إن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب، تعتبر من بين أهم المحددات لظهور نخبة جديدة وضعت لنفسها حيزاً في الحقل السياسي و الإداري المغربي فرضت نفسها نسبياً على مستوى تموقعها في المناصب العليا في الدولة ، الشيء الذي انعكس على ملامح هذه الفئة و مواردها و علاقتها بالسلطة السياسية.
و لقد عرفت النخبة التقنية (فئة المهندسين ) صعوداً لافتا للنظر حيث برز وبشكل واضح منذ التسعينات و لا سيما في العشرية الأخيرة (1999 - 2010) صعود نخبة المهندسين و تمركزها على مستوى أسمى مناصب المسؤولية في الدولة، و تواجدهم في وظائف سياسية اقتصادية واجتماعية، إذ تمثل هذا الارتقاء في تزايد عدد المهندسين وولوجهم لمجالات غير مسبوقة، والتي تقتضي تداول السلطة و تدبير القطاعات الحيوية و مرافق الدولة من لدن التقنيين والخبراء والمهندسين الذين أصبحوا منذ اعتلاء محمد السادس العرش متواجدين على عدة مستويات في الوظائف السامية في الدولة، هذا و أن تفاعل النخبة التقنية في النسق السياسي المغربي يمكن توضيحه إنطلاق من ثلاث فرضيات هي :
• الفرضية الأولى تنبني على أن بروز هذه النخبة و لجوء الدولة للتكنوقراط خاصة نخبة المهندسين لتدبير السلطة، كان محل قناعة سياسية راسخة في دوائر الحكم في العشرية الأخيرة ولعدة عوامل، بعدما كان تواجدهم في عهد الحسن الثاني مرتبطا بالظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي راكمها المغرب.
• أما الفرضية الثانية تبرز أن من ناحية تكوين النخبة التقنية و التكنوقراط المغاربة ، تواجد ثنائية البُنَى التعليمية فيما يخص عملية إنتاجها في المقابل هيمنة المهندسين المتخرجين من المعاهد و المدارس الفرنسية الكبرى على أسمى الوظائف و مناصب المسؤولية في الدولة، و القول بتراجع دور المدارس المغربية في إنتاج التكنوقراط المغاربة .هذا وإن كانت هذه الأقلية تنفرد بخصائص تميزها عن باقي النخب في المغرب، إلا أنها تعد صورة منقحة و امتداداً للنخبة التقليدية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال نظرا لتقاطعها في شرعية الوصول للسلطة.
• أما الفرضية الثالثة تنطلق من كون سياسة التنخيب في المغرب ليست قائمة فقط على محدد الكفاءة و الاستحقاق، بل ما زال الرأسمال العائلي والاقتصادي والشبكات الاجتماعية المحدد الأكثر حضوراً الذي يتدخل في عملية انتقاء المهندسين وولوجهم لدواليب السلطة. و كونها أصبحت قريبة من دوائر اتخاذ القرار السياسي وتموقعها في أعلى مراتب مناصب المسؤولية في الدولة، إذ يلاحظ أن هذه النخبة أخذت موقعا متميزاً داخل النسق السياسي والإداري المغربي، الذي عرف حضوراً مـكـثـفا للمهندسين خـاصة على مسـتوى المؤســسة التنـفيـذيـة كوزراء و ولاة و عمال. وعلى مسـتـوى المنـاصب السامـية فـي الإدارة العـمومية كـمدراء للـمديريات المـركـزيـة و مدراء المكاتب الوطنية والمؤسسات العمومية، الشيء الذي يبرز تداخل السياسي بالتقني و بالتالي فتح النقاش حول المحددات التي أدت بالدولة لللجوء لنخبة الـمهنـدسيـن أي مدى إمـكانـية القول بأن هـذا الوضع كان نـتاج ضرورة ظرفـية أم أن ذلك كان محل قناعة سياسية مسبقة.
إن التحولات التي راكمها المغرب، أثرت على مواصفات النخبة السياسية في شكل موجات ثلاث، تعاقب فيها الأعيان ثم الإداريين لتهيمن مؤخرًا ملامح غير مسبوقة من النخبة تتجسد في التكنوقراط، مما أفضى إلى اتساع حجم النخبة السياسية بكل مكوناتها (الحكومية، الإدارية، الحزبية...)، وتأثيرها على موارد وأسس السلطة ومن ثم على التوازنات القائمة والهرمية السياسية، في حين مازالت عناصر أخرى تستثمر ما تتوفر عليه من موارد ومواقع، مستغلة هيمنة الثقافة "التنظيمية التقليدية" في الإبقاء على موقعها ووضعيتها، في حين يتنافس البعض الآخر على الموارد الحديثة التي تستدعي الكفاءة والمهنية، وبالتالي فإن هذا الوضع يطرح أكثر من استفهام حول نمط ومصادر إنتاج النخبة التقنية بالمغرب، حيث إذا كان صعود التكنوقراط في المغرب نتاج صيرورات متنوعة ومختلفة، فإن ذلك راجع كذلك لصيرورة التتخيب الذي اقترن بها النظام التعليمي والذي يعد أهم مصدر من مصادر إنتاج وإعادة إنتاج النخبة السياسية بالمغرب، إذا اتسم كذلك بثنائية أماكن إنتاج المهندسين والتقنيين كمحدد أساسي في إنتاج التكنوقراط المغاربة، الذي يخضع لثنائية البنى التعليمية المتجسدة في:
المؤسسات المغربية الخاصة بتكوين المهندسين : حيث عرف المغرب منذ سنة 1959، الإرهاصات الأولى لإنشاء أحد أهم أقطاب نظام المدارس الكبرى التي تعتبر المحدد الأساسي في تكوين النخب التقنية بالمغرب أي منذ إنشاء المدرسة المحمدية للمهندسين وبعدها توالت سياسة تشيد مدارس المهندسين والذي تجاوز عددها عشر مدارس تمثل النواة الأولى مدارس الكبرى في المغرب، غير أنه أبـانت بـعض الـدراسات حول نـخبة الـمهـندسيـن، أن المدارس المغربـية للمهندسين لا تعتبر فعلا مكاناً لمرور وإنتاج التكنوقراط بالمغرب، نظرا لكونها لا تعتبر منفذاً حقيقيا كما هو الشأن بالنسبة للمدارس الفرنسية، لولوج المناصب السامية في الدولة والوصول إلى أقطاب السلطة ومراكز القرار، وبالتالي تكون المدارس الوطنية قد فقدت دورها في إنتاج التكنوقراط ، بل وحتى النخب السياسية بالمغرب، إذ أن اقل ما يمكن أن نصفها به هو أنها تتسم ببعض خصائص المدارس الفرنسية، التي تعتمد على نظام الانتقاء لولوجها. بل عدم تأثيرها في المسار المهني لخريجيها تأثيرا يجعلها تتبوأ مناصب سامية في الدولة وهو ما تحققه المدارس الفرنسية منذ بداية مشوارها، نظرا لطبيعة التكوين في هذه المؤسسات الذي يتميز بكونه متعدد التخصصات (polyvalent)، يسمح بالتداول بين مختلف قطاعات النخبة. فكل تخصص تقني دقيق سيؤثر على حركة وتموقع التكنوقراط داخل الحقل السياسي والإداري المغربي، ويساهم في تعزيز موقعهم على مستوى تدبير السياسات العمومية.
