كتبت هذا المقال وأنا اعلم بأن عنوانه سيغيض البعض ممن يعمل جاهدا على إشعال وتأجيج نيران الفرقة بين القضاة والمحامين ، ويتخذ شعارا له " الدفاع عن الدفاع " و" القضاء على القضاء " ، وأنه لن يصادف كذلك هوى في نفس أولئك الذين اعتادوا على استغلال كل موجة تهب ضد الدولة أو ضد بعض مؤسساتها ، واولئك الذين تعودوا على الركوب على كل تظاهرة أو احتجاج أو وقفة ضدها من أية جهة كانت ولأية غاية من الغايات . ولو كانت من القضاة ، ليعلنوا عن " تضامنهم " معها ، ووقوفهم إلى جانبها . ولو أنك بحثت عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الوقوف وهذا " التضامن " غير البريئين ، لوجدت أن هذه الأسباب لا تعدو أن تكون مجرد تصفية حسابات مع هذه الدولة ، إما لأنها في نظر بعضهم أساءت إليهم في فترة من فترات ما كان يعرف بفترات الجمر والرصاص عن طريق وضعهم رهن المعتقلات أو حتى عن طريق التنكيل بهم وتعذيبهم ، وإما لأنها في نظر البعض الآخر منهم ، وهم كثر ويكاد الجل يعرفهم ، لم تنصفهم ولم تقدر " قيمتهم " عندما لم تحقق لهم ما كانوا يصبون إليه من حصول منها على رتب مرموقة أو على درجات عالية أو على مراكز حساسة . ومنحت هذه الرتب والدرجات والمراكز لمن يعتبرونهم أقل منهم قيمة ، وأضعف تجربة في الحياة السياسية .
ولكني مع ذلك أصررت على هذا العنوان وظللت متشبتا ومتمسكا به . وذلك لاعتقادي الصميم بأن القضاة هم فعلا وحقيقة أحبة لنا نحن المحامين على الأقل ، شاء البعض منا ذلك أم أباه . وإخوة لنا يلتقون معنا في العديد من المؤهلات ويتشاركون معنا في العديد من الصفات . اليست صنعة القضاء تشبه صنعة وحنطة المحاماة في العديد من المناحي والأرجاء ؟
ثم أليس يشترط فيهم ما يشترط فينا من مؤهلات علمية في مجال القانون وغيره ؟ ، ثم السنا نعتمد وإياهم على نفس الأدوات في مزاولة مهنتينا ؟ أدوات القانون والفقه والاجتهاد ولغة الأدب القانوني الرصينة المحكمة عربية كانت أو غير عربية ، والمعرفة التي تكاد أن تكون موسوعية في كل مجالات الحياة التي تنظمها القوانين وتسودها أحكامها . وهي كثيرة لا يمكن أن يحصرها العد ـ أو أن تقف لها يوما على نهاية وحد .
وأكثر من ذلك ألم يجيء المشرع في القانون المنظم لمهنتنا ليكرس هذه الدرجة القصوى من القرابة بيننا وبينهم ـ فيعتبرنا جزءا لا يتجزأ من أسرة القضاء وذلك في أول فصل من فصوله ؟ . وهو تشريف لم يظفر به غيرنا من مساعدي القضاء من عدول وموثقين ومفوضين قضائيين وخبراء وغيرهم ممن يساعدون القضاء في توثيق وسائل اثبات الحقوق لأطراف الخصومات ، أو ممن يساعدونه على تبليغ أوراق الحضور وتنفيذ الأحكام الصادرة عنه ، أو ممن يمدون له يد العون بآرائهم الفنية في مختلف المجالات التي يحتاج فيها إليهم لإصدار أحكامه . ثم أليس يقال عن العدالة أنها مثل طائر جناحاه القضاة والمحامون ؟ .
