لقد أناط المشرع المغربي على غرار العديد من التشريعات للقضاء الإداري سلطة البت في المنازعات التي تكون فيها الادارة العامة بإعتبارها صاحبة سيادة وسلطان طرفا في الدعوى يقاضيه فيها الطرف الخاص أو العام، وإذا كان للإدارة كسلطة عامة حق التعديل أو إنهاء العقود الإدارية، فإن هذه السلطة تبقى خاضعة لرقابة القاضي الإداري الذي يعد المختص الأصيل بالبت في منازعات الإدارة بشكل عام.
إن الفصل في المنازعات بشكل عام والمنازعات الإدارية على الخصوص غالبا يستغرق وقتا وجهدا ويستنزف طاقة المتقاضين في تتبع الإجراءات والمساطر التي يمكن أن تتصف بالبطىء ووتتميز المناقشة فيها بالعلنية هذا الذي يمكن أن يهدد أحيانا مصالح المتنازعين، لذلك أضحى التحكيم حاليا وسيلة فعالة في إنهاء الخلافات التي قد تنشأ عنها جميع أنواع المنازعات، لكنها وسيلة يراها البعض في مجال المنازعات الإدارية إعتداء وتدخل في الإختصاص الأصيل للقاضي الاداري ومخالفة لقواعد الاختصاص الامرة التي تلزم المتعاقدين مع الإدارة باللجوء للقضاء الإداري في حال نشوب نزاع معها، ويجد مبدأ حظر لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم أساسه في مبدأ احترام قواعد الاختصاص القضائي بشكل عام.
وقد عرفت المجتمعات القديمة التحكيم وإتخذت منه أداة لحسم المنازعات التي نشأت بين أفرادها على أساس من الأعراف والتقاليد في تلك العصور، وقد تحدث الفيلسوف الإغريقي أرسطو عن التحكيم فقال: إن القاضي يحكم وهو ينظر إلى القانون، أما المحكم فهو يحكم وهو ينظر إلى العدالة "، وهذا الذي يجعل من اللجوء للتحكيم وسيلة تحقق روح القانون وهو العدالة والإنصاف وهي الغاية التي يبتغي المتنازعين تحقيقها وإن خارج مؤسسة القضاء وردهات المحاكم.
ظهرت أهمية التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات وخاصة المنازعات الإدارية في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وذلك تزامنا مع إتجاه الدول إلى الإقتصاد الحر وخوصصة المؤسسات وشركات القطاع العام، وتوجهها نحو تفويت تدبير المرافق العامة عن طريق التدبير المفوض بالخصوص، وإختلفت التشريعات في إعطاء تعريف للتحكيم حسب مقاربتها ونظرتها للوسائل البديلة لفض المنازعات ومنها التحكيم.
فقد عرّف المشرع الفرنسي التحكيم في المادة 1442 من قانون المسطرة المدنية " بأنه اتفاق يتعهد بمقتضاه الأطراف في عقد من العقود بإخضاع المنازعات التي يمكن أن تنشأ بينهم للتحكيم ".
كما عرّفه المشرع المصري في الفقرة الأولى من المادة 10 من القانون رقم 27 لسنة 1994 بأنه: " اتفاق بين الطرفين على الالتجاء الى التحكيم لتسوية بعض أو كل المنازعات التي تنشأ أو يمكن أن تنشأ بينهم بمناسبة علاقة قانونية عقدية كانت أو غير عقدية"[1].
فيما عرّفه المشرع المغربي من خلال الفصل 306 ضمن الباب الثامن من القسم الخامس المعنون بالتحكيم والوساطة الاتفاقية من قانون المسطرة المدنية[2] بأنه: " حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الاطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم"، أما إتفاق أو شرط التحكيم فعرفه بكونه: " إلتزام الاطراف باللجوء إلى التحكيم قصد حل نزاع نشأ أو قد ينشأ عن علاقة قانونية معينة تعاقدية أو غير تعاقدية"، وأضاف في الفقرة الموالية من نفس الفصل أن إتفاق التحكيم "يكتسي شكل عقد تحكيم أو شرط تحكيم". في حين منح تعريفا لعقد التحكيم من خلال الفقرة الأولى من الفصل 314 من ق.م.م بأنه: " الاتفاق الذي يلتزم فيه أطراف نزاع نشأ بينهم بعرض هذا النزاع على هيئة تحكيمية".
ويمتاز التحكيم بعدم خضوعه لأية جهة رسمية، فضلا عن عدم خضوعه لأي قانون غير الذي يختاره المحتكمين، كما يتميز بقلة تكاليفه مقارنة بإجراءات التقاضي أمام محاكم الدولة، ويقابل ذلك بعض مساوئه لعل أبرزها حرمان المتقاضين من الضمانات القضائية.
لكن التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات الإدارية يعرف إشكاليات تتمحور بالأساس حول مدى مشروعيته، ذلك أن الإعتراف به قد يؤدي إلى طمس معالم وأحكام المنازعات الإدارية، وبالتالي خضوع الإدارة للقانون العادي ومنه إلى القضاء العادي، خصوصا في الدول التي تأخذ بازدواجية القانون وتنص بعض أحكامها وقوانينها على حظر اللجوء إلى التحكيم في المنازعات الادارية كما هو الشأن بالنسبة للمغرب قبل صدور القانون 05.08 الذي نسخ مقتضيات التحكيم السابقة في المسطرة المدنية التي كانت تحظر بصريح العبارة التحكيم في المنازعات الادارية.