إن إدراك أدوار وتموقعات ووظائف النخبة بالمغرب، لا يتم إلا من خلال فهم طبيعة النسق السياسي وأبعاد إستراتيجيته اتجاه باقي الفاعلين وقدراته على التجديد والاستمرارية، ولقد حاولت العديد من المقاربات دراسة النسق السياسي المغربي انطلاقا من الدور الوظيفي للنخبة السياسية بالمغرب.
ولعل ظاهرة ولوج نخبة المهندسين لمراكز القرار، الظاهرة الأقرب لفهم الواقع السياسي والاقتصادي المغربي خاصة بعد ظهور الدولة العصرية والتي كرست مفاهيم جديدة في واقع له منطق خاص في التسيير، الشيء الذي يطرح صعوبة فهم ديناميكيته وآلياته لاسيما وقد تعزز اليوم موقع المهندسين داخل البنيات السياسية والإدارية والاقتصادية في المغرب وذلك يتضح من خلال :
أولا : ولوج المهندسين للحقل السياسي و الإداري المغربي
إن حجم تواجد المهندسين التكنوقراط في عهد الملك الحسن الثاني إذا كان ارتبط بالظرفية السياسية والاقتصادية للبلاد وبالطبيعة السياسية أو التكنوقراطية للحكومات، ففي عهد الملك محمد السادس أصبح تواجدهم شبه قار، وأصبح عددهم في تزايد مستمر في الحكـومات الســياسـية أكــثـر مـنه فـي حــكومات وزراؤها الأولـون تكــنوقـراط فمن نتائج هذه القناعة الجديدة التي تمخضت عن مقتضيات المفهوم الجديد للسلطة هو التطور الكمي والنوعي للنخبة التقنية حيث تم ولوج المهندسين للجهاز الحكومي ، حيث عرف بروز هذه النخبة على صعيد الجهاز الحـكـومي منذ الاستـقـلال إذ وصل عـدد الـوزراء الـتكـنوقراط منذ حكومة 8 يونيو 1965 إلى حدود حكومة 10 أكتوبر 1977 212 وزيرا، في حين وصل عدد الوزراء التكنوقراط في حكومة 10 أكتوبر 1977، إحدى عشر وزيراً تكنوقراطياً ثم انخفض عددهم إلى ستة تكنوقراطيـين في حكومة 27 مارس 1979.
ونظرا للظروف والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المغرب في الثمانينات، فقد عرف الحقل السياسي تزايداً للمهندسين على مستوى الحقل الوزاري، إذ ضمت حكومة 19 نونبر 1983 عشرون وزيراً تقنيا، في حين عرفت حكومة 11 أبريل 1985 دخول 26 وزيراً تقنيا رغم تزايد عدد الأحزاب السياسية في المغرب خلال هذه الفترة هذا وأن حضور النخبة التقنية في التشكيلات الحكومية لسنوات التسعينات كان بارزاً أيضا في حكومتي عز الدين العراقي لسنة 1992 و الفيلالي لسنة 1994.
ومع بداية التناوب السياسي، ازداد حجم المهندسين داخل التشكيلات الحكومية خاصة في حكومتي إدريس جطو وعباس الفاسي، وذلك مع تحول الأدوار الحكومية إذ يمكن القول بأن الجهاز الحكومي تحول إلى جهاز لتسيير القطاعات من لدنالمهندسين التكنوقراط. إذ عرفت حكومة إدريس جطو بكل تعديلاتها الوزارية حضورا قويا للمهندسين الشيء الذي وصفت بالحكومة التكنوقراطية، حيث بلغ عدد الوزراء المهندسين فيها إلى سبعة فيما شهدت حكومة عباس الفاسي نفس عدد المهندسين التكنوقراط داخل تشكيلتها الحكومية.
فالمنصب الوزاري ليس وحده مستقطباً للمهندسين، إذ تم تعيين العشرات من المهندسين ككتاب عامون للوزارات، فولوج النخبة التقنية للحقل السياسي المغربي لا يقف عند حد الاستوزار في الجهاز الحكومي، بل أصبح تواجدهم نمطيا في الإدارة الترابية ولو بشكل متباين وعلى امتداد فترات معينة، حيث بدا يتبـين تمركز هذه النخبة وبشكل كبير على رأس الإدارة الترابية كعمال وولاة، إذ أن التحول الذي عرفه المغرب منذ ظهور المفهوم الجديد للسلطة، غير من التصور المحكوم بالهواجس الأمنية التي كان ينظر إليه منصب العامل والوالي، حيث أصبح هذا الأخير معنيا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتشجيع الاستثمارات الخارجية...الخ مما يفسر تعيين مجموعة من المهندسين كولاة وعمال، سواء على صعيد الإدارة المركزية والإدارة اللاممركزة، وذلك منذ حركة 21 يوليوز 2009 التي تم فيها تعيين تسعة ولاة تكنوقراط دفعة واحدة.
إن أغلب نخبة التكنوقراط المغاربة، ونظرا لكفاءتهم التقنية و التدبيرية قد احتلوا أسمى مناصب المسؤولية في الدولة، خاصة على مستوى الإدارة العمومية و لاسيما كمدراء للمديريات المركزية التابعة لمختلف القطاعات الوزارية. ومن بعض النماذج هناك مديرية الهجرة ومراقبة الحدود بوزارة الداخلية، التي أسندت إلى التكنوقراطي خالد الزوالي خريج المدرسة المحمدية للمهندسين، ومديرية النقل الطرقي والسلامة الطرقية بوزارة التجهيز والنقل التي أسندت إلى محمد مغراوي خريج مدرسة الجسور والقناطر بباريس، ومديرية إعداد التراب بوزارة الإسكان والتعمير وإعداد المجال التي أسندت للمهندس "عبد الواحد فكرات" خريج المدرسة المركزية بباريس، والأمثلة عديدة عن ولوج المهندسين إلى الأقطاب الرئيسية للإدارة العمومية.
