أولا: تصورات في مفهوم الحكامة
ظهرت مفردة الحكامة في بداية نشأتها للتعبير عن الطريقة التي تمارس بها السلطة السياسية وتدار بها شؤون البلاد والرعايا.
يتطور المفهوم للدلالة على أنماط القيادة التي تتولاها السلطات المنتخبة والمعينة من أجل الرفع من جودة حياة المواطنين وفق مقاربة تشاركية وإدماجية تجعل الكل شركاء متساوين في العملية السياسية.
حري بنا إذن أن ننظر إلى الحكامة في شقها السياسي بمثابة عقد ديمقراطي أطرافه الدولة والمؤسسات الدستورية والقطاع الخاص والفاعلون المدنيون، مضمونه الإدارة المثلى والمسؤولة للصالح العام، وضوابطه المساءلة والمحاسبة والمشاركة.
وحتى تكون الحكامة جيدة ورشيدة يجب أن تستجيب لمجموعة من المعايير أو المقاييس، حددها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في:
- المشاركة (حق المواطن في الترشيح والتصويت وإبداء الرأي عن طريق المؤسسات الحزبية المنفتحة ومنابر المجتمع المدني)؛
- حكم القانون (سيادة القانون وخضوع الكل لأحكامه والتأكيد الدستوري على الفصل بين السلط وتدقيق قواعد الاختصاص)؛
- الشفافية (حق المواطن في الولوج إلى المعلومة كحق دستوري وتقوية مؤسسات الرقابة والمحاسبة بهدف محاربة الفساد)؛
- حسن الاستجابة والتوافق الذي يؤسس لأوسع إجماع حول الصالح العام؛
- المحاسبة وربط المسؤولية بالنتائج؛
- الاستعانة بآلية الرؤية الإستراتيجية.
قد نعرف الحكامة بنظام القيادة المتكامل، حيث الحديث عن هيكلة هرمية من الزعامات السياسية المستنيرة التي تحسن فهم وإدراك المعطى الإنساني والتعقيدات المرتبطة به، لاسيما تلك المتعلقة بالبنيات المجتمعية ومنظومة المصالح التي تتجدد بإعادة تشكلها.
الحكامة منظومة من القيم المركبة المنتجة من رحم العقلانية، وهي أسلوب تفكير يزاوج بين مقاربة السياقات ووضع الآليات.
الحكامة منهج علمي يتجاوز الاحتكام إلى فرضية العامل الوحيد أو العنصر الوحيد، في حين يبني خطابا علميا يجعل من تعددية المتدخلين ومجالات التدخل حجر زاويته.
الحكامة نمط إدراكي يبحث في التطوير المستمر لقدرات الإنتاج السياسي والديمقراطي، بحيث تشكل فضاءا يجعل من المواطن محور السياسات العمومية.
الحكامة فضاء يعبئ فيه الفاعل السياسي والإداري على حد سواء من أجل جلب ما يصلح للمواطن ودفع ما يضره، ناهيك عن الاشتغال على احتياجاته المشروعة بموجب ميثاق ثقة افتراضي بين طرفي العقد.
في حقيقة الأمر، تعبر الحكامة عن تشكل وعي سياسي جديد، وعن نضج في طور الاختمار يميز العلاقة التي تربط المجتمع بالشأن العام، وعن شيوع ثقافة جديدة تفتح الأبواب على إطلاقيتها لأوراش الإصلاح السياسي والإداري الكبرى.
ثانيا: وجهات نظر حول الوظيفة الإدارية
يسود مفهومان في تعريف الإدارة العامة، المفهوم العضوي أو الشكلي والمفهوم الموضوعي أو الوظيفي: المفهوم العضوي يهتم بالتكوين الداخلي للإدارة العامة فيعرفها بالسلطة الإدارية وجميع الهيئات التابعة لها، أما المفهوم الموضوعي أو الوظيفي فيعرف الإدارة العامة بأنها النشاط أو الوظيفة التي تمارسها الأجهزة الإدارية في إطار سعيها لتحقيق المصلحة العامة.
تتجلى الوظيفة الإدارية في مواجهة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين بمظهرين: الأعمال التي تظهر فيها الإدارة بمظهر السلطة العامة وتستأثر بحق الأمر والنهي وهذا النوع من الأعمال تحكمه قواعد القانون الإداري ويخضع لاختصاص القضاء الإداري.