إن توسيع مجال اللجوء للتحكيم في العقود الادارية - القائمة على عدم تكافؤ العلاقة التعاقدية بين الادارة بإعتبارها سلطة عامة وبين الخواص أي تغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة - يجعل منه وسيلة قد تهدد النظام العام، ذلك أن التعاقد الاداري تستعمل فيه الإدارة الاموال العامة التي لا يجوز التصرف فيها وقرار التحكيم قد يمسها، وبالتالي يمس إستمرارية المرفق العام، لذلك حرمته أغلب التشريعات في هذا المجال، فيما إستثنت تشريعات أخرى بعض المنازعات الادارية التي سمحت باللجوء للتحكيم فيها ومنها التشريع المغربي. إستنادا على ذلك فما مدى مشروعية التحكيم في العقود الإدارية؟ وما هي الإشكاليات التي تحول دون التوسع في التحكيم في مجال العقود الإدارية؟ وإلى أي حد تم تفعيل العلاقة بين القاضي الإداري والتحكيم؟
هذا ما سنحاول دراسته في هذا الموضوع الذي يكتسي الخوض فيه أهمية إستراتيجية في مجال البحث عن وسائل بديلة لفض النزاعات عموما والمنازعات الإدارية على وجه أخص، على أن نقسم هذه الدراسة إلى محورين نخصص الأول للحديث عن مدى مشروعية اللجوء الى التحكيم في منازعات العقود الادارية، فيما نخصص المحور الثاني لدراسة سلطة القاضي الإداري على قرار المحكمين في نزاعات العقود الإدارية.
المحور الأول: مدى إمكانية اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية
لقد قام المشرع صراحة قبل صدور قانون 05.08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية الناسخ لفصول التحكيم في المسطرة المدنية بحظر التحكيم في العقود الادارية[3]، ويمكن تبرير موقف المشرع بشأن حظر اللجوء للتحكيم بخصوص المنازعات الإدارية في أن خضوع الأموال العامة للتصرفات المدنية المختلفة قد يؤدي إلى إعاقة تخصيصه لتحقيق المنفعة العامة أو تعريضه لخطر الضياع أو إلى التسبب في خسائر مادية لخزينة الدولة.
كما يمكن تبرير ذلك بأن اللجوء للتحكيم في هذا المجال- المنازعات الإدارية- الذي ينصب على عمل حيوي للدولة محكوم بضرورة الإستمرارية وبهاجس تحقيق النفع العام قد يرسم معالم واضحة لفقد الثقة في القضاء الإداري للدولة الذي أنشأ خصيصا للمنازعات الخاصة بأشخاص القانون العام، كما أن اللجوء للتحكيم فيه قد يمس بإمتيازات السلطة العامة.
بالإضافة إلى أن الحظر في هذا المجال يستمد أساسه من المبادئ العامة للقانون[4]، إذ إستنادا على ذلك فالأشخاص المعنوية العامة لا تستطيع اللجوء في المنازعات التي تكون طرفا فيها إلى التحكيم إذا كانت هذه المنازعات تتعلق بالنظام العام أو النظام القانوني الداخلي، كما أن الترابط الوثيق بين القانون الإداري والقضاء الإداري المختص الأصيل في البت في المنازعات الادارية يجعل اللجوء إلى حسم المنازعات بعيدا عنه إعتداءا جسيما على هذه الجهة القضائية المتخصصة والتي حظر حتى على القضاء العادي التدخل في الإختصاصات المخولة إليها بمقتضى الفصل 8 من قانون 41.90 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية[5].
ونظرا لتعلق فكرة النظام العام بالمصلحة العامة، ومادام أن الهدف الأسمى هو تحقيق هذه المصلحة العامة أينما وجدت، فمن الممكن أن يرى المشرع أن إعتبارات هذه الأخيرة تقضي باللجوء إلى التحكيم لحسم بعض المنازعات الإدارية، ففي هذه الحالة يستطيع أن يخرج بعض هذه المنازعات من مجال عدم القابلية للتحكيم إلى مجال القابلية للتحكيم[6]، وهذا ما تبناه فعلا المشرع المغربي في قانون 05.08 السالف الذكر، والذي يعتبر خطوة إيجابية ومنسجمة مع توجهات الدول التي بدأت تضمن للتحكيم وباقي الوسائل البديلة لفض المنازعات مكانا متميزا في تشريعاتها.
إن حظر التحكيم في العقود الادارية كان يعتبر الأصل في حين تعتبر الإباحة فيها هي الإستثناء من القاعدة العامة، لكن هذه المعادلة أصبحت مع تطور وتشعب مجال تدخل الادارة كسلطة عامة في الأنشطة المختلفة التي كان يحظر عليها التدخل فيها في وقت ليس بالبعيد، أصبحت تتجه نحو جعل الإباحة هي الأصل والحظر هو الإستثناء، وهذا التوجه يراه فريق من المعارضين للتحكيم في العقود الإدارية مسا خطيرا بالنظام العام وتطاولا غير مبرر على قواعد الإختصاص القضائي، وتهديدا لإمتيازات الإدارة العامة الهادفة إلى تحقيق النفع العام في تعاقداتها الإدارية وقراراتها التي يبقى للقضاء المختص وحده سلطة البت في مدى مشروعيتها.
بالإضافة لذلك يرى هذا الفريق المعارض للتحكيم في العقود الإدارية التي تستخدم فيها الإدارة الأموال العامة، أن إخلال هذه الأخيرة بإلتزاماتها التعاقدية مع الخواص يصعب معه عرض البت في هذا الإخلال على هيئة خاصة بعيدا عن القضاء الاداري الضامن لحقوق طرفي التعاقد وفق قاعدة الشروط الغير المألوفة في التعاقد الخاص ونظرية إمتياز الإدارة الهادفة للمصلحة العامة على الخواص الهادفين بشكل أساسي لتحقيق مصالحهم الخاصة.
