توصلت الجمعية المغربية «حوار» بدعوة من وزارة العدل و الحريات، من أجل حضور أشغال المائدة المستديرة حول موضوع: " الوساطة القضائية: أي نموذج أمثل للمغرب؟"، و التي نظمت بشراكة مع المؤسسة الدولية للتمويل، و ذلك مواكبة منها للحوار الوطني من أجل الإصلاح الشامل و العميق لمنظومة العدالة. و لقد حضر لتمثيل الجمعية بهذا الملتقى العلمي الهام، الذي انعقد بتاريخ 29 محرم 1437 الموافق ل 14 دجنبر 2012، كل من السادة :
- الأستاذ مصطفى يخلف رئيس الجمعية المغربية «حوار»؛
- الأستاذ عبد الرحمان الدرعي النائب الثاني للكاتب العام للجمعية المغربية «حوار»؛
- الأستاذ منير مهدي مستشار بالجمعية المغربية «حوار».
و بعد افتتاح اللقاء من طرف السيد مدير الشؤون المدنية بوزارة العدل و الحريات، و السيد ممثل المؤسسة الدولية للتمويل، تم عرض مجموعة من القضايا التي تهم آلية الوساطة القضائية، و خصائصها، و أهميتها بالنسبة للواقع المغربي، لا سيما في مجال القضايا التجارية، التي تعرف تزايدا مستمرا بسبب كثرة النزاعات و تنوع الخلافات الناتجة عن ممارسة الأعمال التجارية، و هو الأمر الذي انعكس سلبا على السير العادي بالمحاكم المختصة بالنظر لهذا النوع من النزاعات، و ذلك نظرا لضعف الإمكانيات اللوجيستيكية، و قلة الموارد البشرية، كما جاء في توضيح للأستاذة أمال المنيعي، قاضية و مستشارة لدى السيد وزير العدل و الحريات، و التي خلصت إلى اعتبار أنه للتخفيف من عبء الملفات المعروضة على المحاكم التجارية، و الضغط الذي يعيشه السادة القضاة العاملين بها، يجب التفكير جديا في تفعيل آلية الوساطة القضائية، خاصة بالنسبة للدعاوى التي لا تتجاوز قيمتها مبلغ 100000 درهم، لأنها تشكل ما يقرب من 70% من عدد القضايا المعروضة على القضاء التجاري بمختلف محاكم المملكة، و هو الأمر الذي أكده عدة مسؤولين قضائيين باللقاء نفسه.
و في نفس السياق ركز جميع المتدخلين في عروضهم، حسب البرنامج المرفق بالتقرير، على ضرورة التأمل بصورة جدية في الصيغة التي يتم بموجبها وضع القواعد القانونية للوساطة القضائية، حسب التصور الذي تم اقتراحه من طرف المؤسسة الدولية للتمويل و شركائها، و الذي تتلخص أهم محاوره فيما يلي:
- التنصيص على إجبارية الوساطة القضائية في النزاعات التجارية، يباشرها القاضي أو شخص آخر معتمد لإجرائها سواء كان طبيعيا أو معنويا؛
- تنظيم الجلسة التي تسبق إجراء الوساطة أثناء نظر المحكمة في النزاع القائم ما بين الأطراف؛
- بيان مهام القاضي المكلف بالوساطة و كيفية تتبعه لجلسات الوساطة؛
- تنظيم المرحلة التي تتم فيها الوساطة ما بين الأطراف بإيعاز من القاضي المكلف بمباشرتها؛
- تحديد التزامات الأطراف و القاضي الوسيط بشأن الوساطة و الوثائق التي تم الإدلاء بها أثناء إجرائها، وكذلك الإجراءات الشكلية الواجب إعمالها لبيان نتائجها.
