لا شك أن موضوع التخليق الإداري يكتسي أهمية بالغة في سياق التحديات الراهنة لبلادنا، فهو يرتبط بشكل مباشر بالاستحقاقات التنموية التي تشغل بال الساسة والباحثين والمتخصصين وكل فعاليات المجتمع المدني التي تسعى بكل روح وطنية إلى المساهمة في التنمية الشاملة لبلادنا، وإلى كسب رهان التغيير الاجتماعي والاقتصادي.
والإدارة المغربية في ظل هذه التحولات مطالبة برموزها المختلفة بالتطور بغية الحد من مظاهر الفساد التي تعاني منهابسبب ما آلت إليه بعض الدواليب الإدارية من فوضىوسوء التسيير ، وهي عوامل زادت من الفجوة بين الخطط الوطنية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبين إدارة يراد بها أن تكون أداة لهذه التنمية بالمفهوم الحديث.
فتخليق المرفق العام الذي استلهمت مبادئه من التوجهات المولوية السامية، يشكل أحد المحاور الأساسية في برنامج إصلاح الإدارة وتطهيرها من مختلف مظاهر الفساد، على نحو يقتضيه الاختيار الديمقراطي في دولة الحق والقانون.
إن الغرض من دراسة مجال أخلاقيات الوظيفة العمومية، يكمن في محاولة ضبط العمل الإداري في الوظيفة العمومية وبعض نشاطاته، وصولا إلى محاولة تفعيله وإبراز جملة من الأهداف، كضبط السلوك المهني والشخصي للموظف الذي ينبغي أن يتحلى به المؤتمنون على مصالح الدولة، والتقدير المستمر لمدى انضباطهم بما ينسجم ومقتضيات ممارسة الوظيفة العمومية، وكذا درجة تفهمهم لواجباتهم المهنية في إطار أخلاقية المهنة.خاصة إذا علمنا أنعددا غير يسير من الموظفين يؤدي خدمته ويزاول مهامه في جهل تام للأنظمة والقوانين التي تنظم المرفق وتكفل الحقوق وتحدد الالتزامات المهنية. وحتى وإن علم بها ، فإنما يرجعها للأعراف الإدارية وما يتداول داخل دواليب المرفق العام، دون أن ينسبها إلى تشريع معين، أو نظام محدد بذاته.
فالتخليق الإداري من المواضيع التي تشكل هاجسا لدى جميع دول المعمور، إذ لا تقل أهمية عن ورش إصلاح المنظومة القانونية، وتبسيط المساطر الإدارية، والحكامة الجيدة لتدبير الموارد البشرية وغيرها من المواضيع التي لها علاقة بالوظيفة العمومية. ولتحقيق هذه الغاية (التخليق الإداري) يتوجب قبل تحديد آليات ووسائل التخليق الإداري ،البحث في واقع الأخلاقيات داخل الإدارة العمومية المغربية، لأنه من شأن تشخيص هذا الواقع، أن يساعدنا في معرفة أسباب انتشار السلوك اللاأخلاقي وتجلياته داخل الإدارة العمومية.
ومن خلال بحث أنجزناه في هذا الصدد حول مظاهر الانحراف في أخلاقيات الموظفين وأسبابانتشارها بالإدارة العمومية المغربية،يبدو في اعتقادناأنها منتشرة تقريبا في كل دول العالم مع تفاوت على مستوى الدرجة، وتكاد تتشابه الأسباب التي تؤدي إلى هذا النوع من الممارسات اللاأخلاقية لأن الطبيعة البشرية واحدة،مع وجود بعض الاختلافات فيما بينها لاختلاف ظروف البيئة السياسية والاجتماعية
والاقتصادية والإدارية،ومدى تأثير هذه الأخيرة في سلوك الموظف إيجابا أو سلبا،مما يجعل من الصعب وجود إجراءات إدارية رادعة لمكافحة الفساد، على نحو يمكن من القضاء عليه بشكل قطعي.
علاوة على الأسباب الإدارية والاقتصادية، فالروابط التقليدية والعادات لها أثر كبير على أخلاقيات وسلوك الموظف بصفة خاصة والوظيفة العمومية بصفة عامة ، فهيتؤثر علىنفسية المرتفق الذي أصبح مقتنعا بأن حاجياته لا تقضى إلا من خلال وجود قرابة أو معرفة داخل الإدارة، أو من خلال عملية الارتشاء أو أي وسيلة أخرى من الوسائل غير المشروعة،مقابل شعوربعض الموظفين بالكبرياء والتعالي والنظر إلى الوظيفة على أنها ملك شخصي يسخر لخدمة أغراضهم ولتجميع الثروة غير المشروعة.