وفي هذا الإتجاه المعارض للتحكيم عبر الفقيه "فيرناند" (Fernand ) بأن: "القضاء الإداري يستطيع أن يمارس الرقابة على أعمال الإدارة، أفضل من المحكمين"[7]، كما أعرب الفقيه " لافيريير" (Lafrriere) في مجال إباحة التحكيم في العقود الإدارية وحظر البت فيها على القضاء العادي بالقول: "كيف للدولة أن تقبل منح المحكمين سلطة النظر في المنازعات التي لم توافق منحها للقضاة العاديين؟"[8].
إن التحكيم في العقود الإدارية يعد الوسيلة الأنجع لحسم النزاعات بعيدا عن تعقيدات القضاء الإداري، هذا الرأي هو الذي تبناه إتجاه مؤيد للتحكيم وله أسس وركائز يستند عليها في تأييده، فيرى أن تطور وظائف الإدارة العامة يجعلها ملزمة بإبرام عقود سعيا لتحقيق التنمية الإقتصادية، كما أن إعتراف الدولة بالتحكيم كوسيلة لفض النزاعات التي تكون الإدارة بإعتبارها سلطة عامة طرفا فيها يشجع المواطنين والشركات في إبرام العقود معها وهو ما يؤدي إلى توسيع مجال الإستثمار داخل الدولة ومنها تحقيق التنمية بها، هذا إرتباطا بالمزايا الخاصة التي يتمتع بها التحكيم، ومنها السرعة في حسم المنازعات وتوفير للوقت والجهد وفي كثير من الأحيان توفير المصاريف والرسوم.
وتظهر أهمية التحكيم أكثر بالنسبة للمستثمر الأجنبي المتعاقد مع الدولة، فهي بطبيعة الحال طرف قوي يتمتع بالسيادة التي من شأنها في نظره أن تؤثر على التوازن الاقتصادي للعقد الرابط بينهما، فضلا عن إمكانية تأثيرها على القضاء الوطني ليحكم في النهاية لصالحها[9]، وبالتالي فالمتعاقد الأجنبي يفضل اللجوء إلى التحكيم خوفا من مساس الدولة بحيادها والتأثير على قضائها، وهذا أبرز مبدأ يبحث عنه المستثمرون قبل الإستثمار في الدولة والمتمثل في نزاهة القضاء والبحث عن مدى إمكانية اللجوء إلى التحكيم في العقود المبرمة مع الإدارة.
المحور الثاني: سلطة القاضي الإداري على قرار المحكمين في نزاعات العقود الإدارية
يمارس القاضي الإداري سلطة رقابية على قرار المحكمين تأخذ مظاهر متعددة، لعل أبرزها خضوع القرار التحكيمي للتذييل بالصيغة التنفيذية من قبل القضاء الإداري ليكتسب قوة الشيء المقضي به على غرار الأحكام والقرارات القضائية.
وقد حاول المشرع المغربي تأصيل العلاقة الممكن تحقيقها على أرض الواقع بين القاضي الإداري وقرار التحكيم من خلال الفصل 327-31 الذي إعتبر أن التنفيذ الجبري للحكم التحكيمي لا يكون إلا بمقتضى أمر بتحويل الصيغة التنفيذية يصدره رئيس المحكمة الصادر الحكم في دائرة إختصاصها الترابية.
وإعتبر أن الحكم التحكيمي المكتسب للصيغة التنفيذية من طرف رئيس المحكمة معادلا للحكم القضائي، ويترتب عن ذلك إخضاعه للقواعد والشروط التي يخضع إليها هذا الأخير بحد ذاته، بالرغم من أن المشرع أكد في الفصل 34-327 من ق.م.م على ما يلي: " لا يقبل الحكم التحكيمي أي طعن مع مراعاة مقتضيات الفصلين 35-327 و 36 -327 "، وبالتالي فإن عدم إمكانية الطعن لا يعني عدم وجود آليات قانونية أخرى تجعله من حكم المحكم محل مراجعة أو إعادة النظر وهو ما يستفاد من الفقرة الثانية من الفصل 34- 327، حيت تنص على أنه يمكن أن يكون الحكم الصادر عن الهيئة التحكيمية موضوع إعادة النظر طبقا للفصل 402 من ق.م.م، وذلك أمام المحكمة التي كانت ستنظر في القضية في حالة عدم وجود إتفاق تحكيم.
إن الإعتراف القانوني بالتحكيم كوسيلة لفض النزاعات في مجال العقود الإدارية، وإستثناء بعض العقود من مجال التحكيم في جل التشريعات، لا يعني أن الدولة عمليا رفعت تحفظها عن التحكيم في العقود الإدارية، هذا المجال الحيوي والدقيق المرتبط بمصالح عامة وجدت الإدارة لحمايتها وتنميتها، ويظهر هذا التحفظ في إنعدام وجود منازعة خاصة بالتحكيم الإداري عرضت على القضاء الإداري لتذييل الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي الصادر فيها. وهذا يستلزم معرفة الأسباب الكامنة وراء عدم لجوء الإدارة أو موافقتها على اللجوء للتحكيم لفض النزاعات التي تنشأ في مجال العقود الإدارية.
لقد إختلف الباحثون في أسباب عدم لجوء الدولة والأشخاص المعنوية العامة الأخرى إلى التحكيم لإنهاء النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية، فمنهم من ربط إبتعاد وتفادي الإدارة اللجوء للتحكيم إلى كون أن المصلحة العامة تتحقق بشكل أفضل من قبل القضاء الإداري، ومنهم من ربط ذلك بطابع النظام العام التي تكتسيه المنازعات الإدارية. وإتجاه ربط ذلك بالأساس بالإختصاص الأصيل للقضاء الإداري للبت في النزاعات الإدارية، وإعتبر أن اللجوء للتحكيم فيها هو إعتداء ومس خطير بهذا الإختصاص.
هذا بالإضافة إلى أن الإدارة لا تثق كثيرا في التحكيم، ولا ترغب في المغامرة بالمصلحة العامة التي يحميها القضاء الإداري أكثر من التحكيم الإداري، بالإضافة إلى خشيتها وهاجسها الكبير من إهمال الهيئة التحكيمية للمنفعة العامة، والتي يقع على كاهل قضاء الدولة حمايتها.
لتبقى علاقة القاضي الإداري بالتحكيم علاقة قانونية نظرية كان للمشرع الجرأة في تبني قواعد تسمح للإدارة باللجوء للتحكيم في منازعاتها الإدارية المنصبة على العقود الإدارية بعدما كان يحظر عليها ذلك، لكن عمليا تبقى الإدارة مقيدة بعدة قواعد مرتبطة بإختصاصاتها الهادفة لتحقيق المصلحة العامة والتي يصعب معها اللجوء إلى التحكيم في نزاعات العقود التي تكون طرفا فيها بإعتبارها سلطة عامة، إلا أن ذلك لا يمنع مستقبلا من لجوئها إلى التحكيم لأنه ضمانة نصت عليها فصول القانون إذا رأت الإدارة مصلحة فيها إستفادت من مرونتها ومزاياها ودورها في تطور التنمية بالبلد خصوصا في التعاقدات التي تكون فيها الإدارة مع متعاقد أجنبي يرى في التحكيم ضمانة له في حال نشوب نزاع معها حول إخلال بإلتزام من إلتزاماتها التعاقدية.
كما أن اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية قيده المشرع برقابة قضائية تجعل لجوء الإدارة للقضاء الإداري في منازعاتها أفضل مادام أن القرار التحكيمي يكتسي صيغته التنفيذية الملزمة بعد إصدار قرار من طرف رئيس المحكمة الصادر الحكم في دائرة إختصاصها الترابية.
وهذا ما يجعل لجوء الإدارة للتحكيم أمرا إستثنائيا مادامت غير ملزمة باللجوء إليه بنص القانون، وإنما مقيدة باللجوء إليه في حالة تضمين العقد الإداري شرطا يقضي بأن الجهة المختصة بفض النزاع في حال عدم إلتزام طرفي العقد بمضمون التعاقد هي الهيئة التحكيمية أو التحكيم بصفة عامة، وهو أمر أصبح مسموح به للإدارة بمقتضى قانون 08.05 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية.
وختاما يمكن القول أن اللجوء للتحكيم في مجال منازعات العقود الإدارية سيحقق التطور المنشوذ وسيسهل من عملية إستقطاب المستثمرين سواء الداخليين أو الخارجيين لأنه يعتبر ضمانة لهم وحماية لإستثماراتهم من الضياع، هذا بالموازاة مع ما لإصلاح منظومة العدالة من مزايا على تطور رقم الإستثمارات بالبلد، كما أن قيام المشرع بتبني التحكيم في العقود الإدارية والسماح للإدارة بالاتفاق على التحكيم في هذا المجال سيعمل على تدعيم الوسائل البديلة لإنهاء المنازعات بعيدا عن قضاء الدولة، وهو مبتغى لا محالة سيكون له تبعات إيجابية على تطور الدولة وتوسع مجال ثقة الأفراد والهيآت في تنظيمها وتوجهها الداعم لمجال الحقوق والحريات التي تشترك الوسائل البديلة لفض المنازعات مع القضاء ومحاكم الدولة في حمايتها، وذلك بالرغم من رقابة هذه الأخيرة لقرار المحكمين في حال نشوب خلاف حول تنفيذ ما جاء في هذا القرار ومنحه الصيغة التنفيذية من طرف هيئة قضائية متخصصة في المجال الذي إتفق الأطراف على اللجوء للتحكيم فيه.
الهوامش
إن الفصل في المنازعات بشكل عام والمنازعات الإدارية على الخصوص غالبا يستغرق وقتا وجهدا ويستنزف طاقة المتقاضين في تتبع الإجراءات والمساطر التي يمكن أن تتصف بالبطىء ووتتميز المناقشة فيها بالعلنية هذا الذي يمكن أن يهدد أحيانا مصالح المتنازعين، لذلك أضحى التحكيم حاليا وسيلة فعالة في إنهاء الخلافات التي قد تنشأ عنها جميع أنواع المنازعات، لكنها وسيلة يراها البعض في مجال المنازعات الإدارية إعتداء وتدخل في الإختصاص الأصيل للقاضي الاداري ومخالفة لقواعد الاختصاص الامرة التي تلزم المتعاقدين مع الإدارة باللجوء للقضاء الإداري في حال نشوب نزاع معها، ويجد مبدأ حظر لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم أساسه في مبدأ احترام قواعد الاختصاص القضائي بشكل عام.
وقد عرفت المجتمعات القديمة التحكيم وإتخذت منه أداة لحسم المنازعات التي نشأت بين أفرادها على أساس من الأعراف والتقاليد في تلك العصور، وقد تحدث الفيلسوف الإغريقي أرسطو عن التحكيم فقال: إن القاضي يحكم وهو ينظر إلى القانون، أما المحكم فهو يحكم وهو ينظر إلى العدالة "، وهذا الذي يجعل من اللجوء للتحكيم وسيلة تحقق روح القانون وهو العدالة والإنصاف وهي الغاية التي يبتغي المتنازعين تحقيقها وإن خارج مؤسسة القضاء وردهات المحاكم.
