بداية وعطفا على مقالة زميلي الاستاذ عبد الكبير طبي ح الذي اثار فيها تخوفات من صميم غيرته على القضاء وعلى استقلاله وعلى المهام الموكولة اليه، ملحا على ضرورة رفع الضغط عليه، و التي كتبها بمناسبة عرض الحكومة لمشروعي تعديل مواد من قانونين أساسيين مهمين يتعلقان بالنظام الاساسي للقضاة والقانون التنظيمي للمجلس الاعلى للسلطة القضائية، على انظار مجلس النواب ، يهدف الأول تعديل المادة 45 ، و يهدف الثاني تعديل المادة 108 مكرر، وهي تعديلات من بين أحريات، حيث اختارت الحكومة تمكين المجلس الأعلى للسلطة القضائية بواسطة المادتين 45 و 108 مكرر، استعمال إجراءات عبرت عنها بعبارة " بالآجال الاسترشادية " للبث في مختلف القضايا المعروضة على قضاة الحكم.
حقا ، لابد من الإعتراف بأن عمر القضايا أمام المحاكم من مختلف درجاتها معضلة لها تداعيات على حقوق ومصالح المتقاضين، ولها آثار كبيرة على عمل القضاة وعلى إنتاجهم وعلى صورة العدالة بصفة عامة لدى الرأي العام.
كما ان تدبير الوقت وعمر الملفات امر يثير التساؤلات، منذ بداية حياة الملفات امام المحاكم الابتدائية والاستئنافية او امام محكمة النقض نفسها ، وهذه التساؤلات في الاتجاهين معا ، اتجاه الاسراع والتسرع المتناهي، او اتجاه بالبطء والتاخيرات التي لا تنتهي، مما يتعين معه البحث عن حلول متعددة الاتجاهات بعيدا عن كل ما من شانه الضغط على القضاة ، لان هؤلاء وهم يمارسون مهامهم بالمحاكم هم وحدهم أصحاب الشأن لأنهم من يجسد السلطة القضائية وليس غيرهم ، كما نصت على ذلك الفقرة 2 من المادة 2 من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
من هنا ، كيف يمكن لكل المتدخلين في العملية القضائية ابداء الرأي و التفكير والاختيار من بين الوسائل ما يعالج الامر المرتبط بالآجال الممكنة للبث في القضايا دون المس بالسلطة التقديرية لقضاة الحكم؟ وهل يحق للمجلس الأعلى للسلطة القضائية كجهاز إداري دستوري، ان يحدد لقضاة الحكم آجالا يتبعونها و تقيدهم بها للبث في القضايا ؟ و ما هي حدود تدخل المجلس الاعلى للسلطة القضائية إن كان الأمر مقبولا منه في نطاف صلاحياته المقررة في نظامه الأساسي ؟ و ما هي خطوط التماس ما بين تنظيم الزمن القضائي و مراقبة عمل القاضي في سلطته تدبير ملف القضية التي يمسك اجراءاتها و يبث فيها و هو العالم وحده بما قد تحتاجه من وقت، وما يفرضه عليه ضمان حق الدفاع للأطراف بما في ذلك الزمن الذي يعتبره ضروريا للمداولة وللتامل ولاصدار الحكم العادل؟ و من يمكنه وضع حد لتماطل بعض أطراف القضايا المعروضة أمام المحاكم لتفادي التعسف في التأخيرات التي تتجاوز احترام الحق في الدفاع وتعرقل أحيانا سير الملفات، هل هو قاضي الحكم بالجلسة ام قاضي لا علاقة له بالجلسة ؟
وفي النهاية نتساءل ما هو الأهم، هل هو احترام سلطة القضاة على ملفات جلساتهم و تفادي المساس باستقلالهم، ام هو إعطاء الصلاحيات للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ليمنح لنفسه حقا لا يمكله، وهو صلاحيا ت دبير مفات المتقاضين بدلا عن قضاة الحكم، أي ندبير الملفات وراء" الآجال الإسترشادية " والتي قد يرى فيها قضاة الحكم توجيها عليهم الالتزام به وقد حاسبون عنه.
ومن المفيد التذكير بما هو مالوف و معلوم ، وهو أن مراقبة قضاة الحكم بخصوص تدبير ملفات جلساتهم، هي عملية مراقبة جارية ومتواصلة منذ سنوات، رغم انها عملية رقابة غير شرعية بالطبع، يمارسها المسؤولون القضايئون على القضاة بالمحاكم بحثا لبلوغ المرتبة الالولى لعدد الملفات المحكومة عند آخر السنة، أي أن الهاجس هو هاجس الأرقام والتي تفرض على العديد من القضاة في أحيان كثيرة، وتحت إلحاح رؤساء المحاكم وسابقا بإلحاح من وزارةالعدل، استعمال أحكام عدم القبول لأتفه الأسباب، أو تقليص الآجال على حساب حقوق الاطراف لدرجة تضع القضاة في مكان "خصوم في الدعوى "، وهم ليسوا بخصوم.
