
بعد أن يتم تأسيس الرسم العقاري، يكتسب العقار مصداقية وحجة لا غبار عليها ويدخل في دائرة التداول عن طريق التصرفات بعوض أو بدون، وعقد البيع من العقود المحورية التي تهم العقارات المحفظة، غير أن تحقق هذه الأخيرة يبقى رهين بإجراء التقييد في الرسم العقاري، هذا التقييد هو الذي يضفي على الحق موضوع عقد البيع الحجية و الثبوتية الضرورية لإنشاء أثره الناقل للملكية ، وهذا ماتم التنصيص عليه في المادة 66 حيث جاء فيها: "كل حق عيني متعلق بعقار محفظ يعتبر غير موجود بالنسبة للغير إلا بتقييده وابتداء من يوم التقييد في الرسم العقار ..." بل نجد المادة 67 من نفس القانون تأتي مكملة لسابقاتها، واعتبرت أن: "كل التصرفات والأفعال الإرادية والاتفاقات التعاقدية الرامية إلى تأسيس حق عيني أو نقله إلى الغير...لا تنتج أثر ولو بين الأطراف إلا من تاريخ التقييد بالرسم العقاري ..." ليتضح لنا جليا أن المشرع اعتبر أن عقد البيع الواقع على عقار محفظ هو في حكم العدم إلى حين إجراء شكلية التقييد؛ فهذا الإجراء الشكلي نظمه المشرع في الفصل 69 من قانون التحفيظ، حيث أوجب لزوما إرفاق عقد البيع المراد تقييده بطلب يتضمن وجوبا مجموعة بيانات جديدة، حتى أنه يتبادر إلينا أننا نقوم بإبرام عقد جديد تفصيلي أو تأكيدي للعقد الأصلي المودع من أجل التقييد، بل في الفصل 70 من نفس القانون أجاز المشرع للمحافظ على الملكية العقارية إذا كان أمامه عقد اتفاقي وأراد بشأنه بيانات أو توضيحات إضافية فالطلب المرفق لهذا العقد المتضمن لهذه البيانات يجب أن يكون موقعا من قبل الأطراف المعنية، وهذا في منظورنا إفراط غير مبرر في الشكليات والتي قد تضرب في الصميم إرادة الأطراف الظاهرة في عقد البيع وخاصة عنصر الإيجاب والقبول؛ فكيف يمكننا أن نتصور عقد بيع مستوف لكافة شروطه وأركانه ونقوم بإخضاع الطلب المرفق له لإجراءات شكلية تستلزم مجلس عقد آخر، وما مصير هذا العقد إذا رفض أحد الأطراف التوقيع على طلب التقييد أو لم يكن حاضرا؟؟؟
الفرع الأول : آثار تقييد عقد البيع بسجلات العقارية
إن أهم أثر يترتب عن تقييد عقد البيع بالسجلات العقارية والذي أقره قانون التحفيظ في الفصول 67،66،65 هو الأثر المنشئ، فعقد البيع لا ينقل الملكية سواء بين المتعاقدين أو بالنسبة للغير إلا بالتقييد في السجلات العقارية إذ تنتقل الملكية بأثر فوري من تاريخ التسجيل؛ وهذا الأثر المنشئ يعطي لنظام التحفيظ العقاري نوعا من الإستقرار والتوحيد في انتقال الحقوق، فالتاريخ المعتمد في تحقق العقد هو تاريخ تقييد بالرسم العقاري وليس تاريخ إبرام العقد أو المصادقة عليه.
بالإضافة إلى هذا الأثر هناك مبدأ حجية الحقوق المقيدة في مواجهة الغير والأطراف وقاعدة تسلسل التقييدات.