والأكثر من ذلك أن هذه التصرفات اللاأخلاقية أصبحت تلقى تأييدا كبيرا من طرف بعض فئات المجتمع، إن لم نقل أنها تساهم وبشكل كبير في ترسيخها ، وبالتالي أصبحت بمثابة عرف لا ينبغي مخالفته وشيئا مقبولاتعززه اتجاهات التعاطف مع من يسيئون استعمال السلطة.
فالفساد الإداري، ليس إلا جزء من الفساد الأخلاقي السائــد في المجتمــع، فكلما تم الاهتداء إلى مسلك قويــم في التربيـة، كلما تم القضاء على الانحلال الخلقي، طبقا للمقولة المشهورة" المرض يسبق العلاج، وأن الوقاية تسبق المرض"، وإذا كان المرض هو الفساد الإداري وعلاجه متعدد بحسب الوصفات، فإن التربية هي الوقاية، والوقاية خير من العلاج.
وعليه، فالإدارة ما هي إلا صورة للمجتمع، والتركيز على إصلاح الإدارة دون المجتمع، هو بمثابة التركيز على أعراض المرض دون تحليل ومعالجة أسبابه. وهي عملية شبيهة بتجربة هرقل مع الحيوان الخرافي ذي التسعة رؤوس ، إذ كان كلما قطع رأسا من رؤوسه نبت محله رأسان جديدان.
فالتخليق الإداري لن يتحقق إلا من خلال اقتلاع جذور الفساد المنتشرة في المجتمع عامة والإدارة خاصة، على شكل اتجاهات وأنماط سلوكية متأسسة، وعدم الاكتفاء بمعالجة أعراضه فقط، بللا بدمن وضع قواعد أخلاقيةللعمل الإداري وإلزام الجميع على احترامها.
فالإدارة المغربية، أضحت في خضم هذه الوضعية المتأزمة ، التي طغت فيها القيم المادية على القيم الروحية ، وأصبح معيار التقويم هو المال والجاه والسلطان ، فكثر الفساد، ولم يبق فيها احترام للقانون ولا للقيم الأخلاقية، مطالبة ببذل المزيد من الجهد ومواصلة مسيرة الإصلاح، لأن القضاء على مظاهر الفساد الإداري وإشاعة الأخلاقيات بالمرفق العام، يظل أمرا منفتحا على العمل المستمر، والتتبع المستديم والمتواصل مع المستجدات.
فالتخليق ليس بمسعى مادي يمكن تحقيقه بشكل فوري وحاسم كما يعتقد البعض، بل يتطلب تظافر جهود جميع الفاعلين: الجهات الحكومية وغير الحكومية ، من أجل الوقوف على مكامن القصور والاختلالات التي تطال المنظومة الأخلاقية بالمرفق العام، وإيجاد السبيل الأقوم لبلورة إجراءات عملية كفيلة بالقضاء تدريجيا على مظاهر الانحراف والفساد الأخلاقي التي تنخر كيان الجسم الإداري.
إن مسألة تدعيم الأخلاقيات بالإدارة العمومية ينبغي أن تعطى لها ما تستحق من العناية والاهتمام من لدن السلطات العمومية ومختلف فعاليات المجتمع، لما لها من ارتباط وثيق بقضايا المجتمع الأساسية. مثل تكريس مبدأ دولة الحق والقانون، والعمل على تنزيل المبادئ الواردة في الدستور التي لها ارتباط بتخليق المرفق العام من قبيل الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة...
