تعتبر السلطة القضائية من أهم الركائز الأساسية التي تنبني عليها الدولة الديمقراطية الحديثة، فهي الضامن الأوحد لحقوق المواطنين، أفرادا كانوا أو جماعات، فضلا عن المؤسسات المهيكلة للدولة، بما فيها السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ويعد الارتقاء بالمجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة، من صميم مهام هذه السلطة ؛ حيث المراهنة عليها باعتبارها رافدا أساسيا من روافد التنمية في مجتمع وصف -حسب تعبير الفيلسوف الألماني Ulrich Beck- بـ"مجتمع المخاطرة".
ولعل أجلى ما يتكشف عنه ذلك، هو ما عبر عنه المغفور له محمد الخامس في خطابه الشهير بمناسبة تدشين المجلس الأعلى بتاريخ 23-10-1957، قائلا: "(..) لابد لبناء أمة بناء متينا من توفير العدل لها، إذ العدل في كل أمة أساس عمرانها واستقرارها ودعامة رقيها وازدهارها (..)" (خطاب المغفور له محمد الخامس، ألقي بتاريخ 23-10-1957 بمناسبة تدشين المجلس الأعلى).
بيد أن للاضطلاع بهذا الدور الهام، لابد أن يتسم قضاءنا بالفعالية المتطلبة لتحقيق كل ذلك وغيره من الأدوار المنوطة به ؛ إذ يُرتهن قيامها -في اعتقادنا- بضرورة توفير بعض الوسائل الكفيلة بتنزيلها على أرض الواقع.
ونزولا عند هذا الاعتبار، بادر جل قضاة المملكة الأحرار إلى تأسيس جمعيتهم المهنية الموسومة بـ"نادي قضاة المغرب"، باعتبارها من أهم تلك الوسائل المذكورة آنفا، خلافا لما تَلَّى ذلك من نقاش قد يطبعها بشيء من اللبس والغموض.
واستجلاء لما عُلِق من غموض حول طبيعة هذه الجمعية، ورفعا لكل ما شَابَها من لبس، ارتأينا في هذا المقام، أن نستهدي بما تقرر في علم البيان من قواعد تكاد تكون أساس كل فهم صحيح، ليس في مجالها الضيق فحسب، بل في مجال الظواهر الاجتماعية أيضا، ومن بينها "نادي قضاة المغرب".
وتتحدد أهم هذه القواعد أساسا في: مراعاة دلالات سباق الظاهرة، وسياقها، ولحاقها. ولئن كانت الأولى لا تثير كبير إشكال بالنسبة لموضوعنا، فإن الأخيرتين خلاف ذلك. فما هو إذن مضمون وطبيعة هذه الجمعية ؟
أولا: سياق التأسيس
I- السياق الاجتماعي
أ- السياق الاجتماعي العام
لعل العامل الاجتماعي هو المحرك الرئيس في بزوغ رغبة القضاة المغاربة إلى تأسيس جمعية مهنية، تهتم بكبائر الشأن القضائي وصغائره.
ويتأدى هذا العامل أساسا، في تكريس ثقافة التذمر من جودة العمل القضائي، وضعف ثقة المواطنين فيه، حيث أصبح الكل يتحدث عن إصلاح القضاء، دون الالتفات إلى مسببات ما آل إليه وضعه ؛ مما أدى حتما إلى تقويض مبدأ "الأمن القضائي"، الذي ينشده كل مجتمع طامح في الرقي والازدهار.
ولما كان ذلك من الثابت واقعا ومعاشا، فإنه من باب أولى وأدهى معرفة أسبابه ؛ حيث تخرج في غالبها عن نطاق تحكم القضاة أنفسهم، وذلك من قبيل: كثرة الملفات، وعدم التخصص، والوضعية الاجتماعية المزرية للقضاة خاصة ذوي الدرجات الدنيا، وانتفاء الوسائل اللوجيستيكية الكفيلة بأداء القضاة لمهامهم، فضلا عن اتسام العملية القضائية –عموما- بالتداخل والتشارك مع مجموعة من المؤسسات، الأمر الذي يتعذر معه تحديد الجهة المسؤولة عن تدني العملية برمتها ..إلخ.
ب- السياق الاجتماعي القضائي
ليس من شك في أن الثقافة الاجتماعية السائدة بشأن الوضع القضائي، قد أثرت ولا زالت، بشكل أو بآخر، على القاضي باعتباره "ابن بيئته"، إذ أضحى مستشعرا نفسه رقما صغيرا في المعادلة الاجتماعية المومأ إليها أعلاه، رغم كونه "أكبر سلطة وأخطرها في المجتمع" (كلمة المغفور له الحسن الثاني، ألقيت بتاريخ 12 نونبر 1964، بمناسبة اجتماعه بالمجلس الأعلى للقضاء).
ومن الطبيعي أن يفضي هذا الوضع إلى محاولة لاستكشاف "الذات القضائية" المتجني عليها، غير أن مجرد التفكير-آنذاك- في الاستقواء بإنشاء جمعية مهنية للقضاة، كان ضربا من ضروب المغامرة والمستحيل، احتراما للشرعية القانونية الآبية لذلك.
II- السياق السياسي
أ- قبل 20 غشت 2009
في خضم هذا الوضع الاجتماعي، نَفَذَ الشأن القضائي إلى عالم السياسة، حيث أضحى من أكثر المواضيع استئثارا بالنقاش العمومي –الجدي- نظرا لطابعه السياسي المتجدر من جهة، وأهميته في بناء وصيانة دولة القانون والمؤسسات من جهة أخرى.
ولعل النتيجة الأساس التي أسفرت عن هذا النقاش، تتمثل في تضارب الأفكار والأطروحات بشأن إصلاح القضاء، وذلك بحسب اختلاف الفرقاء السياسيين ومرجعياتهم ؛ الأمر الذي أدى إلى بروز "أزمة" لإصلاح القضاء، أو بالأحرى "إصلاح العدالة".
ومما يزيد الأزمة عمقا وتعقيدا، هو عدم إشراك القضاة في هذا النقاش مشاركة فعالة، باعتبارهم العنصر المَعنيَّ بصفة مباشرة في ذلك، وأنهم المؤهلون قبل غيرهم لتشخيص مكامن الخلل والعمل على إصلاحه ؛ الشيء الذي ساهم في خلق وضع مضطرب طال أمده، يُحمَّل فيه القاضي النصيب الأوفر من المسؤولية، دون أن يكون فاعلا رئيسا في مسبباتها المذكورة آنفا.