هذا وقد تمركز التكنوقراط بشكل واضح في إدارة وتسيير المقاولات الكبرى والمؤسسات العمومية الاستراتيجية للدولة مثل :
المكتب الشريف للفسفاط يديره (مصطفى التراب)
الوكالة الوطنية للموانئ أسند لـ (دليل جندوز )
المكتب الوطني للهيدروكربورات: أسندت (لأمينة بنخضرا)
الشركة الوطنية للنقل واللوجستيك، أسندت للمهندس (أسامة الودغيري )
المكتب الوطني للسكك الحديدية تحت إدارة المهندس (محمد ربيع الخليع).
فغالبية إن لم نقل كل مدراء المكاتب الوطنية والمؤسسات العمومية ذات النشاط الاقتصادي أو الاجتماعي أو الصناعي، من التكنوقراط خريجي المدارس الكبرى الفرنسية، كما أن نصف مدراء المراكز الجهوية للاستثمار مهندسين تكنوقراط، ومدراء وكالتي التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشمال والجنوب من التكنوقراط كذلك، والأمثلة عديدة عن مظاهر ولوج المهندسين للحقل الإداري المغربي، حيث تعتبر هذه المؤسسات الأكثر استقطابا للتكنوقراط خاصة خريجي المدارس الفرنسية لتكوين المهندسين وذلك نظرا للمؤهلات والكفاءة التقنية التي يمتلكونها في ميدان تخصصهم.
وإذا كان التكنوقراط يتمتعون بخاصيـة الحياد السياسـي، فـإن ذلك لا يعني أنهم مسقطون من أي انتماء حزبـي فرغم أنهم غالبا ما يعتبرون لا منتمين سياسياً إلا أنهم قد ولوجوا المشهد الحزبي على غرار توليهم لحقائب وزارية، إلا أن ولوجهم للحقل الحزبي في المغرب يبقى ضعيفا، نظراً لتباين منافذ الوصول للوظائف الحكومية،
فقد أثبتت الممارسة المغربية أن تحزب التكنوقراط غالبا ما يكون لضرورة سياسية أكثر منها لوجود قناعة راسخة لدى الأحزاب لاستقطاب الأطر التقنية (نظرا لضعف ثقافتهم السياسية)، فباستثناء محمد القباج وزير المالية والاستثمارات الخارجية في حكومة عبد اللطيف الفيلالي الأولى (خريج مدرسة البولتكنيك) الذي كان منتمياً لحزب الاتحاد الدستوري، نجد أن القناعة الجديدة لدوائر الحكم - بعد صعود التكنوقراط الذي أدى إلى تهميش الأحزاب السياسية - أفضت إلى إنزال هذه الملامح (التكنوقراط) في تلك البنيات (الأحزاب)، و التوفير لهم غطاءً حزبياً، كما هو الحال لعادل الدويري و كريم غلاب في حزب الاستقلال وعزيز أخنوش، أمينة بنخضرا وياسر الزناكي في حزب التجمع الوطني للأحرار، الشيء الذي يبرر شرعية ولوجهم لمناصب وزارية وتواجدهم على رأس بعض القطاعات الحكومية، وكذا على مستوى الإدارات والمؤسسات العمومية نظراً لعامل الكفاءة التقنية التي تنبني عليها قناعة الدولة في اللجوء إلى التكنوقراط لما لهم من دور كبير في تدبير الخيارات الإستراتيجية، والتدبير التنموي للقطاعات الإنتاجية في البلاد، فضلا عن امتلاكهم القدرة على اتخاذ القرارات الإستراتيجية بنوع من الحياد والموضوعية وبشكل يساعد على توجيه وتدبير فعال يقوم على مقاربة النجاعة في صنع وتدبير السياسات العمومية.
ثانيا : دور النخبة التقنية ( المهندسين ) في تدبير السياسات العمومية
إن ولوج المهندسين لأسمى المناصب الإدارية والسياسية في الدولة يعزز دورهم في إعداد واتخاذ القرارات الإستراتيجية، سيما وأنهم يملكون آلية مراقبة المعلومات والقدرة على استعمال الوسائل التقنية اللازمة لوضع التوقعات، والتخطيط على المدى القصير، المتوسط والبعيد، وهو ما يدل على أن التكنوقراط لا يكتفون بتسيير الشؤون العامة تقنيا فحسب كما تدعي ذلك النظريات التقليدية، بل يشاركون أيضا في إعداد القرارات الحكومية نظراً لتموقهم على أكثر من مستوى في جل المناصب والوظائف الإدارية والسياسية في الدولة، حيث أن واقع العلاقات السوسيوسياسية يكشف عن الدور الكبير الذي بات يضطلع به التقنيون والمهندسون لاسيما في مجال مواجهة الأزمات والمشاكل التي تفرض بتفصيلاتها على الواقع السياسي و الإداري و الاقتصادي والاجتماعي في المغرب.
ومن هذا المعطى بات من المهم النظر في مجمل العلاقات السابقة التي كانت تخضع لهيمنة العامل السياسي كمجال خصب لعمل التكنوقراط، الذي يبرز من خلاله دور هذا الأخير في ترسيخ وتحقيق معدلات النمو وتوسيع معطيات الجانب الإنتاجي، وتحقيق الطفرات النوعية على المستوى الاقتصادي والتنموي، بل أن دورهم الأساسي يتجلى كذلك في عملية اتخاذ القرارات التي تتم على مستوى الدولة (من خلال احتكار القيادة الإدارية والسياسية) وممارسة السلطة التي أصبحت حسب الأستاذ عبد الله ساعف تميل إلى بناء الاستراتيجيات الكبرى، أي خضوعها للحس التقني و التدبيـري الذي تتمتع به النخبة التقنية، والذي يعتبر من بين أهم العناصر المحركة للنظام السياسي والإداري في الدولة التي تشكل فيها التنمية مطلبا أوليا، نظراً للدور المركزي الذي يلعبه التكنوقراط في إعداد السياسات العمومية وتنفيذها، حيث إذا كان العمل السياسي من اختصاص الحكومة والسلطة التنفيذية فإن السياسات الحكومية تعتبر هنا نتاجاً لعمل مستمر بين السلطة التنفيذية والمستويات العليا للبيروقراطية التي يتمركز فيها التكنوقراط وبشكل متزايد خاصة في الفترات الأخيرة، الشيء الذي يجعل سطوتهم على المناصب الإدارية والسياسية ووصولهم لمراكز القرار أداة ضرورية في عملية التغيير و وضع السياسات التنموية وتنفيذها.
