كنت قد آليت على نفسي أن أكتب لنادي قضاة المغرب موضوعا في الأسبوع اعترافا له بالجميل الذي أسداه إلي كما لباقي قضاة المغرب قاطبة ، و قد كان لي من العهد أن كتب ما كتبت لهذا الأسبوع من أمور مست القضاء من قريب أو بعيد، و لكن ما إن وقع سمعي على قول من رأت عيني خلال برنامج " بلا حدود " و وقع من ذلك هول في نفسي حتى جال نظري في فحوى ما سمعت من نطق خرج عن طبيعة العقلاء بميزان الدين ، و الحكماء بميزان العقل و السير الظاهرة.
أطال فكري النظر ، فرأى ما رأى من استنهاض الهمم في أن مهمة القاضي صون العرائض و الذمم ، و حماية الحق و ما أصابها من لمم . فكان أن استشعرت الرهبة تغذي أوصال بدني و تستشري بين أضلعي ، صادعة في دواخلي أن قد حان الوقت للصدع بالحق ، فما أتمنت عليه ما كان ليخطئك و ها هو قد أصابك ، فانظر ما أنت ناظر ، إما أن تتجلد بالصبر و تنبه الخلق بخلل ما جاء من قول ، أو أنت في الهالكين ممن قال فيهم الأثر أن " الساكت عن الحق شيطان أخرس " ، فاستحضرت قول الإمام أبي القاسم القشيري و مما جاء في رسالته في باب الصمت من أن : " السكوت في وقته من صفة الرجال ، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال" فدانت نفسي للحق في الشهادة ، و للتبيان و الإفادة فقلت راجيا المولى أن يكون في قولي إجادة :
جاء في الحديث عن قُتَيْبَةُ عن اللَّيْثُ عن ابْنِ شِهَابٍ عن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ , فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : مَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ " , ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ فَقَالَ : " إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ , أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ , وَايْمُ اللَّهِ , لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
المخزومية امرأة من وجهاء القوم لابد من تذكير السيد عبد الإله بن كيران بمكانها الاجتماعية ووجاهة مركزها ، فهي على الأرجح من أقوال الفقهاء و المحدثين فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومي و هي بنت أخي أبي سلمة ابن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه و سلم ، فهي المرأة ذات الوجاهة و ذات الحظوة و القرب . دلالة ذكر نسبها أنها قريبة من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم لقربها من الزوج السابق لأمنا سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم ، و كان قد تزوجها و هو نبي .
هذه المرأة المخزومية قيل فيها أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و القطيفة في لسان العرب و في أصل الوضع قطعة من الثوب يتخذ لباسا يواري به المرء سوءته ، و قيل إنها سرقت حليا ، فذكر العلماء أن الروايتين قد تصحا لاحتمال وجود الحلي في القطيفة و ما تعدد الروايات فيها إلا من باب الجمع الذي يريد به صاحبه ذكر القطيفة و يقصد ما فيها من حلي . و قيل أنها خانت الأمانة لذكر الأثر في إحدى رواياته أن امرأة استعارت على ألسنة ناس يُعرفون و هي لا تُعرف حليا فباعته و أخذت ثمنه ، و ما في الروايتين من تضارب فمن جهل بنا إذ يجوز القول إما أن كلا المرأتين قامتا بفعل واحد ، أو لعلها الواحدة التي سرقت و خانت الأمانة كما ذكر ذلك العلماء ، و في فتح الباري شرح لذلك و تفصيل .
امرأة كان فعلها قد وقع عام الفتح في السنة الثامنة للهجرة ، عام عم فيه الرخاء على المسلمين بعد الشدة ، وكان أن جاءت المرأة المخزومية بما جاءت به ، فحز ذلك في نفس قريش رأس المضارب و من لهم في الإسلام سابقة خير من أية سابقة . فتشاروا بينهم على مثل عوائدهم ؛ و بعد إسلامهم غلبت عليهم عصبية الدم و الجاه بعد أن نور الإيمان قلوبهم ، فاستقر لهم الرأي على وفادة حب رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه و سلم للشفاعة ؛ اختاروه على رشد منهم لقوله صلى الله عليه و سلم فيه : " اللهم إني أحبه فأحبه " . اختيار ينم عن فطنة و دهاء ، لكن أمرا من عمل الشيطان كان قد دنسه بميزان الشرع الذي ساد قريشا حينها ، فما كان إلا أن رغب القوم في أن يشفع أسامة بن زيد عند رسول الله صلى الله عليه و سلم للمرأة المخزومية نأيا بها عن وقوع الحد عليها .