و لمحاولة بحث متواضع، و محاولة تقديم بعض الاجوبة أرى التاكيد و الإشارة إلى ما يلي:
اولا : إن التقاضي في اعتقادي له كلفتين، كلفة إقتصادية مالية، وكلفة زمنية ومعنوية لا مادية ، وأن أية قراءة لإحداهما لابد أن يَحسب الحساب الدقيق للكلفة الأخرى ، وبالتالي فتدبير زمن وعمر القضايا أمام المحاكم بما فيها محكمة النقض، لا يؤخذ مجردا عن جوانب تلك القضايا المالية والنفعية وقيمتها المعنوية ومكانتها لدى المواطن الذي يلتجئ للقضاء لبلوغ حقه ، ولا بد من مراعاة أن أية سرعة أو تسرع قد يَضع حدا لأمله في القضاء وثقته في المحاكم وهذه خسارة أكبر من أية خسارة أخرى، فضلا أن السرعة والتدخل في العملية القضائية من حيث الزمن خارج سلطة القاضي الذي يحكم ، فيه مجازفة كذلك بالحالة الإقتصادية للمتقاضي الذي يتحمل أعباء المصاريف القضائية المرتفعة ويتحمل تفقير العدالة في ميزانيات الدولة، وقد يضطر إلى صرف مبالغ باهضة أخرى للطعن في أحكام عدم القبول ، و إثقال كاهل المحاكم العليا فقط لان المتقاضي عوقب إبتدائيا بتدبير للزمن، خارج نطاق ما يوجد بين يدي قضاة الحكم من وسائل التصرف والتقدير ومن معلومات عن نواياهم في التقاضي والدفاع، ومن هنا فإن أي تدبير لمصير القضايا بالمحاكم دون اعتبار كل المؤثرات، لن يكون حلا بل سيمثل ازمة إضافية لازمات العدالة.
ثانيا: انه قبل " فرض تدابية استرشادية " كما عبر عنها مشروع تعديل المادتين أعلاه، يتعين القيام بدراسة حقيقية و مفصلة ميدانية وعلى الأقل لفترة العشر سنوات الأخيرة بعد تأسيس السلطة القضائية وبعد استقلال النيابة العامة وبعد دستور 2011، للتعرف على تطور حياة المساطر والدعاوى وحياة الملفات بمختلف المحاكم، سواء كانت مساطر مدنية أو زجرية، للوصول إلى معطيات وحقائق قد تساعد على القول هل الزمن الذي يستغرقه كل ملف فعلا هو العائق الأساسي في تعطيل مسار العدالة وحقوق المتقاضين أم هو إشكال ثانوي، وهل ما يشتكي منه القضاة ويثقل كواهلهم هو مشكل عمر الملفات وتاخيرها لعدة جلسات، أم أن هناك مشاكل أخطر وأصعب أمامهم يتعين الإنكباب على دراستها و حلها كما سياتي ذكرها بعد؟.
ثالثا، أنه يتعين استطلاع راي القضاة وراي المحامين، وراي موظفي كتابة الضبط وراي المتقاضين ، سواء رايهم بالنسبة لطول المساطر او رايهم للحلول المقترحة قبل تقديم التعديلين، وحتى يكون مصدر كل تعديل وخلفياته هو راي الفاعلين ممن لهم كل الاطلاع على تاثير البطء وتاخير القضايا على النجاعة المسطرية والقضائية وعلى مصالح الأطراف، والذين لهم كل الدراية بكيفية ضمان فعالية العدالة، وحتى لا يفرض المشرع او يقترح المجلس الأعلى للسلطة اللقضائية حلولا من الاعلى دون استشارات واسعة مع المعنيين، أي مع ممن يعيشون تطبيقها وآثارها ويتحملون عواقبها.
رابعا، ان مشروعي تعديل المادتين 108 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، و المادة 45 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة المعروضين على لجنة العدل والتشريع الان، لم يعززا باية احصائيات تبين عمرا قياسيا و مرجعيا للملفات امام المحاكم، فلقد كان ولابد ان يتم استجماع بيانات من عدد من الملفات من طبيعة مختلفة، ومن اختصاصات محاكم مختلفة، ومن درجات للمحاكم مختلفة، اعتبارا أن عمر الملف امام المحكمة الابتدائية العادية ليس هو عمره امام المحاكم الادارية او التجارية وليس هو عمره امام محاكم الاستيناف وامام محكمة النقض ؟ وان عمر الملف الجنائي ليس هو عمره في ملف جنحي عادي…….الخ، ومن هنا فمثل هذه الاحصائيات متوفرة، و هي ضرورية لمعرفة مدى اهمية قبول تعديل المادتين 45 و 108 من المشروعين أعلاه، ومن شانها كذلك التعرف على ما وراء وما بعد عدد الجلسات وعدد التاخيرات التي تتم في كل نوع من أنواع الملفات، وما هي أسباب التاخيرات ودوافعها، حتى يكون التقييم مبني على مؤشرات حقيقية لتساعد في النهاية على اختيار الحل او الحلول المناسبة دون ارتجال.
خامسا ، كان من الواجب تحديد " تعريف ومدلول الإجراءات الاسترشادية " ، ومعرفة طبيعتها وحدودها وآثارها وعواقبها كما أشارت إليها المادتان 108 و 45 أعلاه في المشروعين، وبيان هويتها هل هي توجيهات للقضاة؟ هل هي تعليمات مسطرية اليهم؟، هل هي جزء من مسطرة للتقاضي عُرفية غير منصوص عليها؟، أم هي جزء من مدونة الأخلاقيات؟ أم هي معيار يتوقف مصير و حياة القاضي المهنية وترقيته على تنزيلها و تطبيقها؟
ومن هنا، فإن عدم بيان مدلول وطبيعة التدابير الاسترشادية وتحديدها بدقة ليتعرف عليها القضاة أولا والمتقاضي ثانيا والمحامين ثالثا، تعني في النهاية انها إجراءات تهدف اضعاف السلطة التقديرية لقضاة الحكم من كل الدرجات، في حين أنه إذا نزعت من القضاة سلطتهم التقديرية سيصبحون كالمكلفين بمهام من قبل رؤسائهم، أو كالقياد في الدوائر والمقاطعات، ولذلك لا بديل للعدالة من وجود قضاة يتمتعون بسلطة تقديرية هي من يرشدهم قبل غيرهم وهي التي تحصنهم من أي تدخل، وهي من يُبرر مُساءلتهم أو مُحاسبتهم بَعْدِيا في إجراءاتهم و في قراراتهم من قبل قضاة أعلى منهم...
