إن الانتصارات التي حققها نادي قضاة المغرب منذ تأسيسه لا تتمثل أهميتها فقط فيما يجنيه من مكتسبات آنية مرحلية ، بل فيما يؤسس له من ثقافة جديدة وممارسة متجددة يمتد تأثيرها إلى عمق مستقبل السلطة القضائية بالمغرب. فالنادي عند تأسيسه وجد نفسه مواجها بفراغ ساحة الفعل القضائي المطلبي من أي سوابق نضالية مُؤسَّس لها من فاعلين قضائيين سبقوه، ومحاطا بضيق المفاهيم والتمثلات التي قد تكون مؤطرة لهذا الفعل القضائي إلا من نص دستوري جديد عام يحتاج إلى جرأة في الفهم وصدقية في التأويل، لذلك كان هذا الوضع دافعا لأن تلعب الخطوات الأولى للنادي دورا تأسيسيا ومُبدعا لمفاهيم جديدة وأساليب متجددة مُؤطَّرة برؤية مُبتكِـرة وجريئة في البناء المتقدم للأدوات التي ستمكنه من مواصلة مساره المُستقبلي في منحى تقوية دعائم السلطة القضائية بالمغرب.
وهكذا سيلاحظ المتتبع لهذا المسار أن ممارسة النادي إنما يمتد عمقها إلى رسم المعالم المستقبلية للسلطة القضائية وذلك بتحميل النصوص الدستورية الجديدة بمعانيها الملائمة وتجسيد هذه المعاني على مستوى النشاط متعدد الأوجه الذي يتبناه النادي، بما يساعد على تحرير الكثير من المساحات في سياق التدافع المشروع من أجل تشكيل المضمون المستقبلي للسلطة القضائية التي نص عليها الدستور الجديد ويفرض فهما متقدما لمقتضياته، وهذا يجعل الفهم الذي أرساه النادي متحكما بشكل بآخر في تنزيل مضامين الدستور الذي سيكون مؤطرا لمستقبل القضاء والقُضاة.
وفي هذا السياق فقد كان النادي سباقا إلى تنزيل بعض المقتضيات الدستورية التي أقرت عددا من الحقوق والحريات والضمانات لصالح القضاة الذين كان وعيهم بحقيقة المرحلة دافعا لإسراعهم بممارسة هذه الحقوق، وهو في ذلك إنما يسعى إلى الفرض المشروع لتأويله الديمقراطي والمنفتح لهذه المضامين، دون انتظار صدور القوانين التنظيمية المُطبِّقة لها والتي قد لا تكون مواكبة للانتظارات المشروعة لمجتمع القضاة. والنادي إذ يتبنى هذا الخط فإن دوره في تحصين مستقبل السلطة القضائية يتجلى في إحدى الصورتين: إما أن فرض الأمر الواقع بنجاح النادي في انتزاع بعض الحقوق وحسم النقاش العام لصالح رؤيته سيؤدي إلى تكريس القوانين للتأويل الذي سار عليه النادي والاعتراف بالحقوق المنتزعة من طرف القضاة، وهذا انتصار حاسم. وإما لن تكون القوانين مطابقة جزئيا للإيقاع المُرتفع الذي سار عليه النادي فكرا وممارسة، وفي هذه الحالة سيكون هذا الأخير منتصرا كذلك، لأن نشاطه السابق سيكون مُشَـكِّـلا لأرضية صلبة سيواصل عليها تحركه النضالي المستقبلي في اتجاه تحقيق رؤيته المنفتحة للدستور، وهذا سيجعل ملاءمة النصوص لواقع الممارسة المتقدمة التي أرساها النادي أمرا مفروضا ومسألة وقت فقط. وهذا انتصار تحقيقه ممتد في الزمن.
وهكذا يكون الدور التأسيسي لهذه الجمعية كامنا في فهمها المُجَسَّد في مواقفها وممارستها، لأن هذا الفهم هو الذي سيحكم بدرجة أو بأخرى مضمون القوانين التنظيمية المتعلقة بالسلطة القضائية، وبالتبعية فإن مستقبل مفهوم هذه السلطة واستقلاليتها في السياق المغربي سيكون مُوَجَّـهًا بالرؤية المُـؤسِّسَة والممارسة المُبْـدِعَة للنادي.
وفي سبيل التدليل على هذه الاستنتاجات يمكن تحليل العديد من المحطات والمواقف التي يتبين من خلالها انتصار النادي للمستقبل وتجسيده لمنهج التأسيس لفكر وممارسة جديدين:
1. وجود النادي: الانتصار الأول للمستقبل
إن أهمية تأسس نادي قضاة المغرب تتمثل في كونه منعطفا تاريخيا عاكسا لرؤية قطعت مع الماضي الذي كان يجعل القضاة في أغلب الأحيان مجموعة مُتحكم فيها لا تتحرك إلا بالإشارات والتأطير والتوجيه القادم من فوق، لذلك جاءت فكرة النادي باعتبارها إفرازا موضوعيا لتطور الوعي القضائي بأولوية تحصين الذات بإطار حر يضمن للقضاة قوة الاتحاد وحصانة التضامن، في استثمار أمثل للنص الدستوري المُـقِر بحق إنشاء الجمعيات المهنية.
وقد تجسد ربح رهان المستقبل في هذه الخطوة باستحضار كونها جاءت استباقا لما قد ينجم عن التأويل الارتدادي للدستور عبر تنزيله المتخلف عن مسايرة حقيقة المرحلة التي تبرز الحاجة الملحة للقضاة في التنظيم الحر، وقطعا للطريق على "التخريجات" التي تريد إفراغ التطور الدستوري من مضمونه بإعادة تكريس واقع "القطب الوحيد" الذي لن يكون إلا قناة لتصريف الرؤية التحكمية التي امتدت لزمن قبل صدور الدستور المُجَدِّد لسنة 2011.
وهكذا فوجود النادي سيشكل بوصلة لتحديد الاتجاه نحو المستقبل وتعيين نقط الارتباط به والعيش في كنف التأسيس له، باستمرار تبني الرؤية التي تبتغي التطوير والتغيير لا المحافظة وتكريس واقع التخلف.
2. لغة الاحتجاج: التحصين الميداني للمستقبل
قوة الأفعال دائما أشد من "التنظير" والكلام والمزايدات اللفظية، لذلك كان النادي منذ التأسيس حاسما في ممارسة الاحتجاج الميداني والتبني المبدئي لخيار الإضراب باعتبارهما وسيلتين لإعلان المطالب والمواقف ورفض ما يمس استقلال السلطة القضائية وهيبتها، وهذا التبني إنما يستند إلى تأويل ديمقراطي للدستور عبر تحميل الحق الدستوري للقضاة في التعبير والانتماء الجمعوي المعاني الملائمة والمتعارف عليها في التجارب المُقارنة. وبهذا قطع النادي الطريق على كل محاولة للتفكير في إفراغ هذه الحقوق من مضامينها التي كان يمكن أن تتم عبر تسييجها بقيود أو عرقلتها بمحظورات تكرس فهما مُتخلفا للنص. أما الآن فقد أصبحت هاتين المُكنتين مُكتسبات مُكرَّسة بقوة الواقع والتأويل المتقدم للدستور والاستناد المُؤَسَّس دستوريا إلى مقتضيات المواثيق الدولية، ومُحصَّنة حاضرا ومُستقبلا كأدوات في يد القضاة لمواجهة كل وضعٍ ماسٍّ باستقلال سلطتهم وهيبتها.
3. الانسحاب المؤسِّس لثقافة اللاخضوع
إن انسحاب نادي قضاة المغرب من الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، لا تتجلى أبعاده فقط فيما استند إليه من رؤية متكاملة للحكم على هذا الحوار في شكله ومضمونه، بل إن الأهم هو ما أسس له من رؤية تعكس الشخصية القضائية التي ينبغي تتسم بالوضوح والقوة في المواجهة ، لأن الانسحاب شكل عنوانا للمواجهة بين القضاة ووزارة العدل التي أشرفت على الحوار، وهذه الجرأة في التموقع على الجانب النقيض من الوزارة يعد صورة معبرة عن تراجع هيمنتها على القطاع وعدم قدرة السلطة التنفيذية على فرض استمرار تغولها على القضاء. ثم إن الانسحاب يأخذ أبعادا أعمق، لأن هذا الحوار يتجاوز في منطلقاته ومآلاته وزارة العدل ليمس الدولة بمفهومها العميق، فهو حوار الدولة وليس وزارة العدل فقط، فكان الانسحاب إذن تنبيها إلى ضرورة إحلال القضاء المكانة الملائمة داخل الدولة باعتباره سلطة تجد منطلقها في الدستور، وهذا لا يتلاءم مع الأدوار الثانوية التي أُرِيدَ للنادي أن يلعبها في الحوار. فدور القضاة ينبغي أن يكون محوريا في أي نقاش حول أي إصلاح أو قانون يمس سلطتهم، خاصة وأن المرحلة انتقالية وتدبيرها سيمتد تأثيره إلى المستقبل.
4. أسلوب الفضح والتجسيد العملي لمبدأ التضامن
سار النادي على طريق المواجهة منذ البداية عبر فضح محاولات التدخل والتأثير والإهانات والاعتداءات التي تصدر عن جهات متعددة، ويكون ضحيتها قضاة. إذ تعاقبت الحالات التي وقف فيها النادي رافضا لهذه الانتهاكات عبر الوقفات التضامنية والبيانات التنديدية التي تفضح واقعا مريرا يعاني منه أعضاء السلطة القضائية.
إن قوة هذا النهج تتمثل في تمتين قيم التضامن بين القضاة، فالقاضي لم يعد وحيدا في مواجهة الانتهاكات التي تطاله والتي مكن النادي الرأي العام من الاطلاع عليها وإدراك حجمها وخطورتها ومصادرها المتعددة، وفي هذا أداة لردع المتطاولين على سلطة القضاء وفضحهم، وضمانة لتقوية مناعة القضاة في مواجهة هذا الوضع المرفوض. فهذه هي الطريقة الوحيدة الآن المتاحة بين أيديهم لتحصين استقلالهم ورد الاعتبار لأنفسهم في ظل تقاعس المسؤولين القضائيين والدولة في أحيان كثيرة عن القيام بواجب تطبيق القانون ومواجهة منتهكي حرمة السلطة القضائية.
5. مذكرة برؤية مستقبلية
إن الدفاع عن استقلال السلطة القضائية ينبغي أن يكون مؤطرا بمرجعية ومنطلقات واضحة ورؤية مفصلة، ويبدو أن هذا الرهان قد ربحه النادي من خلاله تجسيده لمبدأ المساهمة المؤسسة والفعالة في كل نقاش حول كل ما يمس مجال اهتمامه. ومن هذا المنطلق صاغ قضاة هذه الجمعية مذكرة بالمبادئ التفصيلية التي ينبغي أن تحكم مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالسلطة القضائية بمثابة تصور قابل للإغناء والتطوير. وما يهمنا في هذا السياق هو التأكيد على أن هذه المذكرة كانت مبدعة في التجاوب مع متطلبات النقاش المرحلي حول هذا القانون فقط، بل تعدته لتسطر العديد من المبادئ، التي وإن كانت في تقديري الشخصي مستبعدة التنزيل في السياق السياسي والمؤسساتي السائد الذي يروم استمرار التحكم، فإنها تؤسس لرؤية واضحة تتجه نحو المطالبة بالأخذ بمبدأ استقلال السلطة القضائية بأقصى مضامينه عبر غلق كل المداخل التي قد تكون قناة للمس بهذا الاستقلال أو تمثل ثغرة تتيح التأثير والتوجيه والتحكم في القضاء.
وفي هذا الإطار تأتي العديد من المطالب المبدئية من قبيل التأكيد على ضرورة انتخاب الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لدى نفس المحكمة، وإنشاء مجلس للدولة يتموقع على رأس هرم القضاء الإداري بالمغرب، وقبله وخارج هذه المذكرة التبني الصريح لمطلب إشراف القضاة على الانتخابات. وفي اعتقادي فإن الغاية من تسطير هذه المطالب في هذه المرحلة ليس هو تحقيقها الآني بالضرورة، بل تشكيل أرضية مطلبية نضالية صلبة تمثل أساسا للتحرك المستقبلي للنادي، فهي استشراف للمستقبل واستباق لمعارك ينبغي أن تُخاض في سبيل تحقيق الاستقلال التام للسلطة القضائية. وهذا يعكس وعيا متقدما وحرصا ظاهرا على المضي بمطلب الاستقلال إلى أقصاه الممكن.
هذه بعض الخيارات التي تُظهر حرض النادي على الانتصار للمستقبل والسير في طريق منظوره الاستشرافي التي يتيح له ربح الوقت في كسب المطالب، عبر تبني ممارسة جرئية مُحرَّكة بوعي تام بحقيقة التغيير الذي يجب أن تعرفه السلطة القضائية، وهذا يجعل ممارسة النادي تهيء الأرضية الملائمة التي سيُنزل عليها مضمون السلطة القضائية بما يجعل الواقع سابقا على النص ومؤثرا فيه ومتحكما في تحديد طريقة تطبيقه، لأن النصوص القانونية مهما كانت متقدمة فإن قيمة تأثيرها الواقعي لا تتحدد إلا بدرجة استيعابها فكرا وممارسة من طرف المُخاطبين بها ، لأن الواقع دائما أقوى من النص، وتطور النص ذاته إنما يفترض تعبيره عن تطور الواقع الذي أفرزه. فالدستور الجديد جاء عاكسا لتطورات سياسية واجتماعية واقتصادية سبقته، وقياسا فالقوانين التنظيمية للسلطة القضائية ينبغي أن تأتي عاكسة لمستوى تطور واقع القضاء بالمغرب ومسايِرة لما عبر عنه القضاة من رقي الفكر والممارسة من خلال نادي قضاة المغرب.
إن الأفكار الأكثر قدرة على الصمود هي تلك التي تكون مبنية على أسس واضحة ومتفلتة في منطلقاتها من سجن ردود الفعل المواكبة للتفاصيل المرحلية العارضة التي تتغير تمظهراتها بتعاقب الزمن وتباين السياقات، لهذا كانت مواقف النادي أكثر ثبات ووضوح وقدرة على الصمود، على عكس ما عبر عنه بعض الفاعلين الآخرين من تناقض المواقف وتضارب التوجهات بما يعكس رؤية مرتبكة غير موجهة بمبدأ ولا مرجعية منسجمة.
إن ما قيل سابقا عن نادي قضاة المغرب يمكن تمديده بدرجة ما إلى باقي الجمعيات المهنية للقضاة. لأن قوة ممارسة النادي كانت دافعة للعديدين من أجل مراجعة بعض مسلماتهم وتليين بعضٍ من محددات تموقعهم. لهذا فإن مستقبل السلطة القضائية رهين بمشاركة الجميع وسيادة الاحترام بين الكل، فتعدد الجمعيات يعد وضعا مساعدا على استمرار تطوير الممارسة والفكر ما دام هذا التعدد يعكس تيارات حقيقية تجسد تباينا مبدئيا في الفهم والرؤية وهذا هو الملاحظ ظاهريا الآن، فالتنوع يتيح المقارنة التي تعتبر أسلوبا علميا لتقييم صحة النتائج وتكوين الاستنتاجات، بما يساعد على تكريس السير في الاتجاه السليم وتصحيح الأخطاء التي لا يسلم منها أي عمل بشري.