ظهرت أهمية التحكيم كوسيلة لتسوية المنازعات وخاصة المنازعات الإدارية في أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وذلك تزامنا مع إتجاه الدول إلى الإقتصاد الحر وخوصصة المؤسسات وشركات القطاع العام، وتوجهها نحو تفويت تدبير المرافق العامة عن طريق التدبير المفوض بالخصوص، وإختلفت التشريعات في إعطاء تعريف للتحكيم حسب مقاربتها ونظرتها للوسائل البديلة لفض المنازعات ومنها التحكيم.
فقد عرّف المشرع الفرنسي التحكيم في المادة 1442 من قانون المسطرة المدنية " بأنه اتفاق يتعهد بمقتضاه الأطراف في عقد من العقود بإخضاع المنازعات التي يمكن أن تنشأ بينهم للتحكيم ".
كما عرّفه المشرع المصري في الفقرة الأولى من المادة 10 من القانون رقم 27 لسنة 1994 بأنه: " اتفاق بين الطرفين على الالتجاء الى التحكيم لتسوية بعض أو كل المنازعات التي تنشأ أو يمكن أن تنشأ بينهم بمناسبة علاقة قانونية عقدية كانت أو غير عقدية"[1].
فيما عرّفه المشرع المغربي من خلال الفصل 306 ضمن الباب الثامن من القسم الخامس المعنون بالتحكيم والوساطة الاتفاقية من قانون المسطرة المدنية[2] بأنه: " حل نزاع من لدن هيئة تحكيمية تتلقى من الاطراف مهمة الفصل في النزاع بناء على اتفاق تحكيم"، أما إتفاق أو شرط التحكيم فعرفه بكونه: " إلتزام الاطراف باللجوء إلى التحكيم قصد حل نزاع نشأ أو قد ينشأ عن علاقة قانونية معينة تعاقدية أو غير تعاقدية"، وأضاف في الفقرة الموالية من نفس الفصل أن إتفاق التحكيم "يكتسي شكل عقد تحكيم أو شرط تحكيم". في حين منح تعريفا لعقد التحكيم من خلال الفقرة الأولى من الفصل 314 من ق.م.م بأنه: " الاتفاق الذي يلتزم فيه أطراف نزاع نشأ بينهم بعرض هذا النزاع على هيئة تحكيمية".
ويمتاز التحكيم بعدم خضوعه لأية جهة رسمية، فضلا عن عدم خضوعه لأي قانون غير الذي يختاره المحتكمين، كما يتميز بقلة تكاليفه مقارنة بإجراءات التقاضي أمام محاكم الدولة، ويقابل ذلك بعض مساوئه لعل أبرزها حرمان المتقاضين من الضمانات القضائية.
لكن التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات الإدارية يعرف إشكاليات تتمحور بالأساس حول مدى مشروعيته، ذلك أن الإعتراف به قد يؤدي إلى طمس معالم وأحكام المنازعات الإدارية، وبالتالي خضوع الإدارة للقانون العادي ومنه إلى القضاء العادي، خصوصا في الدول التي تأخذ بازدواجية القانون وتنص بعض أحكامها وقوانينها على حظر اللجوء إلى التحكيم في المنازعات الادارية كما هو الشأن بالنسبة للمغرب قبل صدور القانون 05.08 الذي نسخ مقتضيات التحكيم السابقة في المسطرة المدنية التي كانت تحظر بصريح العبارة التحكيم في المنازعات الادارية.
إن توسيع مجال اللجوء للتحكيم في العقود الادارية - القائمة على عدم تكافؤ العلاقة التعاقدية بين الادارة بإعتبارها سلطة عامة وبين الخواص أي تغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة - يجعل منه وسيلة قد تهدد النظام العام، ذلك أن التعاقد الاداري تستعمل فيه الإدارة الاموال العامة التي لا يجوز التصرف فيها وقرار التحكيم قد يمسها، وبالتالي يمس إستمرارية المرفق العام، لذلك حرمته أغلب التشريعات في هذا المجال، فيما إستثنت تشريعات أخرى بعض المنازعات الادارية التي سمحت باللجوء للتحكيم فيها ومنها التشريع المغربي. إستنادا على ذلك فما مدى مشروعية التحكيم في العقود الإدارية؟ وما هي الإشكاليات التي تحول دون التوسع في التحكيم في مجال العقود الإدارية؟ وإلى أي حد تم تفعيل العلاقة بين القاضي الإداري والتحكيم؟
هذا ما سنحاول دراسته في هذا الموضوع الذي يكتسي الخوض فيه أهمية إستراتيجية في مجال البحث عن وسائل بديلة لفض النزاعات عموما والمنازعات الإدارية على وجه أخص، على أن نقسم هذه الدراسة إلى محورين نخصص الأول للحديث عن مدى مشروعية اللجوء الى التحكيم في منازعات العقود الادارية، فيما نخصص المحور الثاني لدراسة سلطة القاضي الإداري على قرار المحكمين في نزاعات العقود الإدارية.
المحور الأول: مدى إمكانية اللجوء إلى التحكيم في منازعات العقود الإدارية
لقد قام المشرع صراحة قبل صدور قانون 05.08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية الناسخ لفصول التحكيم في المسطرة المدنية بحظر التحكيم في العقود الادارية[3]، ويمكن تبرير موقف المشرع بشأن حظر اللجوء للتحكيم بخصوص المنازعات الإدارية في أن خضوع الأموال العامة للتصرفات المدنية المختلفة قد يؤدي إلى إعاقة تخصيصه لتحقيق المنفعة العامة أو تعريضه لخطر الضياع أو إلى التسبب في خسائر مادية لخزينة الدولة.