سادسا، أشارت المادة 108 في صياغتها بالمشروع إلى عبارة " مما لا يتنافى مع مبدا استقلال السلطة القضائية" وهذا مؤشر اساسي و هو وحده اولوية لابد من استحضارها في اي اتجاه اراده المجلس الاعلى للسلطة القضائية الذي سيصبح له الحق في تحديد الآجال ، ففي الوقت الذي يعرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية ان الاستقلال امر نسبي في حد ذاته ولا زال يثير تساؤلات حول مداه و ما يحفه من مخاطر التاثير عليه والتدخل في صلاحياته، فإن المشروع يقنن في نفس الوقت" أمر التدخل في استقلال قضاة الحكم " ، لأن المشروع سَلم للمجلس الأعلى مفتاح باب التدخل من نافذة ترشيد الزمن القضائي ووضْعِ مقاييس للقضاة لتحديد عمر القضايا، في حين كان عليه ان يظل في منئ عن كل تدخل قد يستعمل بشكل معاكس لغاياته و لاهدافه سواء من قبل المتقاضين او من قبل القضاة أو من قبل الدفاع ، وكان على المجلس الاعلى للسلطة القضائية ان يركز على قواعد اكبر واقوى بالنسبة المتقاضين اي ان يؤكد على ان كل تحديد لوقت المسطرة أو تسريع لها قد يؤثر بشكل او بآخر على مبادئ الانصاف والمساواة والحكم العادل وعلى الحق في الدفاع، ولابد من الابتعاد عنها و رفضها حماية للامن القضائي و ضمانا للمزيد في الثقة في القضاء وفي القضاة .
سابعا ، من الاكيد ومن الطبيعي ان التكلفة الاقتصادية للتقاضي وللدعاوى و للملفات و للجلسات وللاجراءات، تكلفة لابد من وضعها في الاعتبار وهذا ما يدعو السلطة التنفيذية البحث في مأساة ثقل التكاليف الملقاة على عاتق المتقاضين من خلال عدد الرسوم القضائية التي تفرضه كل مسطرة منذ انطلاق الدعوى الى نهايتها، وهذا وحده لم يسبق فيه اي تفكير من قبلها ومن قبل المشرع، مما يفرغ شعار مجانية التقاضي من كل حقيقة ليبقى خيالا وضربا من والاوهام، و هذا الاشكال لا يمكن ان يتم اغفاله لما تثار مسالة تحديد الزمن والاجال في التقاضي ، ولا شك أن القضاة وهم يدبرون عمر الملفات يساحضرون، الخسارة التي تمثلها أحكام عدم القبول أو الرفض لا على المتقاضين وحدهم، بل على الخزينة العامة وعلى مردود العدالة اللامادي وهو الأهم و المتمثل في نشر ثقافة القانون والمساواة والمواطنة و مُثُلِ التقاضي بحسن النية ومساعدة العدالة ....
ثامنا، ان المجلس الاعلى للسلطة القضائية الذي سيصبح بفعل تعديل المادتين 108 و 45 أعلاه، صاحب سلطة على ملفات الدعاوى القضائية وعلى القضاة انفسهم بالتبعية، من خلال التدخل في تحديد الزمن في التقاضي وفي سقف حياة الملفات، يَعلم حقيقة الأوضاع التي تلعب أخطر الأدوار في بطء البث في الملفات، وتؤدي إلى تراكمها في كتابات الضبط وبمكاتب القضاة، وتخلق الإختناق بالمحاكم، وتشتت الإنتظارات التي يترقبها المتقاضون، ويدفع أحيانا وعند قرب نهاية كل سنة إلى اللعب بالنار لتصفية الملفات بسرعة على حساب سلامة المسطرة وحقوق المتقاضين من أجل رفع أرقام القضايا المحكومة وتخفيض عدد المُخَلفات، والتخوف هو ان تزيد هذه الظاهرة عنفا عندما تتدخل إرادة خارجة عن إرادة القاضي وعن تقديره لواقع وحالة كل قضية وخصوصياتها ومدى حاجتها لزمن قصير او طويل زحاجتها لبحث او خبرة او غيرهما...
تاسعا ، إن المنتظر من المشرع ومن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الإنكباب قبل وضع مقاييس استرشادية أمام القضاة وتقييدهم بها، الإنكباب على حل ألغاز البطء الحقيقية التي هي السبب في تمطيط عمر المساطر بالمحاكم، والامثلة على ذلك كثيرة يمكن الاشارة لبعضها منها : معضلة قلة عدد القضاة بالمحاكم ومن نتائجها انها تفرض على كل قاضي ان يكون قاضيا للتلبس صباحا وقاضيا استعجاليا زوالا وقاضيا للتحقيق ظهرا وقاضيا للتنفيذ عصرا لدرجة ان القضاة اصبحوا يُشَبهُون بالروبوهات، ومعضلة تبليغ الاستدعاءات في مجال الجنحي والجنائي، ومعضلة تدبير المساطر الغيابية واجراءاتها، ومعضلة مساطر تعيين الوكيل للبحث عن طرف او عن اطراف، ومعضلة اجوبة الادارات العمومية عن الدعاوى، ومعضلة تعليق الملفات الاجال الطويلة خلال الخبرات، ومعضلة تعاون القنصليات والسفارات مع المساطر التي توجه اليه لتدبيرها مع المصالح القضائية الاجنبية، ومعضلة الاستدعاءات بواسطة البريد المضمون، ومعضلة تبليغ الشهود في المساطر الزجرية ، ومعضلة طول مساطر الابحاث التمهيدية، ومعضلة طول الاعتقال الاحتياطي ، ومعضلة قصور التشريع وتعطيل إصدار القوانين بما فيها تنزيل مبادئ الدستور ( حق الاضراب، الدفع بعدم دستورية القوانين،. مجلس الدولة….)