وليس في ذلك من عجب فإننا نشكل فيما بيننا لحمة واحدة تكاد تشبه لحمة النسب ، وتجمع بيننا عرى ووشائج وثقى لا انفصام لها ، وتربطنا صلات وعلاقات متينة قوية لا يتسرب إليها الضعف والوهن . تربطنا وتجمعنا هذه العرى والوشائج والعلاقات والصلات في كل شيء ؛ تجمعنا في ثقافتنا ومعرفتنا وفي أدوات عملنا كما سبق لنا التنويه إلى ذلك ، وتجمعنا كل يوم في مقرات العمل وفي ردهات المحاكم وفي الجلسات وفي الندوات والمناظرات ، حتى أننا لنكاد نقضي معهم من الأوقات أكثر مما نقضيه مع أسرنا وأولادنا . وتجمعنا في أمر آخر لا يقل عن ذلك أهمية وخطورة . وهو أننا نتميز معا عن باقي المهن في أننا لا نلج قاعات المحاكم ولا ندخل الجلسات إلا ونحن مرتدين بذلة خاصة متميزة تكاد تكون متماثلة في شكلها سوى في شريط من الساتان الأخضر يزين بذلة القضاة من الأمام . أما ما عدا ذلك فكله متشابه . تلحظ ذلك التشابه في اللون الأسود الغالب على لون البذلة الفضفاضة ذات الأكمام الواسعة الذي يدل على الظلمة الموحية بالظلم ، وتجده في ذلك اللون الأبيض الدال على البصيص من النور الموحي بالعدل على ربطة العنق البيضاء القصيرة المتدلية من البذلة على مستوى الرقبة كأنها تريد أن تقول لنا جميعا بأن بصيص نور العدالة معلق تحت رقابنا . وتعثر عليه كذلك في تينك القطعتين من الثوب الأسود المشكلتين فيما بينهما ما يشبه الميزان والتي تنتهي كل واحدة منهما بقطعة بيضاء من وبر الأرنب الذي يرمز في الثقافة الغربية إلى الجبن والخور ، تتدليان من الخلف على الجهة اليسرى من الظهر ، لا من الأمام كما يفعل البعض ، لتعبران أصدق وأبلغ تعبير على أن القضاة والمحامين شجعان يضعون الجبن والخوف وراء ظهورهم ، وأقوياء في نصرة الحق ونشر قيم العدل والإنصاف . لا تأخذ القضاة لومة لائم في الصدح بالحق والحكم بالعدل والجهر به بكل ما أوتوا من جرأة وصرامة وحزم ، ولا يصد المحامين أي عائق ولا يحول أي حائل بينهم وبين الدفاع عن الحقوق والحريات بكل ما أوتوا من قوة وصلابة وعزم . وهناك وجه شبه آخر بين بذلتي كل من القضاة والمحامين تتميزان به عن بذلات أصحاب المهن الأخرى ؛ وهو أنهما معا من بقايا اللباس الذي كان يرتديه القساوسة ورجال الدين والنبلاء في القرون الوسطى . ومن تم كانت لهذه البذلة قدسيتها التي ظلت تحتفظ بها منذ ذلك الحين إلى الآن . وهو ما جعل مدونة سلوك وديونتوليجة من يرتدونها تحرص دوما على وجوب الحفاظ على خصائصها المميزة لها دون أن يمسها أي تغيير أو أن يطرأ عليها أي تبديل ، وتوصي وتحث دائما على أن تكون هذه البذلة ليس فقط نظيفة وأنيقة ، بل وفي منتهى وغاية النظافة والأناقة ، كما وجد أمير المؤمنين ورئيس المجلس الأعلى للقضاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله أن يؤكد على ذلك في المنشور رقم 845 الصادر بتاريخ : 17 ربيع الثاني 1399 ( 16 مارس 1979 ) المتعلق بكيفية عقد الجلسات الرسمية والعادية كما تم تحيينه بتاريخ 11 محرم 1432 ( 17 ديسمبر 2010 ) .
وليس يقصد هنا بالنظافة فقط ، كما قد يخيل للبعض ، ذلك المفهوم العادي المتداول بين الناس المقصود منه أن تكون مغسولة ومكواة بالمصبنات ، ونظيفة مما يدنسها من بقع وأوساخ مادية ، فإن ذلك من البديهيات والمسلمات التي لا تقبل الجدال والمناقشة لأنه متطلب في جميع البذل والألبسة سواء كانت رسمية أو غير رسمية ، ولكن المقصود منها كذلك ، أن تكون نظيفة مما يدنسها من أدران وأوساخ معنوية ، أي أن يكون مرتديها متحليا بالأخلاق والسجايا والخصال الحميدة ، وألا يحيد في سلوكه عن خلال الشرف والمروءة والنزاهة والكرامة سواء في حياته العامة أو في حياته الخاصة . ولعل هذا أن يكون السبب في أن مدونات سلوك مهن القضاء والمحاماة في كل بلدان العالم تقصر ارتداء هذه البذل على مناسبات معينة محددة ؛ هي مناسبات انعقاد الجلسات أو بعض المناسبات التي تتم أمام وبمحضر أعلى سلطة بالبلد .
