بالتركيب بين صورتين :
الصورة الأولى، مرتبطة بالصورة العامة التي نشأت وسادت أثناء الشرح والترويج للأعمدة الكبرى التي قامت عليها وثيقة يوليوز والمستمدة من خطاب الملك بتاريخ 9 مارس 2011.
الصورة الثانية، تمثلها الصورة التي قدمها ويقدمها الفضاء السياسي والاجتماعي المغربي بعد مرور سنتين على دخول وثيقة يوليوز 2011 حيز التنفيذ حتى اليوم .
نتوقف عند الأسباب التالية :
السبب الأول ،يلاحظ أن الفاعلين السياسيين والحزبيين والنقابيين ...أثناء تقديمهم وتعريفهم بالمرتكزات الواردة في خطاب 9 مارس ،ومسودة مشروع الدستور المنبثقة منه والتي تم طرحها لاستفتاء فاتح يوليوز 2011 ،من هؤلاء خاصة الفاعل الحزبي والسياسي من كان يشرح الدستور بنفس الطريقة التي يدير بها الحملة الانتخابية ، دون أن يدرك الاختلاف الموجود بين الوضعيتن أو الحملتين ( الحملة الانتخابية و الحملة للدعاية للدستور ) فالمغاربة تعودوا على عدم الثقة في جزء كبير من المرشحين لانتخابات ووعودهم التي عادة ما كانت لا تأخذ مأخذ الجد من قبل المواطن ، هذا الأخير الذي ترسخ في ذهنه وعبر كل الاستحقاقات الانتخابية أنه بمجرد ما يتم إعلان نتائج الانتخابات يقع الطلاق بين الناخب والمنتخب.بخلاف طريقة تلقيه للعرض الدستوري قبل وخلال الدعاية لدستور2011، فالحماس، وتقديم مشرع الوثيقة الدستورية بحمولات كبرى ، أعطى الانطباع بميلاد مرحلة مفصلية في حياة المواطن المغربي وولد الشعور لدى معظم مكونات الشعب المغربي أنه بعد التصويت على الدستور ستلج البلاد حالة أفضل من الماضي، بل أخطر من ذلك، أن الأسلوب الذي اتبعه الفاعلون في التعبئة و حشد الدعم لوثيقة يوليوز جعل الناس في بعض المناطق يعتقدون أنه بعد التصويت على الدستور ربما ستصرف لهم أجور شهرية لتأمين العيش الكريم .فعدم قدرة الفاعلين على وضع فواصل بين الدعاية الانتخابية والدعاية للدستور خلق لهم فيما بعد متاعب جمة بحيث يجدون اليوم صعوبة كبيرة في تطبيق وتنزيل الدستور بإيقاع يفوق أو على الأقل يتناسب مع الإيقاع الذي شرحوه وروجوه به.
السبب الثاني ، أن الإدارة انخرطت بشكل قوي في الدعاية للدستور، ولكن انخراطها هذا لم يكن مرفوقا بانقلاب عميق في طريقة تعاملها مع المواطن، بالشكل الذي يطوي مسارها القديم الذي نشأ مع الدساتير السابقة على دستور 2011، ولم تستطيع استغلال دستور 2011 لتبييض صورتها بتغيير أنماطها تعاطيها مع المجتمع ،والتأثير ولو سيكولوجيا على المواطن لكي يحس بالفرق بين ما قبل دستور 2011 وما بعده . فالثبات في طرق وأساليب تعاملها جعل الدستور وكأنه وثيقة قانونية تهم الإدارة المركزية في العاصمة الرباط فقط بدل النظر إليه كمادة تسري في كل مفاصل مؤسسات وبنيات الدولة ، الشيء الذي حال دون شعور المواطن بوجود دستور جديد يحافظ على تمثلاته التي كونها له الفاعلون عن الدستور خلال المدة الممتدة من مارس (تاريخ انطلاق النقاش حول دستور 2011 ) إلى يوليوز ( تاريخ الاستفتاء ) وهي المدة التي تلقى فيها الشعب المغربي قاطبة دروس في القانون العام في شقه الدستوري إلى ما بعد بعد إقرار الدستور، فمن الصعب أن يشعر المواطن بتأثير الدستور على حياته خارج أن يقصد " الجماعة " "البلدية" " الصيبطار" " المدرسة "... فيجد طريقة التعامل الآن مغايرة لتلك التي سادت قبل دستور 2011 .