ويتضح تدخل النخبة التقنية في إعداد السياسات العمومية للبلاد تبعاً لنوعية المناصب والوظائف التي يتقلدونها، والتي غالبا ما تكون مناصب في قطاعات إستراتيجية تنم عن تبني المقاربة التنموية، إذ يبرز تواجد المهندسين في قطاعات حيوية وعلى أعلى مستوى من مستويات اتخاذ القرار كفاعلين أساسيين في رسم وصنع السياسات العمومية الاقتصادية، الاجتماعية، التنموية...الخ. حيث نجد أن الحقائب الوزارية ذات النشاط التقني والاستراتيجي والذي يفرض وجود كفاءات تقنية تسير القطاع، متمركزة في يد مهندسين خريجي أكبر المدارس الفرنسية كوزارات التجهيز والنقل، وزارة الطاقة والمعادن وزارة الفلاحة والصيد البحري وزارة السياحة، وزارة الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة، حيث أن تدبير هذه القطاعات الحيوية يستوجب اتخاذ قرارات حاسمة بعيدة عن أي أجندة سياسية الشيء الذي يجعل من تدبيرها لهذه القطاعات تدبيراً قائماً على أساس المقاربة التنموية، والتي خلفت عدة تدخلات كانت محل سياسات عمومية.
إن دور النخبة التقنية في تدبير السياسات العامة لا يتوقف على المواقف الحكومية التي يتبوؤها وإنما يمكن القول "أينما وُجد المهندسين التكنوقراط توجد سياسة عمومية معينة حسب القطاع الذي يسيرونه، لاسيما القطاعات الحيوية والتي تتركز جزء كبير منها في المؤسسات العمومية والمقاولات الكبرى والمكاتب الوطنية، وهي غالبا ما تكون تحت إشراف مهندسين ، إن لم تكن قد أصبحت هذه العادة عُرفاً مؤسساتياً يخول تولي المهندسين الإشراف على تسيير المقاولات الكبرى والمؤسسات العمومية مثل المكتب الوطني للسكك الحديدية والمكتب الشريف للفسفاط وغيرها.
فهيمنة شريحة المهندسين على مراكز القرار يساهم إلى حد بعيد في الاهتمام بالمشاكل التقنية والإدارية على الخصوص والاضطلاع بالأدوار المنوطة بهم سواء على المستوى الوطني أو المحلي، في غياب تام لسياسة اجتماعية متماسكة تروم التطوير ولا تقتصر فقط على التدبير. هذا و أن استقطاب النخبة التقنية والاعتماد عليها، كان بداعي توفير أطر عليا مؤهلة وذات كفاءة تقنية تساير سياسة الأوراش الكبرى التي أعلن عنها الملك محمد السادس.
فمن خلال كل ما سبق يتبين أن المهندسين التكنوقراط المغاربة لهم دور كبير في تطوير البنية التحتية في مجالات عدة، مثل التخطيط الحضري والقروي وإنجاز المشاريع التنموية وغيرها من السياسات العمومية القطاعية، كالتدبير اللامتمركز للاستـثمار المبـادرة الوطـنية للـتـنمية البشرية، البرامـج الاجـتماعية التضامنية، حيث يمكن القول بأن دور المهندسين تخطى سياسة التدبير المعقلن للقطاعات، إلى مساهمتهم في تشكيل الدولة الحديثة.
و في الأخير يلاحظ أن هناك عد مفارقات تأكد صحة الفرضيات السابقة ، إذ اتضح من حيث الدلالة العلاقتية للنخبة بالمغرب، وجود علاقة قوية بين التكنوقراط ( المهندسين ) و السلطة السياسية، حيث تبرز هذه العلاقة في تواجد هذه الأقلية في مختلف مناصب المسؤولية على مستوى الحقلين السياسي و الإداري، وتحكمها في مراكز صنع القرار و توجيه السياسات العمومية، الشيء الذي يكرس انخراط المهندسين في العمل و الفعل السياسي ( L’action politique) ، و أن هذه الجـدلـيـة ( السياسي – التقني ) مبنية على منطق تكامل الأدوار .
رغم ذلك فإن الأعراض الجانبية لتزايد اللجوء إلى هذه النخبة، تكمن في الاتجاه نحو ضعف التمايز وسط الطبقة الحاكمة و احتكارها للرأسمال الرمزي الممنوح من المدارس الفرنسية الكبرى ، و هو ما يوضح أن المؤسسات المغربية لإنتاج التكنوقراط ، قد فقدت شرعية سلطتها الرمزية لصالح المدارس الفرنسية و لم تعد مكاناً لإنتاج نخبة التكنوقراط ، على اعتبار أن خريجي المدارس الفرنسية هم الذين يسيرون البلاد ويحتلون المناصب العليا في الدولة، الشيء الذي يكشف على أن خبايا سياسة التنخيب في المغرب، قائمة على الرأسمال العائلي و الاقتصادي و الشبكات الاجتماعية، و هو ما أبرزته الخلفية الاجتماعية للتكنوقراط المغاربة و كشفت عنه محددات انتقائهم ، التي أفرزت احتكار تكنوقراط ورثة البورجوازية التقليدية لأسمى المناصب و الوظائف السياسية و الإدارية في الدولة، و يؤكد أن نخبة التكنوقراط التي تستقر على أعلى مستويات السلطة في الدولة ما هي إلا صورة منقحة و امتداداً للنخبة التقنية التي عرفتها الدولة البتريمونيالية .
غير أنه يؤخذ على هذه الأقلية و بحكم أن مسارهم المهني الذي يكون في أعلى المواقع يفضي إلى إنزالهم قبل أن يبينوا كفاءاتهم على أرض الواقع ، و هو ما يحول دون إدراكهم للمشاكل الاجتماعية ، الشيء الذي فتح مجالاً للنقاش حول تقييم الحصيلة الإنتاجية لهذه الأقلية الإستراتيجية، مادام مبرر اللجوء إليها تأسس على دوافع إنمائية و تنموية ( في الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ...). ومجالا لطرح إشكال آخر حول المدى الذي يمكن معه لهذه النخبة أن تتواجد فيه خاصة مع الفترة التي تواكب تنزيل مقتضيات الدستور الجديد ، أي إلى أي حد يمكن معه أن تحافظ النخبة التقنية على مواقعها في أعلى مناصب المسؤولية في الدولة؟ وهل ستحافظ على استمراريتها في فرض سيطرتها و احتكارها لمراكز القرار أم أنه سيتراجع وجودها وتغلغلها على مستوى الجهاز الوزاري والأجهزة الإدارية وفقا للأحكام التي تخص التعيين في المناصب السامية في الدول طبقاً لمقتضيات الدستور الجديد ومع المصادقة على القانون الذي ينظم التعيين في المؤسسات العمومية الاستراتيجية .