ب- بعد 20 غشت 2009
لم يكن –في غمرة ما سلف- من تدخل جلالة الملك محمد السادس مُلتَدٌّ لتبديد هذا الاضطراب، حيث لم يدخر جهدا في البرهنة على ما يوليه للسلطة القضائية من أهمية عز نظيرها ؛ إذ خصص له خطابا كاملا يوم 20 غشت 2009، تخليدا لذكرى ثورة الملك والشعب، معتمدا في ذلك منهجيةً تشاركيةً إدماجية، تتسم بعمق التحليل وشمول التخطيط.
وتتأدى هاتان الصفتان أساسا، فيما تتميز به معالم تلك المنهجية التي وسمها جلالته بـ"خارطة الطريق" لإصلاح نظام العدالة، حيث أقامها على مرتكزات ستة: تبتدأ بتعزيز ضمانات استقلال القضاء، وتحديث المنظومة القانونية، وتمر بتأهيل الهياكل والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وتنتهي بترسيخ التخليق، وحسن التفعيل.
بيد أن ما يثار في هذا الصدد، هو تَمَكُّثُ الحكومة – بعض قطاعاتها المعنية- في تنفيذ تلك "الخارطة"، حيث مر عن إعلانها سنتين ونيِّف دون مراعاة "حاجة المواطنين الملحة في أن يلمسوا عن قرب، وفي الأمد المنظور، الأثر الإيجابي المباشر للإصلاح" (خطاب جلالة الملك محمد السادس، بتاريخ 20 غشت 2009، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب)، بالرغم مما بذلته وزارة العدل من مجهودات لتفعيل ذلك ؛ إذ تظل معها ناقصة ولا تفي بـ"المطلوب الملكي"، لاسيما الشق المتعلق بتحسين الوضعية المادية للقضاة، كمدخل لا مناص منه لتحقيق الاستقلال المنشود كما سنرى في حينه.
وقَمينٌ بالذكر في هذا المقام، أن اليوم المذكور أعلاه، فضلا عن كونه عيدا وطنيا، فقد أضحى بالنسبة لقضاة المملكة عرسا قضائيا ممتازا ؛ بالنظر لما آلت إليه منزلته في نفوسهم التواقة للرقي بالقضاء إلى سُمو المصاف وعُلو المراتب.
III- السياق القانوني
أ- مشروعية التأسيس
ليس من شك في أن تفعيل "خارطة الإصلاح" أعلاه، كان يتطلب بالأساس، تعديلا دستوريا يضع ضمن أولوياته النص على ضمانات واضحة لاستقلال السلطة القضائية (الفصول من 107 إلى 112 من الدستور الجديد).
ويعد حق القضاة في تأسيس جمعية مهنية تناط بها مهام الرقي بالشأن القضائي، من صميم هاته الضمانات المكفولة دستوريا ؛ حيث جاء النص عليها، وللمرة الأولى، في الفقرة الثانية من الفصل 111 من الدستور الجديد بقولها: "(..) يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون. يُمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية".
وجماع ذلك ولازمه، أن "نادي قضاة المغرب"، كجمعية ذات طبيعة "نقابية قضائية"، يستقي مشروعيته من هذا الفصل الذي أوجد حقا للقضاة يمارسونه وفق ضابطين أساسيين، وهما: احترام واجبات التجرد، واستقلال القضاء.
ب- شرعية التأسيس
لما كان اصطباغ تأسيس "نادي قضاة المغرب" بالمشروعية الدستورية، مقوما وجوديا لا محيد عنه ؛ فإنه لم يكن هناك من حَدَدٍ في انضباطه إلى الشروط القانونية المعمول بها في تأسيس الجمعيات بصفة عامة.
وتتأدى هذه الشروط حسب الفصل 5 من ظهير 1958 المتعلق بحق تأسيس الجمعيات في التالي:
1 تقديم تصريح إلى مقر السلطة الإدارية المحلية الكائن به مقر الجمعية، مباشرة أو بواسطة عون قضائي، يسلم عنه وصل مؤقت مختوم ومؤرخ في الحال؛
2 يجب أن يتضمن التصريح ما يلي:
- إسم الجمعية وأهدافها؛
- لائحة بالأسماء الشخصية والعائلية، وجنسية وسن وتاريخ ومكان الازدياد ومهنة ومحل سكنى أعضاء المكتب المسير؛
- الصفة التي يمثلون بها الجمعية تحت أي اسم كان؛
- صورا من بطائقهم الوطنية ونسخا من بطائق السجل العدلي؛
- مقر الجمعية؛
- عدد ومقار ما أحدتثه الجمعية من فروع؛
- ويشفع هذا التصريح بالقوانين الأساسية، وتقدم ثلاثة نظائر عن هذه الوثائق إلى مقر السلطة الإدارية المحلية التي توجه واحدة منها إلى الأمانة العامة للحكومة؛
- ويمضي صاحب الطلب تصريحه، وكذا الوثائق المضافة إليه، ويشهد بصحتها، وتفرض على كل من القوانين الأساسية ولائحة الأعضاء المكلفين بإدارة الجمعية أو تسييرها حقوق التنبر المؤداة بالنسبة للحجم، باستثناء نظيرين؛
3- وعند استيفاء التصريح لهذه الإجراءات، يسلم الوصل النهائي وجوبا داخل أجل أقصاه 60 يوما، وإلا جاز للجمعية أن تمارس نشاطها وفق الأهداف المسطرة في قوانينها.
وحري بالإشارة في هذا المقام، أن القضاة مؤسسي النادي، قد التزموا باحترام كل تلك الشروط القانونية، بدرجة عالية لا تدع مجالا لأي تشكيك في شرعيته.
ت- إشكالية التنزيل والتفعيل
بيد أن اللافت في هذا المضمار، هو مسألة تنزيل هذين الوصفين –المشروعية والشرعية- على أرض الواقع، سواء تعلق الأمر بالقضاة، أو بغيرهم من الفرقاء المعنيين بذلك.
ولئن كان من الثابت واقعا ومعاشا، إصرار جل القضاة على تفعيلهما، فإن الأمر خلاف ذلك بالنسبة للبعض، ولا أدل على ذلك مما اعتَوَرَ جمعهم التأسيسي من محاذير وصعوبات، كان أهمها المنع "المجهول النسب"، الذي يفتقد في عمقه إلى أدنى مقومات "المسؤولية المُوَاطِنة"، حيث كاد أن ينسف بمبادرتهم المتشبعة بقيم الديمقراطية من: حرية، وعدالة، ومساواة. غير أنه، مُني بفشل شهد العالمُ مسرَحه، متعجبا مما آل إليه مبدأ "استقلال القضاء" من ممانعة عز مثيلها.
ونزولا عند هذا المقتضى، يتبين بشكل لا لبس فيه، مدى جسارة هؤلاء على الوقوف في مواجهة حُماةِ العدالة والمتبتلين في محرابها، ولو كان ذلك ضدا على روح وفلسفة الدستور الجديد، بَلْهَ "سلطة السلط" وأخطرها.