و تبعا للنقاش الذي تداوله الحاضرون في الفترتين الصباحية و المسائية، تبين بأن الموضوع لا يخلو من إشكاليات قانونية و عملية، خاصة فيما يتعلق بمقتضى الإجبارية، و التكاليف الواجب تحملها لأداء أتعاب الوسيط الذي يختاره الأطراف، دون أن ننسى مسألة جوهرية ترتبط أساسا بالدور الذي يجب أن يلعبه القاضي في عملية الوساطة، و لقد تبين لنا وجود تباين حقيقي في وجهات نظر مختلف المشاركين، بين مؤيد و معارض لمبدأ الإجبارية، و مدافع عن المجانية، و متحمس أيضا للتأكيد على مكانة القاضي في تفعيل هذا النوع من الإجراءات، خاصة إذا تم الأمر بإجرائها أثناء سريان الدعوى.
و من جهتها تحاول الجمعية المغربية «حوار»، بلورة رأيها في الموضوع عبر مناقشتها للآراء المشار إليها أعلاه، إيمانا منها بأن الأمر لا يتعلق بمجرد اقتراح نصوص قانونية يجب مناقشتها و إبداء الرأي بشأنها، و لكن المسألة تفوق هذا التصور، لأنها ترتبط أساسا بالأهداف التي أنشأت من أجلها الجمعية، و بالأدوار التي يجب أن يقوم بها أعضاؤها، وكذلك بالالتزام الذي حددوه وفق ما تضمنه دستور المملكة لسنة 2011، و الذي يتمثل في سعيهم نحو المساهمة و المشاركة في البناء الحضاري للأمة المغربية. و على هذا الأساس تود الجمعية بيان تصورها بخصوص مشروع الوساطة القضائية، و مدى نجاحه في بلادنا، من خلال النقط التالية:
- مفهوم الوساطة القضائية؛
- طبيعة الوساطة القضائية؛
- الحاجة إلى الوساطة القضائية بالمغرب؛
- التوصيات.
أولا: مفهوم الوساطة القضائية:
ظهرت الوساطة منذ زمن بعيد بالمغرب كممارسة تستهدف تدخل الغير لتسهيل تداول المعطيات ما بين الأفراد، و إنشاء العلاقات، و كذلك توضيح المعاملات و بيان حدودها، في طبيعتها التجارية و المدنية على حد سواء. و يخضع تعريف هذه العملية لتنوع المجالات التي تستعمل فيها، فالوساطة تخضع لمجموعة من الثوابت كلما ظهرت الحاجة إلى تدخل طرف ثالث للمساهمة في فهم وضعية معينة، أو تيسير التفاوض ما بين المعنيين بالأمر، و منها تحديد طبيعة العلاقة، ومنهجية التواصل، و آليات التوفيق لتجاوز اختلاف وجهات النظر، و إلى غير ذلك من الضوابط التي نجدها في ممارسات الوساطة.
و الوساطة في اللغة العربية مصدرها كلمة وسط، حيث ورد في معجم الصحاح في اللغة ما نصه : )فلان وسيط في قومه، إذا كان أوسطهم و أرفعهم محلا، كما أن الوسط من كل شيء أعدله، قال الله عز وجل: " و كذلكم جعلناكم أمة وسطا" بمعنى عدلا خيارا، و التوسط بين الناس من الوساطة، و توسط أخذ الوسط بين الجيد و الرديء، قال إبراهيم بن علي بن محمد بن سلمة بن عامر بن هرمة يصف سخاءه:
واقذفْ بحبلكَ حيثُ نالَ بأخذِهِ من عُوذها وأعتم ولا تتوسطِ
و التركيب هنا يدل على العدل و النصف(. أما في اللغة الفرنسية فمصطلح médiation يجد مصدره في اللفظ اللاتيني mediatio, - onis, de mediare, بمعنى المتوسط و المتدخل s’interposer.