وأعمال الإدارة المادية أو العادية، وهي الأعمال التي تمارسها بنفس الأساليب التي يلجأ إليها الأفراد وفي نفس ظروفهم، وهي الأساليب التي تحكمها قواعد القانون الخاص ويختص بها القضاء العادي لعدم اتصافها بطابع السلطة، لأنها مجرد وقائع مادية غير مؤثرة في المراكز القانونية التي تتصل بها، سواء تعلقت بأفعال إرادية بتدخل مقصود من الإدارة أو غير إرادية تحدث بطريق الخطأ والإهمال.
بمعنى أوسع، تغطي الوظيفة الإدارية كل نشاط تديره الدولة أو تهيمن على إدارته وتستهدف من ورائه تحقيق المصلحة العامة. المرفق العام بهذا المعنى هو النشاط الذي تتولاه الدولة أو الأشخاص العامة الأخرى مباشرة أو تعهد به إلى جهة أخرى تحت إشرافها ومراقبتها وتوجيهها بهدف إشباع حاجات ذات نفع عام تحقيقاً للصالح العام.
إلا أن العنصر المهم في نظام القانون الإداري الذي يتميز به عن القانون الخاص لا يرتبط بالغايات التي تسعى الإدارة إلى تحقيقها والمتمثلة بالمنفعة العامة بقدر ما ينبي على أساس الوسائل التي تستعملها الإدارة في سبيل تحقيق تلك الغايات، وهي الوسائل التي تعترف للادارة العامة بسلطات وامتيازات استثنائية لا مثيل لها في العلاقات التي تنشأ بين الأفراد، وبالتالي نكون أمام نشاط ينظمه القانون الإداري ويخضع لاختصاص القضاء الإداري.
تجدر الإشارة إلى أن فكرة السلطة العامة التي تتمتع بها الإدارة دون الأفراد لا تعني فقط استخدامها لامتيازات وسلطات القانون العام بوصفها سلطة آمره تمتلك وسائل الإكراه، وإنما تتضمن سلسلة من القيود التي تحد من حرية الإدارة وتواجهها بالتزامات تفوق تلك المفروضة على الأفراد في ظل القانون الخاص. ومن هذه القيود عدم إمكان تعاقد الإدارة إلا بإتباع إجراءات وشروط معينة كإتباعها أسلوب المناقصات أو المزايدات عند اختيار المتعاقدين معها في إطار العقود الإدارية.
يخول القانون للإدارة العامة وسائل قانونية تتميز بها عن الخواص، ويتعلق الأمر بالقرارات الإدارية والعقود الإداري.
القرارات الإدارية هي كل عمل إداري يحدث تغييراً في الأوضاع القانونية القائمة، أو هو إفصاح عن إرادة منفردة يصدر عن سلطة إدارية ويرتب آثاراً قانونية.
يبقى أهم تقسيم للقرارات الإدارية هو الذي ينصب على تكييف مدى هذه القرارات إلى قرارات تنظيمية وقرارات فردية، ويعد هذا التقسيم الأهم من نوعه لما يترتب عليه من نتائج تتعلق بالنظام القانوني الذي يخضع له كل من القرار التنظيمي والقرار الفردي.
القرارات التنظيمية هي تلك القرارات التي تنص على قواعد عامة ومجردة تخاطب صفات الأفراد والشروط في الوقائع. وعمومية المراكز القانونية التي يضعها القرار التنظيمي لا تعني أنها تخاطب كافة الأشخاص، فهي تخاطب فرد أو فئة معينين بصفاتهم لا بدواتهم.
التشريع التنظيمي هو تشريع ثانوي يصدر عن السلطة التنفيذية يقوم إلى جانب التشريع العادي، هو تشريع ثانوي من حيث تطبيقه على كل من يستوفي شروطا معينة تضعها القاعدة مسبقا لا يستنفذ موضوعها بتطبيقها، بل تبقى سارية التطبيق حتى في المستقبل بالرغم من كونها اقل ثباتا من القانون.
أما القرارات الفردية فتنشئ مراكز قانونية خاصة تتصل بفرد معين بالذات أو أفراداً معيين بدواتهم وتستنفذ موضوعها بمجرد تطبيقها مرة واحدة.
ثالثا: تأملات في المفهوم الجديد للسلطة
شكل خطاب جلالة الملك بتاريخ 12 أكتوبر 1999 أمام الحكومة ومسؤولي الإدارة الترابية، الإعلان الرسمي للأخذ بمفهوم جديد للسلطة يسمو بالإدارة المغربية إلى مستوى الممارسة الإدارية المتبصرة، المنتجة لقيم المواطنة والمشاركة والمدرة للتنمية البشرية.