لابد كذلك من الانكباب على الاصلاحات الجوهرية التشريعية والتنظيمية والإجرائية امام محكمة النقض، ومن ذلك وجوب تقديم المذكرات باسباب النقض في القضايا الجنائية عوض جعلا اختيارية وهي ذات الاهمية والاولوية على القضايا الجنحية التي تعد المذكرة فيها واجبة ، وفرض استدعاء وتوصل دفاع الاطراف حماية للحق في الدفاع، وفرض تبليغ مستنتجات ومذكرات النيابة العامة لاطراف الدعوى من الطالبين او من المطلوبين، وتحديد اجل اعادة النظر، وتوسيع نطاق القضايا التي يمكن لمحكمة النقض التصدي لجوهرها، ومنع حضور النيابة العامة عند بالمداولة مع المستشارين بالغرف، ونشر قرارات محكمة النقض ووضعها بين يدي كل قاضي وفي كل محكمة لخلق تنسيق في الاحكام مع عمل اعلى هية قضائية، وليتمكن من متابعة الإجتهاد وتوجهاته والتعرف على تحول اتجاهه، ولكي يتم ترسيخ العدالة الترقبية ضمانا للامن القضائي….
عاشرا ، من الثابت حقوقيا وفقهيا أن مسألة الآجال المعقولة للتقاضي وللبث في الملفات من قبل القضاة، تعتبر جزء رئيسيا من منطومة المحاكمة العادلة، وقاعدة من قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، وإشكال يبقى أولا وأخيرا للقضاة أمر تدبيره وللإجتهاد القضائي رسم معاييره و الحلول الملائمة له.
وهذا ما فرض على المجلس الأعلى للسلطة القضائية تزويد المشرع بالفتاوى وبالآراء وبالحلول الضرورية وكما هو منصوص عليه بالدستور وبالقانون التنظيمي للمجلس، وبالمقترحات التي ينبغي إدخالها على المساطر و قواعد الإجراءات لما في ذلك من تدليل للصعوبات امام القضاة في عملهم و ضمان جودة قراراتهم وفي حماية لقواعد المحاكمة العادلة، كما تفرض على النيابة العامةمراجعة تدبيرها لمعايير ممارسة الدعوى العمومية انظلاقا من مساطر الإيداع بالسجون ومساطر الحفظ ومنهجية التكييف وترشيد حق الملاءمة التي تستفيد منه، واستدراك الصعوبات التي تعرقل عملها و تعرقل عمل الضابطة القضائية وتؤثر في النهاية على مقومات السياسة الجنائية وخصوصا في سياسة العقاب، مع إعادة الظر في منهجية ممارسة الطعون التلقائية من قبلها في الاحكام والقرارات خصوصا امام محكمة النقض وهو ما تعيبه على المتقاضين أحيانا عندما يطعنون بالنقض في القرارات.
فلنفكر كلنا، كيف نضع حقوق المتقاضين وحرياتهم ومراكزهم فوق كل اعتبار، و امام كل مراجعة او اصلاح للقانون وللاجراءات، فالمغرب يحتاج لقضاء يؤصل للامن القانوني والقضائي، و المغاربة في حاجة الى قضاء مستقل يسهل عليهم الالتجاء اليه وله القدرة والسلطة على تدبير ملفاته باستقلال وباخلاق دون تدخل و لا توجيه ولا تاثير، و المغرب في حاجة الى محاكم يمكن الالتجاء اليها دون تكاليف ادارية او مالية ودون بحث عن الوسطاء.
والاكيد ان المجلس الاعلى للسلطة القضائية هو أولى و اول المؤسسات التي عليها العمل والدفاع في هذا الاتجاه
على العقل القضائي، ان يشعر بالارتياح بارتفاع عدد القضايا امام القضاة، فهي حالة صحية تنم عن ثقافة استعمال القانون بدل العنف والقوة وعدالة الانتقام والشارع عند المواكن، لكن على العقل القضائي مهمة اصعب، وهي الا يترك القضاة وحدهم امام خطر اعداد الملفات كما هو علية حال المحاكم الجنائية مثلا التي تعيش فوضىجراء المئات من الملفات في كل جلسة، لدرجة لم يعد امام قضاتها الا تاخير الملفات لكل من يطلب التاخير لكي لا يَغرقُوا في منافشة عشرات الملفات بالمداولة وحتى يوفروا لها القليل من الوقت مما يفرضه الفحص لدقيق في قضايا جرائم كبيرة ودقيقة، وهو وضاقع نجده كذلك امام المحاكم التجارية والادارية وغيرهما، ومن هنا فالاولوية تفرض رفع عدد القضاة وعدد موظفي كتابة الضبط ، حتى نقلل من العبء الثقيل على القضاة افرادا او جماعات، ومع كل الاسف فهذا وضع يعرفه كل مسؤول وكل رئيس محكمة وكل وكيل وكل نقيب وكل قاضي وكل محامي....، ولكنهم كلهم يقفون عاجزين لان السلطات لم تقرر انهاء تداعيات وضع لن ينفع فيه فقط تدبير وقت الملفات وتحديد آجال البث فيها...، والامل ان يكشف تقرير المجلس الأعلى للسلطة لقضائية في آخر السنة الحلول التشريعية والمالية والبشرية لتحدي التعقيدات التي يئن تحتها واقع القضاء بالمغرب والممارسة القضائية اليومية بالمحاكم من كل المستويات../..