و لقد نظمت الوساطة من طرف العديد من التشريعات الوضعية ، نظرا لعمق أصالتها في المجتمعات البشرية، خاصة و أنها تعد من أهم وسائل تدبير العلاقات الإنسانية. و في هذا السياق حددت أحكام الوساطة الاتفاقية بالمغرب، بموجب القانون رقم 08-05 الذي يقضي بنسخ و تعويض الباب الثامن بالقسم الخامس من المسطرة المدنية، و المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 06 دجنبر 2007، و بموجبه حدد المشرع المقصود بالوساطة في الفصل 327-56 الذي نص فيه على أنه : " اتفاق الوساطة هو العقد الذي يتفق الأطراف بموجبه على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح لإنهاء نزاع نشأ أو قد ينشأ فيما بعد..."
و في التجارب المقارنة للمجتمعات الغربية أيضا، تعتبر الوساطة بمثابة وسيلة من الوسائل التي تستخدم لوضع حد للنزاعات التي تنشا بين الأفراد. ففي فرنسا على سبيل المثال يتم تعريف الوساطة باعتبارها :" إجراء منظم، كيفما كانت تسميته، و الذي بموجبه يقوم شخصان أو أكثر بمحاولة الوصول إلى اتفاق بغية التسوية الودية لخلافاتهم، بمساعدة الغير و هو الوسيط، الذي يتم اختياره من طرفهم أو تعيينه برضاهم من طرف القاضي الذي ينظر في النزاع".) النص الأصلي :
La médiation (...) s'entend de tout processus structuré, quelle qu'en soit la dénomination, par lequel deux ou plusieurs parties tentent de parvenir à un accord en vue de la résolution amiable de leurs différends, avec l'aide d'un tiers, le médiateur, choisi par elles ou désigné, avec leur accord, par le juge saisi du litige. )
و ذلك حسب مقتضيات المرسوم رقم 2000-1540 الصادر بتاريخ 16 نونبر 2011، تطبيقا للقانون المتعلق بتبسيط و تحسين جودة القانون، الصادر بتاريخ 17 مايو 2011، و الذي تم بموجبه اعتماد التوجيهات الصادرة عن البرلمان و المجلس الأوروبيين بتاريخ 11 مايو2008، حول بعض مظاهر الوساطة المدنية و التجارية. و في اتجاه آخر لم تتم الإشارة إلى أي تعريف للوساطة في القانون البلجيكي الصادر بتاريخ 21 فبراير 2005، القاضي بتعديل مدونة القانون القضائي فيما يتعلق بالوساطة لا سيما المواد من 1724 إلى 1737، غير أنه فيما يتعلق بعرض الأسباب التي أدت إلى صدور هذا القانون تم تقديم الوساطة باعتبارها : " إجراء للتوافق فيما بين الأطراف الراغبين في اللجوء إليه بشكل اختياري." و في نفس السياق لم يعتمد التشريعين الألماني و الإسباني أي تعريف للوساطة، غير أن الممارسين للقانون في البلدين يعتمدون في بيان مدلولها على التوجيهات الأوروبية المشار إليها أعلاه.
و الوساطة القضائية لا تختلف في معناها عن التعاريف المبينة أعلاه، غير أنها تتميز عنها بتدخل القاضي الذي ينظر في النزاع لتعيين الوسيط المكلف بمهمة التوفيق ما بين المتخاصمين، كما هو مبين في المادة 22 من المرسوم الفرنسي المذكور أعلاه، و الذي ينص على أنه : " يمكن للقاضي أن يعين باتفاق الأطراف وسيطا قضائيا لإجراء وساطة في جميع حالات المسطرة، بما فيها الإستعجالية. و يتم تلقي هذا الاتفاق بموجب الشروط التي يحددها مرسوم صادر عن مجلس الدولة." « Art. 22.-Le juge peut désigner, avec l'accord des parties, un médiateur judiciaire pour procéder à une médiation, en tout état de la procédure, y compris en référé. Cet accord est recueilli dans des conditions prévues par décret en Conseil d'Etat. »
و هو نفس المقتضى الذي أخذ به المشرع البلجيكي في المادة 1734 من مدونة القانون القضائي، و التي تحدد إمكانية الأمر بإجراء الوساطة في المرحلة القضائية، قبل البدء في المداولات الخاصة بالملف المعروض على المحكمة. و بالتالي يمكننا أن نستخلص بأن الوساطة القضائية لا يمكن أن تتم إلا بتوفر العناصر التالية:
- وجود إرادة حقيقية لدى أطراف النزاع في تعبيرهم عن الرغبة في الحد من الخصومة القضائية، رغم كون الملف بيد القضاء؛
- دور القاضي في وقف مسطرة النظر و البت في النزاع، و انتظار نتيجة الإجراء الذي أمر به لمصلحة الأطراف؛
- تدخل القاضي لا يكون إلا بناء على اتفاق الأطراف.