القصة معلومة من أن النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم ، غضب من شفاعة أسامة في حد من حدود الله تعالى ، فاستنكر عليه ذلك استنكارا دلت عليه صيغة الذكر الذي ذكر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة : " أتشفع في حد من حدود الله " ؛ ألف جاءت في نطق العرب للاستفهام الإنكاري ، و في سياق القول تذكير بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبق له أن منع الشفاعة في إقامة الحد . فلم يمنع قرب أسامة منه صلى الله عليه و سلم من إقامة الحد ، و لم يفتأ صلى الله عليه وسلم أن يفي بما سبق أن نهى عنه من عدم جواز الشفاعة في حد من حدود الله ، و منه قد استقر في عرف العلماء الراسخين أن حدود الله لا تنازل عنها .
رسول الله صلى الله عليه و سلم قام خطيبا في القوم عندئذ فسن لهم فيها أن ما أهلك من قبلهم هو أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ؛ عادة في الجاهلية و فيما تحرف من أديان سبقت الإسلام بعد أن خالطتها تعاويذ إبليس و الشيطان . فجاء ذكر أمر الأمم السابقة من باب النهي عنه بل الأمر بحرمته ، و أن فيه إغضاب لله تعالى من تعطيل لحدوده ، و هو ما يناقض ما جاء به الإسلام من كون القوم سواسية أمام الشرع الحنيف لا فرق بين عربيهم و أعجميهم و لا أبيضهم و أسودهم و لا غير ذلك من دواعي التفرقة الجاهلية إلا بالتقوى .
كان صادقا صلى الله عليه و سلم و ما جرب عليه قومه الكذب قط و شهدت المعجزات و التواريخ على صدقه ، و من صدقه أن أقسم بالله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ، قسم يصدق سابق قول و نهي و يؤكد أن القصاص لا محالة على المرأة المخزومية واقع .
أثر و عبرة ؛
سقنا ما سقنا من تذكير بأمر المرأة المخزومية ، لنرى هل من شيء في ذلك نزن به ما صدر عن السيد عبد الإله بن كيران من قول بأنه يعفو عمن أفسد في الأرض من نهب لمال الشعب و عات فيه عتوا كبيرا بغير وجه حق أم أن السياق غير السياق و العرف غير العرف أم أن في الأمر نظر ؟
في عرف الناس أن من يتولاهم و يتولى أمرهم مسؤول عنهم و عن أحوالهم، و هو مسؤول عنهم ليس أمامهم فقط و لكن أمام الله تعالى يوم الحشر . إذ أن ذلك يدخل في نطاق القصد الأعظم المترجم في قول عمر : " لو أن دابة تعثرت في العراق لسئل عمر عنها لماذا لم تمهد لها الطرق " أصل في السياسة الرشيدة ذكر فيه لفظ الدابة من باب أن الأقل في الذكر دل على أن ما هو أعظم منه أجدر بالحماية و الصون .
إن انتخاب الناس لبعضهم البعض أمانة في أعناق من يُنتخبون قائمة على عقد يشمل الأمور كلها ، أصله عندنا نحن معشر المسلمين حماية مصالح الله و العباد في الأرض ؛ و من خان فقد نكث عهده ، و حاد عن قول الله تعالى الآمر بالوفاء بالعقود، عقود في عمومها راعية لشؤون الخلق بدء من البيع و الابتياع إلى تحميل الأمانة فيما هو أعظم و أقوم ، أمانة الحكم بين الناس و رعاية مصالحهم . و من أجل ذلك نقول أن الناس لما انتخبوا من انتخبوا انتخبوهم على المكره و المفرح ، و على رأس ما انتخبوهم إقامة العدل في إزالة الفساد و هدر المال العام ، و ليس في ذلك أمر خير من الوفاء بالعهد ، و كل ما دون ذلك فمن باب قوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء من آيات المنافق من أنه إذا أتمن خان . قول يصدق فينا أحببنا أم كرهنا ما تحققت فينا شروطه و لا ينفعنا فيه تبرير أو شفاعة ، إذ لو فعلنا لكان أمام الخلق خزي و عند الله عذاب أليم .