ثانيا: لحاق التأسيس
I- المبادئ المُوَجِهة للنادي
أ- الاستقلال
يعتبر استقلال "نادي قضاة المغرب"، من أهم الركائز الأساسية التي يناط بها نجاحه ومصداقيته.
ويتأدى هذا المبدأ أساسا، في عدم تبعية النادي إلى أية جهة كانت، نقابية أم سياسية، فضلا عن وزارة العدل ؛ فهو بهذا المعنى، غير مرتبط فيما يتعلق بهياكله واختصاصاته بأية نقابة أو حزب سياسي، علاوة على ما تنطوي عليه وزارة العدل من مؤسسات وجمعيات.
ولعل العلة من ذلك، هي التزامه بنص الفصل 111 من الدستور الجديد، الذي أوجب –كما سلف أعلاه- ممارسة حق القضاة في تأسيس جمعيات مهنية وفق ضابطين أساسيين، ألا وهما: احترام واجبات التجرد، واستقلال القضاء.
ورب معترض يقول: إن هذا المبدأ نسبي أمام تبعية النادي للودادية الحسنية للقضاة ؛ فإننا نقول وبملء فيهنا: إن لا علاقة بينه وبين هذه الأخيرة، سوى ما قد تقتضيه شراكة المِثلِ لمَثِيِله ؛ لأن فلسفة عملهما مختلفة تمام الاختلاف.
ب- التشارك
يعد التشارك في العمل، من أهم الوسائل المفضية إلى تحقيق ما ننشد من غايات وأهداف.
ويتحدد مبدأ التشارك لدى "نادي قضاة المغرب"، في ضرورة خلق جسور التعاون والتضامن مع المؤسسات المماثلة، سواء على الصعيد الوطني أم الدولي، شريطة أن يكون ذلك على قدم المساواة فيما بينها.
وتعتبر الودادية الحسنية للقضاة من قبيل تلك المؤسسات، لاسيما وأنها تتقاطع مع النادي فيما تصبوا إليه -ولو نظريا على الأقل- حسب ما ينص عليه قانونها الأساسي (المادة الثالثة منه) ؛ حيث يجعلان من الرقي بالشأن القضائي أساس عملهما.
ومما يزيد روح التشارك بينهما قوة ونضجا، هو تكريس مبدأ الاحترام المتبادل بين أعضائهما، واعتبار كل منهما، شيبا كانوا أم شبانا، مكملا للآخر لا منهيا له، عملا بحديث رسول الله (ص) القائل: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا" (رواه الترمذي في سننه).
ت- الانفتاح
تعتبر سياسة الانفتاح عموما، من أبرز متطلبات العمل الديمقراطي؛ إذ تتمثل بالأساس، في تفهم شيء ما، واتساع الفكر لاحتوائه رغم عدم موافقته والاختلاف معه ؛ وهي بهذا المعنى، مناقضة لفكرتي الإقصاء والاستبعاد.
ويتبدى انفتاح نادي قضاة المغرب، فضلا عن استيعابه للتحولات التي يشهدها المغرب على كافة الصُّعُد، في تفهمه واحترامه لوجهات نظر كل قضاة المملكة رغم اختلاف مشاربهم، وإجادته لتدبير كل خلافاتهم وسبل إقناعهم.
ولعل أبدى ما يتكشف عنه تفعيل هذا المبدأ، هو ارتياح جل قضاة النادي –قبل التأسيس- لإدخال أطياف غير قضائية ضمن تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بل ودفاع بعضهم عن ذلك، قصد إذكاء روح الاختلاف وتعدد الرؤى المتعلقة بالشأن القضائي.
وغني عن البيان في هذا الصدد، أن في هذا الاختلاف مصلحة للقضاة، إذ إن هلاك الأمم، بَلهَ المؤسسات، هو التفرد بالرأي ؛ لذلك قال عز من قائل:ِ"وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ". (سور البقرة، الآية 251).
II- الأهداف الكلية للنادي
أ- الدفاع عن استقلال السلطة القضائية
ليس هناك من ريب في أن مبدأ استقلال السلطة القضائية، يعتبر بمثابة القطب الذي تَجُوب حوله رحى الديمقراطية، وتكريس دولة المؤسسات القائمة على سيادة القانون، والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية...
ويتحصل هذا المبدأ وفق مفهومين متلازمين:
- أولهما مُضيَّقٌ يجعلها منفصلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث يحرم عليهما التدخل في شؤونها، تفاديا لأي تأثير محتمل فيما تصدره من أحكام، إن على المستوى القبلي أو البعدي ؛
- ثانيهما مُوسَّعٌ يشمل -فضلا عن الأول- استقلالها عن سلطتي المال والإعلام، اجتنابا لعدوى شخصنة أحكامها من جهة، وإحقاقا لـ"العدالة المجردة" من جهة أخرى.
وإذا كان السبيل لذلك، متوقفا بالأساس على ضرورة احتوائه دستوريا –وكذلك كان-، فإن من باب أولى، اقترانه بتحسين الوضعية المادية والاجتماعية للقضاة، باعتبارها مدخلا رئيسا لتفعيل الاستقلال المنشود، نظرا لما تُوَرِّثه من حالات قد تزيغ بالقاضي (دون قصد) عن مقصد فلسفة "إظهار الحق وإزهاق الباطل"، وإلا فلا معنى لاستقلال السلطة القضائية بمفهوميه أعلاه.
وتأسيسا على ذلك، أخذ "نادي قضاة المغرب" على عاتقه مسؤولية الدفاع عن استقلال السلطة القضائية وأُمَنائِها، بكل ما أوتي من جهد وقوة في سبيل خدمة الصالح العام، رغم كل ما قد يحول دون ذلك من صعوبات وعراقيل.
ب- استرجاع هيبة القضاء
لعل المتتبع للشأن القضائي بالمغرب، يستشف بالواضح الملموس، مدى التجني على هيبة القضاء والقضاة به، نظرا لتظافر عدة عوامل ساهمت بشكل أو بآخر في ذلك.
وقد كان من أهمها، ما طال القضاة من حجر قانوني أفقدهم حق الدفاع عن مؤسستهم، فبالأحرى أنفسهم ؛ إذ خيمت على أدائها كثرة الأقاويل والحكايات التي وإن كان بعضها صحيحا، فكثيرها باطل والقضاء منه براء.
وترتيبا على ذلك، صار حديث الخاصة والعامة عن الرشوة مقرونا بشخص القاضي، بينما ليس له –واقعيا- في العملية القضائية، إلا مرحلة أخيرة قوامها مناقشة ما استُجمِع من معطيات حول القضية، فاستنتاج ما يراه حقيقة من خلالها.