وتحظر ارتداءها في غير هذه المناسبات ، فلا تسمح لأصحاب هذه البذل بأن يتجولوا بها في الأسواق والمتاجر ، أو أن يتنقلوا بها في الأزقة و الشوارع والمعابر ، أو أن يلبسوها وهم يخطبون في المنصات والمنابر ، أو أن يخرجوا بها مع كل موكل وزائر . فإن ذلك مما ينقص ويبخس من قيمة مرتديها ويخدش في مهنته ، خاصة إذا كان هذا المرتدي لها ليس فقط مجرد شخص عاد محترف لمهنة من المهن العادية ، وإنما هو منتسب ومنتم لسلطة من السلطات الدستورية الثلاث في البلد كالقاضي مثلا ، فإن خروجه للشارع وللأسواق وغيرها ، وحتى للتظاهر والاحتجاج إذا كان مقبولا منه بدون هذه البذلة مع واجب التحفظ الذي يميز القضاة عن غيرهم ؛ لأن خروجه في هذه الحالة يكون مثل خروج أي شخص عاد من المواطنين وغيرهم ، فإن هذا الخروج ببذلته الرسمية في الأزقة والساحات والشوارع والأسواق ، سواء كان ذلك من أجل التجول ، أو من أجل التبضع ، أو حتى من أجل الاحتجاح والتظاهر ، لا يكون مقبولا منه وهو على هذه الحال ؛ لأنه في هذه الحالة يكون خارجا ليس بصفته شخصا عاديا ، وإنما بصفته أحد المنتسبين لسلطة من السلطات الدستورية الثلاث ؛ هي السلطة القضائية . و في نظرنا واعتقادنا ، ليس من حق السلطة القضائية أن تحتج في الساحات والشوارع أمام الجمهور والعموم ، سواء بالبذلة أو بغيرها ، حتى ولو كان ذلك من أجل المطالبة بالاستقلال ، أو على الأصح بالمزيد منه ، من ناحية ، لأن من يرأسها هو جلالة الملك أعلى سلطة في البلد الذي جعله الدستور ضامنا لاستقلال القضاء ، ومن ناحية أخرى ، لأن القضاء سلطة كباقي السلطتين الدستوريتين الأخريين ؛ هما السلطتان التشريعية والتنفيذية .
ولا يصح عقلا أن تخرج سلطة من هذه السلطات الثلاث لتحتج وتتظاهر ضد سلطة أخرى . وإلا عمت الفوضى ، وساد الاضطراب ، وذهبت هيبة الدولة وسيادتها التي يعتبر القضاء أهم مظهر من مظاهرها ، وأبرز من أوكل له الدستور أمر توطيدها وحمايتها و الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها . وما نعتقد أن ذلك بغائب عن ذهن أحبتنا القضاة ، أو غير خاطر ببال إخوتهم المحامين الذين يتشاركون معهم حتى في شكل و قدسية البذلة كما سبق البيان ، فلا يحق لهم هم بدورهم . وهم أصحاب قلم وفكر ، أن يتنكبوا سبل الذوذ عما يعتبرونه حقوقا لهم بالحجة وقوة المنطق والقانون ، ويركبوا سبل الدفاع عن هذه الحقوق بمنطق وقانون القوة . فإن ذلك مما لا يشرفهم ، ولا يشرف مهنتهم . بل على العكس من ذلك ، فإن خروجهم للشارع من أجل الاحتجاج ببذلهم يجعل الجمهور يتفرج عليهم و" يتنكت " ويتندر عليهم .
وبعد فهذه بضع خطرات عنت لي بمناسبة الوقفتين اللتين جرتا بمدينة الرباط الأولى من طرف بعض المحامين أمام البرلمان ، والثانية من طرف بعض القضاة بنادي القضاة بالرباط .
صغتها بحسن نية وصفاء طوية وفي فترة تأمل وأناة وترو ، وبأسلوب لا هو بالخطابي المتحامل ، ولا هو بالأسلوب المغرق في التملق والزلفى و المجامل .
وكيف لي أن أتحامل على أحبتنا القضاة ، أو أن أجاملهم وهم أس الملك والعمران وبنيانه ، والهادون إلى الحق والدالون عليه ، والعاملون على حمايته . بهم يستقيم المعوج ، ويقوم البناء المتصدع المرتج ، وبواسطتهم يرجع الضال عن غيه إلى هداه ، ويعود المتعجرف المتكبر والمتغطرس المتجبر إلى رشده وحجمه ومداه . وبهم نستنير في الظلمات ، وإليهم نفزع عندما تدلهم الخطوب وتنوب النكبات والملمات ، ليكونوا لنا المرشد في الليل الحالك ، ويدلوننا على السبيل المستقيم السالك . وعن طريقهم يقتضي الفقير حقه من الغني ، وينال الضعيف نصيبه من القوي . وبهم يستقر الأمن والسلام في البلاد ، وتشيع الطمأنينة والسكينة على العباد . فتستطيع ربات الحجال أن تقطع الطريق من طنجة إلى الكويرة لا يعترض سبيلها معتد أو سارق ، ويكون بمقدور الرجال أن يتنقلوا من وجدة إلى الصويرة لا يخافون من عدوان جانح أو يخشون من اعتراض مارق . وبأحكامهم تحفظ العترات والأنساب ، ويصان الشرف والعرض والمال والأحساب . يحكمون بين الناس ويوزعون عليهم العدل بالمعروف ، رغم ضآلة المقابل المادي وعدم كفاية المصروف . وقد يكون ذلك السبب في أن البارئ المقسط العادل قد خصهم بحمل صفة من صفاته ؛ هي صفة العدل .
فمن مثلكم يا أحبتنا القضاة ، نال هذا الشرف الرفيع وهذه المرتبة العالية الجذابة ؟ ومن بمقدوره أن يطمع ، أو حتى أن يفكر في الوصول إليها ، أو على الأقل أن يكون على مقربة منها وبمثابة ؟.
فعضوا على هذه المرتبة السامية بالنواجد ، وابقوا متمسكين بها بالأيدي والسواعد . ولا يغرنكم ما قد يقال لكم من أن دستور المملكة الجديد أصبح يعتبر القضاء سلطة . فإن هذه السلطة كانت لكم منذ كنتم . ولم تكن المادة 107 من الدستور بالنسبة لها إلا مجرد معلن و كاشف ، ولم تكن لها بمنشيء ، كما هو معلوم عند كل دارس للقانون وعارف . ولا يغوينكم أن المادة 111 منه أعطتكم الحق في التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية ، وسمحت لكم بحق الانخراط في الجمعيات أو إنشاء جمعيات مهنية مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون .
فإن هذا الحق مقصور على الانخراط في الجمعيات وفي إنشائها ، وليس يتعداه إلى الانخراط في أحزاب سياسية أو الانتماء إلى منظمات نقابية ، كما جاءت توضح ذلك مقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 111 سالفة الذكر . وما أبعد الفرق بين الجمعية التي تسودها أحكام الظهير الشريف رقم : 376 - 58 - 1
بتاريخ : 15/11/1958 يضبط بموجبه حق تأسيس الجمعيات ، والنقابات التي تسودها أحكام الظهير الشريف رقم : 119 – 57 - 1 الصادر بتاريخ :
16/07/1957 بشأن النقابات المهنية . فإن الأولى هي اتفاق لتحقيق تعاون مستمر بين شخصين أو عدة أشخاص لاستخدام معلوماتهم أو نشاطهم لغاية غير توزيع الأرباح فيما بينهم ( الفصل الأول من ظهير : 15/11/1958 ) ، بينما القصد الوحيد من الثانية هو الدرس والدفاع عن المصالح الاقتصادية والصناعية والتجارية والفلاحية الخاصة بالمنخرطين فيها ( الفصل الأول من ظهير : 16/07/1957 ) . ولذلك أقصروا نشاطكم على ما هو عمل جمعوي صرف ؛ فإنه أدعى إلى الوحدة والائتلاف ، وانصرفوا عن كل ما هو سياسي ونقابي ؛ فإنه أصل كل فرقة و اختلاف . وتفكروا وتدبروا وتأملوا تصرفات وفعال الجمعيات التي حولها بعض المنتسبين إليها قبلكم إلى نقابات تدعو إلى الإضراب والتظاهر والاحتجاج ، في الشوارع والساحات والفجاج ، فسترون بأم أعينكم أولا : كيف كان عاقبتها ، وكيف أن الصورة التي كانت لها لدى الكافة ، وكانت تضعها في أعلى عليين أصبحت بعد خروجها للتظاهر في الشارع في أسفل سافلين . وستقفون ثانيا ، على ما ضيعوه على أنفسهم وعلى بني حنطتهم من مكاسب ومغانم ، وما جلبوه لهم وتسببوا لهم فيه من مشاكل ومغارم . كل ذلك بسبب أنهم لم يصغوا إلى صوت العقل والحكمة والمنطق والقانون في المطالبة والدفاع عن هذه المكاسب ، ولم يسعوا للدود بالتي هي أحسن عن هذه المطالب . وليس هنالك أحسن أسلوبا للمطالبة بحق أو للحفاظ عليه غير طريق الحوار الجاد الهادف البناء . وليس يفضي هذا الحوار إلى نتيجة مجدية و مفيدة ومرضية لطرفيه معا إلا إذا كانا أولا : يتحليان بالحكمة والرزانة والتعقل وحسن التدبير . وكانا ثانيا : يحترمان قواعد وأصول التفاوض والحوار . ومن هذه القواعد الراسخة و الأصول الثابتة :
- أن يحترم كل طرف من طرفي الحوار الطرف الآخر المتحاور معه . وأن يعترف به كمحاور رئيسي . وينطلق من أن مركزه فيه ليس بأفضل أو أقوى من مركزه .