ثانيا : طبيعة الوساطة القضائية:
إن التصورات حول طبيعة الوساطة القضائية تتباين ما بين مختلف المهتمين بالموضوع، بين من يدافع عن الإجبارية أي إلزام الأطراف بها بمجرد رفع الدعوى أمام القضاء، و في حالة عدم نجاحها آنذاك يمكن للقاضي أن ينظر في الدعوى، و من يناصر الاختيارية بمعنى ترك الأمور بيد أصحابها، إن هم أرادوا اللجوء إلى الحلول الودية، وجبت الاستجابة لإرادتهم، سواء قبل أو أثناء النظر في النزاع.
و لكن بالنظر إلى النصوص الواردة في الفقرة السابقة، يتبين لنا بأن أغلب التشريعات اعتمدت الرأي القائل بتمتيع الأطراف بالحرية اللازمة لاختيار الوساطة القضائية، دون إلزامهم بأي إكراه قانوني، يفرض عليهم ضرورة اللجوء إليها، سواء قبل عرض النزاع على أنظار القضاء أو بعده، و الراجح أنه الاختيار الصائب، لأنه يتماشى مع الطبيعة الودية للوساطة، و يمس في العمق كنه الدواعي التي أدت إلى اعتمادها كوسيلة من الوسائل البديلة للطرق القضائية في فض النزاعات، و يضاف إلى ذلك أن كل ما يفرض على الأطراف القيام به من إجراءات في سبيل حل خلافاتهم، من شأنه أن يؤدي إلى فشل المساعي التي ترمي إلى التقريب بين وجهات النظر، فالوساطة أيا كان مصدرها يجب أن تنبع من قناعة المعنيين بها بضرورة المهادنة و تلطيف أجواء الخصام، و ذلك لأنها تشكل تعبيرا عن السكينة و التؤدة التي تتمتع بهما نفوس المتخاصمين، يتم استغلالها من الوسيط قبل الوصول غلى النتيجة التي سترضي الجميع، و هو الأمر الذي يبرر الاهتمام بهذا النوع من الآليات لحل المشاكل ذات الطابع المدني أو التجاري.