الأمانة العظيمة التي قُلدتموها السيد عبد الإله بن كيران قامت على تعاقد بينكم و بين عباد الله على أن تردوا إليهم حقوقهم و تردوا عنهم المظالم . فكان حري بكم أن تكونوا من الصادقين في الوفاء بالعهد ، و قد جرت سنة الله في الخلق أنه ما من امرء دان للحق و عمل به إلا هفت إليه أفئدة الخلق و نصره الله تعالى نصرا عزيزا مؤزرا ، و في الذكر الحكيم أثر من قول قوم شعيب له : " قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول و إنا لنراك فينا ضعيفا و لولا رهطك لرجمناك و ما أنت علينا بعزيز"
خوف القوم من شعيب في أصله أمران ، التفاف للقوم من حوله لما دان للحق و عمل به ، و تأييد رباني بأن قيد الله تعالى لنبيه أهل خير أعانوه على تبليغ الرسالة و الوفاء بالعهد . فما كان منكم أيها السيد الذي عقدت عليكم الآمال إلا أن توفوا بعهودكم ، لا أن تجهدوا أنفسكم في تعطيل الحدود و الذود عن رجس العمل مما اقترفته أيادي العابثين بالوطن و مقوماته . حجتكم أيها السيد داحضة إن تعللتم بالعوائق و العراقيل ، لما فيها من بيان ضعف و قلة شكيمة و هوان بين الناس . فكيف لي أن أثق فيكم بعد الآن و ها قد خنتم العهد و تعللتم بما تعللتم به ، و عقدتم النية على ألا يعودوا و من عاد فينتقم الله منه .
انتقام الله تعالى أمر واقع لا محالة ، لكن خيانتكم للعهد قامت عليكم حجتها ما حييتم بما جناه لسانكم أمام الخلق ، فكن رعاك الله قائما بالحق آمرا بالقسطاس ، تدين نفسك لأمر الله و لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و خذ العبرة من حديثه من أن ما تقوم به من عفو و تماطل عن إقامة الحد بما تقتضيه الشرائع الجارية إنما هو من سنة من سبقونا من الأمم ، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ، إلا تفعلوا كان منكم ظلما مؤذنا بالخراب كما قال ابن خلدون ، و حينها سيتذكر كل منا قوله تعالى : " و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " فنندم إذ لم نعمل بها فيكون عليكم وزر ما تضررت به الأمة فأين مفرك من الله عندئذ ؟
بلغة القوم ؛
في الدولة و الحمد لله أناس موجودون ممن حسنت طويتهم ، و همهم أن يعلو شأن الوطن و يصير في مصاف الأمم الراقية في الدنيا و الآخرة ، و فيها أيضا مؤسسات قادرة على إعانتكم في أموركم ما أحسنتم استعمالها على وجهتها التي وضعت لها . ومما تتوفرون عليه أمور لم يسبقكم لها أحد من قبل ممن تعاقبوا على أمانة هذا الشعب من أحزاب و حكومات .
ليس في أيديكم 27 % من أصوات الشعب ، إذ سرعان ما ينفض من حولك متى ما رأى فيك خيانة للأمانة ، فلا تجد لك نصيرا كما وجد شعيب في قومه نصيرا، فتلك أمور زائلة متبدلة قد تزيد و تنقص بمقدار ما تكسب أياديكم . لكن بأيديكم أشخاص ممن يظنهم الناس متعففين عن الإساءة همهم قضاء حوائج الناس و انتظارهم أن يكونوا مع الأنبياء و الصديقين و الشهداء و هم ليسوا بأنبياء أو صديقين أو شهداء ، فهؤلاء عليهم الاتكال بعد المولى عز و جل كما اتكل موسى عليه السلام على هارون أخيه فاشتد به أزره و قويت به شوكته ، و لكم إن أحسنتم استعمالها و أجدتم حلفاؤكم ما إن أقنعتموهم استطعتم سن قوانين و تشريعات كانت حامية للعدل قاطعة لدابر الظلم ، فتمكنتم من خلالها من محاربة الفساد و استرددتم أموال الشعب المدفوعة من دم الفقراء ، و لكم في القضاء خير معين و قد همت ثلة من أخياره شباب و حكماء إلى مد يد العون لكم و لكل خير في هذا البلد استنقاذا لثروات الشعب من الضياع و اقتصادا لطاقات تهدر . لكم آليات متى أهملتموها دل ذلك على أمرين إما جهلكم أو خوفكم ، وكلاهما لا يستقيم معه حكم ، فخير من يستأجر القوي الأمين، و ها أنتم طلبتم الحكم في الانتخابات و قد صار لكم ما طلبتم ، لا نعاتبكم عما طلبتم فهو حقكم ، و قد نلتم منه ما نلتم و جعلت خزائن الأرض تحت أيديكم ، فكونوا كما كان يوسف عليه السلام لما طلب أن يكون عزيزا : " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " الحفظ و العلم خاصيتان ما إن توفرتا فيكم إلا و ألهمتم الرشاد و سددت خطاكم . فكونوا أعزاء بمبادئكم أيها الرئيس الكريم و ابذلوا ما في وسعكم في محاربة الفساد و زجر ناهبي المال العام ، فهي أمانة قد طوقت أعناقكم وأنتم عنها مسؤولون .