كما يمكن تبرير ذلك بأن اللجوء للتحكيم في هذا المجال- المنازعات الإدارية- الذي ينصب على عمل حيوي للدولة محكوم بضرورة الإستمرارية وبهاجس تحقيق النفع العام قد يرسم معالم واضحة لفقد الثقة في القضاء الإداري للدولة الذي أنشأ خصيصا للمنازعات الخاصة بأشخاص القانون العام، كما أن اللجوء للتحكيم فيه قد يمس بإمتيازات السلطة العامة.
بالإضافة إلى أن الحظر في هذا المجال يستمد أساسه من المبادئ العامة للقانون[4]، إذ إستنادا على ذلك فالأشخاص المعنوية العامة لا تستطيع اللجوء في المنازعات التي تكون طرفا فيها إلى التحكيم إذا كانت هذه المنازعات تتعلق بالنظام العام أو النظام القانوني الداخلي، كما أن الترابط الوثيق بين القانون الإداري والقضاء الإداري المختص الأصيل في البت في المنازعات الادارية يجعل اللجوء إلى حسم المنازعات بعيدا عنه إعتداءا جسيما على هذه الجهة القضائية المتخصصة والتي حظر حتى على القضاء العادي التدخل في الإختصاصات المخولة إليها بمقتضى الفصل 8 من قانون 41.90 المحدث بموجبه المحاكم الإدارية[5].
ونظرا لتعلق فكرة النظام العام بالمصلحة العامة، ومادام أن الهدف الأسمى هو تحقيق هذه المصلحة العامة أينما وجدت، فمن الممكن أن يرى المشرع أن إعتبارات هذه الأخيرة تقضي باللجوء إلى التحكيم لحسم بعض المنازعات الإدارية، ففي هذه الحالة يستطيع أن يخرج بعض هذه المنازعات من مجال عدم القابلية للتحكيم إلى مجال القابلية للتحكيم[6]، وهذا ما تبناه فعلا المشرع المغربي في قانون 05.08 السالف الذكر، والذي يعتبر خطوة إيجابية ومنسجمة مع توجهات الدول التي بدأت تضمن للتحكيم وباقي الوسائل البديلة لفض المنازعات مكانا متميزا في تشريعاتها.
إن حظر التحكيم في العقود الادارية كان يعتبر الأصل في حين تعتبر الإباحة فيها هي الإستثناء من القاعدة العامة، لكن هذه المعادلة أصبحت مع تطور وتشعب مجال تدخل الادارة كسلطة عامة في الأنشطة المختلفة التي كان يحظر عليها التدخل فيها في وقت ليس بالبعيد، أصبحت تتجه نحو جعل الإباحة هي الأصل والحظر هو الإستثناء، وهذا التوجه يراه فريق من المعارضين للتحكيم في العقود الإدارية مسا خطيرا بالنظام العام وتطاولا غير مبرر على قواعد الإختصاص القضائي، وتهديدا لإمتيازات الإدارة العامة الهادفة إلى تحقيق النفع العام في تعاقداتها الإدارية وقراراتها التي يبقى للقضاء المختص وحده سلطة البت في مدى مشروعيتها.
بالإضافة لذلك يرى هذا الفريق المعارض للتحكيم في العقود الإدارية التي تستخدم فيها الإدارة الأموال العامة، أن إخلال هذه الأخيرة بإلتزاماتها التعاقدية مع الخواص يصعب معه عرض البت في هذا الإخلال على هيئة خاصة بعيدا عن القضاء الاداري الضامن لحقوق طرفي التعاقد وفق قاعدة الشروط الغير المألوفة في التعاقد الخاص ونظرية إمتياز الإدارة الهادفة للمصلحة العامة على الخواص الهادفين بشكل أساسي لتحقيق مصالحهم الخاصة.
وفي هذا الإتجاه المعارض للتحكيم عبر الفقيه "فيرناند" (Fernand ) بأن: "القضاء الإداري يستطيع أن يمارس الرقابة على أعمال الإدارة، أفضل من المحكمين"[7]، كما أعرب الفقيه " لافيريير" (Lafrriere) في مجال إباحة التحكيم في العقود الإدارية وحظر البت فيها على القضاء العادي بالقول: "كيف للدولة أن تقبل منح المحكمين سلطة النظر في المنازعات التي لم توافق منحها للقضاة العاديين؟"[8].
إن التحكيم في العقود الإدارية يعد الوسيلة الأنجع لحسم النزاعات بعيدا عن تعقيدات القضاء الإداري، هذا الرأي هو الذي تبناه إتجاه مؤيد للتحكيم وله أسس وركائز يستند عليها في تأييده، فيرى أن تطور وظائف الإدارة العامة يجعلها ملزمة بإبرام عقود سعيا لتحقيق التنمية الإقتصادية، كما أن إعتراف الدولة بالتحكيم كوسيلة لفض النزاعات التي تكون الإدارة بإعتبارها سلطة عامة طرفا فيها يشجع المواطنين والشركات في إبرام العقود معها وهو ما يؤدي إلى توسيع مجال الإستثمار داخل الدولة ومنها تحقيق التنمية بها، هذا إرتباطا بالمزايا الخاصة التي يتمتع بها التحكيم، ومنها السرعة في حسم المنازعات وتوفير للوقت والجهد وفي كثير من الأحيان توفير المصاريف والرسوم.
وتظهر أهمية التحكيم أكثر بالنسبة للمستثمر الأجنبي المتعاقد مع الدولة، فهي بطبيعة الحال طرف قوي يتمتع بالسيادة التي من شأنها في نظره أن تؤثر على التوازن الاقتصادي للعقد الرابط بينهما، فضلا عن إمكانية تأثيرها على القضاء الوطني ليحكم في النهاية لصالحها[9]، وبالتالي فالمتعاقد الأجنبي يفضل اللجوء إلى التحكيم خوفا من مساس الدولة بحيادها والتأثير على قضائها، وهذا أبرز مبدأ يبحث عنه المستثمرون قبل الإستثمار في الدولة والمتمثل في نزاهة القضاء والبحث عن مدى إمكانية اللجوء إلى التحكيم في العقود المبرمة مع الإدارة.
المحور الثاني: سلطة القاضي الإداري على قرار المحكمين في نزاعات العقود الإدارية
يمارس القاضي الإداري سلطة رقابية على قرار المحكمين تأخذ مظاهر متعددة، لعل أبرزها خضوع القرار التحكيمي للتذييل بالصيغة التنفيذية من قبل القضاء الإداري ليكتسب قوة الشيء المقضي به على غرار الأحكام والقرارات القضائية.
وقد حاول المشرع المغربي تأصيل العلاقة الممكن تحقيقها على أرض الواقع بين القاضي الإداري وقرار التحكيم من خلال الفصل 327-31 الذي إعتبر أن التنفيذ الجبري للحكم التحكيمي لا يكون إلا بمقتضى أمر بتحويل الصيغة التنفيذية يصدره رئيس المحكمة الصادر الحكم في دائرة إختصاصها الترابية.
وإعتبر أن الحكم التحكيمي المكتسب للصيغة التنفيذية من طرف رئيس المحكمة معادلا للحكم القضائي، ويترتب عن ذلك إخضاعه للقواعد والشروط التي يخضع إليها هذا الأخير بحد ذاته، بالرغم من أن المشرع أكد في الفصل 34-327 من ق.م.م على ما يلي: " لا يقبل الحكم التحكيمي أي طعن مع مراعاة مقتضيات الفصلين 35-327 و 36 -327 "، وبالتالي فإن عدم إمكانية الطعن لا يعني عدم وجود آليات قانونية أخرى تجعله من حكم المحكم محل مراجعة أو إعادة النظر وهو ما يستفاد من الفقرة الثانية من الفصل 34- 327، حيت تنص على أنه يمكن أن يكون الحكم الصادر عن الهيئة التحكيمية موضوع إعادة النظر طبقا للفصل 402 من ق.م.م، وذلك أمام المحكمة التي كانت ستنظر في القضية في حالة عدم وجود إتفاق تحكيم.
إن الإعتراف القانوني بالتحكيم كوسيلة لفض النزاعات في مجال العقود الإدارية، وإستثناء بعض العقود من مجال التحكيم في جل التشريعات، لا يعني أن الدولة عمليا رفعت تحفظها عن التحكيم في العقود الإدارية، هذا المجال الحيوي والدقيق المرتبط بمصالح عامة وجدت الإدارة لحمايتها وتنميتها، ويظهر هذا التحفظ في إنعدام وجود منازعة خاصة بالتحكيم الإداري عرضت على القضاء الإداري لتذييل الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي الصادر فيها. وهذا يستلزم معرفة الأسباب الكامنة وراء عدم لجوء الإدارة أو موافقتها على اللجوء للتحكيم لفض النزاعات التي تنشأ في مجال العقود الإدارية.
لقد إختلف الباحثون في أسباب عدم لجوء الدولة والأشخاص المعنوية العامة الأخرى إلى التحكيم لإنهاء النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية، فمنهم من ربط إبتعاد وتفادي الإدارة اللجوء للتحكيم إلى كون أن المصلحة العامة تتحقق بشكل أفضل من قبل القضاء الإداري، ومنهم من ربط ذلك بطابع النظام العام التي تكتسيه المنازعات الإدارية. وإتجاه ربط ذلك بالأساس بالإختصاص الأصيل للقضاء الإداري للبت في النزاعات الإدارية، وإعتبر أن اللجوء للتحكيم فيها هو إعتداء ومس خطير بهذا الإختصاص.
هذا بالإضافة إلى أن الإدارة لا تثق كثيرا في التحكيم، ولا ترغب في المغامرة بالمصلحة العامة التي يحميها القضاء الإداري أكثر من التحكيم الإداري، بالإضافة إلى خشيتها وهاجسها الكبير من إهمال الهيئة التحكيمية للمنفعة العامة، والتي يقع على كاهل قضاء الدولة حمايتها.
لتبقى علاقة القاضي الإداري بالتحكيم علاقة قانونية نظرية كان للمشرع الجرأة في تبني قواعد تسمح للإدارة باللجوء للتحكيم في منازعاتها الإدارية المنصبة على العقود الإدارية بعدما كان يحظر عليها ذلك، لكن عمليا تبقى الإدارة مقيدة بعدة قواعد مرتبطة بإختصاصاتها الهادفة لتحقيق المصلحة العامة والتي يصعب معها اللجوء إلى التحكيم في نزاعات العقود التي تكون طرفا فيها بإعتبارها سلطة عامة، إلا أن ذلك لا يمنع مستقبلا من لجوئها إلى التحكيم لأنه ضمانة نصت عليها فصول القانون إذا رأت الإدارة مصلحة فيها إستفادت من مرونتها ومزاياها ودورها في تطور التنمية بالبلد خصوصا في التعاقدات التي تكون فيها الإدارة مع متعاقد أجنبي يرى في التحكيم ضمانة له في حال نشوب نزاع معها حول إخلال بإلتزام من إلتزاماتها التعاقدية.