و في تصور آخر يمكن اعتبار أن الإلزام القانوني بالوساطة القضائية، يعد مناقضا للحق في التقاضي الذي ينص عليه الدستور المغربي المؤرخ في فاتح يوليوز 2011، و المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5964 بتاريخ 30 يوليوز 2011، في الفصل 118 كما يلي :" حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه و عن مصالحه التي يحميها القانون...» فمن خلال هذا النص نستخلص بأن الحق في اللجوء إلى القضاء يضمنه الدستور، و لا يمكن بأي حال من الأحوال حرمان المواطنين منه، أو تعطيله لأي سبب من الأسباب، و إن تعلق الأمر بنص قانوني. و لكن ما هو المعنى المقصود من الحق في التقاضي؟ إنه قبل كل شيء الحق في استعمال مرفق العدالة الذي يعد مرفقا عموميا تحميه المواثيق الدولية و القوانين الوطنية، يخول لصاحبه إمكانية الدفاع عن مصالحه، و الحصول على التمثيلية اللازمة لمساندته، و أيضا التمتع بمزايا الإرشاد و التوجيه و النصح، و أخيرا الحق في ولوج المؤسسات القضائية المختصة و الاستفادة من خدماتها. و بتعبير آخر إن الحق في اللجوء إلى القضاء، يعكس بشكل مباشر حق المتقاضي في سماع دعواه و شكواه، بكل ما يتطلبه الأمر من العدل و الإنصاف، و أمام العموم، و داخل الآجال المعقولة، من طرف قضاة مختصين و مستقلين و نزهاء، مع إمكانية الحصول على المساعدة القضائية في الحالة التي يكون فيها عاجزا عن تحمل نفقات التقاضي. لذا فإن المنطق يقتضي أن ندافع عن الإلزام، بمعنى الإجبار، في طلب العدالة من القضاء، و موازاة مع ذلك يتمتع الأطراف بالحرية في اختيار الوساطة القضائية بالاعتماد على القدرات الذاتية، أو كفاءة الغير، في التوصل إلى توافق ما بين المتنازعين، و ذلك بمساعدة القاضي أثناء سريان الدعوى.
ثالثا: الحاجة إلى الوساطة القضائية بالمغرب:
يفترض في مشاريع و مقترحات القوانين التي يتم عرضها للمصادقة عليها أمام المؤسسة التشريعية، أن تكون مستجيبة لضرورة معينة، تتطلبها الاحتياجات التي يعبر عنها المجتمع، لذا فإن التساؤل يفرض نفسه حول خصوصية الحاجة إلى تنظيم الوساطة القضائية بالمغرب؟
بالرجوع إلى مختلف الإحصائيات التي قدمتها وزارة العدل و الحريات عن وضعية القضاء بالمغرب، بمناسبة الحوار الوطني من أجل إصلاح منظومة العدالة، يتضح من الوهلة الأولى بأن إلزام القاضي بإجراء الوساطة، أو مجرد الأمر بها، سيشكل نوعا من العبء المضاف إلى المهام الأساسية الموكولة إليه، و من شأن ذلك أن يؤدي عن غير قصد إلى إطالة أمد النزاع، و هو الأمر الذي يتنافى مع الغاية من تفعيل آلية الوساطة القضائية.
و من جهة أخرى يجب التفكير في دراسة الأسباب، و الدوافع، التي كانت وراء عدم التمكن من تحقيق النجاح المبتغى من وراء تنظيم الوساطة الاتفاقية، بعد البدء في تنفيذ القانون رقم 08-05، منذ سنة 2007. و ليس منطقيا أيضا أن نحكم بفشل هذه التجربة جملة و تفصيلا، لمجرد أنه لا يتم الإقبال عليها من طرف المتنازعين، بعد بضع سنوات فقط من تطبيقها.