دعوة جلالة الملك لتطوير هذا المفهوم تتوافق مع فضاء تميز هو الآخر بالتجديد، تمثل بالأساس في ميلاد عهد سياسي تحدوه مطامح التأسيس لمجتمع متجدد يحيى في كنف دولة يسودها الحق والقانون. سياسيا، تطابق هذا الإعلان في الزمن مع إحدى التجارب الحكومية - تجربة التناوب- التي وضعت ضمن أولوياتها حمل لواء التغيير، وتعبيد السبل أمام تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، وفي ذلك دلالات لا يمكن التغافل عنها، منها تحقق شبه إجماع وطني قيادة وقوى سياسية حول تجديد الممارسة السياسية والإدارية ببلادنا.
فيما يخص ماهية المجالات المخاطبة بتوجهات المفهوم الجديد للسلطة، نقول بأن الإعلان عن هذا المفهوم يعنى أساسا بالمجالين الإداري والسياسي باعتبارهما المقصودين أكثر من خلال التدبر في مقاصد الخطاب الملكي، حيث الدعوة إلى حمل الفاعلين الإداريين والسياسيين القائمين على مؤسسات الدولة على إحداث تغييرات حقيقية في ممارسة السلطة، بما في ذلك تجاوز سلبيات العمل البيروقراطي الممركز وخلع رداء التسلط والانشغال بخدمة الصالح العام للمواطن والاستماع إلى تطلعاته المشروعة، وكل قول غير ذلك قد يقود إلى إغراق المفهوم في دروب التعددية وشعاب التشتت وعدم دقة الخطاب، وهو ما يؤدي حتما إلى الإنقاص من محتوى المفهوم الجديد للسلطة من حيث الوقوع في مغبة ضبابية المضمون.
تجديد مفهوم السلطة يقود لزاما إلى إعادة هيكلة العلاقة بين السلطة وقائمة من المكونات المرتبطة معها بعلاقات طردية، ونجملها في الآتي:
- تجديد الروابط المنتجة بين السلطة والقيادة ؛
- تجديد منظومة الروابط بين السلطة والمواطنة؛
- تجديد أنماط التفاعل بين السلطة والتنمية.
لم تعد القيادة ممارسة أحادية لشخص ما، وإنما يمكن أن تعرف على أساس نشاط تشاركي بين عناصر مجموعة معينة، وبالتالي فإن جوهر القيادة لا يتحدد في القائد في حد ذاته بقدر ما يتحدد في نجاعة نظام الروابط القائم في تنظيم سياسي وإداري معين.
من هنا، تتحدد إيجابية القائد في مدى قدرته على الإدارة الجيدة للانتقال وإنجاح التعبئة التعددية في الالتفاف حوله، ولا يتحقق ذلك إلا بتوفر شرطين:
أولا: قدرة القائد المتقدم بمشروع الانتقال على تطوير وسائل للإقناع والجذب بدلا من آليات التسلط وفرض الرأي،
ثانيا: الاجتهاد في الرفع من مستويات كفاءة البيئة التي يتواجد بها من خلال تطوير مؤهلاتها والعمل على نثر قيم المواطنة والمشاركة والتضامن بين أركانها.
في هذا السياق، يتم الحديث عن مجالين متكاملين من الحكامة: الحكامة الشرعية الممثلة في ممارسة السلطة على أساس مرجعية قانونية صلبة وواضحة، تستلهم وجودها من التقاليد والأعراف المقننة في الدستور والقوانين والأنظمة والاجتهادات القضائية وما يجتمع عليه الفقه. والحكامة المشروعة كمفهوم ذاتي يجسد تولد قناعات لدى المواطنين بأن السلطات السياسية والإدارية تمارس من قبل أشخاص يقيمون سلوكياتهم على أبنية قيمية عالية وتعكس مواقفهم مثل الصلاح والعقلانية بما يحقق المصالح المشتركة، ولا شك أن الانخراط العميق للساكنة في الطرق التي يسير بها الشأن العام تمثل بعدا مركزيا للحكامة، من منطلق عدم مصداقية فرض هذه الأخيرة بمنطق الإكراه وسياسة فرض الأمر الواقع.
على صعيد آخر، يطرح الخطاب الملكي الذي أعلن عن المفهوم الجديد للسلطة أحد الأدوار غير التقليدية للسلطة في العلاقة مع المواطنة، حيث ذكر بأن مسؤولية السلطة في مختلف مجالات اختصاصها تنبني أساسا على صيانة الحريات وحماية الحقوق وأداء الواجبات وتجميع الشروط الضرورية التي تستوجبها دولة الحق والقانون.