أشخاص و مؤسسات بين أيديكم و طوع أمركم ، فما كان من صلاح فيها فمنكم و ما كان من فساد فيها فمنكم ، و قد قال حكماؤنا الأقدمين ؛ ما زالت الدول تتعاقب و تختلف باختلاف حكامها ، فمن صلح منهم صلحت به أمور الأمة و من فسد منهم فسدت به أمورها .
النصيحة النصيحة
إنكم أيها السيد الرئيس؛ عنوان الدار التي أنتم رؤساء عليها بموجب الدستور، فأنتم من اقترحتم الوزراء و أنتم من دافعتم عنهم ، فهم أشبالكم ، فادعهم لما فيه خير الأمة و اجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، وما سبيلك إلى ذاك إلا بأمور :
المواطن المواطن ، ففيه الخير كله ، وما خلق الله من امرء إلا و جعل في جوفه خير و شر ، فقو جانب الخير فيه و اضمر جانب الشر ، فهو لك عضد ، و ما إن أهملته حتى ينقلب عليك فتكون من الخاسرين ، و اعلم أن من أمور سياسته الرفق به و العمل على رفع الظلم عنه فذاك طريق الصلاح معه .
الأمانة الأمانة ، حافظوا عليها ، فهي قوام الأخلاق الذي تتزيلون به ، و هو ما دفع أعضاء حزبكم لتأكيد الثقة فيكم فكونوا في مستوى ما حُملتم ، فخيانتها أعظم خيانة ، و عواقبها إما لكم أو عليكم , و اعلم أن الشعب قد يصبر عليكم حينا من الدهر لكن صبره سينفذ متى ما رأى منكم العنت ، فلا تحملوه ما لا طاقة له به ، فإن النفس ضعيفة و سياستها خبيثة فهي ميالة للشر و ذلك رأس الفتنة حمانا الله تعالى منها و حمى وطننا الحبيب من تبعاتها .
المسؤولية المسؤولية ، فلتكن و وزراءك مسؤولون على ما أنتم على رأسه ، و اختاروا من الرشداء من يعينوكم على أداء رسالتكم ، و اجعلوا همكم إرضاء الله تعالى لا الانتصار لأهوائكم و الخضوع لمن قوي عليكم أو استقوى . فهلاككم في إطاعتهم و طاعتهم ، و كونوا خير مثال يقتدى به ، و ابتعدوا عن البهرجة فإنها مهلكة لكم ، ترهنون بها أنفسكم و تقيمون الدليل عليكم و ينتظر منكم غيركم ما تتظاهرون به أمامهم و أنتم عليه غير قادرين .
الحق الحق ، الزموه متى ظهر لكم ، و لا تحاولوا تبرير ما عجزتم عن القيام به ، فالحق أحق أن يتبع و لو ظهرت فيه مرارة ، و كونوا ممن يرجون أن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ، فالإمامة العادلة سبيل فلاح الدنيا و الآخرة ، بها تنشر السير و تعلم الأعلام ، و لكم في شهادة سيد الخلق للنجاشي خير مثال ، و كفى به مثال . فما لزومه للحق و العدل إلا دليل على حسن طويته التي استحق بها الشهادة الشريفة ، و اعلم أن الميل للحق يناقضه كثرة الكلام و الخوض في أمور يحسبها العقلاء عبثا ، فمن كثر كلامه كثر سقطه .
العلم العلم ، فإن تجهيل الناس من نواقض الاقتضاء بهديه صلى الله عليه و سلم ، أما علمتم أن من سيرته أنه الأمي الذي أمر الأسرى بتعليم ابناء المسلمين ، فكانت سيادة الأمة على طوع العلم ، فأكرموا العلماء و الأساتذة و المعلمين ، و كونوا لهم سندا فهم من يضمن لكم استمرار سيركم في الأنام ، و لا تبخسوهم حقهم فتضيعوهم و تضيعونا معهم . فالعلم أساس العبادة و العمل و قوامهما ، و هما من غيره ضرب من الجهل و تعطيل للطاقات النافعة و إهدار لها . فأكرموا النوابغ من أبناء الشعب يكونوا قدوة لغيرهم ، و لا تتهاونوا في إبراز مناقبهم فهم النبراس الذي يضيء مسيرة المغرب بين الأمم .
