أصبح إصلاح منظومة العدالة موضوع الساعة ليس فقط بالنسبة للعاملين في القطاع المعنيين بالإصلاح بل تعداه إلى كافة الفاعلين الوطنيين سياسيين، حقوقيين، أكادميين بل وحتى مواطنين عاديين. لما لا وإصلاح العدالة مطلب الإقتصادي قبل الحقوقي وهاجس المواطن العادي قبل الصحافي. وما دام أن الوقت هو وقت الإصلاح ووقت الحوار وإبراز المطالب والرؤى فلا يكاد يوم يمر دون أن نسمع أو نقرأ مواقف ومطالب من مسألة ما من مسائل هذا الإصلاح وقطاع ما من قطاعات هذه المنظومة المترامية الإطراف.
وإذا كان القضاة هم ركيزة الإصلاح والعمود الفقري للمنظومة ككل، فلا عجب أن يسُتأثروا بنصيب الأسد من النقاش القانوني والقضائي وتختلف بشأنهم الرؤى أحيانا كثيرة وتكون محل إجماع وطني أحيانا أخرى. وإذا كانت نقط الإجماع لا تحتاج إلى كثير نقاش ولا إلى محاولة كل طرف إبراز صحة ورجاحة موقفه ما دام الجميع متفق بخصوصها ويكون هذا الإجماع في حد ذاته دليل صدقها ورجاحتها مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة. فإن مسائل الخلاف تحتاج إلى توضيح الرؤيى وإبراز الأساس القانوني والواقعي لكل موقف في ربط دائم للإصلاح المنشود والأهداف المسطرة، وتكون المساهمة في النقاش مستحبة بل واجبة وبإدلاء الكل بدلوه يتضح الصواب من الخطأ والراجح من الضعيف.
ومن بين هذه المواضيع التي ليست محل إجماع المتدخلين مطلب الرفع من سن الولوج الى القضاء، رغم أن الإتجاه السائد سواء إعلاميا أو حتى داخل دهاليز الحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة هو الداعي للرفع من هاته السن. ويسوغ القائلين بهذا الإتجاه مجموعة من المبررات أهمها ضرورة أن يتوفر للقضاة من النضج ما يخولهم القيام بجسام المهام الملقاة على عاتقهم واكتساب خبرة كافية من الحياة تؤهلهم لفهم الإشكالات والخلافات التي ستعرض عليهم. فما ما مدى رجاحة هذا الرأي ؟ وهل الرفع من سن الولوج إلى القضاء يتوافق مع أهداف الإصلاح المنشود خاصة فيما يخص النجاعة القضائية متمثلة في سرعة البت في الخصومات وجودة الأحكام شكلا ومضمونا ؟
لقد كان من اهتمام فقهاء الإسلام بالقضاء وحرصهم على تولية هذه المسؤولية لمعادن الرجال وخيرة القوم أن صاغوا مجموعة من الشروط التي لابد أن يستجمعها من يريد أو يراد له أن يتقلد هذه المسؤولية ومن أهمها سبعة شروط هي البلوغ، العقل، الاسلام، الذكورة، العدالة، الإجتهاد وسلامة الحواس.
والبلوغ الذي يهمنا في هذا المقام لكونه مرتبط بالسن، وهو الحد الأدنى من العمر الذي يجعل المرء مكلفا دينيا ودنيويا ويكون أهلا لتدبر الأفعال التي يقوم بها وأهلا للمحاسبة عليها، وهو ما يقابله في التشريعات المعاصرة بالأهلية والتي باستكماله تكون جميع تصرفات الشخص منتجة لآثارها القانونية.
ومما لا جدال فيه أن البلوغ في الإسلام والأهلية في التشريعات المعاصرة تكتسب للشخص منذ انتهاء مرحلة الصغر والطفولة وتبتدئ في منتصف العقد الثاني من عمره غالبا منذ السن السادسة عشر كما هو المثال في فرنسا، أو الثامنة عشر كما هو الحال في المغرب وفي أبعد تقدير في السن العشرون أو الثانية والعشرون في بعض الدول التي تشترط سن أكبر. وتطبيقا لهذا الشرط فإن ولوج القضاء في الإسلام يجوز لحديث السن مادام مكتسبا لأهليته ومستجمعا لباقي الشروط التي صاغها علماء الإسلام، كما أن كبر السن عند هؤلاء يدخل من باب الوقار والهيبة ، فهو شرط كمال فقط وليس شرط وجوب.
ومن التجارب التي طبعت تاريخ القضاء في الإسلام نجد العديد من الوقائع تتبث أن القضاء أسند لحديثي السن ولم ينتقص ذلك شيئا من قضائهم وتحملهم للأمانة التي حملوها بصدق واخلاص، ومن بين هذه الوقائع تولية الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اليمن وهو حديث السن وقوله في ذلك :" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقلت يا رسول الله إنك لتبعتني وأنا حديث السن لا علم لي بكثير من القضاء فضرب صدري وقال اذهب فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فقال فما أعيا علي قضاء."، كما روي أن الخليفة المأمون قلد يحيى بن أكثم قضاء البصرة ، وكان ابن ثماني عشرة سنة ، فطعن بعض الناس في ولايته لحداثة سنه فكتب إليه المأمون كم سن القاضي . فأجاب يحيى بقوله أنا في سن عتاب بن أسيد حين ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم على مكة، وهذا الأخير صحابي جليل ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم على مكة وبقي أميرا عليها أن توفي رضي الله عنه في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
ففي فرنسا يتم اختيار القضا, بناء على ثلاثة أصناف من المباريات: الصنف الأول والذي يصطلح عليه بالمباراة الأولى premier concours وهي مباراة مفتوحة في وجه الطلبة والصنف الثاني وهي المباراة الثانية deuxième concours وهي مفتوحة في وجه الموظفين الذين لا يتجاوز عمرهم أربعين سنة، والمباراة الثالثة troisième concours وهي مباراة مفتوحة في وجه الاشخاص الذين يتوفون على ثمان سنوات من الخبرة دون أن يتجاوز عمرهم أربعين سنة.
وتشكل المباراة الأولى أهم مورد للقضاة في فرنسا وهي لا تشترط حدا أدنى من السن بل العكس من ذلك تماما تشترط حدا أعلى وهو سبعة وعشرون سنة حيث شكلت نسبة هذه الفئة في فوج سنة 2011 63،04 % ، وفي فوج سنة 2012 ارتفعت إلى 72،17 %، وتراوح معدل السن في فوج سنة 2011 بين 22 سنة كحد أدنى وثلاثين سنة كحد أعلى ومتوسط العمر محدد في 25 سنة، وبالنسبة لفوج 2012 فبلغ الحد الأدنى 23 سنة و الحد الأعلى 31 سنة ومعدل العمر خمسة وعشرون سنة.
ونفس النظام المعمول به في فرنسا نجد له مثيلا في العديد من البلدان الأوربية منها بلجيكا، البرتغال، اسبانيا وإيطاليا، وحتى في ألمانيا فإن القضاة يتم اختيارهم من بين الطلبة المتفوقين في كليات الحقوق دون أي اعتبار للسن.
وإن كانت بعض الأنظمة خاصة الأنكلوساكسونية منها لا تأخد بنظام المباراة المفتوحة في وجه الطلبة بل يتم تعيينهم أو انتخابهم من بين قدماء الممارسين للمهن القانونية كالمحاماة مثلا فإن ذلك لا يكون اعتبارا للسن بل ليكون القاضي قد اكتسب خبرة وتجارب وصقل معلوماته القانونية في الممارسة ولا علاقة لذلك بالنضج والشخصية التي يتغنى بها من يدافع عن رفع سن الولوج إلى القضاء في بلادنا. كما أن هذه التجربة لا تخلوا من عيوب ونواقص بل ومنتقدة في مجموعة من جوانبها.
على هذا الأساس ارتأينا الإشارة إلى عنصرين اثنين لا يجادل اثنان في أهميتهما القصوى وإلزامية تمكن القضاة منهما وأنه لا اصلاح بدونهما وكل المجهودات التي بدلت وستبدل ستذهب لا محالة مهب الريح إن هما اختلا في قضاة اليوم قبل قضاة الغد وهما التمكن من اللغات الأجنبية والإلمام بالتكنولوجيات الحديثة خاصة تكنولوجيا المعلوميات.
وقد دأبت، منذ وقت ليس بالهين، العديد من مؤسسات تكوين القضاة في العالم بالإهتمام بتدريس اللغات الحية للقضاة خلال فترة التكوين، ففي فرنسا مثلا يشمل برنامج تكوين القضاة فيها وحدة البعد العالمي للعدالة dimension international de la justice وتشمل هذه الوحدة على مسلك اللغات والحضارات وتشمل اللغة الأنجليزية كمادة اجبارية إضافة إلى لغات اختيارية هي الألمانية الإسبانية، الإيطالية والعربية، وفي اليونان يضم التكوين تدريس أربع لغات أجنبية هي الفرنسية، الأنجليزية، الألمانية والإطالية. ونفس القاعدة تنطبق على معظم إن لم نقل جل البلدان.
وفي المغرب فالملاحظ أن تدريس اللغات الأجنبية رغم أهميته لا يزال ضعيفا حيث يقتصر فقط على تعريب نص غالبا من الفرنسية إلى العربية وهذا ينعكس سلبا على مستوى القضاة فيما يخص التمكن من اللغات الأجنبية، مما يؤثر سلبا على نجاعة القضاء، وإن كنا لا نتوفر على الأرقام إلا أن تجربتا القضائية المتواضعة خاصة في فترة التكوين أكدت أن القضاة الشباب هم أكثر الماما باللغات الأجنبية وأكثر استيعابا لها من زملائهم المتقدمين في السن بل أن الإلمام باللغات الأجنبية مرتبط بالسن فكلما كان القاضي شابا كلما كان أكثر الماما بها وأكثر استيعابا لها والعكس صحيح.
إن المطالبة بالرفع من سن الولوج إلى القضاء بدعوى الهيبة وقوة الشخصية سيكون على حساب التمكن من اللغات الأجنبية والتي لا تقل أهمية من الهيبة وقوة الشخصية بل إن اكتساب هذه اللغات سيمكن القضاة من قوة الشخصية والهيبة اكثر من عامل السن فالشاب المتمكن من لغة أجنبية، واحدة على الأقل، بلا شك سيكون اكثر ثقة في نفسه واكثر انفتاحا ومتوفرا على ثقافة أكبر، من القاضي الذي، وإن كان ضالعا في السن، فإن عقدة النقص ستظل تلاحقه مما سيؤثر سلبا على شخصيته وعلى هيبته.
كما أن هذه التكنولوجيا هي الدواء والحل لمجموعة من الأعطاب والنواقص التي تشوب القضاء المغربي، وهذه من المسلمات التي لا جدال فيها.
إلا أن هذه التكنولوجيا الحديثة ليست في متناول أي كان بل لابد لها من أطر متوفرة على المؤهلات الضرورية من دراية بها والإلمام الجيد بها وسهولة في استعمالها، لكن الملاحظ هو أنه رغم الامكانيات الهائلة التي رصدت لمكننة المحاكم وتجهيزها بالتكنولوجيا الحديثة فإن ذلك لم يواكبه نفس المجهود في تكوين القضاة والعاملين بهذه التجهيزات.
وحتى نبقى مرتبطين بموضوعنا فإن تكوين القضاة يشمل مادة يتيمة في المعلوميات لا تتعدى مدة التكوين فيها الساعتين خلال السنتين المرصودتين لتكوين الملحقين القضائيين، مما يجعلنا نقول أن وزارة العدل بصفتها الجهة المشرفة على التكوين لا تخصص أي تكوين معلوماتي للقضاة وإنما تعول على مجهوداتهم الفردية ومعارفهم المسبقة بها.
وغياب هذا التكوين يجعل استشمار تكنولوجيا المعلوميات في خدمة القضاء ونجاعته مرهونا باعتبارات شخصية للقضاة وعلى هذا الأساس ومن خلال تجربتنا المتواضعة في مخالطة القضاة نستنتج أن رغم تجهيز وزارة العدل المحاكم بالحواسيب وآلات الطباعة فإن القضاة الشباب فقط هم من يقوم باستغلال هذه المكننة في طباعة الأحكام، أما غيرهم فهذه الآلات لا تعدوا أن تكون ديكورات موضوعة فوق المكاتب يكسوها الغبار فيما يظل القاضي وفيا للقلم والورق وقد صادفنا في تمريننا بالمحاكم من القضاة من تسلم الحاسوب من وزارة العدل ليسلمه لإبنه أو احد أفراد عائلة لا لشيء إلا أنه لا يعرف كيف يستعمله ولسان حاله يقول لقد هرمنا عن هذه الآلات التي لا نفقه فيها شيء.
واستغلال هذه التكنولوجيا له علاقة مباشرة بسن القاضي فكلما كان القاضي أكثر شبابا كان اكثر الماما واستعمال لتكنولوجيا عصره وكلما تقدم في السن كلما خانته هذه التكنولوجيا وظهرت له ككابوس يأرق مضجعه ويعقد عمله عوض تبسيطه وتيسيره.
إن دراسة إيجابيات وسلبيات الرفع من سن الولوج إلى القضاء يجعل كفة السلبيات ترجح على كفة الإيجابيات، وقد حاولنا التدليل لذلك بنقطتين هما اللغات الأجنبية والإلمام بالتكنلوجيات الحديثة مع علمنا الأكيد أن حتى باقي النقط من جرأة وقوة الشخصية باعتبارها صفات لابد أن تتوفر في القاضي ليس أنها فقط غير مرتبطة بالسن لكن أيضا فإن التجربة أثبتت أن الشباب هم أكثر جرأة وقوة للشخصية من غيرهم ولنا اسوة حسنة في قوله صلى الله عليه وسلم "نصرني الشباب وخذلني الشيوخ" كما أن تجربة نادي قضاة المغرب بصفته جمعية مهنية للقضاة استطاعت أن تنفض الغبار على القضاة وتسمع صوتهم، وتتمرد على الأعراف البالية التي كانت سائدة في الثقافة القضائية وترفع من سقف المطالب المرتبطة بإصلاح القضاء وضمان استقلاليته لخير دليل على أن الإصلاح الذي نبتغيه للقضاء لن يتأتى إلا من الشباب وبالشباب والشباب فقط.
وإذا كان القضاة هم ركيزة الإصلاح والعمود الفقري للمنظومة ككل، فلا عجب أن يسُتأثروا بنصيب الأسد من النقاش القانوني والقضائي وتختلف بشأنهم الرؤى أحيانا كثيرة وتكون محل إجماع وطني أحيانا أخرى. وإذا كانت نقط الإجماع لا تحتاج إلى كثير نقاش ولا إلى محاولة كل طرف إبراز صحة ورجاحة موقفه ما دام الجميع متفق بخصوصها ويكون هذا الإجماع في حد ذاته دليل صدقها ورجاحتها مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة. فإن مسائل الخلاف تحتاج إلى توضيح الرؤيى وإبراز الأساس القانوني والواقعي لكل موقف في ربط دائم للإصلاح المنشود والأهداف المسطرة، وتكون المساهمة في النقاش مستحبة بل واجبة وبإدلاء الكل بدلوه يتضح الصواب من الخطأ والراجح من الضعيف.
ومن بين هذه المواضيع التي ليست محل إجماع المتدخلين مطلب الرفع من سن الولوج الى القضاء، رغم أن الإتجاه السائد سواء إعلاميا أو حتى داخل دهاليز الحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة هو الداعي للرفع من هاته السن. ويسوغ القائلين بهذا الإتجاه مجموعة من المبررات أهمها ضرورة أن يتوفر للقضاة من النضج ما يخولهم القيام بجسام المهام الملقاة على عاتقهم واكتساب خبرة كافية من الحياة تؤهلهم لفهم الإشكالات والخلافات التي ستعرض عليهم. فما ما مدى رجاحة هذا الرأي ؟ وهل الرفع من سن الولوج إلى القضاء يتوافق مع أهداف الإصلاح المنشود خاصة فيما يخص النجاعة القضائية متمثلة في سرعة البت في الخصومات وجودة الأحكام شكلا ومضمونا ؟
- السن كشرط لولوج القضاء في منظور الإسلام وبعض التجارب المقارنة
- موقف الشريعة الإسلامية من اشتراط الرفع من السن في الولوج القضاء
لقد كان من اهتمام فقهاء الإسلام بالقضاء وحرصهم على تولية هذه المسؤولية لمعادن الرجال وخيرة القوم أن صاغوا مجموعة من الشروط التي لابد أن يستجمعها من يريد أو يراد له أن يتقلد هذه المسؤولية ومن أهمها سبعة شروط هي البلوغ، العقل، الاسلام، الذكورة، العدالة، الإجتهاد وسلامة الحواس.
والبلوغ الذي يهمنا في هذا المقام لكونه مرتبط بالسن، وهو الحد الأدنى من العمر الذي يجعل المرء مكلفا دينيا ودنيويا ويكون أهلا لتدبر الأفعال التي يقوم بها وأهلا للمحاسبة عليها، وهو ما يقابله في التشريعات المعاصرة بالأهلية والتي باستكماله تكون جميع تصرفات الشخص منتجة لآثارها القانونية.
ومما لا جدال فيه أن البلوغ في الإسلام والأهلية في التشريعات المعاصرة تكتسب للشخص منذ انتهاء مرحلة الصغر والطفولة وتبتدئ في منتصف العقد الثاني من عمره غالبا منذ السن السادسة عشر كما هو المثال في فرنسا، أو الثامنة عشر كما هو الحال في المغرب وفي أبعد تقدير في السن العشرون أو الثانية والعشرون في بعض الدول التي تشترط سن أكبر. وتطبيقا لهذا الشرط فإن ولوج القضاء في الإسلام يجوز لحديث السن مادام مكتسبا لأهليته ومستجمعا لباقي الشروط التي صاغها علماء الإسلام، كما أن كبر السن عند هؤلاء يدخل من باب الوقار والهيبة ، فهو شرط كمال فقط وليس شرط وجوب.
ومن التجارب التي طبعت تاريخ القضاء في الإسلام نجد العديد من الوقائع تتبث أن القضاء أسند لحديثي السن ولم ينتقص ذلك شيئا من قضائهم وتحملهم للأمانة التي حملوها بصدق واخلاص، ومن بين هذه الوقائع تولية الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اليمن وهو حديث السن وقوله في ذلك :" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقلت يا رسول الله إنك لتبعتني وأنا حديث السن لا علم لي بكثير من القضاء فضرب صدري وقال اذهب فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فقال فما أعيا علي قضاء."، كما روي أن الخليفة المأمون قلد يحيى بن أكثم قضاء البصرة ، وكان ابن ثماني عشرة سنة ، فطعن بعض الناس في ولايته لحداثة سنه فكتب إليه المأمون كم سن القاضي . فأجاب يحيى بقوله أنا في سن عتاب بن أسيد حين ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم على مكة، وهذا الأخير صحابي جليل ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم على مكة وبقي أميرا عليها أن توفي رضي الله عنه في عهد الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
- الرفع من سن الولوج الى القضاء في التجارب المقارنة:
ففي فرنسا يتم اختيار القضا, بناء على ثلاثة أصناف من المباريات: الصنف الأول والذي يصطلح عليه بالمباراة الأولى premier concours وهي مباراة مفتوحة في وجه الطلبة والصنف الثاني وهي المباراة الثانية deuxième concours وهي مفتوحة في وجه الموظفين الذين لا يتجاوز عمرهم أربعين سنة، والمباراة الثالثة troisième concours وهي مباراة مفتوحة في وجه الاشخاص الذين يتوفون على ثمان سنوات من الخبرة دون أن يتجاوز عمرهم أربعين سنة.
وتشكل المباراة الأولى أهم مورد للقضاة في فرنسا وهي لا تشترط حدا أدنى من السن بل العكس من ذلك تماما تشترط حدا أعلى وهو سبعة وعشرون سنة حيث شكلت نسبة هذه الفئة في فوج سنة 2011 63،04 % ، وفي فوج سنة 2012 ارتفعت إلى 72،17 %، وتراوح معدل السن في فوج سنة 2011 بين 22 سنة كحد أدنى وثلاثين سنة كحد أعلى ومتوسط العمر محدد في 25 سنة، وبالنسبة لفوج 2012 فبلغ الحد الأدنى 23 سنة و الحد الأعلى 31 سنة ومعدل العمر خمسة وعشرون سنة.
ونفس النظام المعمول به في فرنسا نجد له مثيلا في العديد من البلدان الأوربية منها بلجيكا، البرتغال، اسبانيا وإيطاليا، وحتى في ألمانيا فإن القضاة يتم اختيارهم من بين الطلبة المتفوقين في كليات الحقوق دون أي اعتبار للسن.
وإن كانت بعض الأنظمة خاصة الأنكلوساكسونية منها لا تأخد بنظام المباراة المفتوحة في وجه الطلبة بل يتم تعيينهم أو انتخابهم من بين قدماء الممارسين للمهن القانونية كالمحاماة مثلا فإن ذلك لا يكون اعتبارا للسن بل ليكون القاضي قد اكتسب خبرة وتجارب وصقل معلوماته القانونية في الممارسة ولا علاقة لذلك بالنضج والشخصية التي يتغنى بها من يدافع عن رفع سن الولوج إلى القضاء في بلادنا. كما أن هذه التجربة لا تخلوا من عيوب ونواقص بل ومنتقدة في مجموعة من جوانبها.
- رفع سن الولوج إلى القضاء هل يتلائم مع الأهداف المتوخاة من الإصلاح ؟
على هذا الأساس ارتأينا الإشارة إلى عنصرين اثنين لا يجادل اثنان في أهميتهما القصوى وإلزامية تمكن القضاة منهما وأنه لا اصلاح بدونهما وكل المجهودات التي بدلت وستبدل ستذهب لا محالة مهب الريح إن هما اختلا في قضاة اليوم قبل قضاة الغد وهما التمكن من اللغات الأجنبية والإلمام بالتكنولوجيات الحديثة خاصة تكنولوجيا المعلوميات.
- التمكن من اللغات الأجنيبة ضرورة ملحة في ظل عولمة متنامية:
وقد دأبت، منذ وقت ليس بالهين، العديد من مؤسسات تكوين القضاة في العالم بالإهتمام بتدريس اللغات الحية للقضاة خلال فترة التكوين، ففي فرنسا مثلا يشمل برنامج تكوين القضاة فيها وحدة البعد العالمي للعدالة dimension international de la justice وتشمل هذه الوحدة على مسلك اللغات والحضارات وتشمل اللغة الأنجليزية كمادة اجبارية إضافة إلى لغات اختيارية هي الألمانية الإسبانية، الإيطالية والعربية، وفي اليونان يضم التكوين تدريس أربع لغات أجنبية هي الفرنسية، الأنجليزية، الألمانية والإطالية. ونفس القاعدة تنطبق على معظم إن لم نقل جل البلدان.
وفي المغرب فالملاحظ أن تدريس اللغات الأجنبية رغم أهميته لا يزال ضعيفا حيث يقتصر فقط على تعريب نص غالبا من الفرنسية إلى العربية وهذا ينعكس سلبا على مستوى القضاة فيما يخص التمكن من اللغات الأجنبية، مما يؤثر سلبا على نجاعة القضاء، وإن كنا لا نتوفر على الأرقام إلا أن تجربتا القضائية المتواضعة خاصة في فترة التكوين أكدت أن القضاة الشباب هم أكثر الماما باللغات الأجنبية وأكثر استيعابا لها من زملائهم المتقدمين في السن بل أن الإلمام باللغات الأجنبية مرتبط بالسن فكلما كان القاضي شابا كلما كان أكثر الماما بها وأكثر استيعابا لها والعكس صحيح.
إن المطالبة بالرفع من سن الولوج إلى القضاء بدعوى الهيبة وقوة الشخصية سيكون على حساب التمكن من اللغات الأجنبية والتي لا تقل أهمية من الهيبة وقوة الشخصية بل إن اكتساب هذه اللغات سيمكن القضاة من قوة الشخصية والهيبة اكثر من عامل السن فالشاب المتمكن من لغة أجنبية، واحدة على الأقل، بلا شك سيكون اكثر ثقة في نفسه واكثر انفتاحا ومتوفرا على ثقافة أكبر، من القاضي الذي، وإن كان ضالعا في السن، فإن عقدة النقص ستظل تلاحقه مما سيؤثر سلبا على شخصيته وعلى هيبته.
- تكنولوجيا المعلوميات في خدمة النجاعة القضائية شريطة التوفر على الأطر المؤهلة
كما أن هذه التكنولوجيا هي الدواء والحل لمجموعة من الأعطاب والنواقص التي تشوب القضاء المغربي، وهذه من المسلمات التي لا جدال فيها.
إلا أن هذه التكنولوجيا الحديثة ليست في متناول أي كان بل لابد لها من أطر متوفرة على المؤهلات الضرورية من دراية بها والإلمام الجيد بها وسهولة في استعمالها، لكن الملاحظ هو أنه رغم الامكانيات الهائلة التي رصدت لمكننة المحاكم وتجهيزها بالتكنولوجيا الحديثة فإن ذلك لم يواكبه نفس المجهود في تكوين القضاة والعاملين بهذه التجهيزات.
وحتى نبقى مرتبطين بموضوعنا فإن تكوين القضاة يشمل مادة يتيمة في المعلوميات لا تتعدى مدة التكوين فيها الساعتين خلال السنتين المرصودتين لتكوين الملحقين القضائيين، مما يجعلنا نقول أن وزارة العدل بصفتها الجهة المشرفة على التكوين لا تخصص أي تكوين معلوماتي للقضاة وإنما تعول على مجهوداتهم الفردية ومعارفهم المسبقة بها.
وغياب هذا التكوين يجعل استشمار تكنولوجيا المعلوميات في خدمة القضاء ونجاعته مرهونا باعتبارات شخصية للقضاة وعلى هذا الأساس ومن خلال تجربتنا المتواضعة في مخالطة القضاة نستنتج أن رغم تجهيز وزارة العدل المحاكم بالحواسيب وآلات الطباعة فإن القضاة الشباب فقط هم من يقوم باستغلال هذه المكننة في طباعة الأحكام، أما غيرهم فهذه الآلات لا تعدوا أن تكون ديكورات موضوعة فوق المكاتب يكسوها الغبار فيما يظل القاضي وفيا للقلم والورق وقد صادفنا في تمريننا بالمحاكم من القضاة من تسلم الحاسوب من وزارة العدل ليسلمه لإبنه أو احد أفراد عائلة لا لشيء إلا أنه لا يعرف كيف يستعمله ولسان حاله يقول لقد هرمنا عن هذه الآلات التي لا نفقه فيها شيء.
واستغلال هذه التكنولوجيا له علاقة مباشرة بسن القاضي فكلما كان القاضي أكثر شبابا كان اكثر الماما واستعمال لتكنولوجيا عصره وكلما تقدم في السن كلما خانته هذه التكنولوجيا وظهرت له ككابوس يأرق مضجعه ويعقد عمله عوض تبسيطه وتيسيره.
إن دراسة إيجابيات وسلبيات الرفع من سن الولوج إلى القضاء يجعل كفة السلبيات ترجح على كفة الإيجابيات، وقد حاولنا التدليل لذلك بنقطتين هما اللغات الأجنبية والإلمام بالتكنلوجيات الحديثة مع علمنا الأكيد أن حتى باقي النقط من جرأة وقوة الشخصية باعتبارها صفات لابد أن تتوفر في القاضي ليس أنها فقط غير مرتبطة بالسن لكن أيضا فإن التجربة أثبتت أن الشباب هم أكثر جرأة وقوة للشخصية من غيرهم ولنا اسوة حسنة في قوله صلى الله عليه وسلم "نصرني الشباب وخذلني الشيوخ" كما أن تجربة نادي قضاة المغرب بصفته جمعية مهنية للقضاة استطاعت أن تنفض الغبار على القضاة وتسمع صوتهم، وتتمرد على الأعراف البالية التي كانت سائدة في الثقافة القضائية وترفع من سقف المطالب المرتبطة بإصلاح القضاء وضمان استقلاليته لخير دليل على أن الإصلاح الذي نبتغيه للقضاء لن يتأتى إلا من الشباب وبالشباب والشباب فقط.