فيما يخص وظائف السلطة بمفهومها الجديد في مجال التنمية، فتظهر وثيقة الارتباط بالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية من حيث هي إفراز لتشكل ميثاق وطني حول التنمية البشرية ومسيرة إستراتيجية في مجال التحول الاجتماعي.
المرحلة الأولى من المبادرة الممتدة من 2005 إلى 2010 استطاعت أن تؤسس للعديد من الانجازات في المعركة المستمرة مع الفقر والإقصاء من الخدمات العمومية في الأوساط الشعبية المهمشة، حيث تم إحصاء أكثر من 5.200.000 مستفيد مباشر من حوالي 22.000 مشروع تنموي، بما في ذلك 3.700 نشاط مدر للدخل ومنتج لحوالي 40.000 منصب شغل.
بالإضافة إلى هذه الانجازات بلغة الأرقام، تمكنت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من أن تدشن انطلاقة مسلسل متميز من نشر قيم الكرامة والثقة والمشاركة من جهة، ومن جهة أخرى التأسيس لمسيرة ترابية تقوم على فلسفة القرب والتخطيط الاستراتيجي ونسج الشراكات والشفافية وربط الأهداف بالنتائج.
وتأتي المرحلة الثانية للمبادرة الممتدة من 2011 إلى 2015 للتأشير على رهانات تنموية موسعة وتشخيص جيل جديد من التحديات التي يتوجب تجاوزها من قبل كوكبة الفاعلين في إطار المبادرة بما في ذلك السلطات العمومية للدولة. العلامة المميزة لهذه الصيغة الثانية من المبادرة هي أنها أدمجت برنامجا خامسا بالإضافة إلى البرامج الأربعة التقليدية، وهو المتعلق بالتأهيل الترابي.
رابعا: عقلانية القرار الإداري في ضوء المفاهيم السابقة
في بادئ الأمر، يجد القرار الإداري نفسه مطالبا بأن يستقي مادة وجوده من أبنية تشريعية حديثة ومتقدمة تضمن للمخاطبين بأحكامها الأمن القانوني والاستقرار الحقوقي.
الدعامة التشريعية بالرغم من أهميتها التأسيسية بالنسبة للقرارات الإدارية، وإن كانت تضفي عليها الصبغة الشرعية، إلا أن تمتع هذه القرارات بحجية المشروعية تستلزم الاستجابة إلى مقاييس مفاهيمية متبصرة ومصححة من قبيل الحكامة والمفهوم الجديد للسلطة.
هكذا تتحقق مشروعية السلوك الإداري بشكل عام والقرار الإداري بشكل خاص باستقرار قناعات في نفوس الأفراد بأن هذه القرارات تستهدف مصالحهم الحيوية وتحمل في مضامينها مثل الحكمة والصلاح وتضمن لهم حق المشاركة العمومية.
القرار الإداري بهذه المعاني يجعل مبلغ طموحاته تحسين جودة حياة الأفراد من خلال التحكم في هوامش التعارض بين المصالح العامة ومصالح الخواص والحؤول دون اهتزاز الثقة بين هذه المصالح.
شأن القرار السياسي والأمني والاقتصادي، يتوجب على القرار الإداري أن لا يتعارض في روحه مع معايير الحكامة الجيدة لاسيما تلك المتعلقة بالمشاركة وحكم القانون والشفافية والمحاسبة وربط المسؤولية بالنتائج والرؤية الإستراتيجية.
كما أن القرار الإداري مطالب من ناحية أخرى بأن يصيب الفهم الصحيح للمحيط الاجتماعي الذي يخاطبه وأن يصنع الوعي اللازم بالتعقيدات المتمخضة عنه، لاسيما تلك المرتبطة بتجدد أجيال المصالح التي تتعاقب بتجدد أجيال الأفكار والرؤى السياسية.
في العلاقة التي تنشأ بين القرار الإداري والمفهوم الجديد للسلطة، قد نتحدث عن مفهوم القرار الإداري المواطن الذي يستوعب جيدا البيئة التي يشتغل عليها، فهو من جهة يرجح كفة وسائل التعبئة والإقناع على كفة التسلط والإكراه في محاولة لتهيئة المخاطبين بمضامينه عبر آلية الثقة، ومن جهة أخرى يستهدف تأهيل هذه البيئة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتحسين جودة مؤهلاتها والرفع من كفاءاتها بغاية صناعة التوافق بين المخاطب ومن يتلقون الخطاب بدل الصدامية والارتياب المتبادل بينهما.