القضاء القضاء ، فهو عماد العدل ،و به تقوم الأمم و تموت ، فمن كان قضاءه عدلا فهو إلى الله أقرب ، و من حاد بالفساد عن العدل فإلى الهلاك أنسب ، و اعلموا أنكم ما إن تلكأتم في صون القضاء ، فإن ذلك في جبينكم باق ، سبة لكم و معرة تلاحقكم ، و ندم تصيبونه بأيديكم ، و حينها لا ينفع الندم و لا هو جائز فيكم التحصر على فرصة أضعتموها في حماية حقوق العباد و حرياتهم ، فلا تكونوا ممن يحرص على كل شيء و يفقد كل شيء ، فالقضاء نائل استقلاليته لا محالة ، فهي في الدستور مكتوبة و أملها منظور لا يتجاوز عمر ولايتكم ، فإنما هي فرصة بين أيديكم لا تضيعوها بالتمني ، و عجلوا بالدفع باستقلالية القضاء فإنه سلطة و لا تكابروا في ذلك . فإن دفعتم باستقلاليته حسبت لكم و كانت لكم سندا في أداء مهامكم و كفتكم شرا أنتم عنه في غنى . و إن استحللتم انتهاك حرماته و دفعتم بالأقاويل فيها بغير علم هلكتم و هلكت الأمة معكم . و اعلموا أن في القضاة من لو وزن بميزان الذهب لما وفى . إنما صلاح القضاء بأمرين استقلال و حرمة . فأما الاستقلال فعن السياسة التي هي منازعة على المصالح و هو ما يناقض القضاء الذي لا يرى إلا الحق فيحكم به و كلما دخلت السياسة في القضاء إلا و أفسدته كما فسد دهرا من الزمان . و اعلم أن القضاء قسمان ، أحدهما ينطق بالحق و يحكم به فهو قضاء جالس لابد له من أمن من خوف فلا تتحكم فيه أهواء و لا تخيفه أصوات و نفوذ ، و قضاء واقف فهو من الأول لكن شاءت مشيئة الإله أن تسند إليه أمور التصدي لخرق القانون و الحياد عن الشرع الجاري ، فلا تتحكموا فيه ، فإن تحكمكم فيه اليوم لا تأمنوا مكره ، فهو اليوم لكم و غدا عليكم . فاعلموا أن النيابة العامة قضاء واقف و هي سيف مسلط عليكم قبل غيركم ، و أداة تخرق بها الحقوق أو تصان ، فإن كانت صيانتكم لها هدف فلا تتمادوا في إخضاعها لنفوذكم فإن في ذلك تدخل في القضاء و سفور ما بعده سفور و مروق عن الحق و قواعده ، فإن بطشتم بها اليوم بطش بها غيركم غدا . و اعلموا أن الله تعالى ساق إليكم فرصة كما ساق إلى بني إسرائيل مائدة من السماء فأحسنوا الاستقبال و أوفوا الأمر حسن الوفادة . و اعلموا أن من سنن الله تعالى أن إذا قيد لامرء أمرا هيأ له سبله ، و لتكن منكم همة تعلو و إرادة لا تخبو و أعينوا القضاء على أداء رسالته فما فعلتم معه فإما سنة حسنة لكم أجرها و أجرمن عمل إلى يوم الدين أو سنة سيئة عليكم و زرها و وزر من عمل بها .
و اعلموا أن هذه شهادة ، شهد بها عليكم قاض ممن يهينه المواطنون و لا يبالي ، فقد شمل عفوه جهلهم ، و ترفعت نفسه عن الإساءة إليهم ، و تجاوزت همته الخوض في ما يخوضون فيه من ضروب القول في القضاء جهلا ، و تسامت بصيرته بأن نظر في أمور الخلق من باب الأمانة التي طوقت عنقه ، فتحمل عناء قول الحق فيكم أولا ، و ما يبتغي من ذلك إلا رضى الله تعالى و يشهد الخلق على ذلك ، فغذا يوم الحشر نتقابل فتكون لي الحجة عليكم فتزيد عند الله مكانتي إن ساهمت في إرشادكم فأنجو و تنجوا ، أو أبرأ ذمتي و أطلب من الله تعالى أن يجزيني خير الجزاء .
السيد الرئيس ، عبد الإله بن كيران ، قلت قولي هذا و ما لي عليكم من سلطان، وأستغفر الله تعالى في هذا الشهر الكريم من الذنوب و الخطايا ،و أدعو لكم بالتوفيق و السداد ، و أبارك لمولانا أمير المؤمنين ذكرى تربعه على عرش أسلافه الميامين ، و كل دعواتي له بالتمكين فإنه سبحانه بالإجابة قدير . و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين .