هذا العنوان هو تجسيد للقاسم المشترك الذي يجمع بين القضاء والمحاماة وهو ان دل على شيء فانما يدل على ان ما يجمع القضاء والمحاماة هو اكثر مما يفرقهما ، فالمحامي
شريك للقاضي في الثقافة القانونية الواحدة وشريك له في ادارة العدالة من منطلق كون موضوعهما واحد وهو مشاكل المجتمع ومنازعاته وهدفهما واحد وهو اقرار العدل بين الناس وكل منهما يساهم من مركزه بقدر معلوم ف...ي اقامة العدالة التي هي الركيزة الاساسية لكل حضارة انسانية ويساهمان بالتالي في ضمان استقرار المجتمع بالدفاع عن الحقوق والحريات العامة والخاصة . فكلاهما يلعب دور الدفاع والفارق ان المحامي هو اول من يتولى الدفاع عن موكله ببسط اوجه دفاعه ودفوعه ، في حين ان القاضي هو اخر من يتولى الدفاع عن الحكم الذي اصدره من خلال حيثياته وتعليله ومن ثم فان المحامي هو روح العدالة الاولية فهو وان لم يكن يكتب الحكم فانه يساهم في صنعه باعطاء التكييف القانوني الصحيح للدعوى وعرضه للادلة والاسانيد القانونية من خلال تحليل للنصوص القانونية وتدعيمها بالاجتهادات الفقهية والقضائية ووضعها بين يدي القاضي تنويرا له وتبديدا للظلمة المحيطة بملف النازلة . فهو يقدم للقضاء المادة الاولية لصناعته وكثيرا ما يقتصر عمل القاضي على الاخذ بنظرية هذا الطرف او ذاك ويقضي على اساسها . وكما يقال القضاء له فضل الترجيح والمحامي له فضل التأسيس .
ولعل أي متامل لمستوى القضاء والمحاماة في اية امة من الامم يجده متقاربا او متشابها وذلك من منطلق العلاقة الجدلية اليومية التي تجمعهما بحيث يؤثران ويتاثران ايجابا وسلبا ببعضهما .
ولعل من ابرز مظاهر هذا الارتباط ايضا انه يحق للمحامي الالتحاق بوظيفة القضاء كما يمكن للقضاة متابعة نشاطهم في مهنة الدفاع.
الا ان تفحص حالة العدالة اليوم بجميع مكوناتها سيقف لا محالة على وجود خلل ناتج بالاساس عن التفريط في امور قد تبدو شكلية والواقع انها في جوهرها الاداة التي اعطت للقضاء هيبته ووقاره واعلت من شأن الدفاع الى اعلى المراتب. ولعل الاحساس بهذا التفريط هو الذي دفع بعض القطاعات المهنية الى التفكير في محاولة تفريغ الاعراف والتقاليد التي تحكمها في مواثيق شرف ، وفي هذا السياق انبثقت مثلا مدونة القيم القضائية التي جاءت جامعة لمجموعة مبادئ على درجة كبيرة من الأهمية شكلت ضمانة لتحقيق قضاء نزيه وعادل يرضي الله وعباده.
ولعل من أهم المبادئ التي اعتمدتها مدونة القيم القضائية مبدأ «السلوك القضائي» الذي من المفروض فيه أن يكون سلوكا تطبعه الايجابية من خلال أخلاقه وسيرته وسلوكه الانساني والمهني يسعى القاضي الى بلورة وتفعيل كل المبادئ التي تضمنتها.
ومن الالتزامات الاخلاقية والمهنية التي يتوجب على رجال القضاء التقيد بها علاقة بمهنة المحاماة اذكر :
*ـ ضرورة تحلي القاضي بالصبر والوقار وحسن الاستماع ، فالصبر كما نعلم جميعا صفة حميدة يجب أن يتحلى بها القاضي لأنها تشكل بالنسبة له قوة وقدرة هائلة على التحمل وتدبير أموره بعقلانية وبمصداقية في تأني وورع وتقوى فالقاضي حينما يكون صبورا فإنه يجسد بذلك طاعة الله عز وجل وهي طاعة مقرونة بأجر رباني لا مثيل له في الدنيا وفي الآخرة وهذا ما نلمسه في قوله عز وجل: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)
، والصبر يكسب القاضي الوقار واحترام الناس له ويعطيه ملكة حسن الاستماع الى أطراف النزاع وتجعله قريبا منهم ينفذ إلى أعماقهم ويتحسس أحاسيسهم ومشاعرهم هدفه الأسمى هو ضمان حقوقهم والحفاظ عليها وإشاعة العدل بين الناس .
ـ ضرورة احترام مواعيد عقد الجلسات والابحاث والمعاينات حتى يشعر الجميع بالضبط والنظام لان في احترام هذه المواعيد مصداقية للقضاء واحترام لاعضائه .
.ـ الاهتمام بما يرد في المرافعات لان في عدم الاكتراث بما يبسطه المحامون تأذ بهم ومساس بحق من حقوقهم الا وهو حق الدفاع حتى لا يتسرب عن ذلك الشك في نزاهة القضاء بقدر ما تفرضه المرافعة من اعتدال مع الاهتمام بالملتمسات التي يمكن ان تفيد في تجهيز القضية وسرعة البث فيها .
ـ تجنب مظاهر تقزيم دور المحامي في المسطرة كتوجيه العتاب الشديد للمتقاضي او المتهم بمحضر محاميه الشيء الذي يحرج المحامي امام موكله ويدفعه الى التدخل احيانا ولو من باب الشكليات والا تعرض بدوره للمؤاخذة من طرف موكله بدعوى انه اهين امامه مما يقزم دور المحامي في المسطرة ويفرغ نيابته من محتواها كسند ودرع لحماية كرامته وحقوقه .
ـ النطق بالاحكام والقرارات في مواعيدها .
ـ تجنب التمديد غير المبرر للبت في الملفات المحجوزة للمداولة لان من شأن ذلك اثارة العديد من التساؤلات التي لا مبرر لها وكذلك من شان ذلك ان يحرج المحامي امام موكليه المعنيين بالامر والذين قد لا يتفهمون معنى
التمديد او يفسرونه تفسيرا ضيقا او مشينا .
واذا كانت سلطة القضاء تقيدها قيود شرعية واخلاقية وادبية فان مهنة المحاماة تحكمها اعراف مهنية كونت مع الزمن قواعد سلوكية ليست كلها مقننة نظرا لكثرتها وانما المكتوب منها هو فقط ما ينص عليه قانون المهنة او الانظمة الداخلية لهيئات المحامين التي تحيل دائما وابدا على التقيد بقواعد المهنة وتقاليدها واعرافها وهي قواعد سلوكية وادبيات تمارس وتستمد الزاميتها وقوتها من اعتزاز المحامي بمهنته . الا انه مع تطور الزمن نالت التحولات الصناعية والتكنولوجية من قدسية تقاليد المهنة واضحى البعض يستهينباعراف وتقاليد مهنة المحاماة لانها في ظنه لا تتلائم مع متطلبات العصر الحالي. وبدأت مظاهر التحلل والخروج عن هذه التقاليد المهنية واعرافها والتنكر لها واقعا لا يمكن تجاهله ، وبالتالي اضحت الحاجة ماسة الى تخليد ايام للاعراف والتقاليد للتذكير بها والتأكيد فيها على ان احترام الاعراف والتقاليد يساهم في تماسك هذه الاسرة ويقوي الروح الجماعية لتخطي كل مخاطر المهنة. واعتقد ان الامر اصبح يحتاج الى تتويج هذه الايام بترجمة هذه الاعراف في ميثاق شرف مهني والعمل على تفعليه بوضع جزاءات على مخالفيه من جهة وكذلك للتعريف بها لحماية المهنة نفسها من خلال تجنب الاتهامات المرسلة بالخروج عن تقاليد واعراف المهنة والتي قد تستخدم في كثير من الاحيان كذريعة قد تعطل المهنة ولا تدافع عنها . بل ارى ان الامر اضحى يحتاج الى اكثر من ذلك من خلال الحاق الاعراف والتقاليد بقانون المهنة لان اخلاقيات المهنة ليست مورثا محليا او جهويا او حتى وطنيا بل هو موروث عالمي مشترك بين كل الشعوب .
واذا كنت لست مؤهلا لان اتكلم عن الحالة التي توجد عليها القواعد السلوكية بين المحامين انفسهم ، فانه وفي اطار الحفاظ على روح التعاون بين القضاة والمحامين اثرت ان اشير الى بعض المظاهر التي تمثل تراجعا عن التمسك بتقاليد واعراف مهنة المحاماة ومن ذلك اذكر :
ـ دخول المحامي المحكمة بدون بذلة . وقد يعتقد البعض ان الجبة تدخل في باب الشكليات الزائدة والحال ان بذلة القضاة والمحامين تمثل التوافق والتجانس والتسوية في اعين المتقاضين فالقاضي في الجلسة يستمع الى الدفاع في شخص المحامي بغض النظر عن اسمه وسنه وشكله ولونه والمحامي في الجلسة يرافع امام القضاء في شخص القاضي بنفس التجرد .وقد يعتقد البعض الاخر ان البذلة تجلب لصاحبها الهيبة والاحترام ولو كان هذا صحيحا لزالت الهيبة والاحترام بزوال الجبة . فالناس ينظرون الى القاضي والمحامي من خلال بذلهم الممثلة للعدالة وللمحاكمة العادلة .
ـ عدم ولوج قاعة الجلسات قبل دخول الهيئة القضائية وذلك من شانه ان يكرس عدم سكينة الجلسة ووقار مكوناتها
ـ استقبال الموكلين ببهو المحكمة بحيث يصبح بهو المحكمة عبارة عن حلقات من المتقاضين يتوسطهم المحامي متكيء ببذلته على جدار يتصفح وثائق او يجيب على اسئلة من التساؤلات بل احيانا ينصب نفسه لاول مرة.
ـ مرافقة المتقاضين الى كتابة الضبط وهذا يتنافى ومبدأ الاحتكار الذي اخذ به المشرع فالمحامي هو وحده المؤهل للقيام بجميع الاجراءات المرتبطة بالملف من حضور الجلسات وتقديم المستنتجات والتعرف على مسار الاجراءات .
ـ التشويش على الزملاء وبالتالي على الهيئة اثناء المرافعة او سير الجلسات اما بالحديث داخل القاعة بين المحامين او بينهم وبين موكليهم ببهو المحكمة واحيانا بباب القاعات .
ـ قراءة الصحف بالقاعة اثناء انعقاد الجلسات وحضور الجلسات بالقبعات على الرأس
ـ اثناء مسطرة التقاضي وسير الدعوى وتقديم المذكرات والمستنتجات والمرافعات فان المشرع تبنى قاعدة خلقية في الفصل 43 ق م م " يجب على الخصوم شرح نزاعاتهم باعتدال " ويقصد بذلك ان تكون المناقشات متسمة بالاعتدال دون انفعالات او تشنج فللجلسة اخلاقياتها وادبياتها بحيث يتعين على الاطراف ان يترافعوا بهدوء وببرودة اعصاب واذا كانت هناك انفعالات فيجب ان لا تتخطى الحد اللازم للاحترام الواجب لمجلس القضاء . فالمحامي لا يمثل موكله فحسب بل انه يجسد ايضا سلوك رجل القانون وسلوك الهيئة التي ينتمي اليها امام المتقاضين وامام زملائه المنتمين لهيئات اخرى .
ـ في اطار قواعد الترافع التي يلتزم بها المحامون والتي يتضمنها قانون المهنة وتقررها اعرافها وتقاليدها وكذا ادبياتها ما نصت عليه المادة47 من قانون المهنة والمتعلق بوضع حد لوكالة المحامي نيابة او مؤازرة اذ لا يجوز للمحامي ذلك الا اذا اختار الظرف المناسب واتبع اجراءات مسطرية خاصة وانه في عدم اتباع هذه الاجراءات واختيار الظرف المناسب اطالة عمر النزاع.
ـ من مظاهر عدم التعاون ايضا عدم مواكبة بعض السادة المحامون لملفاتهم بصفة شخصية الشيء الذي يجعل المحامي المنتدب لا يكون ملما بالاجراءات في الملف وقد يسند النظر والحال ان الامر يحتاج اجراءا جوهريا
معينا من جانبه ولما تحجز المحكمة القضية للمداولة نواجه بطلبات اخراج من المداولة وهذا بطبيعة الحال فيه اطالة لعمر النزاع
ـ عدم ابلاغ الموكلين بنتائج الاجراءات والقرارات اولا باول الشيء الذي يؤدي الى زعزعة الثقة بين الطرفين مما يضطر معه المتقاضي باسلوب او باخر الى البحث بانفسهم عن مال اجراءاهم القضائية .
وفي الاخير، وسعيا لخلق الجو الملائم للتعاون القائم على الاحترام المتبادل والمتواصل واحتواء كل ما يمكن أن يطرأ من مشاكل قد تنعكس سلبا على سير العدالة، وتكريسا لأسلوب الحوار بين القضاة والمحامين فاني اقترح التنسيق مع المسؤولين القضائيين على مستوى كل محكمة لخلق هيئة تحكيمية تتكون من المسؤولين القضائيين ونقيب هيئة المحامين او من يمثله على مستوى المحاكم الابتدائية مهمتها ملامسة المشاكل التي قد تعترض عمل القاضي في علاقته بهيئة الدفاع والمحامي في علاقته بالقضاء وايجاد صيغ متوازنة لاحتواء هذه المشاكل وتدليل كافة الصعوبات التي قد تعترض السير العادي لعمل الطرفين .