ولما كان الحديث عن آفة الرشوة، مسألة محمودة باعتبار آثارها الوخيمة على المجتمع ؛ فإن من العدل، أن لا نصب جَمَّ تصوراتنا حولها على القاضي المحكوم عليه بالصمت، وإلا كانت المعادلة مبتورة، والنتيجة المترتبة عنها ناقصة.
وهذا، فضلا عما يعانيه القاضي -في سبيل الحفاظ على هيبة مؤسسته- من قلة الوسائل الدنيا للعيش الكريم، موازنة بما يتحمله من عظيم الواجبات: السكن اللائق بعيدا عن الشبهات، السيارة المحترمة تفاديا لاستعمال وسائل النقل العمومي، اللباس الأنيق تَمَثُلا لمؤسسة القضاء، استمرارية التكوين ومتطلباته من كتب وغيرها، الحاجة الماسة إلى الزواج اجتنابا للفاحشة..إلخ.
وبناء على ذلك، كانت مسألة الدفاع عن هيبة المؤسسة القضائية، من أهم ما سطر في أدبيات "نادي قضاة المغرب"، لا لشيء سوى "توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية" (خطاب جلالة الملك محمد السادس، بتاريخ 20 غشت 2009، بمناسبة ذكرة ثورة الملك والشعب).
ت- الحفاظ على حقوق المواطنين
يكاد يكون من نافل القول، اعتبار مبدأ استقلال السلطة القضائية من أولى ضمانات حماية حقوق المواطنين، سواء بصفتهم الإنسانية المجردة، أو بصفاتهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
ويرتد مناط ذلك بالأساس، إلى ما يستلزم تفعيل تلك الحقوق من استقلال حقيقي، يضمن العدل والمساواة بين العموم والخصوص.
وتعتبر هاته الحقوق، من صميم مشتملات عموم ما تقرر في علم القضاء بشأن حِكمَتِه، حيث جاء بخصوصها كونه: "رفعُ التَّهَارُجِ، ورد النَّوَائِبِ، وقمعُ الظالم، ونصرُ المظلوم، وقطعُ الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (علي بن خليل الطرابلسي: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، دار الفكر، ص 7).
وتخصيصا لعموم حِكمة القضاء أعلاه، دأب المغفور له الحسن الثاني على ذات المنوال قائلا: "(..) وإذا بين أيدي القاضي أكبر سلطة وأخطرها في المجتمع، فهو يتحكم في الأنساب والأموال، وفي حريات البشر وأرواحهم، كما أنه مؤتمن على حقوق الدولة ومؤسساتها المقدسة" (نفس الكلمة المذكورة أعلاه للمغفور له الحسن الثاني).
ونزولا عند كل هذا، يلتزم "نادي قضاة المغرب" بالحفاظ على حقوق المواطنين بشتى أجناسها وألوانها، وذلك بالانتصار إلى جعل القاضي "لايستجيب إلا لما يوحي إليه القانون، ويمليه عليه الضمير المهني" (نفس الكلمة للمغفور له الحسن الثاني).
ث- إذكاء روح التضامن بين القضاة
لا شك أن تحقيق الأهداف السالفة الذكر، متوقف بالضرورة على مدى اتصاف القضاة بروح التضامن والتآزر والتعاون، شحذا لهممهم، وتجديدا لطاقة مؤسستهم، واستجلابا لخير غيرهم من المواطنين، أفرادا كانوا أو مؤسسات.
ويتحصل هذا المبدأ أساسا، في اندماج بعضهم البعض إلى درجة الانصهار المفعم بثقافة نكران الذات، فضلا عن الانضواء تحت لواء واحد ؛ ألا وهو "المصلحة العليا للقضاء".
وخَلِيقٌ بالإشارة هنا، أنه ما كان لـ"نادي قضاة المغرب" –مبتدأً- أن يتأسس لولا تضامن أعضائه وتآزرهم، مما يعد مدعاة للعمل على إذكاء روح ما ابتدأ به، إمعانا في الدفاع عن القضاء وذويه.
ج- المشاركة في إعداد القوانين المتصلة بالقضاء
ليس هناك من ريب في القول، بأن الضامن لتحقيق كل تلك الأهداف، يكمن أساسا، في مدى قدرة المشرع المغربي على احتوائها قانونا، بشكل يكفل تفعيلها حقيقة لا صوريا.
وغني عن البيان في هذا الصدد، أن لا مندوحة لبلوغ هذه النتيجة من إشراك القضاة في وضع القوانين الخاصة بالسلطة القضائية، بدء بتلك المتعلقة بولوج المعهد العالي للقضاء والتكوين به، ومرورا بمتعلقات مسارهم المهني، إن على المستوى المادي أو المعنوي، وانتهاء بوضعيتهم بعد الإحالة على التقاعد ؛ إذ من غير السائغ أن يقرر في ذلك غير القضاة أنفسهم، عملا بمنطق "أهل مكة أدرى بشعابها".
وعليه، يلتزم "نادي قضاة المغرب" في قانونه الأساسي، بالعمل –جاهدا- على تقويض فكرة طال تكريسها حَيْفا وعَسْفا ؛ ألا وهي: "تشريع غير القاضي في شأن يخص القاضي".
خاتمة:
لقد كان مدار عنايتنا في هذه الورقة، هو التصدي بالتعريف والتمحيص إلى أهم ما انضبط إليه "نادي قضاة المغرب" وما التزم به، تمثلا لقيم العدل والإنصاف. الأمر الذي سنعنى معه في هذا المقام، بإبداء ما رتبناه من ملاحظتين ذات الصلة بسياق تأسيسه(أولا)، ولحاقه (ثانيا).
أولا: تتحصل أولاهما فيما أسفر عنه سياق التأسيس أعلاه، من تشريف للقضاء المغربي بصفة عامة ؛ إذ لا غضاضة له –منذ الآن- في أن يعتز بأبنائه الأحرار، الذين لم يبالوا بما اعترضهم من جم العراقيل وعظيم الصعوبات، آبين إلا أن يؤسسوا إطارهم العتيد "نادي قضاة المغرب"، تطبيقا لما نص عليه الدستور، وأوجبه القانون.
ثانيا: وأما ثانيتهما، فتتأدى في كون التزام "نادي قضاة المغرب" بالمبادئ والأهداف السالف تفصيلها، يوحي بشكل لا لبس فيه، أن الأمر لا يقتصر على وصف التشريف فحسب، بقدر ما ينطوي على تكليف أعضائه بالعمل على تحقيق ما أُسِّس من أجله ؛ وهو الارتقاء بالقضاء إلى "سلطة حقيقية" ضابطة وموجهة لكافة السلط، اقتداء بالتوجهات الديمقراطية المنسوجة خيوطها في دول العالمين: الأول والثاني.
ويعد الارتقاء بالمجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة، من صميم مهام هذه السلطة ؛ حيث المراهنة عليها باعتبارها رافدا أساسيا من روافد التنمية في مجتمع وصف -حسب تعبير الفيلسوف الألماني Ulrich Beck- بـ"مجتمع المخاطرة".
ولعل أجلى ما يتكشف عنه ذلك، هو ما عبر عنه المغفور له محمد الخامس في خطابه الشهير بمناسبة تدشين المجلس الأعلى بتاريخ 23-10-1957، قائلا: "(..) لابد لبناء أمة بناء متينا من توفير العدل لها، إذ العدل في كل أمة أساس عمرانها واستقرارها ودعامة رقيها وازدهارها (..)" (خطاب المغفور له محمد الخامس، ألقي بتاريخ 23-10-1957 بمناسبة تدشين المجلس الأعلى).
بيد أن للاضطلاع بهذا الدور الهام، لابد أن يتسم قضاءنا بالفعالية المتطلبة لتحقيق كل ذلك وغيره من الأدوار المنوطة به ؛ إذ يُرتهن قيامها -في اعتقادنا- بضرورة توفير بعض الوسائل الكفيلة بتنزيلها على أرض الواقع.
ونزولا عند هذا الاعتبار، بادر جل قضاة المملكة الأحرار إلى تأسيس جمعيتهم المهنية الموسومة بـ"نادي قضاة المغرب"، باعتبارها من أهم تلك الوسائل المذكورة آنفا، خلافا لما تَلَّى ذلك من نقاش قد يطبعها بشيء من اللبس والغموض.
واستجلاء لما عُلِق من غموض حول طبيعة هذه الجمعية، ورفعا لكل ما شَابَها من لبس، ارتأينا في هذا المقام، أن نستهدي بما تقرر في علم البيان من قواعد تكاد تكون أساس كل فهم صحيح، ليس في مجالها الضيق فحسب، بل في مجال الظواهر الاجتماعية أيضا، ومن بينها "نادي قضاة المغرب".
وتتحدد أهم هذه القواعد أساسا في: مراعاة دلالات سباق الظاهرة، وسياقها، ولحاقها. ولئن كانت الأولى لا تثير كبير إشكال بالنسبة لموضوعنا، فإن الأخيرتين خلاف ذلك. فما هو إذن مضمون وطبيعة هذه الجمعية ؟
أولا: سياق التأسيس
I- السياق الاجتماعي
أ- السياق الاجتماعي العام
لعل العامل الاجتماعي هو المحرك الرئيس في بزوغ رغبة القضاة المغاربة إلى تأسيس جمعية مهنية، تهتم بكبائر الشأن القضائي وصغائره.
ويتأدى هذا العامل أساسا، في تكريس ثقافة التذمر من جودة العمل القضائي، وضعف ثقة المواطنين فيه، حيث أصبح الكل يتحدث عن إصلاح القضاء، دون الالتفات إلى مسببات ما آل إليه وضعه ؛ مما أدى حتما إلى تقويض مبدأ "الأمن القضائي"، الذي ينشده كل مجتمع طامح في الرقي والازدهار.
ولما كان ذلك من الثابت واقعا ومعاشا، فإنه من باب أولى وأدهى معرفة أسبابه ؛ حيث تخرج في غالبها عن نطاق تحكم القضاة أنفسهم، وذلك من قبيل: كثرة الملفات، وعدم التخصص، والوضعية الاجتماعية المزرية للقضاة خاصة ذوي الدرجات الدنيا، وانتفاء الوسائل اللوجيستيكية الكفيلة بأداء القضاة لمهامهم، فضلا عن اتسام العملية القضائية –عموما- بالتداخل والتشارك مع مجموعة من المؤسسات، الأمر الذي يتعذر معه تحديد الجهة المسؤولة عن تدني العملية برمتها ..إلخ.
ب- السياق الاجتماعي القضائي
ليس من شك في أن الثقافة الاجتماعية السائدة بشأن الوضع القضائي، قد أثرت ولا زالت، بشكل أو بآخر، على القاضي باعتباره "ابن بيئته"، إذ أضحى مستشعرا نفسه رقما صغيرا في المعادلة الاجتماعية المومأ إليها أعلاه، رغم كونه "أكبر سلطة وأخطرها في المجتمع" (كلمة المغفور له الحسن الثاني، ألقيت بتاريخ 12 نونبر 1964، بمناسبة اجتماعه بالمجلس الأعلى للقضاء).
ومن الطبيعي أن يفضي هذا الوضع إلى محاولة لاستكشاف "الذات القضائية" المتجني عليها، غير أن مجرد التفكير-آنذاك- في الاستقواء بإنشاء جمعية مهنية للقضاة، كان ضربا من ضروب المغامرة والمستحيل، احتراما للشرعية القانونية الآبية لذلك.
II- السياق السياسي
أ- قبل 20 غشت 2009
في خضم هذا الوضع الاجتماعي، نَفَذَ الشأن القضائي إلى عالم السياسة، حيث أضحى من أكثر المواضيع استئثارا بالنقاش العمومي –الجدي- نظرا لطابعه السياسي المتجدر من جهة، وأهميته في بناء وصيانة دولة القانون والمؤسسات من جهة أخرى.
ولعل النتيجة الأساس التي أسفرت عن هذا النقاش، تتمثل في تضارب الأفكار والأطروحات بشأن إصلاح القضاء، وذلك بحسب اختلاف الفرقاء السياسيين ومرجعياتهم ؛ الأمر الذي أدى إلى بروز "أزمة" لإصلاح القضاء، أو بالأحرى "إصلاح العدالة".
ومما يزيد الأزمة عمقا وتعقيدا، هو عدم إشراك القضاة في هذا النقاش مشاركة فعالة، باعتبارهم العنصر المَعنيَّ بصفة مباشرة في ذلك، وأنهم المؤهلون قبل غيرهم لتشخيص مكامن الخلل والعمل على إصلاحه ؛ الشيء الذي ساهم في خلق وضع مضطرب طال أمده، يُحمَّل فيه القاضي النصيب الأوفر من المسؤولية، دون أن يكون فاعلا رئيسا في مسبباتها المذكورة آنفا.
ب- بعد 20 غشت 2009
لم يكن –في غمرة ما سلف- من تدخل جلالة الملك محمد السادس مُلتَدٌّ لتبديد هذا الاضطراب، حيث لم يدخر جهدا في البرهنة على ما يوليه للسلطة القضائية من أهمية عز نظيرها ؛ إذ خصص له خطابا كاملا يوم 20 غشت 2009، تخليدا لذكرى ثورة الملك والشعب، معتمدا في ذلك منهجيةً تشاركيةً إدماجية، تتسم بعمق التحليل وشمول التخطيط.
وتتأدى هاتان الصفتان أساسا، فيما تتميز به معالم تلك المنهجية التي وسمها جلالته بـ"خارطة الطريق" لإصلاح نظام العدالة، حيث أقامها على مرتكزات ستة: تبتدأ بتعزيز ضمانات استقلال القضاء، وتحديث المنظومة القانونية، وتمر بتأهيل الهياكل والموارد البشرية، والرفع من النجاعة القضائية، وتنتهي بترسيخ التخليق، وحسن التفعيل.
بيد أن ما يثار في هذا الصدد، هو تَمَكُّثُ الحكومة – بعض قطاعاتها المعنية- في تنفيذ تلك "الخارطة"، حيث مر عن إعلانها سنتين ونيِّف دون مراعاة "حاجة المواطنين الملحة في أن يلمسوا عن قرب، وفي الأمد المنظور، الأثر الإيجابي المباشر للإصلاح" (خطاب جلالة الملك محمد السادس، بتاريخ 20 غشت 2009، بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب)، بالرغم مما بذلته وزارة العدل من مجهودات لتفعيل ذلك ؛ إذ تظل معها ناقصة ولا تفي بـ"المطلوب الملكي"، لاسيما الشق المتعلق بتحسين الوضعية المادية للقضاة، كمدخل لا مناص منه لتحقيق الاستقلال المنشود كما سنرى في حينه.
وقَمينٌ بالذكر في هذا المقام، أن اليوم المذكور أعلاه، فضلا عن كونه عيدا وطنيا، فقد أضحى بالنسبة لقضاة المملكة عرسا قضائيا ممتازا ؛ بالنظر لما آلت إليه منزلته في نفوسهم التواقة للرقي بالقضاء إلى سُمو المصاف وعُلو المراتب.
III- السياق القانوني
أ- مشروعية التأسيس
ليس من شك في أن تفعيل "خارطة الإصلاح" أعلاه، كان يتطلب بالأساس، تعديلا دستوريا يضع ضمن أولوياته النص على ضمانات واضحة لاستقلال السلطة القضائية (الفصول من 107 إلى 112 من الدستور الجديد).
ويعد حق القضاة في تأسيس جمعية مهنية تناط بها مهام الرقي بالشأن القضائي، من صميم هاته الضمانات المكفولة دستوريا ؛ حيث جاء النص عليها، وللمرة الأولى، في الفقرة الثانية من الفصل 111 من الدستور الجديد بقولها: "(..) يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون. يُمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية".
وجماع ذلك ولازمه، أن "نادي قضاة المغرب"، كجمعية ذات طبيعة "نقابية قضائية"، يستقي مشروعيته من هذا الفصل الذي أوجد حقا للقضاة يمارسونه وفق ضابطين أساسيين، وهما: احترام واجبات التجرد، واستقلال القضاء.
ب- شرعية التأسيس
لما كان اصطباغ تأسيس "نادي قضاة المغرب" بالمشروعية الدستورية، مقوما وجوديا لا محيد عنه ؛ فإنه لم يكن هناك من حَدَدٍ في انضباطه إلى الشروط القانونية المعمول بها في تأسيس الجمعيات بصفة عامة.
وتتأدى هذه الشروط حسب الفصل 5 من ظهير 1958 المتعلق بحق تأسيس الجمعيات في التالي:
1 تقديم تصريح إلى مقر السلطة الإدارية المحلية الكائن به مقر الجمعية، مباشرة أو بواسطة عون قضائي، يسلم عنه وصل مؤقت مختوم ومؤرخ في الحال؛
2 يجب أن يتضمن التصريح ما يلي:
- إسم الجمعية وأهدافها؛
- لائحة بالأسماء الشخصية والعائلية، وجنسية وسن وتاريخ ومكان الازدياد ومهنة ومحل سكنى أعضاء المكتب المسير؛
- الصفة التي يمثلون بها الجمعية تحت أي اسم كان؛
- صورا من بطائقهم الوطنية ونسخا من بطائق السجل العدلي؛
- مقر الجمعية؛
- عدد ومقار ما أحدتثه الجمعية من فروع؛
- ويشفع هذا التصريح بالقوانين الأساسية، وتقدم ثلاثة نظائر عن هذه الوثائق إلى مقر السلطة الإدارية المحلية التي توجه واحدة منها إلى الأمانة العامة للحكومة؛
- ويمضي صاحب الطلب تصريحه، وكذا الوثائق المضافة إليه، ويشهد بصحتها، وتفرض على كل من القوانين الأساسية ولائحة الأعضاء المكلفين بإدارة الجمعية أو تسييرها حقوق التنبر المؤداة بالنسبة للحجم، باستثناء نظيرين؛
3- وعند استيفاء التصريح لهذه الإجراءات، يسلم الوصل النهائي وجوبا داخل أجل أقصاه 60 يوما، وإلا جاز للجمعية أن تمارس نشاطها وفق الأهداف المسطرة في قوانينها.
وحري بالإشارة في هذا المقام، أن القضاة مؤسسي النادي، قد التزموا باحترام كل تلك الشروط القانونية، بدرجة عالية لا تدع مجالا لأي تشكيك في شرعيته.
ت- إشكالية التنزيل والتفعيل
بيد أن اللافت في هذا المضمار، هو مسألة تنزيل هذين الوصفين –المشروعية والشرعية- على أرض الواقع، سواء تعلق الأمر بالقضاة، أو بغيرهم من الفرقاء المعنيين بذلك.
ولئن كان من الثابت واقعا ومعاشا، إصرار جل القضاة على تفعيلهما، فإن الأمر خلاف ذلك بالنسبة للبعض، ولا أدل على ذلك مما اعتَوَرَ جمعهم التأسيسي من محاذير وصعوبات، كان أهمها المنع "المجهول النسب"، الذي يفتقد في عمقه إلى أدنى مقومات "المسؤولية المُوَاطِنة"، حيث كاد أن ينسف بمبادرتهم المتشبعة بقيم الديمقراطية من: حرية، وعدالة، ومساواة. غير أنه، مُني بفشل شهد العالمُ مسرَحه، متعجبا مما آل إليه مبدأ "استقلال القضاء" من ممانعة عز مثيلها.
ونزولا عند هذا المقتضى، يتبين بشكل لا لبس فيه، مدى جسارة هؤلاء على الوقوف في مواجهة حُماةِ العدالة والمتبتلين في محرابها، ولو كان ذلك ضدا على روح وفلسفة الدستور الجديد، بَلْهَ "سلطة السلط" وأخطرها.
ثانيا: لحاق التأسيس
I- المبادئ المُوَجِهة للنادي
أ- الاستقلال
يعتبر استقلال "نادي قضاة المغرب"، من أهم الركائز الأساسية التي يناط بها نجاحه ومصداقيته.
ويتأدى هذا المبدأ أساسا، في عدم تبعية النادي إلى أية جهة كانت، نقابية أم سياسية، فضلا عن وزارة العدل ؛ فهو بهذا المعنى، غير مرتبط فيما يتعلق بهياكله واختصاصاته بأية نقابة أو حزب سياسي، علاوة على ما تنطوي عليه وزارة العدل من مؤسسات وجمعيات.
ولعل العلة من ذلك، هي التزامه بنص الفصل 111 من الدستور الجديد، الذي أوجب –كما سلف أعلاه- ممارسة حق القضاة في تأسيس جمعيات مهنية وفق ضابطين أساسيين، ألا وهما: احترام واجبات التجرد، واستقلال القضاء.
ورب معترض يقول: إن هذا المبدأ نسبي أمام تبعية النادي للودادية الحسنية للقضاة ؛ فإننا نقول وبملء فيهنا: إن لا علاقة بينه وبين هذه الأخيرة، سوى ما قد تقتضيه شراكة المِثلِ لمَثِيِله ؛ لأن فلسفة عملهما مختلفة تمام الاختلاف.
ب- التشارك
يعد التشارك في العمل، من أهم الوسائل المفضية إلى تحقيق ما ننشد من غايات وأهداف.
ويتحدد مبدأ التشارك لدى "نادي قضاة المغرب"، في ضرورة خلق جسور التعاون والتضامن مع المؤسسات المماثلة، سواء على الصعيد الوطني أم الدولي، شريطة أن يكون ذلك على قدم المساواة فيما بينها.
وتعتبر الودادية الحسنية للقضاة من قبيل تلك المؤسسات، لاسيما وأنها تتقاطع مع النادي فيما تصبوا إليه -ولو نظريا على الأقل- حسب ما ينص عليه قانونها الأساسي (المادة الثالثة منه) ؛ حيث يجعلان من الرقي بالشأن القضائي أساس عملهما.
ومما يزيد روح التشارك بينهما قوة ونضجا، هو تكريس مبدأ الاحترام المتبادل بين أعضائهما، واعتبار كل منهما، شيبا كانوا أم شبانا، مكملا للآخر لا منهيا له، عملا بحديث رسول الله (ص) القائل: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا" (رواه الترمذي في سننه).
ت- الانفتاح
تعتبر سياسة الانفتاح عموما، من أبرز متطلبات العمل الديمقراطي؛ إذ تتمثل بالأساس، في تفهم شيء ما، واتساع الفكر لاحتوائه رغم عدم موافقته والاختلاف معه ؛ وهي بهذا المعنى، مناقضة لفكرتي الإقصاء والاستبعاد.
ويتبدى انفتاح نادي قضاة المغرب، فضلا عن استيعابه للتحولات التي يشهدها المغرب على كافة الصُّعُد، في تفهمه واحترامه لوجهات نظر كل قضاة المملكة رغم اختلاف مشاربهم، وإجادته لتدبير كل خلافاتهم وسبل إقناعهم.
ولعل أبدى ما يتكشف عنه تفعيل هذا المبدأ، هو ارتياح جل قضاة النادي –قبل التأسيس- لإدخال أطياف غير قضائية ضمن تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بل ودفاع بعضهم عن ذلك، قصد إذكاء روح الاختلاف وتعدد الرؤى المتعلقة بالشأن القضائي.
وغني عن البيان في هذا الصدد، أن في هذا الاختلاف مصلحة للقضاة، إذ إن هلاك الأمم، بَلهَ المؤسسات، هو التفرد بالرأي ؛ لذلك قال عز من قائل:ِ"وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ". (سور البقرة، الآية 251).
II- الأهداف الكلية للنادي
أ- الدفاع عن استقلال السلطة القضائية
ليس هناك من ريب في أن مبدأ استقلال السلطة القضائية، يعتبر بمثابة القطب الذي تَجُوب حوله رحى الديمقراطية، وتكريس دولة المؤسسات القائمة على سيادة القانون، والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية...
ويتحصل هذا المبدأ وفق مفهومين متلازمين:
- أولهما مُضيَّقٌ يجعلها منفصلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث يحرم عليهما التدخل في شؤونها، تفاديا لأي تأثير محتمل فيما تصدره من أحكام، إن على المستوى القبلي أو البعدي ؛
- ثانيهما مُوسَّعٌ يشمل -فضلا عن الأول- استقلالها عن سلطتي المال والإعلام، اجتنابا لعدوى شخصنة أحكامها من جهة، وإحقاقا لـ"العدالة المجردة" من جهة أخرى.
وإذا كان السبيل لذلك، متوقفا بالأساس على ضرورة احتوائه دستوريا –وكذلك كان-، فإن من باب أولى، اقترانه بتحسين الوضعية المادية والاجتماعية للقضاة، باعتبارها مدخلا رئيسا لتفعيل الاستقلال المنشود، نظرا لما تُوَرِّثه من حالات قد تزيغ بالقاضي (دون قصد) عن مقصد فلسفة "إظهار الحق وإزهاق الباطل"، وإلا فلا معنى لاستقلال السلطة القضائية بمفهوميه أعلاه.
وتأسيسا على ذلك، أخذ "نادي قضاة المغرب" على عاتقه مسؤولية الدفاع عن استقلال السلطة القضائية وأُمَنائِها، بكل ما أوتي من جهد وقوة في سبيل خدمة الصالح العام، رغم كل ما قد يحول دون ذلك من صعوبات وعراقيل.
ب- استرجاع هيبة القضاء
لعل المتتبع للشأن القضائي بالمغرب، يستشف بالواضح الملموس، مدى التجني على هيبة القضاء والقضاة به، نظرا لتظافر عدة عوامل ساهمت بشكل أو بآخر في ذلك.
وقد كان من أهمها، ما طال القضاة من حجر قانوني أفقدهم حق الدفاع عن مؤسستهم، فبالأحرى أنفسهم ؛ إذ خيمت على أدائها كثرة الأقاويل والحكايات التي وإن كان بعضها صحيحا، فكثيرها باطل والقضاء منه براء.
وترتيبا على ذلك، صار حديث الخاصة والعامة عن الرشوة مقرونا بشخص القاضي، بينما ليس له –واقعيا- في العملية القضائية، إلا مرحلة أخيرة قوامها مناقشة ما استُجمِع من معطيات حول القضية، فاستنتاج ما يراه حقيقة من خلالها.
ولما كان الحديث عن آفة الرشوة، مسألة محمودة باعتبار آثارها الوخيمة على المجتمع ؛ فإن من العدل، أن لا نصب جَمَّ تصوراتنا حولها على القاضي المحكوم عليه بالصمت، وإلا كانت المعادلة مبتورة، والنتيجة المترتبة عنها ناقصة.
وهذا، فضلا عما يعانيه القاضي -في سبيل الحفاظ على هيبة مؤسسته- من قلة الوسائل الدنيا للعيش الكريم، موازنة بما يتحمله من عظيم الواجبات: السكن اللائق بعيدا عن الشبهات، السيارة المحترمة تفاديا لاستعمال وسائل النقل العمومي، اللباس الأنيق تَمَثُلا لمؤسسة القضاء، استمرارية التكوين ومتطلباته من كتب وغيرها، الحاجة الماسة إلى الزواج اجتنابا للفاحشة..إلخ.
وبناء على ذلك، كانت مسألة الدفاع عن هيبة المؤسسة القضائية، من أهم ما سطر في أدبيات "نادي قضاة المغرب"، لا لشيء سوى "توطيد الثقة والمصداقية في قضاء فعال ومنصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، وعمادا للأمن القضائي، والحكامة الجيدة، ومحفزا للتنمية" (خطاب جلالة الملك محمد السادس، بتاريخ 20 غشت 2009، بمناسبة ذكرة ثورة الملك والشعب).
ت- الحفاظ على حقوق المواطنين
يكاد يكون من نافل القول، اعتبار مبدأ استقلال السلطة القضائية من أولى ضمانات حماية حقوق المواطنين، سواء بصفتهم الإنسانية المجردة، أو بصفاتهم المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
ويرتد مناط ذلك بالأساس، إلى ما يستلزم تفعيل تلك الحقوق من استقلال حقيقي، يضمن العدل والمساواة بين العموم والخصوص.
وتعتبر هاته الحقوق، من صميم مشتملات عموم ما تقرر في علم القضاء بشأن حِكمَتِه، حيث جاء بخصوصها كونه: "رفعُ التَّهَارُجِ، ورد النَّوَائِبِ، وقمعُ الظالم، ونصرُ المظلوم، وقطعُ الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (علي بن خليل الطرابلسي: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، دار الفكر، ص 7).
وتخصيصا لعموم حِكمة القضاء أعلاه، دأب المغفور له الحسن الثاني على ذات المنوال قائلا: "(..) وإذا بين أيدي القاضي أكبر سلطة وأخطرها في المجتمع، فهو يتحكم في الأنساب والأموال، وفي حريات البشر وأرواحهم، كما أنه مؤتمن على حقوق الدولة ومؤسساتها المقدسة" (نفس الكلمة المذكورة أعلاه للمغفور له الحسن الثاني).
ونزولا عند كل هذا، يلتزم "نادي قضاة المغرب" بالحفاظ على حقوق المواطنين بشتى أجناسها وألوانها، وذلك بالانتصار إلى جعل القاضي "لايستجيب إلا لما يوحي إليه القانون، ويمليه عليه الضمير المهني" (نفس الكلمة للمغفور له الحسن الثاني).
ث- إذكاء روح التضامن بين القضاة
لا شك أن تحقيق الأهداف السالفة الذكر، متوقف بالضرورة على مدى اتصاف القضاة بروح التضامن والتآزر والتعاون، شحذا لهممهم، وتجديدا لطاقة مؤسستهم، واستجلابا لخير غيرهم من المواطنين، أفرادا كانوا أو مؤسسات.
ويتحصل هذا المبدأ أساسا، في اندماج بعضهم البعض إلى درجة الانصهار المفعم بثقافة نكران الذات، فضلا عن الانضواء تحت لواء واحد ؛ ألا وهو "المصلحة العليا للقضاء".
وخَلِيقٌ بالإشارة هنا، أنه ما كان لـ"نادي قضاة المغرب" –مبتدأً- أن يتأسس لولا تضامن أعضائه وتآزرهم، مما يعد مدعاة للعمل على إذكاء روح ما ابتدأ به، إمعانا في الدفاع عن القضاء وذويه.
ج- المشاركة في إعداد القوانين المتصلة بالقضاء
ليس هناك من ريب في القول، بأن الضامن لتحقيق كل تلك الأهداف، يكمن أساسا، في مدى قدرة المشرع المغربي على احتوائها قانونا، بشكل يكفل تفعيلها حقيقة لا صوريا.
وغني عن البيان في هذا الصدد، أن لا مندوحة لبلوغ هذه النتيجة من إشراك القضاة في وضع القوانين الخاصة بالسلطة القضائية، بدء بتلك المتعلقة بولوج المعهد العالي للقضاء والتكوين به، ومرورا بمتعلقات مسارهم المهني، إن على المستوى المادي أو المعنوي، وانتهاء بوضعيتهم بعد الإحالة على التقاعد ؛ إذ من غير السائغ أن يقرر في ذلك غير القضاة أنفسهم، عملا بمنطق "أهل مكة أدرى بشعابها".
وعليه، يلتزم "نادي قضاة المغرب" في قانونه الأساسي، بالعمل –جاهدا- على تقويض فكرة طال تكريسها حَيْفا وعَسْفا ؛ ألا وهي: "تشريع غير القاضي في شأن يخص القاضي".
خاتمة:
لقد كان مدار عنايتنا في هذه الورقة، هو التصدي بالتعريف والتمحيص إلى أهم ما انضبط إليه "نادي قضاة المغرب" وما التزم به، تمثلا لقيم العدل والإنصاف. الأمر الذي سنعنى معه في هذا المقام، بإبداء ما رتبناه من ملاحظتين ذات الصلة بسياق تأسيسه(أولا)، ولحاقه (ثانيا).
أولا: تتحصل أولاهما فيما أسفر عنه سياق التأسيس أعلاه، من تشريف للقضاء المغربي بصفة عامة ؛ إذ لا غضاضة له –منذ الآن- في أن يعتز بأبنائه الأحرار، الذين لم يبالوا بما اعترضهم من جم العراقيل وعظيم الصعوبات، آبين إلا أن يؤسسوا إطارهم العتيد "نادي قضاة المغرب"، تطبيقا لما نص عليه الدستور، وأوجبه القانون.
ثانيا: وأما ثانيتهما، فتتأدى في كون التزام "نادي قضاة المغرب" بالمبادئ والأهداف السالف تفصيلها، يوحي بشكل لا لبس فيه، أن الأمر لا يقتصر على وصف التشريف فحسب، بقدر ما ينطوي على تكليف أعضائه بالعمل على تحقيق ما أُسِّس من أجله ؛ وهو الارتقاء بالقضاء إلى "سلطة حقيقية" ضابطة وموجهة لكافة السلط، اقتداء بالتوجهات الديمقراطية المنسوجة خيوطها في دول العالمين: الأول والثاني.