- أن يتحلى كل طرف متحاور بالواقعية في اتخاذ مواقفه ، والواقعية في الحوار تقتضي من جملة ما تقتضيه ، أن يأخذ كل من المتحاورين في الحسبان الظروف الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية التي يمر منها الطرف الآخر. و أن يتذكر دائما ذلك المثل الشهير القائل بأن " المحلوبة حليب والمعصورة دم "، وأن ما يؤخذ بالكياسة والسياسة بمعناها الدارج ، لا يمكن أن يؤخذ عن طريق التجاذب والتدافع والتصارع بين طرفي الحوار . فإن سياسة شد الحبل بين طرفي المعادلة – أية معادلة – لا يمكن أن يوجد لها أي حل . كما أن المطالبة بكل شيء أو بلاشيء هي موقف عدمي لا يمكن أن يسفر عن أية نتيجة مرضية لأي طرف من طرفي الحوار الذي ينبغي أن يكون مؤسسا على التوافق والتراضي . وهو موقف يتنافى مع ذلك المبدأ المستقر في أصول وقواعد الحوار المجدي هو مبدأ " خذ وطالب " الذي ينطلق من أن سقف المطالب ، أية مطالب ، لا ينتهي . وأن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، كما تقول بذلك القاعدة الشهيرة .
- أن يكون المتحاور مسلحا بأدوات العقل والمنطق في مفاوضاته ، وأن يؤسس مطالبه على القانون ، والقانون وحده . وهذا يستوجب عليه أن يكون ملما أشد ما يكون الإلمام بالموضوع الذي يتحاور بشأنه وبالنصوص القانونية التي تنظمه أو تكون لها علاقة به .
- أن يرجع المتحاور عن موقفه كلما بان له وجه الخطإ والخطل فيه ، وتأكد له صواب وصحة موقف الطرف الآخر المتحاور معه . دون أن يشعر بأية عقدة في تراجعه عن هذا الموقف . فإن الرجوع عن الخطإ خير من التمادي فيه .
- أن يحتفظ بعلاقة ودية صادقة مع الطرف الآخر وذلك حتى لو لم يفض الحوار بينهما إلى أية نتيجة . فإن ما لا يحصل التراضي والتوافق عليه اليوم يمكن أن يحصل التوافق والتراضي عليه في الغد أو بعد الغد ؛ بسبب اختلاف الظروف أو زوال معوقات الحوار ومشكلاته .
وبعد ، فهذه ، كما قلت سابقا ، بضع خواطر عنت لي بمناسبة الوقفتين اللتين جرتا بمدينة الرباط الأولى من طرف بعض المحامين أمام البرلمان ، والثانية من طرف بعض القضاة بنادي القضاة بالرباط . صغتها بحسن نية وصفاء طوية وفي فترة تأمل وأناة وترو في ذلك الأسلوب الذي رأيته ، وعملت على نشرها لعلها أن تنفذ إلى أفئدة أحبائي القضاة وإخوتي المحامين ، فتجعلهم يميزون الطرق الناجعة السالكة بهم إلى تحقيق ما يصبون إليه من مطالب ، وإلى تكريس ما يهدفون إليه من حقوق ومكاسب عن غيرها من السبل الأخرى التي لا يمكن أن تؤدي بهم سوى إلى الطرق المسدودة والأبواب الموصدة . وليس غير الحوار الهادئ الجاد الذي تتقارع فيه الحجة بالحجة ويتبارى فيه البرهان مع البرهان سبيلا لتحقيق المطالب ، وطريقا لنيل المزيد من المكاسب . وما ذلك علينا بعزيز إذا ما خلصت النيات وصفت الطويات ، ولم ندع في بيتنا ثقبا تتسرب إلينا منه الأهواء والنزوات ، وينفذ لنا منه الخائضون ذوو أقبح النعوت والصفات . وخسئ أولئك رفيقا ، وخاب دوما من يتخذ منهم أو من أحدهم خذنا وصديقا .
فعضوا على هذه المرتبة السامية بالنواجد ، وابقوا متمسكين بها بالأيدي والسواعد . ولا يغرنكم ما قد يقال لكم من أن دستور المملكة الجديد أصبح يعتبر القضاء سلطة . فإن هذه السلطة كانت لكم منذ كنتم . ولم تكن المادة 107 من الدستور بالنسبة لها إلا مجرد معلن و كاشف ، ولم تكن لها بمنشيء ، كما هو معلوم عند كل دارس للقانون وعارف . ولا يغوينكم أن المادة 111 منه أعطتكم الحق في التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية ، وسمحت لكم بحق الانخراط في الجمعيات أو إنشاء جمعيات مهنية مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون .
فإن هذا الحق مقصور على الانخراط في الجمعيات وفي إنشائها ، وليس يتعداه إلى الانخراط في أحزاب سياسية أو الانتماء إلى منظمات نقابية ، كما جاءت توضح ذلك مقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 111 سالفة الذكر . وما أبعد الفرق بين الجمعية التي تسودها أحكام الظهير الشريف رقم : 376 - 58 - 1
بتاريخ : 15/11/1958 يضبط بموجبه حق تأسيس الجمعيات ، والنقابات التي تسودها أحكام الظهير الشريف رقم : 119 – 57 - 1 الصادر بتاريخ :
16/07/1957 بشأن النقابات المهنية . فإن الأولى هي اتفاق لتحقيق تعاون مستمر بين شخصين أو عدة أشخاص لاستخدام معلوماتهم أو نشاطهم لغاية غير توزيع الأرباح فيما بينهم ( الفصل الأول من ظهير : 15/11/1958 ) ، بينما القصد الوحيد من الثانية هو الدرس والدفاع عن المصالح الاقتصادية والصناعية والتجارية والفلاحية الخاصة بالمنخرطين فيها ( الفصل الأول من ظهير : 16/07/1957 ) . ولذلك أقصروا نشاطكم على ما هو عمل جمعوي صرف ؛ فإنه أدعى إلى الوحدة والائتلاف ، وانصرفوا عن كل ما هو سياسي ونقابي ؛ فإنه أصل كل فرقة و اختلاف . وتفكروا وتدبروا وتأملوا تصرفات وفعال الجمعيات التي حولها بعض المنتسبين إليها قبلكم إلى نقابات تدعو إلى الإضراب والتظاهر والاحتجاج ، في الشوارع والساحات والفجاج ، فسترون بأم أعينكم أولا : كيف كان عاقبتها ، وكيف أن الصورة التي كانت لها لدى الكافة ، وكانت تضعها في أعلى عليين أصبحت بعد خروجها للتظاهر في الشارع في أسفل سافلين . وستقفون ثانيا ، على ما ضيعوه على أنفسهم وعلى بني حنطتهم من مكاسب ومغانم ، وما جلبوه لهم وتسببوا لهم فيه من مشاكل ومغارم . كل ذلك بسبب أنهم لم يصغوا إلى صوت العقل والحكمة والمنطق والقانون في المطالبة والدفاع عن هذه المكاسب ، ولم يسعوا للدود بالتي هي أحسن عن هذه المطالب . وليس هنالك أحسن أسلوبا للمطالبة بحق أو للحفاظ عليه غير طريق الحوار الجاد الهادف البناء . وليس يفضي هذا الحوار إلى نتيجة مجدية و مفيدة ومرضية لطرفيه معا إلا إذا كانا أولا : يتحليان بالحكمة والرزانة والتعقل وحسن التدبير . وكانا ثانيا : يحترمان قواعد وأصول التفاوض والحوار . ومن هذه القواعد الراسخة و الأصول الثابتة :
- أن يحترم كل طرف من طرفي الحوار الطرف الآخر المتحاور معه . وأن يعترف به كمحاور رئيسي . وينطلق من أن مركزه فيه ليس بأفضل أو أقوى من مركزه .
- أن يتحلى كل طرف متحاور بالواقعية في اتخاذ مواقفه ، والواقعية في الحوار تقتضي من جملة ما تقتضيه ، أن يأخذ كل من المتحاورين في الحسبان الظروف الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية التي يمر منها الطرف الآخر. و أن يتذكر دائما ذلك المثل الشهير القائل بأن " المحلوبة حليب والمعصورة دم "، وأن ما يؤخذ بالكياسة والسياسة بمعناها الدارج ، لا يمكن أن يؤخذ عن طريق التجاذب والتدافع والتصارع بين طرفي الحوار . فإن سياسة شد الحبل بين طرفي المعادلة – أية معادلة – لا يمكن أن يوجد لها أي حل . كما أن المطالبة بكل شيء أو بلاشيء هي موقف عدمي لا يمكن أن يسفر عن أية نتيجة مرضية لأي طرف من طرفي الحوار الذي ينبغي أن يكون مؤسسا على التوافق والتراضي . وهو موقف يتنافى مع ذلك المبدأ المستقر في أصول وقواعد الحوار المجدي هو مبدأ " خذ وطالب " الذي ينطلق من أن سقف المطالب ، أية مطالب ، لا ينتهي . وأن ما لا يدرك كله لا يترك جله ، كما تقول بذلك القاعدة الشهيرة .
- أن يكون المتحاور مسلحا بأدوات العقل والمنطق في مفاوضاته ، وأن يؤسس مطالبه على القانون ، والقانون وحده . وهذا يستوجب عليه أن يكون ملما أشد ما يكون الإلمام بالموضوع الذي يتحاور بشأنه وبالنصوص القانونية التي تنظمه أو تكون لها علاقة به .
- أن يرجع المتحاور عن موقفه كلما بان له وجه الخطإ والخطل فيه ، وتأكد له صواب وصحة موقف الطرف الآخر المتحاور معه . دون أن يشعر بأية عقدة في تراجعه عن هذا الموقف . فإن الرجوع عن الخطإ خير من التمادي فيه .
- أن يحتفظ بعلاقة ودية صادقة مع الطرف الآخر وذلك حتى لو لم يفض الحوار بينهما إلى أية نتيجة . فإن ما لا يحصل التراضي والتوافق عليه اليوم يمكن أن يحصل التوافق والتراضي عليه في الغد أو بعد الغد ؛ بسبب اختلاف الظروف أو زوال معوقات الحوار ومشكلاته .
وبعد ، فهذه ، كما قلت سابقا ، بضع خواطر عنت لي بمناسبة الوقفتين اللتين جرتا بمدينة الرباط الأولى من طرف بعض المحامين أمام البرلمان ، والثانية من طرف بعض القضاة بنادي القضاة بالرباط . صغتها بحسن نية وصفاء طوية وفي فترة تأمل وأناة وترو في ذلك الأسلوب الذي رأيته ، وعملت على نشرها لعلها أن تنفذ إلى أفئدة أحبائي القضاة وإخوتي المحامين ، فتجعلهم يميزون الطرق الناجعة السالكة بهم إلى تحقيق ما يصبون إليه من مطالب ، وإلى تكريس ما يهدفون إليه من حقوق ومكاسب عن غيرها من السبل الأخرى التي لا يمكن أن تؤدي بهم سوى إلى الطرق المسدودة والأبواب الموصدة . وليس غير الحوار الهادئ الجاد الذي تتقارع فيه الحجة بالحجة ويتبارى فيه البرهان مع البرهان سبيلا لتحقيق المطالب ، وطريقا لنيل المزيد من المكاسب . وما ذلك علينا بعزيز إذا ما خلصت النيات وصفت الطويات ، ولم ندع في بيتنا ثقبا تتسرب إلينا منه الأهواء والنزوات ، وينفذ لنا منه الخائضون ذوو أقبح النعوت والصفات . وخسئ أولئك رفيقا ، وخاب دوما من يتخذ منهم أو من أحدهم خذنا وصديقا .