مدخل:
يعتبر العدل قوام و عماد الدولة , و أي تجمع بشري, فبتحققه تستقر العلاقات الإنسانية و تتوازن الأوضاع الاجتماعية و بغيابه يختل توازن المجتمع . فهو بهذا المعنى أساس العمران كما قال ابن خلدون في مقدمته.فعلى المستوى الاجتماعي فهو مدخل أساسي لتحقيق الأهداف الاجتماعية وتحقيق الامن الاجتماعي و على المستوى الاقتصادي يضمن حسن تداول الثروات بشكل يتوافق و مبادئ العدالة و على المستوى السياسي فهو يكبح جماح الحاكم و يراقب تصرفات السلطة السياسية. و من البديهي أن المسؤول عن العدالة هي السلطة القضائية فهي السلطة التي يخول لها القانون حق البت في مصير الإنسان الاجتماعي و عليه كان من الضروري تكريس قضاء مسؤول و مستقل لكي تستقر الأوضاع الإنسانية لأنها الجهة المسؤولة عن تطبيق القانون و تكريس احترام مبدأ الشرعية و زجر الخروقات التي تطال هذا المبدأ,فالبتالي كلما توافرت فيها بعض الشروط و الضوابط التي تضمن استقلاليتها كلما زادت فعاليتها . على اعتبار أن النسق الاجتماعي العام داخل المجتمع مرتبط بمدى قوة و فعالية و كفاءة الجهاز القضائي . و السعي من أجل إصلاح و تطوير منظومة العدالة هو لبنة أساسية لتحقيق التنمية الاجتماعية لذلك عملت معظم النظم السياسية المعاصرة على تحديث المنظومة القضائية للإستجابة للتطورات و التحديات التي أضحى يعرفها العصر على جميع المستويات . وهو الأمر الذي نهجه المغرب منذ حصوله على الإستقلال . فقد سعت السلطة السياسية إلى تحديث المنظومة القضائية و تحقيق استقلاليتها عن باقي السلط منذ سنة 1956 بحيث عملت على إصدار مجموعة من القوانين التي تبتغي تقوية الجهاز القضائي و ضمان استقلاليته , و قد اتضح هذا خصوصا في مرحلة حكم الملك محمد السادس بحيث أبان عن رغبة السلطة السياسية في إصلاح هذا الجهاز في مجموعة من الخطب الملكية الأخيرة بدأ من خطاب 1999بالدار البيضاء , و كذا خطاب الملك 20 غشت سنة 2009 الذى شكل خارطة طريق للقائمين بهذا الإصلاح المؤسساتي و القانوني و قد تم إحداث هيئة عليا للحوار الوطني لإصلاح العدالة و ضمت مجموعة من مكونات السلطة القضائية سنة 2012, غير أن هذه المسيرة الإصلاحية عرفت حدثا تشريعيا مهما أكسب للسلطة القضائية استقلالها المؤسساتي و الدستوري لم يكن معهودا في النظام السابق ذلك من خلال دستور 2011 الذي جاء بمجموعة من المكتسبات لهذا الجهاز على رأسها الإعتراف الدستوري بصفة السلطة القضائية المستقلة و ذلك على غرار باقي السلط بموجب الفصل 107, و هو الأمر الذي لم يكرسه المشرع الدستوري في ضوء دستور 1996 و كل هذه المقتضيات و غيرها تفصح عن رغبة السلطة في تعزيز ورش إصلاح القضاء بما يتماشى مع متطلبات العصر و التزامات الدولة المغربية الدولية . و يذهب كثير من الفقهاء و الباحثين إلى أن إصلاح القضاء يرتكز على مجموعة من المقومات و المبادئ الأساسية و أهم هذه المبادئ و أبرزها هو مبدأ استقلال السلطة القضائية الذي يقصد به أن يمارس القاضي مهامه القضائية بمنأى عن كل تأثير مادي أو معنوي من طرف أي جهة و ذلك بشكل يضمن فعالية و جودة الحكم القضائي.و بطبيعة الحال فهذا لن يتأتى إلا بتكريس مجموعة من الدعائم القانونية و المؤسساتية التي من شأنها أن تؤسس للاستقلال الفعلي للقضاء. و عليه يمكن القول بأن مبدأ استقلال السلطة القضائية من المبادئ العالمية و الدستورية المسلم بها في النظم السياسية الديمقراطية المعاصرة و قد أكدت عليه الشريعة الإسلامية و كذلك مجموعة من الأوفاق و المواثيق الدولية . فانطلاقا من هذا التمهيد فما المقصود إذن بمبدأ استقلالية السلطة القضائية من الناحية القانونية ؟ و ما هي الركائز و الأسس التي من شأنها ضمان التطبيق السليم لذات المبدأ ؟ و إلى أي حد عمل دستور 2011 المغربي على تكريس هذا المبدأ في الباب المتعلق بالسلطة القضائية ؟ و هل المنظومة التشريعية المتعلقة بالقضاء تتوافق و فحوى و روح الدستور ؟
كل هذه الإشكاليات سنعمل على الإجابة عليها دراسة و تأصيلا في المقال التالي و ذلك باتباع المنهج القانوني الأتي بيانه :
المبحث الأول : تأصيل ماهية مبدأ استقلال السلطة القضائية و ركائزه القانونية و الكونية الأساسية
المطلب الأول : تأصيل في ماهية مبدأ استقلال السلطة القضائية
المطلب الثاني :الركائز القانونية و الكونية لمبدأ استقلالية السلطة القضائية
المبحث الثاني : مدى استقلالية السلطة القضائية في النظام السياسي المغربي في أفق تنزيل دستور 2011
المطلب الأول : الموقع الدستوري و القانوني للسلطة القضائية في النظام السياسي المغربي
المطلب الثاني : ضمانات استقلال السلطة القضائية في ضوء الدستور الجديد
لسنة 2011
المبحث الأول: تأصيل ماهية مبدأ استقلال السلطة القضائية وركائزه القانونية والكونية الأساسية
مما لا شك فيه أن مطلب استقلال السلطة القضائية أصبح مطلبا جوهريا في ظل الدولة القانونية , بل إنه يعتبر ركيزة من ركائز دولة الحق و القانون , فهو بهذا المعنى ضمانة أولية لبلوغ الأهداف المجتمعية السامية , فبغياب قضاء قوي و نزيه متشبع بروح الديمقراطية و حقوق الإنسان تظل مصائر الناس الاجتماعية عرضة للضياع و الإنتهاك و عليه سنبحث في الأصول التاريخية لهذا المبدأ و مفهومه القانوني في مرحلة أولى ( المطلب الأول ) ثم سنبحث في الأسس الكونية و القانونية لذات المبدأ ( المطلب الثاني ).
المطلب الأول: تأصيل في ماهية مبدأ استقلال السلطة القضائية:
إن الأصول التاريخية لمبدأ استقلال السلطة القضائية تعود إلى القضاء الإسلامي حيث كشفت الوقائع التاريخية للممارسة السياسية الإسلاميةتوجه الشريعة الإسلامية بالأخذ بذات المبدأ على الوجه السليم , فالشريعة الإسلامية تتميز بالصبغة العاطفية المثالية , التي تجعل الفرد أيا كان مركزه يمارس مهامه بالشكل الذي يقضيه الضمير الأخلاقي و الاجتماعي المسؤول ,و على و جه الخصوص مهمة الحاكم هذا الأخير الذي يتحمل مسؤولية مزدوجة أولها أمام الله عزوجل و ثانيها أمام الشعب . بحيث أكدت في مجموعة من النصوص القرآنية و النبوية و كذا الممارسة القضائية الإسلامية على ضرورة امتثال القاضي في ممارسته لمهامه القضائية لقواعد الشريعة و العدالة و الإنصاف و عدم التفرقة بين الناس على أساس أي معيار غير التقوى , فقد قال الله تعالى : (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكمو بالعدل ) .و علاوة على هذا فقد تكرس هذا المبدأ على مستوى الممارسة القضائية الإسلامية و خصوصا في الرسالة المختصرة التي أرسلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى القاضي أبي موسى الأشعري , يؤكد فيها على مبدأ الشورى و الرزانة و محاسبة الضمير و الحكم بما أنزل الله في كتابه الحكيم . و في أواخر القرن الثاني للهجرة خلال العصر العباسي عزل الخليفة العباسي نفسه عن تعيين القضاة , فأوكل الأمر إلى مجلس القضاة أنفسهم .(1) أما في الفكر القانوني الغربي المقارن فقد ظهر هذا المبدأ عمليا بعد القرن 18م بحيث نادى به مجموعة من علماء السياسية و فلاسفةالأنوار كمونتيسكيو في كتابه روح الشرائع و بيكاريا و جون لوك و جون جاك روسو . نظرا لما وصلت إليه شؤون الحكم من انحطاط و ما وصل إليه الحال من انهيار تام لقيمة الإنسان و ضياع للحقوق و إهدار للحريات الإنسانية فقد كان الحاكم يجمع بين جميع السلط و يقضي بالعقوبة دون سند قانوني سابق يجرم الفعل موضوع العقاب .لكن مع بزوغ شمس الثورة الفرنسية أشاعت أفكار و نظريات فلاسفة الأنوار إشعاعا غير الواقع السياسي الأوربي لما كان يعرفه من ظلم و جور و استبداد .و هو الأمر الذي أفرز تنظيما سياسيا في شكل دستوري حديث فطبقا لمبدأ فصل السلط الذي نادى به مونتيسكيو فإن السلطة التنفيذية تمارسها الحكومة التي تدير مرافق الدولة و السطة التشريعية تعمل على سن القانون و السلطة القضائية تعمل على البت في المنازعات عن طريق تطبيق القانون .( 2)
فاستقلال السلطة القضائية يعني أن يمارس القاضي مهامه القضائية عن طريق إصدار الأحكام بالتطبيق السليم و العادل للقانون وفقا لما يقتضيه شعوره بالعدالة , دون أي تدخل من طرف السلطة العامة و أن لا يخضع لأي تأثير مادي أو معنوي من أي جهة أيا كانت صفتها.و من جهة أخرى الأمر يقتضي التنصيص دستوريا على أليات تدعم مبدأ الفصل بين السلط بحيث يكون لكل سلطة هيكلها التنظيمي و اختصاصاتها بموجب نص الدستور بحيث يكون معه محظور دستوريا أن تتدخل أحد السلط العامة في اختصاصات السلطة الأخرى. فالسلطة التنفيذية مثلا مهمتها تنفيذ القانون عن طريق المراسيم التنظيمية و كذا السياسات العمومية( الفصل 89 من الدستور المغربي ) . أما البت في المنازعات فهو اختصاص موكول دستوريا و كونيا و منطقيا للسلطة القضائية , كما يعد محظورا و غير جائز دستوريا أن تتدخل السلطة التنفيذية خصوصا في أعمال القضاة و حتى و إن كان وزير العدل فهذا الأخير يشرف على الإدارة القضائية و ليس على العمل القضائي لأن القاضي مبدئيا لا يتلقى في شأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات و لا يخضع لأي ضغط .و هو الأمر الذي يقتضي منطقيا توفير الوسائل القانونية و المادية الملائمة للممارسة القاضي لمهامه على الوجه المتطلب قانونا .
المطلبالثاني: الركائز القانونية والكونية لمبد أ استقلالية السلطة القضائية
لقد ارتقى مبدأ استقلال السلطة القضائية إلى مصاف المبادئ العالمية التي أكدت عليها مختلف المواثيق الدولية و الإعلانات الحقوقية و الدولية على اختلاف مشاربها , بل إن أغلب الديمقراطيات الحديثة جعلته مبدأ دستوريا ثابتا غير مناقش فيه . فالمرجعية الدولية لهذا المبدأ تكرست خصوصا في الفصل 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية الذي انضم إليه المغرب سنة 1979 , و تنص هذه المادة على أن : ( الناس جميعا سواسية أمام القضاء و من حق كل فرد أن تكون قضيته محل نظر منصف و علني , من قبل محكمة مختصة و مستقلة و حيادية و منشأة بحكم القانون ) كما نصت المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 على أنه ( لكل إنسان على قدم المساواة أن تنظر في قضيته محكمة مستقلة و محايدة , نظرا منصفا و علنيا ) .
أضف إلى ذلك ماجاءت به مبادئ بنغالور بشأن السلوك القضائي سنة 2002 , حيث أنها اعتبرت أن السلوك القضائي ينبغي أن يقوم على ستة قيم أساسية و هي ( الاستقلالية و الحيادية و النزاهة و الملائمة و المساواة و الكفاءة ) (3)كما تجب الإشارة إلى أن ميثاق هذه المبادئ تؤكد في مادتها الأولى : أن استقلال القضاء يكون شرطا أوليا لمبدأ الشرعية و ضمانة أساسية لمحاكمة منصفة . كما أكد الملك محمد السادس في خطابه ل 20 غشت 2009 على ضرورة دعم ضمانات استقلالية السلطة القضائية و ذلك بإيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة به كمؤسسة دستورية قائمة الذات و تخويله حصريا الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة و إعادة النظر في كيفية انتخابه بما يكفل لعضويته الكفاءة و النزاهة , و يضمن تمثيلية نسوية مناسبة لحضورة المرأة في السلك القضائي , فضلا عن عقلنة تسيير عمله . و كذا في دستور 2011 الذي نص في فصله 107 على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و التنفيذية .( 4)
و بهذا المعنى فاستقلال القضاء يجد أسسه القانونية على المستوى الدولي و على المستوى الدستوري الوطني سواء في الخطب الملكية أو في دستور 2011 أو في الميثاق الوطني لإصلاح العدالة , و يمكن القول انطلاقا من هذه المرجعيات المسلم بها من كافة الفعاليات الحقوقية و القانونية و القضائية , أن استقلال القضاء ينبغي تدعيمه بمجموعة من الأسس و الدعائم القانونية و المؤسساتية التي تضمن الفعالية و الوحدة و الاستقلالية و هي كالتالي :
أولا :التنصيص دستوريا على أن القضاء سلطة مستقلة على غرار السلطتين التنفيذية و التشريعية و ضرورة انسجام القوانين التنظيمية المنظمة للجسم القضائي مع روح الدستور .
ثانيا :تحديد الأليات الدستورية الكفيلة بضمانة الاستقلالية
كإبعاد و رفع يد وزارة العدل على القضاء و إبعاد عضويته من المجلس الأعلى للسلطة القضائية و إسناد رئاسة النيابة العامة للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض .على اعتبار أن جهاز النيابة العامة يتكون من قضاة و نصت عليه مختلف المواثيق الدولية و الدساتير العالمية و القول بخلاف ذلك يخالف فحوى و روح الدستور و التوصية 37و 38و 39 و 40 و 41 من الميثاق و هو قول يدل إما على عدم التشبع بمبدأ الإستقلالية أو النقص في الخبرة القانونية .. , فقضاة النيابة العامة يتحملون مسؤولية مهمة ينبغي تدعيمها بالإستقلالية على غرار قضاة الحكم .
ثالثا :كما إن الإستقلالية يجب أن تتكرس في مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة و كذا قانون التنظيم القضائي و ق.م.م و ق.م.ج وذلك بجعل مهمة وزارة العدل تنحصر في الإشراف على الإدارة القضائية و توفير التهيئة العمرانية للمحاكم و توظيف المساعدين و تأطيرهم دون التدخل في عمل القضاة . و لن يتأتى هذا المقتضى إلى بتضمين مقتضيات القانون التنظيمي للقضاة بالمقتضيات التي خلص إليها الميثاق و المتمثلة في التوصية رقم 26 و 27 و 28 و 29 و خصوصا إسناد مهمة التفتيش القضائي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية لتجاوز الوضع الغير الدستوري الذي يكرسه نظام القضاة لسنة 1974.
رابعا :أن يكون القاضي متخصصا و مؤهلا تأهيلا علميا و خلقيا , يتوافق و المهمة القضائية و هذا يقتضي بالطبع الأخذ بعين الاعتبار في النظام الأساسي للقضاة معايير علمية و موضوعية واضحة لانتقاء القضاة وكذا تحديث و تطوير المنظومة التعليمية في الجامعة بما يتوافق و المهمة القضائية إضافة إلى تطوير برامج التأهيل و التكوين القانوني في معهد تكوين القضاة و تدعيم ألية التكوين المستمر , و نظرا لخصوصية رسالة القضاء فيجب أن تسند لمن تتوافر فيه شروط التكوين القانوني العالي . (أما المقتضى الذي جاء به النظام الأساسي للقضاة المعروض الأن أمام البرلمان الذي يتضمن إمكانية فتح مباراة القضاة على تخصصات غير العلوم القانونية و الشرعية الأخرى فهو مقتضى غير دستوري و غير منطقيفالإختيار يجب أن يستند على أساس مبدأ الشخص المناسب في الموقع الوظيفي المناسب . نظرا لأن القضاء أولا هو رسالة و ليس مهنة بالمعنى الحقوقي كما أن شخص القاضي يجب أن يمتاز بصبغته و نكهته الحقوقية و القانونية الخالصة و أن يؤمن بداية برسالة القضاء .و هذا الأمر لن يتوافر بطبيعة الحال إلا في الكفاءة القانونية العالية و المتخصص في العلوم القانونية و هذا ما يدعو ا إلى تغيير هذا المقتضى , مع إمكانية انفتاح برامج التكوين في المعهد على العلوم الأخرى الذي تتطلبها التغيرات المجتمعية كتعزيز برامج التكوين بمواد كالمحاسبة و التنظيم الإداري للمقاولات و علم الاجتماع و علم النفس .....
خامسا :تحسين الوضعية المادية للقضاة , بتخصيص لهم مراتب يتوافق و المهمة القضائية و الظروف الحياتية الراهنة . و ذلك من أجل أن يمارس القاضي مهمته بعيدا عن أي تأثير مادي أو معنوي و هو ما يقتضي إعادة النظر في هذه الوضعية المادية للقضاة .
سادسا : إن هذه الاستقلالية ليس مقصدها تخويل السلطة من أجل التسلط بقدر ما تقصد إليه من تقوية الجهاز القضائي بما يضمن فعالية و جودة الأحكام القضائية و يكرس مبدأ الشرعية القانونية و كذا شعار القضاء في خدمة المواطن و هذا بطبيعة الحال يقتضي من وجه أخر , تعزيز فعالية جهاز التفتيش القضائي و المشرفين على الوضع المهني للقضاة و ذللك على الأقل بتنزيل التوصية 27 من الميثاق القاضية بإناطة مهمة التحري و التحقق و المراقبة بالمفتشية العامة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية , بما يمكن من تقييم سير العمل داخل المحاكم و أساليب أدائها و توحيد مناهج العمل بها و الكشف عن الإخلالات المهنية بهدف تقويمها ... و كذلك التوصية 28 القاضية بتمكين المسؤولين القضائيين بمحاكم الإستئناف من القيام بتفتيش دوري للمحاكم التابعة لدائرة نفوذها و كذلك ضرورة اعتماد و إعمال ألية للنظر في تظلمات المتقاضين أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية و كل ذلك في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة كما أكد عليها الفصل الأول من دستور فاتح يوليوز , فكل هذه المقتضيات بإمكانها إذا ما تم تضمينها في مشروع النظام الأساسي للقضاة و العمل وفقها بشكل سليم من شأنها تحديث المنظومة القضائية و الرفع من نجاعتها بالمقارنة بمكان عليه النظام القديم لسنة 1974.
سابعا :ضرورة إسناد تدبير الوضعية المهنية للقضاة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مستقل ماليا و إداريا طبقا لما ينص عليه الفصل 113 و 114 و 115و 116من الدستور و كذا تكريس التوصيات من 1 و ما بعدها بشأن تدبير الوضعية المهنية للقضاة و وضع معايير واضحة لترشح القضاة لعضوية المجلس و تحديد مسطرة شفافة لإنتخابهم و إبعاد يد السلطة التنفيذية بالكامل عن المجلس إلا في إطار مبدأ التعاون و التوازن بين السلط الذي تقتضيها ضرورة تسيير الشأن العام مع احترام مبدأ الفصل بين السلط .
ثامنا : ضرورة إحداث مجلس الدولة و ذلك على أساس اعتبارين أساسيين أولهما أن الفصل 114من الدستور نص على أنه تكون المقررات المتعلقة بالوضعية الفردية , الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام أعلى هيئة قضائية إدارية و بالتالي فلا يجوز دستوريا للغرفة الإدارية بمحكمة النقض أن تبت في هذه الوضعية نظرا لأنها تحت إشراف الرئيس الأول لمحكمة النقض و هذا الأخير في نفس الوقت رئيس منتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و لكن المنطق القانوني يقضي بعدم جواز القاضي الذي بت في الموضوع في المرحلة الإبتدائية , أن يعيد البت في الموضوع في مرحلة الطعن في الحكم .و هو الأمر الذي يدعوا إلى إحداث مجلس الدولة لكي يثبت المغرب جدارته الحقوقية , و الإعتبار الثاني هو التوجه الذي أكد عليه الملك محمد السادس بتاريخ 15 دجنبر 1999بمناسبة افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء حيث قال : ( و رغبة منا في توسيع مجالات التطوير و التحديث قررنا الزيادة التدريجية في عدد المحاكم التجارية كما قررنا إحداث محاكم استئناف إدارية في أفق إحداث مجلس الدولة يتوج الهرم القضائي الإداري لبلادنا .....) و حقيقة و بشهادة جميع المتتبعين للشأن العام فقد تم تكريس فعليا المقتضيات المتعلقة بإحداث محاكم استئناف إدارية بموجب قانون 80.03و كذلك مجلس أعلى للحسابات بموجب قانون 62.99 و غيرها من المقتضيات المهمة التي تبرز رغبة الخطب الملكية في الإصلاح . لكن فيما يتعلق بمجلس الدولة فلم تعمل الحكومات السالفة و الحالية على تفعيل هذا المقتضى الذي يعتبر أساس سيادة الشرعية و دولة الحق و القانون بل إن الأمر أصبح ضرورة و حاجة قانونية ما بعد دستور 2011.
بقي أن نشير في نهاية هذا المبحث أن الإصلاح الحقيقي و الفعلي للقضاء و تجاوز أخطاء الماضي ينبغي أولا أن يرتكز على إرادة حقيقية و ظاهرة في الإصلاح على مختلف المستويات و ثانيا أن يرتكز على فلسفة جديدة فحواها الديمقراطية و التدبير الإستراتيجي و المعقلن للشأن العام و خصوصا الشأن القضائي بجميع مكوناته , و ذلك بالإهتمام بالتكوين و التحفيز على روح المسؤولية و النزاهة و العدالة و المواطنة على سائر المستويات . فانطلاقا من هذه المبادئ العامة التي قررتها المواثيق و الدساتير الوطنية و الإعلانات الحقوقية العالمية فإلى أي حد أخذ النظام السياسي المغربي بهذا المبدأ في المنظومة التشريعية الحديثة ؟
الهوامش :
(1)راجع كتاب التنظيم القضائي المغربي للدكتور أشركي أفقير عبدالله .ذ. بكلية الحقوق بطنجة السنة الجامعية 2004-2005الإيداع القانوني 1059/2005مطبعة كريم رانت طنجة ص20-21
(2)راجع كتاب استقلال السلطة القضائية بالمغرب جمعية عدالة دجنبر 2013 ص 6 مطبعة دار القلم بالرباط ( دراسة أعدها الأستاذ محمد بوزلافة )
(3) راجع نفس المرجع السابق للأستاذ بوزلافة ص 10.