حقا ، لابد من الإعتراف بأن عمر القضايا أمام المحاكم من مختلف درجاتها معضلة لها تداعيات على حقوق ومصالح المتقاضين، ولها آثار كبيرة على عمل القضاة وعلى إنتاجهم وعلى صورة العدالة بصفة عامة لدى الرأي العام.
كما ان تدبير الوقت وعمر الملفات امر يثير التساؤلات، منذ بداية حياة الملفات امام المحاكم الابتدائية والاستئنافية او امام محكمة النقض نفسها ، وهذه التساؤلات في الاتجاهين معا ، اتجاه الاسراع والتسرع المتناهي، او اتجاه بالبطء والتاخيرات التي لا تنتهي، مما يتعين معه البحث عن حلول متعددة الاتجاهات بعيدا عن كل ما من شانه الضغط على القضاة ، لان هؤلاء وهم يمارسون مهامهم بالمحاكم هم وحدهم أصحاب الشأن لأنهم من يجسد السلطة القضائية وليس غيرهم ، كما نصت على ذلك الفقرة 2 من المادة 2 من القانون التنظيمي رقم 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
من هنا ، كيف يمكن لكل المتدخلين في العملية القضائية ابداء الرأي و التفكير والاختيار من بين الوسائل ما يعالج الامر المرتبط بالآجال الممكنة للبث في القضايا دون المس بالسلطة التقديرية لقضاة الحكم؟ وهل يحق للمجلس الأعلى للسلطة القضائية كجهاز إداري دستوري، ان يحدد لقضاة الحكم آجالا يتبعونها و تقيدهم بها للبث في القضايا ؟ و ما هي حدود تدخل المجلس الاعلى للسلطة القضائية إن كان الأمر مقبولا منه في نطاف صلاحياته المقررة في نظامه الأساسي ؟ و ما هي خطوط التماس ما بين تنظيم الزمن القضائي و مراقبة عمل القاضي في سلطته تدبير ملف القضية التي يمسك اجراءاتها و يبث فيها و هو العالم وحده بما قد تحتاجه من وقت، وما يفرضه عليه ضمان حق الدفاع للأطراف بما في ذلك الزمن الذي يعتبره ضروريا للمداولة وللتامل ولاصدار الحكم العادل؟ و من يمكنه وضع حد لتماطل بعض أطراف القضايا المعروضة أمام المحاكم لتفادي التعسف في التأخيرات التي تتجاوز احترام الحق في الدفاع وتعرقل أحيانا سير الملفات، هل هو قاضي الحكم بالجلسة ام قاضي لا علاقة له بالجلسة ؟
وفي النهاية نتساءل ما هو الأهم، هل هو احترام سلطة القضاة على ملفات جلساتهم و تفادي المساس باستقلالهم، ام هو إعطاء الصلاحيات للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ليمنح لنفسه حقا لا يمكله، وهو صلاحيا ت دبير مفات المتقاضين بدلا عن قضاة الحكم، أي ندبير الملفات وراء" الآجال الإسترشادية " والتي قد يرى فيها قضاة الحكم توجيها عليهم الالتزام به وقد حاسبون عنه.
ومن المفيد التذكير بما هو مالوف و معلوم ، وهو أن مراقبة قضاة الحكم بخصوص تدبير ملفات جلساتهم، هي عملية مراقبة جارية ومتواصلة منذ سنوات، رغم انها عملية رقابة غير شرعية بالطبع، يمارسها المسؤولون القضايئون على القضاة بالمحاكم بحثا لبلوغ المرتبة الالولى لعدد الملفات المحكومة عند آخر السنة، أي أن الهاجس هو هاجس الأرقام والتي تفرض على العديد من القضاة في أحيان كثيرة، وتحت إلحاح رؤساء المحاكم وسابقا بإلحاح من وزارةالعدل، استعمال أحكام عدم القبول لأتفه الأسباب، أو تقليص الآجال على حساب حقوق الاطراف لدرجة تضع القضاة في مكان "خصوم في الدعوى "، وهم ليسوا بخصوم.
و لمحاولة بحث متواضع، و محاولة تقديم بعض الاجوبة أرى التاكيد و الإشارة إلى ما يلي:
اولا : إن التقاضي في اعتقادي له كلفتين، كلفة إقتصادية مالية، وكلفة زمنية ومعنوية لا مادية ، وأن أية قراءة لإحداهما لابد أن يَحسب الحساب الدقيق للكلفة الأخرى ، وبالتالي فتدبير زمن وعمر القضايا أمام المحاكم بما فيها محكمة النقض، لا يؤخذ مجردا عن جوانب تلك القضايا المالية والنفعية وقيمتها المعنوية ومكانتها لدى المواطن الذي يلتجئ للقضاء لبلوغ حقه ، ولا بد من مراعاة أن أية سرعة أو تسرع قد يَضع حدا لأمله في القضاء وثقته في المحاكم وهذه خسارة أكبر من أية خسارة أخرى، فضلا أن السرعة والتدخل في العملية القضائية من حيث الزمن خارج سلطة القاضي الذي يحكم ، فيه مجازفة كذلك بالحالة الإقتصادية للمتقاضي الذي يتحمل أعباء المصاريف القضائية المرتفعة ويتحمل تفقير العدالة في ميزانيات الدولة، وقد يضطر إلى صرف مبالغ باهضة أخرى للطعن في أحكام عدم القبول ، و إثقال كاهل المحاكم العليا فقط لان المتقاضي عوقب إبتدائيا بتدبير للزمن، خارج نطاق ما يوجد بين يدي قضاة الحكم من وسائل التصرف والتقدير ومن معلومات عن نواياهم في التقاضي والدفاع، ومن هنا فإن أي تدبير لمصير القضايا بالمحاكم دون اعتبار كل المؤثرات، لن يكون حلا بل سيمثل ازمة إضافية لازمات العدالة.