تاريخ التوصل:2 غشت 2012
تاريخ النشر: 5 غشت 2012
و لقد عرفت النخبة التقنية (فئة المهندسين ) صعوداً لافتا للنظر حيث برز وبشكل واضح منذ التسعينات و لا سيما في العشرية الأخيرة (1999 - 2010) صعود نخبة المهندسين و تمركزها على مستوى أسمى مناصب المسؤولية في الدولة، و تواجدهم في وظائف سياسية اقتصادية واجتماعية، إذ تمثل هذا الارتقاء في تزايد عدد المهندسين وولوجهم لمجالات غير مسبوقة، والتي تقتضي تداول السلطة و تدبير القطاعات الحيوية و مرافق الدولة من لدن التقنيين والخبراء والمهندسين الذين أصبحوا منذ اعتلاء محمد السادس العرش متواجدين على عدة مستويات في الوظائف السامية في الدولة، هذا و أن تفاعل النخبة التقنية في النسق السياسي المغربي يمكن توضيحه إنطلاق من ثلاث فرضيات هي :
• الفرضية الأولى تنبني على أن بروز هذه النخبة و لجوء الدولة للتكنوقراط خاصة نخبة المهندسين لتدبير السلطة، كان محل قناعة سياسية راسخة في دوائر الحكم في العشرية الأخيرة ولعدة عوامل، بعدما كان تواجدهم في عهد الحسن الثاني مرتبطا بالظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي راكمها المغرب.
• أما الفرضية الثانية تبرز أن من ناحية تكوين النخبة التقنية و التكنوقراط المغاربة ، تواجد ثنائية البُنَى التعليمية فيما يخص عملية إنتاجها في المقابل هيمنة المهندسين المتخرجين من المعاهد و المدارس الفرنسية الكبرى على أسمى الوظائف و مناصب المسؤولية في الدولة، و القول بتراجع دور المدارس المغربية في إنتاج التكنوقراط المغاربة .هذا وإن كانت هذه الأقلية تنفرد بخصائص تميزها عن باقي النخب في المغرب، إلا أنها تعد صورة منقحة و امتداداً للنخبة التقليدية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال نظرا لتقاطعها في شرعية الوصول للسلطة.
• أما الفرضية الثالثة تنطلق من كون سياسة التنخيب في المغرب ليست قائمة فقط على محدد الكفاءة و الاستحقاق، بل ما زال الرأسمال العائلي والاقتصادي والشبكات الاجتماعية المحدد الأكثر حضوراً الذي يتدخل في عملية انتقاء المهندسين وولوجهم لدواليب السلطة. و كونها أصبحت قريبة من دوائر اتخاذ القرار السياسي وتموقعها في أعلى مراتب مناصب المسؤولية في الدولة، إذ يلاحظ أن هذه النخبة أخذت موقعا متميزاً داخل النسق السياسي والإداري المغربي، الذي عرف حضوراً مـكـثـفا للمهندسين خـاصة على مسـتوى المؤســسة التنـفيـذيـة كوزراء و ولاة و عمال. وعلى مسـتـوى المنـاصب السامـية فـي الإدارة العـمومية كـمدراء للـمديريات المـركـزيـة و مدراء المكاتب الوطنية والمؤسسات العمومية، الشيء الذي يبرز تداخل السياسي بالتقني و بالتالي فتح النقاش حول المحددات التي أدت بالدولة لللجوء لنخبة الـمهنـدسيـن أي مدى إمـكانـية القول بأن هـذا الوضع كان نـتاج ضرورة ظرفـية أم أن ذلك كان محل قناعة سياسية مسبقة.
إن التحولات التي راكمها المغرب، أثرت على مواصفات النخبة السياسية في شكل موجات ثلاث، تعاقب فيها الأعيان ثم الإداريين لتهيمن مؤخرًا ملامح غير مسبوقة من النخبة تتجسد في التكنوقراط، مما أفضى إلى اتساع حجم النخبة السياسية بكل مكوناتها (الحكومية، الإدارية، الحزبية...)، وتأثيرها على موارد وأسس السلطة ومن ثم على التوازنات القائمة والهرمية السياسية، في حين مازالت عناصر أخرى تستثمر ما تتوفر عليه من موارد ومواقع، مستغلة هيمنة الثقافة "التنظيمية التقليدية" في الإبقاء على موقعها ووضعيتها، في حين يتنافس البعض الآخر على الموارد الحديثة التي تستدعي الكفاءة والمهنية، وبالتالي فإن هذا الوضع يطرح أكثر من استفهام حول نمط ومصادر إنتاج النخبة التقنية بالمغرب، حيث إذا كان صعود التكنوقراط في المغرب نتاج صيرورات متنوعة ومختلفة، فإن ذلك راجع كذلك لصيرورة التتخيب الذي اقترن بها النظام التعليمي والذي يعد أهم مصدر من مصادر إنتاج وإعادة إنتاج النخبة السياسية بالمغرب، إذا اتسم كذلك بثنائية أماكن إنتاج المهندسين والتقنيين كمحدد أساسي في إنتاج التكنوقراط المغاربة، الذي يخضع لثنائية البنى التعليمية المتجسدة في:
المؤسسات المغربية الخاصة بتكوين المهندسين : حيث عرف المغرب منذ سنة 1959، الإرهاصات الأولى لإنشاء أحد أهم أقطاب نظام المدارس الكبرى التي تعتبر المحدد الأساسي في تكوين النخب التقنية بالمغرب أي منذ إنشاء المدرسة المحمدية للمهندسين وبعدها توالت سياسة تشيد مدارس المهندسين والذي تجاوز عددها عشر مدارس تمثل النواة الأولى مدارس الكبرى في المغرب، غير أنه أبـانت بـعض الـدراسات حول نـخبة الـمهـندسيـن، أن المدارس المغربـية للمهندسين لا تعتبر فعلا مكاناً لمرور وإنتاج التكنوقراط بالمغرب، نظرا لكونها لا تعتبر منفذاً حقيقيا كما هو الشأن بالنسبة للمدارس الفرنسية، لولوج المناصب السامية في الدولة والوصول إلى أقطاب السلطة ومراكز القرار، وبالتالي تكون المدارس الوطنية قد فقدت دورها في إنتاج التكنوقراط ، بل وحتى النخب السياسية بالمغرب، إذ أن اقل ما يمكن أن نصفها به هو أنها تتسم ببعض خصائص المدارس الفرنسية، التي تعتمد على نظام الانتقاء لولوجها. بل عدم تأثيرها في المسار المهني لخريجيها تأثيرا يجعلها تتبوأ مناصب سامية في الدولة وهو ما تحققه المدارس الفرنسية منذ بداية مشوارها، نظرا لطبيعة التكوين في هذه المؤسسات الذي يتميز بكونه متعدد التخصصات (polyvalent)، يسمح بالتداول بين مختلف قطاعات النخبة. فكل تخصص تقني دقيق سيؤثر على حركة وتموقع التكنوقراط داخل الحقل السياسي والإداري المغربي، ويساهم في تعزيز موقعهم على مستوى تدبير السياسات العمومية.
إن إدراك أدوار وتموقعات ووظائف النخبة بالمغرب، لا يتم إلا من خلال فهم طبيعة النسق السياسي وأبعاد إستراتيجيته اتجاه باقي الفاعلين وقدراته على التجديد والاستمرارية، ولقد حاولت العديد من المقاربات دراسة النسق السياسي المغربي انطلاقا من الدور الوظيفي للنخبة السياسية بالمغرب.
ولعل ظاهرة ولوج نخبة المهندسين لمراكز القرار، الظاهرة الأقرب لفهم الواقع السياسي والاقتصادي المغربي خاصة بعد ظهور الدولة العصرية والتي كرست مفاهيم جديدة في واقع له منطق خاص في التسيير، الشيء الذي يطرح صعوبة فهم ديناميكيته وآلياته لاسيما وقد تعزز اليوم موقع المهندسين داخل البنيات السياسية والإدارية والاقتصادية في المغرب وذلك يتضح من خلال :
أولا : ولوج المهندسين للحقل السياسي و الإداري المغربي
إن حجم تواجد المهندسين التكنوقراط في عهد الملك الحسن الثاني إذا كان ارتبط بالظرفية السياسية والاقتصادية للبلاد وبالطبيعة السياسية أو التكنوقراطية للحكومات، ففي عهد الملك محمد السادس أصبح تواجدهم شبه قار، وأصبح عددهم في تزايد مستمر في الحكـومات الســياسـية أكــثـر مـنه فـي حــكومات وزراؤها الأولـون تكــنوقـراط فمن نتائج هذه القناعة الجديدة التي تمخضت عن مقتضيات المفهوم الجديد للسلطة هو التطور الكمي والنوعي للنخبة التقنية حيث تم ولوج المهندسين للجهاز الحكومي ، حيث عرف بروز هذه النخبة على صعيد الجهاز الحـكـومي منذ الاستـقـلال إذ وصل عـدد الـوزراء الـتكـنوقراط منذ حكومة 8 يونيو 1965 إلى حدود حكومة 10 أكتوبر 1977 212 وزيرا، في حين وصل عدد الوزراء التكنوقراط في حكومة 10 أكتوبر 1977، إحدى عشر وزيراً تكنوقراطياً ثم انخفض عددهم إلى ستة تكنوقراطيـين في حكومة 27 مارس 1979.
ونظرا للظروف والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المغرب في الثمانينات، فقد عرف الحقل السياسي تزايداً للمهندسين على مستوى الحقل الوزاري، إذ ضمت حكومة 19 نونبر 1983 عشرون وزيراً تقنيا، في حين عرفت حكومة 11 أبريل 1985 دخول 26 وزيراً تقنيا رغم تزايد عدد الأحزاب السياسية في المغرب خلال هذه الفترة هذا وأن حضور النخبة التقنية في التشكيلات الحكومية لسنوات التسعينات كان بارزاً أيضا في حكومتي عز الدين العراقي لسنة 1992 و الفيلالي لسنة 1994.
ومع بداية التناوب السياسي، ازداد حجم المهندسين داخل التشكيلات الحكومية خاصة في حكومتي إدريس جطو وعباس الفاسي، وذلك مع تحول الأدوار الحكومية إذ يمكن القول بأن الجهاز الحكومي تحول إلى جهاز لتسيير القطاعات من لدنالمهندسين التكنوقراط. إذ عرفت حكومة إدريس جطو بكل تعديلاتها الوزارية حضورا قويا للمهندسين الشيء الذي وصفت بالحكومة التكنوقراطية، حيث بلغ عدد الوزراء المهندسين فيها إلى سبعة فيما شهدت حكومة عباس الفاسي نفس عدد المهندسين التكنوقراط داخل تشكيلتها الحكومية.
فالمنصب الوزاري ليس وحده مستقطباً للمهندسين، إذ تم تعيين العشرات من المهندسين ككتاب عامون للوزارات، فولوج النخبة التقنية للحقل السياسي المغربي لا يقف عند حد الاستوزار في الجهاز الحكومي، بل أصبح تواجدهم نمطيا في الإدارة الترابية ولو بشكل متباين وعلى امتداد فترات معينة، حيث بدا يتبـين تمركز هذه النخبة وبشكل كبير على رأس الإدارة الترابية كعمال وولاة، إذ أن التحول الذي عرفه المغرب منذ ظهور المفهوم الجديد للسلطة، غير من التصور المحكوم بالهواجس الأمنية التي كان ينظر إليه منصب العامل والوالي، حيث أصبح هذا الأخير معنيا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتشجيع الاستثمارات الخارجية...الخ مما يفسر تعيين مجموعة من المهندسين كولاة وعمال، سواء على صعيد الإدارة المركزية والإدارة اللاممركزة، وذلك منذ حركة 21 يوليوز 2009 التي تم فيها تعيين تسعة ولاة تكنوقراط دفعة واحدة.
إن أغلب نخبة التكنوقراط المغاربة، ونظرا لكفاءتهم التقنية و التدبيرية قد احتلوا أسمى مناصب المسؤولية في الدولة، خاصة على مستوى الإدارة العمومية و لاسيما كمدراء للمديريات المركزية التابعة لمختلف القطاعات الوزارية. ومن بعض النماذج هناك مديرية الهجرة ومراقبة الحدود بوزارة الداخلية، التي أسندت إلى التكنوقراطي خالد الزوالي خريج المدرسة المحمدية للمهندسين، ومديرية النقل الطرقي والسلامة الطرقية بوزارة التجهيز والنقل التي أسندت إلى محمد مغراوي خريج مدرسة الجسور والقناطر بباريس، ومديرية إعداد التراب بوزارة الإسكان والتعمير وإعداد المجال التي أسندت للمهندس "عبد الواحد فكرات" خريج المدرسة المركزية بباريس، والأمثلة عديدة عن ولوج المهندسين إلى الأقطاب الرئيسية للإدارة العمومية.
هذا وقد تمركز التكنوقراط بشكل واضح في إدارة وتسيير المقاولات الكبرى والمؤسسات العمومية الاستراتيجية للدولة مثل :
المكتب الشريف للفسفاط يديره (مصطفى التراب)
الوكالة الوطنية للموانئ أسند لـ (دليل جندوز )
المكتب الوطني للهيدروكربورات: أسندت (لأمينة بنخضرا)
الشركة الوطنية للنقل واللوجستيك، أسندت للمهندس (أسامة الودغيري )
المكتب الوطني للسكك الحديدية تحت إدارة المهندس (محمد ربيع الخليع).
فغالبية إن لم نقل كل مدراء المكاتب الوطنية والمؤسسات العمومية ذات النشاط الاقتصادي أو الاجتماعي أو الصناعي، من التكنوقراط خريجي المدارس الكبرى الفرنسية، كما أن نصف مدراء المراكز الجهوية للاستثمار مهندسين تكنوقراط، ومدراء وكالتي التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشمال والجنوب من التكنوقراط كذلك، والأمثلة عديدة عن مظاهر ولوج المهندسين للحقل الإداري المغربي، حيث تعتبر هذه المؤسسات الأكثر استقطابا للتكنوقراط خاصة خريجي المدارس الفرنسية لتكوين المهندسين وذلك نظرا للمؤهلات والكفاءة التقنية التي يمتلكونها في ميدان تخصصهم.
وإذا كان التكنوقراط يتمتعون بخاصيـة الحياد السياسـي، فـإن ذلك لا يعني أنهم مسقطون من أي انتماء حزبـي فرغم أنهم غالبا ما يعتبرون لا منتمين سياسياً إلا أنهم قد ولوجوا المشهد الحزبي على غرار توليهم لحقائب وزارية، إلا أن ولوجهم للحقل الحزبي في المغرب يبقى ضعيفا، نظراً لتباين منافذ الوصول للوظائف الحكومية،
فقد أثبتت الممارسة المغربية أن تحزب التكنوقراط غالبا ما يكون لضرورة سياسية أكثر منها لوجود قناعة راسخة لدى الأحزاب لاستقطاب الأطر التقنية (نظرا لضعف ثقافتهم السياسية)، فباستثناء محمد القباج وزير المالية والاستثمارات الخارجية في حكومة عبد اللطيف الفيلالي الأولى (خريج مدرسة البولتكنيك) الذي كان منتمياً لحزب الاتحاد الدستوري، نجد أن القناعة الجديدة لدوائر الحكم - بعد صعود التكنوقراط الذي أدى إلى تهميش الأحزاب السياسية - أفضت إلى إنزال هذه الملامح (التكنوقراط) في تلك البنيات (الأحزاب)، و التوفير لهم غطاءً حزبياً، كما هو الحال لعادل الدويري و كريم غلاب في حزب الاستقلال وعزيز أخنوش، أمينة بنخضرا وياسر الزناكي في حزب التجمع الوطني للأحرار، الشيء الذي يبرر شرعية ولوجهم لمناصب وزارية وتواجدهم على رأس بعض القطاعات الحكومية، وكذا على مستوى الإدارات والمؤسسات العمومية نظراً لعامل الكفاءة التقنية التي تنبني عليها قناعة الدولة في اللجوء إلى التكنوقراط لما لهم من دور كبير في تدبير الخيارات الإستراتيجية، والتدبير التنموي للقطاعات الإنتاجية في البلاد، فضلا عن امتلاكهم القدرة على اتخاذ القرارات الإستراتيجية بنوع من الحياد والموضوعية وبشكل يساعد على توجيه وتدبير فعال يقوم على مقاربة النجاعة في صنع وتدبير السياسات العمومية.
ثانيا : دور النخبة التقنية ( المهندسين ) في تدبير السياسات العمومية
إن ولوج المهندسين لأسمى المناصب الإدارية والسياسية في الدولة يعزز دورهم في إعداد واتخاذ القرارات الإستراتيجية، سيما وأنهم يملكون آلية مراقبة المعلومات والقدرة على استعمال الوسائل التقنية اللازمة لوضع التوقعات، والتخطيط على المدى القصير، المتوسط والبعيد، وهو ما يدل على أن التكنوقراط لا يكتفون بتسيير الشؤون العامة تقنيا فحسب كما تدعي ذلك النظريات التقليدية، بل يشاركون أيضا في إعداد القرارات الحكومية نظراً لتموقهم على أكثر من مستوى في جل المناصب والوظائف الإدارية والسياسية في الدولة، حيث أن واقع العلاقات السوسيوسياسية يكشف عن الدور الكبير الذي بات يضطلع به التقنيون والمهندسون لاسيما في مجال مواجهة الأزمات والمشاكل التي تفرض بتفصيلاتها على الواقع السياسي و الإداري و الاقتصادي والاجتماعي في المغرب.
ومن هذا المعطى بات من المهم النظر في مجمل العلاقات السابقة التي كانت تخضع لهيمنة العامل السياسي كمجال خصب لعمل التكنوقراط، الذي يبرز من خلاله دور هذا الأخير في ترسيخ وتحقيق معدلات النمو وتوسيع معطيات الجانب الإنتاجي، وتحقيق الطفرات النوعية على المستوى الاقتصادي والتنموي، بل أن دورهم الأساسي يتجلى كذلك في عملية اتخاذ القرارات التي تتم على مستوى الدولة (من خلال احتكار القيادة الإدارية والسياسية) وممارسة السلطة التي أصبحت حسب الأستاذ عبد الله ساعف تميل إلى بناء الاستراتيجيات الكبرى، أي خضوعها للحس التقني و التدبيـري الذي تتمتع به النخبة التقنية، والذي يعتبر من بين أهم العناصر المحركة للنظام السياسي والإداري في الدولة التي تشكل فيها التنمية مطلبا أوليا، نظراً للدور المركزي الذي يلعبه التكنوقراط في إعداد السياسات العمومية وتنفيذها، حيث إذا كان العمل السياسي من اختصاص الحكومة والسلطة التنفيذية فإن السياسات الحكومية تعتبر هنا نتاجاً لعمل مستمر بين السلطة التنفيذية والمستويات العليا للبيروقراطية التي يتمركز فيها التكنوقراط وبشكل متزايد خاصة في الفترات الأخيرة، الشيء الذي يجعل سطوتهم على المناصب الإدارية والسياسية ووصولهم لمراكز القرار أداة ضرورية في عملية التغيير و وضع السياسات التنموية وتنفيذها.
ويتضح تدخل النخبة التقنية في إعداد السياسات العمومية للبلاد تبعاً لنوعية المناصب والوظائف التي يتقلدونها، والتي غالبا ما تكون مناصب في قطاعات إستراتيجية تنم عن تبني المقاربة التنموية، إذ يبرز تواجد المهندسين في قطاعات حيوية وعلى أعلى مستوى من مستويات اتخاذ القرار كفاعلين أساسيين في رسم وصنع السياسات العمومية الاقتصادية، الاجتماعية، التنموية...الخ. حيث نجد أن الحقائب الوزارية ذات النشاط التقني والاستراتيجي والذي يفرض وجود كفاءات تقنية تسير القطاع، متمركزة في يد مهندسين خريجي أكبر المدارس الفرنسية كوزارات التجهيز والنقل، وزارة الطاقة والمعادن وزارة الفلاحة والصيد البحري وزارة السياحة، وزارة الصناعة والتجارة والتكنولوجيات الحديثة، حيث أن تدبير هذه القطاعات الحيوية يستوجب اتخاذ قرارات حاسمة بعيدة عن أي أجندة سياسية الشيء الذي يجعل من تدبيرها لهذه القطاعات تدبيراً قائماً على أساس المقاربة التنموية، والتي خلفت عدة تدخلات كانت محل سياسات عمومية.
إن دور النخبة التقنية في تدبير السياسات العامة لا يتوقف على المواقف الحكومية التي يتبوؤها وإنما يمكن القول "أينما وُجد المهندسين التكنوقراط توجد سياسة عمومية معينة حسب القطاع الذي يسيرونه، لاسيما القطاعات الحيوية والتي تتركز جزء كبير منها في المؤسسات العمومية والمقاولات الكبرى والمكاتب الوطنية، وهي غالبا ما تكون تحت إشراف مهندسين ، إن لم تكن قد أصبحت هذه العادة عُرفاً مؤسساتياً يخول تولي المهندسين الإشراف على تسيير المقاولات الكبرى والمؤسسات العمومية مثل المكتب الوطني للسكك الحديدية والمكتب الشريف للفسفاط وغيرها.
فهيمنة شريحة المهندسين على مراكز القرار يساهم إلى حد بعيد في الاهتمام بالمشاكل التقنية والإدارية على الخصوص والاضطلاع بالأدوار المنوطة بهم سواء على المستوى الوطني أو المحلي، في غياب تام لسياسة اجتماعية متماسكة تروم التطوير ولا تقتصر فقط على التدبير. هذا و أن استقطاب النخبة التقنية والاعتماد عليها، كان بداعي توفير أطر عليا مؤهلة وذات كفاءة تقنية تساير سياسة الأوراش الكبرى التي أعلن عنها الملك محمد السادس.
فمن خلال كل ما سبق يتبين أن المهندسين التكنوقراط المغاربة لهم دور كبير في تطوير البنية التحتية في مجالات عدة، مثل التخطيط الحضري والقروي وإنجاز المشاريع التنموية وغيرها من السياسات العمومية القطاعية، كالتدبير اللامتمركز للاستـثمار المبـادرة الوطـنية للـتـنمية البشرية، البرامـج الاجـتماعية التضامنية، حيث يمكن القول بأن دور المهندسين تخطى سياسة التدبير المعقلن للقطاعات، إلى مساهمتهم في تشكيل الدولة الحديثة.
و في الأخير يلاحظ أن هناك عد مفارقات تأكد صحة الفرضيات السابقة ، إذ اتضح من حيث الدلالة العلاقتية للنخبة بالمغرب، وجود علاقة قوية بين التكنوقراط ( المهندسين ) و السلطة السياسية، حيث تبرز هذه العلاقة في تواجد هذه الأقلية في مختلف مناصب المسؤولية على مستوى الحقلين السياسي و الإداري، وتحكمها في مراكز صنع القرار و توجيه السياسات العمومية، الشيء الذي يكرس انخراط المهندسين في العمل و الفعل السياسي ( L’action politique) ، و أن هذه الجـدلـيـة ( السياسي – التقني ) مبنية على منطق تكامل الأدوار .
رغم ذلك فإن الأعراض الجانبية لتزايد اللجوء إلى هذه النخبة، تكمن في الاتجاه نحو ضعف التمايز وسط الطبقة الحاكمة و احتكارها للرأسمال الرمزي الممنوح من المدارس الفرنسية الكبرى ، و هو ما يوضح أن المؤسسات المغربية لإنتاج التكنوقراط ، قد فقدت شرعية سلطتها الرمزية لصالح المدارس الفرنسية و لم تعد مكاناً لإنتاج نخبة التكنوقراط ، على اعتبار أن خريجي المدارس الفرنسية هم الذين يسيرون البلاد ويحتلون المناصب العليا في الدولة، الشيء الذي يكشف على أن خبايا سياسة التنخيب في المغرب، قائمة على الرأسمال العائلي و الاقتصادي و الشبكات الاجتماعية، و هو ما أبرزته الخلفية الاجتماعية للتكنوقراط المغاربة و كشفت عنه محددات انتقائهم ، التي أفرزت احتكار تكنوقراط ورثة البورجوازية التقليدية لأسمى المناصب و الوظائف السياسية و الإدارية في الدولة، و يؤكد أن نخبة التكنوقراط التي تستقر على أعلى مستويات السلطة في الدولة ما هي إلا صورة منقحة و امتداداً للنخبة التقنية التي عرفتها الدولة البتريمونيالية .
غير أنه يؤخذ على هذه الأقلية و بحكم أن مسارهم المهني الذي يكون في أعلى المواقع يفضي إلى إنزالهم قبل أن يبينوا كفاءاتهم على أرض الواقع ، و هو ما يحول دون إدراكهم للمشاكل الاجتماعية ، الشيء الذي فتح مجالاً للنقاش حول تقييم الحصيلة الإنتاجية لهذه الأقلية الإستراتيجية، مادام مبرر اللجوء إليها تأسس على دوافع إنمائية و تنموية ( في الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ...). ومجالا لطرح إشكال آخر حول المدى الذي يمكن معه لهذه النخبة أن تتواجد فيه خاصة مع الفترة التي تواكب تنزيل مقتضيات الدستور الجديد ، أي إلى أي حد يمكن معه أن تحافظ النخبة التقنية على مواقعها في أعلى مناصب المسؤولية في الدولة؟ وهل ستحافظ على استمراريتها في فرض سيطرتها و احتكارها لمراكز القرار أم أنه سيتراجع وجودها وتغلغلها على مستوى الجهاز الوزاري والأجهزة الإدارية وفقا للأحكام التي تخص التعيين في المناصب السامية في الدول طبقاً لمقتضيات الدستور الجديد ومع المصادقة على القانون الذي ينظم التعيين في المؤسسات العمومية الاستراتيجية .
تاريخ التوصل:2 غشت 2012
تاريخ النشر: 5 غشت 2012