السبب الثالث ، أن الطبقة السياسية سقطت في الفخ لما اعتقدت بأن الدستور هو من يصنع الحقل السياسي ،وهذا خطأ قاتل، فالحقل السياسي يصنعه الفاعلون عن طريق بناء سياسات ومشاريع وبرامج تستجيب للحاجيات الاجتماعية،والقدرة على وضع إستراتيجية اجتماعية كفيلة بتحويل مقتضيات الدستور من أحكام قانونية إلى موارد مادية كفيلة بايصال الخبز إلى بطون المغاربة ،فالطبقة السياسية انزلقت عندما اعتقدت أن الدستور جسم متحرك يطير إلى كل أنحاء البلاد ، وتجاهلت أنها هي من يجب عليها فعل ذلك.
السبب الرابع ،رغم اتفاق الباحثين على أن الدستور تعبيرعن موازين القوى، فهو لا يصنعها ، فالقوى السياسية قد تكون ضعيفة المكانة في الهندسة الدستورية ،ولكنها قد تخلق لنفسها مكانة قوية في الواقع وتقدم صورة مؤثرة عن أدائها في الميدان .وبالعكس قد يخولها الدستور مكانة قوية ،ولكن أدائها في الواقع قد يكون باهتا .وكمثال على ذلك لنأخذ مكانة المعارضة في الدساتير السابقة على دستور 2011 خاصة دستوري 1962 و1970 اللذين لم يخصصا مساحة دستورية للمعارضة أصلا، حيث كانت المعارضة من داخلهما ضعيفة جدا ،ولكن معارضة الستينات والسبعينات كان لها "باع " طويل ،وربما يحن إليها المغاربة اليوم . فمعارضة الستينات لم تنتظر تنظيم الدستور لها لكي تصنع صورتها أمام الرأي العام، بخلاف المعارضة حاليا والتي وإن منحها دستور 2011 مكانة مرموقة وهذا باعتراف المعارضة البرلمانية نفسها . فإن بصماتها في الواقع ضعيفة وذلك بإجماع المراقبين والمحللين .
السبب الخامس، مرتبط بمضمون التشريعات التي وضعت حتى الآن،فالدستور أحال على القوانين التنظيمية في تنظيم عدة مجالات،ونحن لا نعرف الطريقة التي تتحكم في أجندة واضعي القانون من حيث أسبقية تنزيل هذا القانون التنظيمي أو ذاك ، فدستور 2011 ولد على وقع الاحتجاجات التي كان المشكل الاجتماعي سببا فيها ، والدستور وقف الاحتجاجات ورسم صورة قانونية لإجابة عليها وامتصاصها عندما أناط بالقوانين التنظيمية والعادية عملية الخوض في التفاصيل و الإجراءات ،والقانون لكي يترجم هذه الصورة يجب أن ينظر إليه كأداة من أدوات التغيير الاجتماعي .لكن ،وبصرف النظر عن مسألة الأسبقية التي تطرح سؤال بأي قانون تنظيمي نبدأ؟ فإن الدارس لحمولة القوانين التنظيمية التي أنتجت حتى الآن يصل إلى فكرة أنها من المشرع وإلى المشرع (القانون التنظيمي لمجلس النواب ، القانون التنظيمي لمجلس المستشارين ، القانون التنظيمي للجماعات الترابية ، ا...)