ثانيا: انه قبل " فرض تدابية استرشادية " كما عبر عنها مشروع تعديل المادتين أعلاه، يتعين القيام بدراسة حقيقية و مفصلة ميدانية وعلى الأقل لفترة العشر سنوات الأخيرة بعد تأسيس السلطة القضائية وبعد استقلال النيابة العامة وبعد دستور 2011، للتعرف على تطور حياة المساطر والدعاوى وحياة الملفات بمختلف المحاكم، سواء كانت مساطر مدنية أو زجرية، للوصول إلى معطيات وحقائق قد تساعد على القول هل الزمن الذي يستغرقه كل ملف فعلا هو العائق الأساسي في تعطيل مسار العدالة وحقوق المتقاضين أم هو إشكال ثانوي، وهل ما يشتكي منه القضاة ويثقل كواهلهم هو مشكل عمر الملفات وتاخيرها لعدة جلسات، أم أن هناك مشاكل أخطر وأصعب أمامهم يتعين الإنكباب على دراستها و حلها كما سياتي ذكرها بعد؟.
ثالثا، أنه يتعين استطلاع راي القضاة وراي المحامين، وراي موظفي كتابة الضبط وراي المتقاضين ، سواء رايهم بالنسبة لطول المساطر او رايهم للحلول المقترحة قبل تقديم التعديلين، وحتى يكون مصدر كل تعديل وخلفياته هو راي الفاعلين ممن لهم كل الاطلاع على تاثير البطء وتاخير القضايا على النجاعة المسطرية والقضائية وعلى مصالح الأطراف، والذين لهم كل الدراية بكيفية ضمان فعالية العدالة، وحتى لا يفرض المشرع او يقترح المجلس الأعلى للسلطة اللقضائية حلولا من الاعلى دون استشارات واسعة مع المعنيين، أي مع ممن يعيشون تطبيقها وآثارها ويتحملون عواقبها.
رابعا، ان مشروعي تعديل المادتين 108 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، و المادة 45 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة المعروضين على لجنة العدل والتشريع الان، لم يعززا باية احصائيات تبين عمرا قياسيا و مرجعيا للملفات امام المحاكم، فلقد كان ولابد ان يتم استجماع بيانات من عدد من الملفات من طبيعة مختلفة، ومن اختصاصات محاكم مختلفة، ومن درجات للمحاكم مختلفة، اعتبارا أن عمر الملف امام المحكمة الابتدائية العادية ليس هو عمره امام المحاكم الادارية او التجارية وليس هو عمره امام محاكم الاستيناف وامام محكمة النقض ؟ وان عمر الملف الجنائي ليس هو عمره في ملف جنحي عادي…….الخ، ومن هنا فمثل هذه الاحصائيات متوفرة، و هي ضرورية لمعرفة مدى اهمية قبول تعديل المادتين 45 و 108 من المشروعين أعلاه، ومن شانها كذلك التعرف على ما وراء وما بعد عدد الجلسات وعدد التاخيرات التي تتم في كل نوع من أنواع الملفات، وما هي أسباب التاخيرات ودوافعها، حتى يكون التقييم مبني على مؤشرات حقيقية لتساعد في النهاية على اختيار الحل او الحلول المناسبة دون ارتجال.
خامسا ، كان من الواجب تحديد " تعريف ومدلول الإجراءات الاسترشادية " ، ومعرفة طبيعتها وحدودها وآثارها وعواقبها كما أشارت إليها المادتان 108 و 45 أعلاه في المشروعين، وبيان هويتها هل هي توجيهات للقضاة؟ هل هي تعليمات مسطرية اليهم؟، هل هي جزء من مسطرة للتقاضي عُرفية غير منصوص عليها؟، أم هي جزء من مدونة الأخلاقيات؟ أم هي معيار يتوقف مصير و حياة القاضي المهنية وترقيته على تنزيلها و تطبيقها؟
ومن هنا، فإن عدم بيان مدلول وطبيعة التدابير الاسترشادية وتحديدها بدقة ليتعرف عليها القضاة أولا والمتقاضي ثانيا والمحامين ثالثا، تعني في النهاية انها إجراءات تهدف اضعاف السلطة التقديرية لقضاة الحكم من كل الدرجات، في حين أنه إذا نزعت من القضاة سلطتهم التقديرية سيصبحون كالمكلفين بمهام من قبل رؤسائهم، أو كالقياد في الدوائر والمقاطعات، ولذلك لا بديل للعدالة من وجود قضاة يتمتعون بسلطة تقديرية هي من يرشدهم قبل غيرهم وهي التي تحصنهم من أي تدخل، وهي من يُبرر مُساءلتهم أو مُحاسبتهم بَعْدِيا في إجراءاتهم و في قراراتهم من قبل قضاة أعلى منهم...