أ – مبدأ الحجية
من بين المبادئ الأساسية التي يقرها إجراء التقييد بالرسوم العقارية هو حجية التقييد، بمعنى أن الحقوق والتصرفات الغير المسجلة لا يجوز الاحتجاج بها ضد الغير فهي القيمة الضرورية لتداول الحقوق المقيدة وهي وسيلة إثبات قطعية، فعندما يقوم المحافظ بتقييد حق من الحقوق لفائدة أحد الأشخاص بالسجلات العقارية، فإن تقييده هذا يعتبر حجة رسمية على ثبوت الحق ودليل قاطع في مواجهة الأطراف وكذلك الأغيار، وهذا ما أكده كل من الفصلين 66و67 من ظهير التحفيظ العقاري غير أن السؤال الذي يتبادر إلى دهننا هو:
- هل هذه الحجية مطلقة أم أن هناك استثناء؟
بقراءتنا للفصل 66 نجد أن المشرع بعد أن أسس للمبدأ العام، وهو أن التقييد يكسب الحجية نجده في الفقرة الأخيرة من هذا الفصل يأسس للإستثناء حيث يعتبر أنه: "لا يمكن في أي حال التمسك بإبطال هذا التقييد في مواجهة الغير ذي النية الحسنة."
ونسجل بخصوص هذه النقطة الملاحظة الآتية: أن القراءة المتأنية لهذه الفقرة تفيد أن الإستثناء ينصرف إلى التقييد في حد ذاته لا إلى موضوع التقييد، فالتقييد في حد ذاته هو الذي لا يجوز التمسك بطلب إبطاله في مواجهة الغير حسن النية وهذا ما يتضح من سياق الفقرة الأخيرة من الفصل 66، خاصة عند قول المشرع (هذا التقييد Cette inscription) خاصة وأن هذا الأخير ينبني على شكلية تم التنصيص عليها في الفصل 69، أما موضوع التقييد وهو الحق موضوع عقد البيع مثلا فلابد أن يكون صحيحا، فلا يعتد بحق مزور أو باطل، ولم تكن وظيفة القانون أبدا ترمي إلى الإبقاء على الحقوق المزورة والباطلة، غير أن المجلس الأعلى في قرار له بتاريخ 20 فبراير 1990 لم يسلك هذا المسلك في التفسير، فقال بعدم جواز إبطال صدقة لأ نها سجلت بالرسم العقاري والمستفيد منها شخص حسن النية، مع أنها صدقة باطلة بطلانا مطلقا لعدم ملكية الشيء المتصدق به.
وهذا التوجه وإن كان فيه حماية للطرف الحسن النية، إلا أنه يضرب في الجوهر مشروعية الحق الخاضع لنظام التحفيظ العقاري.
ب – مبدأ تسلسل التقييدات
هذا المبدأ الهدف منه تكريس حماية فعلية للحق موضوع عقد البيع، إذ بموجبه يتحقق من أحقية ملكية البائع وهو ما تطرق إليه الفصل 69 في البيان الثالث الواجب توفره في طلب التقييد المرفق لعقد البيع: "3- أصل التملك وكذا نوع وتاريخ العقد الذي يتبته " وهذا ما نجذه كذلك في العمل التوثيقي، حيث درج الموثقون على استحضار أصل الملكية في عقود البيع لأهميتها القصوى، والغاية هو إثبات مشروعية الحيازة وإثبات صحة تواثر الملكية وانتقالها من شخص إلى آخر، ولقد كرس هذا المنحى القرار الوزيري الصادر في 20 رجب 1330 الموافق ل 3 يونيو 1915 المتعلق بتفاصيل تطبيق نظام التحفيظ العقاري، حيث ورد في المادة 28 أن الحق يأخد من آخر مسجل بالرسم العقاري، وفي حالة تعدد التفويتات لا بد من تسجيلها كاملة قبل تسجيل عقد البيع الأخير، وهذا المبدأ هو أساسي لتحقق التقييد وبالتالي لنفاد أثر عقد البيع.
الفرع الثاني : بعض التحفظات الواردة على الرسم العقاري وتأثيرها على نفاد عقد البيع
في هذا الفرع سنحاول التطرق إلى بعض المعيقات التي قد تؤثر مباشرة على تقييد عقد البيع بالرسم العقاري أو قد تمنع من تحقق آثار هذا العقد بشكل كامل رغم تقييده وحاولنا تصنيفها إلى تحفظات ذات طابع جبائي وأخرى ذات طابع قانوني وأضفنا تحفظات إجرائية ذات طبيعة تقنية لاحقة بالتقييد بالرسم العقاري.
أ – تحفظات ذات طابع جبائي
كما هو معلوم فتسجيل العقود جبائيا هو إجراء أوجبه القانون لحفظ العقود وإشهارها وإثبات تاريخ العرفية منها، وهو يقع مقابل رسوم تفرضها الدولة وتنظمها، كما أن جميع الأطراف هم ملزمون بالتضامن أمام إدارة الضرائب بأداء هذه الرسوم مع حفظ حقهم في رجوع بعضهم على البعض الآخر. وتقدر الرسوم مبدئيا في ضوء الثمن المصرح به، وقد يخضع هذا الثمن لمسطرة المراجعة.
ثم هناك وصل الإبراء ( Quitus) وهو إشهاد إداري مبدئي بأداء جميع الضرائب التي يلزم بها البائع عادة في عقاره المبيع، وهو يتوقف عليه تسجيل العقد عملا بالتنسيق الجاري بين مختلف المصالح المختصة في هذا الموضوع. فالعقد لا يسجل إلا بعد الإدلاء به.
وقد تنبه المشرع العقاري فيما مضى إلى المدد التي تتطلبها هاته الإجراءات الضريبة، فأجاز التحفيظ ولو قبل أداء رسوم التسجيل، شريطة أن يودع عقد البيع المراد تقييده في نسختين توجه إحداهما داخل أجل شهرين إلى قابض التسجيل والتمبر. والهدف من ذلك هو الإسراع بتقييد العقد في الرسم العقاري لتحققه، غير أنه ثم التراجع عن هذه الرخصة بصدور القانون المالي لسنة 2004 رقم 48.03 في المادة 14 حيث جاء فيها أنه: "... لا يمكن للمحافظ على الأملاك العقارية والرهون أن يتسلم قصد القيام بإجراء التحفيظ أو التقييد في السجلات العقارية عقدا خاضعا إجباريا للتسجيل... ما لم يتم تسجيله مسبقا." الأمر الذي عرض هذه العقود إلى التأخر لإدراجها بالمحافظة العقارية، و بالتالي عرضها لغرامة التأخير المنصوص عليها في الفصل 65 مكرر من ظهير التحفيظ العقاري.
ب – تحفظات ذات طابع قانوني
وهي كل التحفظات المدرجة بالرسم العقاري بموجب القانون، أو المرتبطة بعقد البيع الواقع على عقارات تستلزم ترخيص إداري لتداولها.
- فبخصوص التحفظات المدرجة بالرسم العقاري هنالك الرسوم العقارية المتضمنة لتقييدات إحتياطية حسب منطوق الفصل 85 وهي إما بناءا على سند أو على أمر قضائي أو بناءا على نسخة من مقال دعوى في الموضوع. وهي كلها معيقات قد تمس عقد البيع في جوهره، إذ تمنع تقييده إلى حين انتهاء مدة 10 أيام بالنسبة للتقييد الإحتياطي بناءا على سند، وإلى حين صدور حكم نهائي بخصوص التقييد الإحتياطي بناءا على مقال.
- وهناك بعض البيوع الخاصة التي اشترط لها القانون ترخيص إداري لكي تخضع لنظام التحفيظ العقاري، كبيع الأراضي الفلاحية في الدوائر السقوية، وبيوع المزاد العلني القضائي بين أشخاص ذاتيين أو اعتباريين مغاربة، وبيع الراضي في التجزئات العقارية وبيع الأراضي على الشياع في المدار الحضاري إلخ ...
ج– تحفظات ذات طبيعة إجرائية تقنية لاحقة لتقييد عقد البيع
نخص بالذكر هنا البيوع الواقفة على الإدلاء بنظير الرسم العقاري كشرط أساسي لتقييدها وهذا ما نص عليه الفصل 89 ، هذه الأخيرة التي تطرح إشكالية تحيين مع الحالة الواقعية للعقار؛ وما تثيره من صعوبات بشأن تقييد عقد البيع.
وكذلك إشكاليات البيوع الجزئية، ذلك أن هذه الأخيرة تستلزم لتحققها إجراءات تقنية هندسية خاصة لاستخراج الرسوم الجزئية، والأمر يزيد تعقيدا إذا أسفر التحديد المنجز لاحقا لعملية التقييد بالرسم العقاري على وجود فرق في المساحة بالزيادة أو بالنقصان، فرغم أن عقد البيع قد تم تقييده، فتنفيذه في عين المكان يبقى رهينا باتفاق الأطراف ويصبح هذا البيع متحفظا بشأنه، وفي وضعية شادة تؤثر على الحق جوهر العقد.
المبحث الثالث : دور المحافظ كطرف متدخل في نفاد عقد البيع
يباشر المحافظ العقاري كل المهام المتعلقة بمسطرة التقيد وذلك بالنظر في كل الطلبات التي تقدم له في شكلها وجوهرها وهو يستعين في ذلك بعدة أدوات قانونية وإدارية، وهكذا ألزم الفصل 72 من ظهير 12 غشت 1913 المحافظ بالتحقق تحت مسؤوليته من هوية المفوت وأهليته وصحة الوثائق المرفقة بمطلب التقييد بيد أن هوية الأطراف تكون في حكم الثابت إذا كان التوقيع على العقد مصادقا عليه، وإذا كان المحافظ يعمل على تدقيق هوية المفوت أو الأطراف فإن هذا التدقيق لا يعدو أن يكون عبارة عن مطابقة بين الاسم المذكور في الرسم العقاري وذلك المذكور في العقد .
كما يدخل ضمن مسؤوليات المحافظ أيضا العمل على مواجهة طلب التقييد بما هو مقيد في السجل العقاري لتفادي أي تعارض بشأنها وبالتالي ملائمة هذا الأخير مع مقتضيات القانون العقاري، فإذا طلب من المحافظ مثلا تقييد عقدي بيع كلي لنفس العقار في آن واحد ينافي أحدهما الآخر لورودهما في نفس الوقت على العقار واحد فإن المحافظ له أن يرفض التقييد، كما تجب الإشارة إلى أن البائع هو من يقع عليه عبئ تقييد البيع لأنه ملزم بنقل الملكية وما يستتبع ذلك من إجراءات التسجيل على الرسم العقاري.
أما بالنسبة لأهلية المفوت فرغم أن القانون يلزمه بالتأكد والتحقق بتوفرها إلا أن قيامه بذلك لا يمكن أن يمتد إلى مراقبة الظروف الخارجية الغير مصرح بها إذا كانت تؤدي إلى عيب في أهليته وذلك لأن المحافظ يمارس دوره عمليا من خلال ما يقدم له من وثائق.
بيد أن هذه الآليات تبقى عاجزة في كثير من الأحيان للإيفاء بالمقصود وهو ما يجعل مهمة المحافظ هاته تعترضها عدة صعوبات عند التحقق من أهلية الأطراف، ومن اجل إيجاد بعض الوسائل التي تساعد المحافظ العقاري على القيام بدوره المسند إليه ، طرحت عدة اقتراحات من بينها ضرورة اشتراط رسمية المستندات والوثائق المعززة لمطلب التقييد؛ حيث يصبح الموثقون هم المسئولون عن التأكد من أهلية الأطراف، كما أن هناك من اقترح إعطاء المحافظ إمكانية بأن يطلب نسخة من السجل المدني من محل ولادة المعني بالأمر وهي ورقة تتضمن كل التغييرات والتحولات التي تعلق بالأهلية المدنية للشخص المعني.