فعالم اليوم هو عالم المنافسة الشديدة، وبالتالي لا يمكن للمغرب الذي هو جزء من هذا العالم أن يقوى على مجابهة هذا التطور الحاصل بإدارة تسودها مجموعة من الممارسات والتصرفات المنافية لأخلاقيات المهنة، الأمر الذي يستوجب تبني مقاربة شاملة، تهدف إلى تقوية وتثمين الأخلاقيات بالإدارة العمومية المغربية، عن طريق تعزيز الإجراءات الوقائية والزجرية والتحسيسية، وتوعية المواطن (سواء كان موظفا أو مرتفقا) بأهمية القيم الأخلاقية داخل الإدارة العمومية، باعتبارها المنطلق الأساسي لخلق الإطار الأخلاقي الملائم من أجل وظيفة عمومية فعالة. وهذا لن يتحقق إلا من خلال:
-التركيز على مؤسسة الأسرة كمؤسسة مرجعية في التنشئة الاجتماعية، وإعطاء نموذج القدوة الصالحة، وذلك بتفادي كل أشكال التناقض الممكن حصولها بين التوجهات التربوية والممارسة السلوكية الميدانية. فالبناء الأخلاقي يحتاج إلى صقل النفوس وتدريب الجوارح والممارسة اليومية واليقظة الدائمة مع نظام المجتمع ومؤسساته الدينية والثقافية، حتى تكتسب الأخلاق الفاضلة.
-إدراج التربية على تخليق الحياة بصفة عامة، كمادة ضمن المناهج التعليمية، تعزيزا لشعور الناشئة بالمسؤولية وبحقوق المواطنة، والدخول كذلك في حوار واسع وصريح ومتواصل مع كافة الأطراف التي يعنيها الأمر،لاستقصاء وجهات نظرهم واطلاعهم على الأهداف البعيدة للإجراءات المقترحة. وبالتالي كسب دعمها للمشروع، بغية إشاعة المبادئ والقيم الأخلاقية التي ينبغي أن يلتزم بها الفرد سواء داخل العمل أو خارجه.
-تقوية دور المجتمع المدني في تخليق الحياة العامة، وإشراكمختلف الفاعلين الاجتماعيين في عملية التخليق الإداري ، بما في ذلك الهيئات الاستشارية العامة في قطاع الوظيفة العمومية (اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء والمجلس الأعلى للوظيفة، إضافة إلى النقابات المهنية..)، باعتبارهم مطالبين معا بمواكبة الحركة وإعطاء المثل والقدوة وتطوير الوظيفة العمومية سواء فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بها، أو فيما يخص حقوق وواجبات الموظف.
-الرقي بالموارد البشرية إلى مستوى المهنية، نظرا لما يمكن أن تلعبه المهنية من دور في تحصين الموظف من كل انحراف أخلاقي يمس بسمعته وسمعة الإدارة، باعتبارها أداة فعالة للرقي بمدارك العاملين نحو القيم والمبادئ المثالية.
دون أن ننسى الاهتمام بالجانب الإنساني للموظف، من خلال إعادة النظر في سياسة الأجور ونظام الحوافز والحماية الاجتماعية، بشكل يتماشى مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكونها تساهم في الرفع من معنويات الموظف وفي حمايته من اللجوء إلى الأساليب الملتوية والسلوكات الخاطئة.
وفي المقابل أيضا، ينبغي تشديد الرقابةوتفعيل دورها وخاصة على الإدارات العمومية التي لها علاقة بالمرتفقين، وألا يقتصر عمل الجهاز الرقابي على اكتشاف الأخطاء، بل ينبغي أن يساهم في مساعدة الإدارة في تصحيح أخطائها، وبالتالي في تحقيق أهدافها.
علاوة على ذلك، ينبغي أيضا تحيين النصوص المتعلقة بواجبات والتزامات الموظف الأخلاقية والمهنيةولاسيما منها تلك المحددة في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، أو بعض الأنظمة الأساسية الخاصة ببعض الهيئات من موظفي الدولة (القضاة ، الأطباء ...) إذ نجد البعض منها أصبح متجاوزا بفعل ما أصبحت تعرفه الإدارة من مستجدات، زيادة على أن تطور المجتمعات وبروز حاجيات لا يمكن تلبيتها إلا بواسطة قوانين تتماشى مع هذه المستجدات، كل ذلك يعجل بضرورة تحيين النصوص القانونيةالمتعلقة بالوظيفة العمومية بشكل يتماشى مع ما يعرفه المجتمع والإدارة من تطور، خاصة فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي .على اعتبار أن أول واجبات المرفق العام الالتزام بأخلاقيات المهنة، وأن يخدم المواطنين بإخلاص ونزاهة على النحو الذي يقتضيه الاختيار الديمقراطي في دولة الحق والقانون، والالتزام بالمواطنة تعزيزا لانفتاح الإدارة على محيطها وترسيخا لحكامة جيدة.