سادسا، أشارت المادة 108 في صياغتها بالمشروع إلى عبارة " مما لا يتنافى مع مبدا استقلال السلطة القضائية" وهذا مؤشر اساسي و هو وحده اولوية لابد من استحضارها في اي اتجاه اراده المجلس الاعلى للسلطة القضائية الذي سيصبح له الحق في تحديد الآجال ، ففي الوقت الذي يعرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية ان الاستقلال امر نسبي في حد ذاته ولا زال يثير تساؤلات حول مداه و ما يحفه من مخاطر التاثير عليه والتدخل في صلاحياته، فإن المشروع يقنن في نفس الوقت" أمر التدخل في استقلال قضاة الحكم " ، لأن المشروع سَلم للمجلس الأعلى مفتاح باب التدخل من نافذة ترشيد الزمن القضائي ووضْعِ مقاييس للقضاة لتحديد عمر القضايا، في حين كان عليه ان يظل في منئ عن كل تدخل قد يستعمل بشكل معاكس لغاياته و لاهدافه سواء من قبل المتقاضين او من قبل القضاة أو من قبل الدفاع ، وكان على المجلس الاعلى للسلطة القضائية ان يركز على قواعد اكبر واقوى بالنسبة المتقاضين اي ان يؤكد على ان كل تحديد لوقت المسطرة أو تسريع لها قد يؤثر بشكل او بآخر على مبادئ الانصاف والمساواة والحكم العادل وعلى الحق في الدفاع، ولابد من الابتعاد عنها و رفضها حماية للامن القضائي و ضمانا للمزيد في الثقة في القضاء وفي القضاة .
سابعا ، من الاكيد ومن الطبيعي ان التكلفة الاقتصادية للتقاضي وللدعاوى و للملفات و للجلسات وللاجراءات، تكلفة لابد من وضعها في الاعتبار وهذا ما يدعو السلطة التنفيذية البحث في مأساة ثقل التكاليف الملقاة على عاتق المتقاضين من خلال عدد الرسوم القضائية التي تفرضه كل مسطرة منذ انطلاق الدعوى الى نهايتها، وهذا وحده لم يسبق فيه اي تفكير من قبلها ومن قبل المشرع، مما يفرغ شعار مجانية التقاضي من كل حقيقة ليبقى خيالا وضربا من والاوهام، و هذا الاشكال لا يمكن ان يتم اغفاله لما تثار مسالة تحديد الزمن والاجال في التقاضي ، ولا شك أن القضاة وهم يدبرون عمر الملفات يساحضرون، الخسارة التي تمثلها أحكام عدم القبول أو الرفض لا على المتقاضين وحدهم، بل على الخزينة العامة وعلى مردود العدالة اللامادي وهو الأهم و المتمثل في نشر ثقافة القانون والمساواة والمواطنة و مُثُلِ التقاضي بحسن النية ومساعدة العدالة ....
ثامنا، ان المجلس الاعلى للسلطة القضائية الذي سيصبح بفعل تعديل المادتين 108 و 45 أعلاه، صاحب سلطة على ملفات الدعاوى القضائية وعلى القضاة انفسهم بالتبعية، من خلال التدخل في تحديد الزمن في التقاضي وفي سقف حياة الملفات، يَعلم حقيقة الأوضاع التي تلعب أخطر الأدوار في بطء البث في الملفات، وتؤدي إلى تراكمها في كتابات الضبط وبمكاتب القضاة، وتخلق الإختناق بالمحاكم، وتشتت الإنتظارات التي يترقبها المتقاضون، ويدفع أحيانا وعند قرب نهاية كل سنة إلى اللعب بالنار لتصفية الملفات بسرعة على حساب سلامة المسطرة وحقوق المتقاضين من أجل رفع أرقام القضايا المحكومة وتخفيض عدد المُخَلفات، والتخوف هو ان تزيد هذه الظاهرة عنفا عندما تتدخل إرادة خارجة عن إرادة القاضي وعن تقديره لواقع وحالة كل قضية وخصوصياتها ومدى حاجتها لزمن قصير او طويل زحاجتها لبحث او خبرة او غيرهما...
تاسعا ، إن المنتظر من المشرع ومن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الإنكباب قبل وضع مقاييس استرشادية أمام القضاة وتقييدهم بها، الإنكباب على حل ألغاز البطء الحقيقية التي هي السبب في تمطيط عمر المساطر بالمحاكم، والامثلة على ذلك كثيرة يمكن الاشارة لبعضها منها : معضلة قلة عدد القضاة بالمحاكم ومن نتائجها انها تفرض على كل قاضي ان يكون قاضيا للتلبس صباحا وقاضيا استعجاليا زوالا وقاضيا للتحقيق ظهرا وقاضيا للتنفيذ عصرا لدرجة ان القضاة اصبحوا يُشَبهُون بالروبوهات، ومعضلة تبليغ الاستدعاءات في مجال الجنحي والجنائي، ومعضلة تدبير المساطر الغيابية واجراءاتها، ومعضلة مساطر تعيين الوكيل للبحث عن طرف او عن اطراف، ومعضلة اجوبة الادارات العمومية عن الدعاوى، ومعضلة تعليق الملفات الاجال الطويلة خلال الخبرات، ومعضلة تعاون القنصليات والسفارات مع المساطر التي توجه اليه لتدبيرها مع المصالح القضائية الاجنبية، ومعضلة الاستدعاءات بواسطة البريد المضمون، ومعضلة تبليغ الشهود في المساطر الزجرية ، ومعضلة طول مساطر الابحاث التمهيدية، ومعضلة طول الاعتقال الاحتياطي ، ومعضلة قصور التشريع وتعطيل إصدار القوانين بما فيها تنزيل مبادئ الدستور ( حق الاضراب، الدفع بعدم دستورية القوانين،. مجلس الدولة….)
لابد كذلك من الانكباب على الاصلاحات الجوهرية التشريعية والتنظيمية والإجرائية امام محكمة النقض، ومن ذلك وجوب تقديم المذكرات باسباب النقض في القضايا الجنائية عوض جعلا اختيارية وهي ذات الاهمية والاولوية على القضايا الجنحية التي تعد المذكرة فيها واجبة ، وفرض استدعاء وتوصل دفاع الاطراف حماية للحق في الدفاع، وفرض تبليغ مستنتجات ومذكرات النيابة العامة لاطراف الدعوى من الطالبين او من المطلوبين، وتحديد اجل اعادة النظر، وتوسيع نطاق القضايا التي يمكن لمحكمة النقض التصدي لجوهرها، ومنع حضور النيابة العامة عند بالمداولة مع المستشارين بالغرف، ونشر قرارات محكمة النقض ووضعها بين يدي كل قاضي وفي كل محكمة لخلق تنسيق في الاحكام مع عمل اعلى هية قضائية، وليتمكن من متابعة الإجتهاد وتوجهاته والتعرف على تحول اتجاهه، ولكي يتم ترسيخ العدالة الترقبية ضمانا للامن القضائي….
عاشرا ، من الثابت حقوقيا وفقهيا أن مسألة الآجال المعقولة للتقاضي وللبث في الملفات من قبل القضاة، تعتبر جزء رئيسيا من منطومة المحاكمة العادلة، وقاعدة من قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، وإشكال يبقى أولا وأخيرا للقضاة أمر تدبيره وللإجتهاد القضائي رسم معاييره و الحلول الملائمة له.
وهذا ما فرض على المجلس الأعلى للسلطة القضائية تزويد المشرع بالفتاوى وبالآراء وبالحلول الضرورية وكما هو منصوص عليه بالدستور وبالقانون التنظيمي للمجلس، وبالمقترحات التي ينبغي إدخالها على المساطر و قواعد الإجراءات لما في ذلك من تدليل للصعوبات امام القضاة في عملهم و ضمان جودة قراراتهم وفي حماية لقواعد المحاكمة العادلة، كما تفرض على النيابة العامةمراجعة تدبيرها لمعايير ممارسة الدعوى العمومية انظلاقا من مساطر الإيداع بالسجون ومساطر الحفظ ومنهجية التكييف وترشيد حق الملاءمة التي تستفيد منه، واستدراك الصعوبات التي تعرقل عملها و تعرقل عمل الضابطة القضائية وتؤثر في النهاية على مقومات السياسة الجنائية وخصوصا في سياسة العقاب، مع إعادة الظر في منهجية ممارسة الطعون التلقائية من قبلها في الاحكام والقرارات خصوصا امام محكمة النقض وهو ما تعيبه على المتقاضين أحيانا عندما يطعنون بالنقض في القرارات.
فلنفكر كلنا، كيف نضع حقوق المتقاضين وحرياتهم ومراكزهم فوق كل اعتبار، و امام كل مراجعة او اصلاح للقانون وللاجراءات، فالمغرب يحتاج لقضاء يؤصل للامن القانوني والقضائي، و المغاربة في حاجة الى قضاء مستقل يسهل عليهم الالتجاء اليه وله القدرة والسلطة على تدبير ملفاته باستقلال وباخلاق دون تدخل و لا توجيه ولا تاثير، و المغرب في حاجة الى محاكم يمكن الالتجاء اليها دون تكاليف ادارية او مالية ودون بحث عن الوسطاء.
والاكيد ان المجلس الاعلى للسلطة القضائية هو أولى و اول المؤسسات التي عليها العمل والدفاع في هذا الاتجاه
على العقل القضائي، ان يشعر بالارتياح بارتفاع عدد القضايا امام القضاة، فهي حالة صحية تنم عن ثقافة استعمال القانون بدل العنف والقوة وعدالة الانتقام والشارع عند المواكن، لكن على العقل القضائي مهمة اصعب، وهي الا يترك القضاة وحدهم امام خطر اعداد الملفات كما هو علية حال المحاكم الجنائية مثلا التي تعيش فوضىجراء المئات من الملفات في كل جلسة، لدرجة لم يعد امام قضاتها الا تاخير الملفات لكل من يطلب التاخير لكي لا يَغرقُوا في منافشة عشرات الملفات بالمداولة وحتى يوفروا لها القليل من الوقت مما يفرضه الفحص لدقيق في قضايا جرائم كبيرة ودقيقة، وهو وضاقع نجده كذلك امام المحاكم التجارية والادارية وغيرهما، ومن هنا فالاولوية تفرض رفع عدد القضاة وعدد موظفي كتابة الضبط ، حتى نقلل من العبء الثقيل على القضاة افرادا او جماعات، ومع كل الاسف فهذا وضع يعرفه كل مسؤول وكل رئيس محكمة وكل وكيل وكل نقيب وكل قاضي وكل محامي....، ولكنهم كلهم يقفون عاجزين لان السلطات لم تقرر انهاء تداعيات وضع لن ينفع فيه فقط تدبير وقت الملفات وتحديد آجال البث فيها...، والامل ان يكشف تقرير المجلس الأعلى للسلطة لقضائية في آخر السنة الحلول التشريعية والمالية والبشرية لتحدي التعقيدات التي يئن تحتها واقع القضاء بالمغرب والممارسة القضائية اليومية بالمحاكم من كل المستويات../..