كما أن اللجوء للتحكيم في العقود الإدارية قيده المشرع برقابة قضائية تجعل لجوء الإدارة للقضاء الإداري في منازعاتها أفضل مادام أن القرار التحكيمي يكتسي صيغته التنفيذية الملزمة بعد إصدار قرار من طرف رئيس المحكمة الصادر الحكم في دائرة إختصاصها الترابية.
وهذا ما يجعل لجوء الإدارة للتحكيم أمرا إستثنائيا مادامت غير ملزمة باللجوء إليه بنص القانون، وإنما مقيدة باللجوء إليه في حالة تضمين العقد الإداري شرطا يقضي بأن الجهة المختصة بفض النزاع في حال عدم إلتزام طرفي العقد بمضمون التعاقد هي الهيئة التحكيمية أو التحكيم بصفة عامة، وهو أمر أصبح مسموح به للإدارة بمقتضى قانون 08.05 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية.
وختاما يمكن القول أن اللجوء للتحكيم في مجال منازعات العقود الإدارية سيحقق التطور المنشوذ وسيسهل من عملية إستقطاب المستثمرين سواء الداخليين أو الخارجيين لأنه يعتبر ضمانة لهم وحماية لإستثماراتهم من الضياع، هذا بالموازاة مع ما لإصلاح منظومة العدالة من مزايا على تطور رقم الإستثمارات بالبلد، كما أن قيام المشرع بتبني التحكيم في العقود الإدارية والسماح للإدارة بالاتفاق على التحكيم في هذا المجال سيعمل على تدعيم الوسائل البديلة لإنهاء المنازعات بعيدا عن قضاء الدولة، وهو مبتغى لا محالة سيكون له تبعات إيجابية على تطور الدولة وتوسع مجال ثقة الأفراد والهيآت في تنظيمها وتوجهها الداعم لمجال الحقوق والحريات التي تشترك الوسائل البديلة لفض المنازعات مع القضاء ومحاكم الدولة في حمايتها، وذلك بالرغم من رقابة هذه الأخيرة لقرار المحكمين في حال نشوب خلاف حول تنفيذ ما جاء في هذا القرار ومنحه الصيغة التنفيذية من طرف هيئة قضائية متخصصة في المجال الذي إتفق الأطراف على اللجوء للتحكيم فيه.
الهوامش
[1]- محمد محجوبي "دور التحكيم في تسوية منازعات العقود الادارية الداخلية في ضوء القانون المغربي والمقارن"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 86، ماي-يونيو 2009، ص: 15.
[2]- نسخت المقتضيات المتعلقة بالتحكيم في قانون المسطرة المدنية بالقانون 05.08، حيث أصبح الباب الخامس من القسم الثامن معنون ب "التحكيم والوساطة الاتفاقية"، هذا الباب الذي يتكون من الفصول من 306 إلى 70-327، بعدما كانت المقتضيات السابقة لا تمنح تعريفا للتحكيم وتعرف ضبابية وقصورا في تبيان أحكامه.
[3]. نص المشرع صراحة في الفصل 306 من قانون المسطرة المدنية قبل تعديل فصول التحكيم على عدم إمكانية الاتفاق على التحكيم في "النزاعات المتعلقة بعقود أو أموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام "، فقد نص الفصل 306 على:
"يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالأهلية أن يوافقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها، غير أنه لا يمكن الاتفاق عليه في :
← في الهبات والوصايا المتعلقة بالأطعمة والملابس والمساكن،
← في المسائل المتعلقة بحالة الأشخاص وأهليتهم،
← في المسائل التي تمس النظام العام وخاصة:
"يمكن للأشخاص الذين يتمتعون بالأهلية أن يوافقوا على التحكيم في الحقوق التي يملكون التصرف فيها، غير أنه لا يمكن الاتفاق عليه في :
← في الهبات والوصايا المتعلقة بالأطعمة والملابس والمساكن،
← في المسائل المتعلقة بحالة الأشخاص وأهليتهم،
← في المسائل التي تمس النظام العام وخاصة:
- النزاعات المتعلقة بعقود وأموال خاضعة لنظام يحكمه القانون العام، إن المشرع في هذه الفترة كان يعتبر أن متل هده المنازعات التي تحكمها قواعد القانون العام تتدرج ضمن النظام العام الذي لا يجوز التحكيم بشأنه.
[4]. المبادئ العامة للقانون هي: " مجموع القواعد القانونية التي يمكن إستخلاصها من إستقراء النظام القانوني"، حيث يوجد إلى جانب القوانين المكتوبة مبادئ يعتبر الإعتراف بها كقواعد قانونية أمرا ضروريا لتكملة صرح النظام القانوني.
[5]. القانون رقم 41.90 المحدث بموجبه محاكم إدارية، الصادر بتنفيذه الظهير شريف رقم 1.91.225 صادر في 22 من ربيع الأول 1414 (10 سبتمبر 1993) - منشور بالجريدة الرسمية عدد 4858 في 21/12/2000 -.
[6]. محمد الأعرج " مشروعية التحكيم في المنازعات الإدارية"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 54-55، يناير-أبريل، سنة 2004، ص: 16-17.
. نجلاء حسن سيد أحمد خليل: " التحكيم في المنازعات الإدارية، دار النهضة العربية بالقاهرة"، الطبعة الثامنة 2003-2004، ص .124[7]
. محمد المجوبي " مرجع سابق "، ص: 16.[8]
[9] - محمد محجوبي: " مرجع سابق "، ص: 8.