وبعد أن يقوم المحافظ بالتأكد من كل الذي سبق أن بيناه ومن الشروط المتطلبة قانونا فإنه يباشر التقييد بالسجل العقاري وذلك بوضع بيانات موجزة فيقوم بتأريخه وإمضائه، غير أن المحافظ وهو بصدد التثبت من مطلب التسجيل والوثائق المرفقة به قد يخلص إلى اتخاذ موقف بعدم تسجيل الحق المطلوب تقييده, وهو ما يعطي للمتضرر حق اللجوء إلى القضاء للطعن في قرار المحافظ كما نص على ذلك الفصل 96 من قانون التحفيظ العقاري .
وقد ذهب الفقه إلى أن اختصاص المحكمة الابتدائية مشروط بعدم صحة الطلب او بعدم كفاية الرسوم وأنه متى تعلق الأمر بسبب آخر أصبح هذا الاختصاص منعقدا للقضاء الإداري، وهو ما أكده قرار المجلس الأعلى حيث جاء فيه:" تخضع مراقبة مشروعية القرارات الصادرة عن المحافظ على الملكية العقارية بوصفه سلطة إدارية لاختصاص المحكمة الابتدائية وفقا الفصل 96 من ظهير 1913 إذا كان موضوعها يتعلق برفض تسجيل حق عيني أو التشطيب عليه بسبب عدم صحة الطلب أو عدم كفاية الرسوم...أما في غير ذلك من الأحوال فيجب الرجوع إلى القاعدة العامة التي تقضي باختصاص المجلس الأعلى بالبت في الطعون الرامية إلى إلغاء القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية للشطط في استعمال السلطة تطبيقا للفصل 353 من قانون المسطرة المدنية..."
مما يعني أن الطعن في قرار المحافظ برفض التسجيل لغير السببين الوارد النص عليهما في الفصل 96 من قانون التحفيظ العقاري يكون من اختصاص المحاكم الإدارية .
خـاتـــمــــة
وختاما، يتضح من خلال ما سبق ذكره أن عملية التحفيظ التي تبتدئ من تقديم مطلب التحفيظ الذي يعتبر أول خطوة في هذه العملية، وهي مسطرة طويلة ومعقدة من شأنها أن تضيع العديد من الحقوق، إلا أنه رغم ذلك فقد خصها المشرع بالعديد من الضمانات واستلزم عدة شكليات لتمامها وخصوصا البيوعات التي تتم في هذه المرحلة لتكتسب حجية الشيء المقضي به.
كما أن نظام التقييد في السجل العقاري يعتبر مسألة ضرورية، بحيث أنه يسعى إلى إشهار الحقوق العقارية وبيان وضعية العقار المادية والقانونية لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار والثبات للنظام العقاري.إلا انه لا يمكن الجزم بنجاح هذا النظام في تحقيق الأهداف المتوخاة بحيث لم يستطع حل المشاكل التي يثيرها تداول العقارات إلا جزئيا.
لائــحــة المــراجــع
- د.عبدالرحمان بالعكيد: وثيقة البيع بين النظر والعمل، الطبعة الأولى 1993.
- د. محمد خيري : حماية الملكية العقارية ونظام التحفيظ العقاري بالمغرب، طبعة 2001.
- د. محمد الحياني: عقدالبيع وقانون التحفيظ العقاري بالمغرب، طبعة 1994.
- الفقيه بول دوكرو: القانون العقاري المغربي، طبعة 1977.
- د. محمد الكشبور: التطهير ناتج عن تحفيظ العقار تطور القضاء المغربي، طبعة 2005.
- د. محمد الكشبور: بيع العقار بين الرضائية والشكل، طبعة 1997.
- دة. لطيفة بحوص: إشكالية الاستثمار العقاري بين متطلبات القانون ورهانات التنمية، منشورات المجلية المغربية للادارة المحلية والتنمية، عدد 72 طبعة 2007.