و بالرجوع إلى القضاء المقارن، نجد أنه في بعض الدول الأوروبية نفسها فشلت تجربة الوساطة القضائية. فحسب التقرير الذي أعده المجمع الأوروبي للقضاة من أجل الوساطة Groupement Européen des Magistrats pour la Médiation بتاريخ 22 شتنبر 2007، تبين بأن اللجوء إلى الوساطة القضائية لم يحظ بالإقبال الذي توقعته مؤسسات الإتحاد الأوروبي. ففي ألمانيا مثلا ترجع أسباب عدم التمكن من نشر ثقافة الوساطة القضائية إلى القضاة أنفسهم، لأنهم يفضلون البت في النزاع بأنفسهم، و يحاولون التوفيق بين الأطراف أثناء النظر في الدعوى، لإيجاد حلول ودية لنزاعاتهم، دون اللجوء إلى الوسيط. و نفس الوضع نجده في فرنسا، بحيث لم تنتعش الوساطة القضائية بالحجم المرغوب فيه، ففي التقرير الصادر عن القاضي Fabrice VERT المنسق المكلف بتتبع نشاط المصالحين و الوسطاء في دائرة اختصاص محكمة الاستئناف بباريس، بخصوص سنة 2011، يتضح بأن حصيلة الوساطة القضائية تظل جد متواضعة رغم مرور 17 سنة من تطبيق القانون المنظم لها، الصادر في فبراير 1995، و مما جاء في تعبيره أنه :" تبعا لعدة تجارب فردية، تمت بطاقة و بجهود كبيرين داخل المحاكم التابعة للدائرة القضائية، و بتعاون محدود مع جمعيات الوسطاء، و لكن أيضا المحامون...يجب التأكيد على أنه إذا كانت ثقافة الوساطة قد تم نشرها بشكل واسع، فإن النتائج وفق الإحصائيات تظل غير معبرة."
« Des expériences individuelles ont été pourtant conduites avec beaucoup d'énergie et d’efforts dans les juridictions du ressort, en collaboration étroite avec des associations de médiateurs, mais aussi des avocats issues de la société civile. Force est de constater que si la culture de la médiation s’est largement diffusée, les résultats, en termes statistiques, ne sont toujours pas significatifs. »
و جدير بالذكر أن المغرب سبق له و أن نظم الوساطة فيما بين التجار و الحرفيين أيضا، و ذلك وفق الخصوصية التي تعرفها هذه القطاعات ببلادنا. فبالرجوع إلى القانون رقم 02-82 المتعلق باختصاصات المحتسب و أمناء الحرف، و المنشور بالجريدة الرسمية عدد 3636 بتاريخ 07 يوليوز 1982، نجد بأن المشرع المغربي خول إمكانية حل النزاعات عن مؤسسة مهنية منتخبة، و الأمر يتعلق بأمناء الحرف، تحت إشراف مؤسسة إدارية، و هي الحسبة التي يشرف عليها المحتسب، كما هو واضح من نص الفصل العاشر، و الذي جاء فيه ما يلي : " يساعد الأمناء المحتسب في مزاولة مهامه، و يتمتعون تحت إمرته، كل فيما يخص حرفته، بسلطة توفيقية للعمل على أن تفض على سبيل التراضي الخلافات و النزاعات الناشبة:
1 – بين الحرفيين و تجار المنتجات المشار إليها في الفصل الأول أعلاه و المتدربين لديهم و مستخدميهم فيما يخص القضايا التي تهم علاقاتهم المهنية؛
2 - بين الحرفيين و التجار المذكورين و زبنائهم بشأن الإنجازات أو المعاملات المتعلقة بالمنتجات أو الخدمات التي يراقبها المحتسب." و بمجرد التمكن من حل النزاع بالطرق الودية، دون اللجوء إلى المحاكم، فإنه يتم إثبات واقعة الصلح بمحضر يوقعه الأطراف المعنيين بالأمر، كما يستفاد ذلك من نص الفصل الحادي عشر من نفس القانون، و الذي يقضي بأنه: " يثبت التوفيق بمحضر يحرره المحتسب و يوقعه بمعية الأطراف المعنيين، و إذا صرح الأطراف المذكورون أو أحدهم بأنه لا يحسن التوقيع أشير إلى ذلك في المحضر نفسه و أكد بالبصمة مع تفسيرها بكتابة إسم صاحبها. و تكون لمحضر التوفيق المحرر وفق الإجراءات المقررة أعلاه قوة الالتزام الخاص وينتهي به النزاع ضمن حدود الاتفاق المثبت فيه." و في نفس السياق خصص المشرع المغربي النزاعات البنكية، التي تنشأ بين الأبناك و عملائها، بقواعد خاصة لتفادي اللجوء إلى القضاء من أجل حلها، وذلك ما حددته الفقرات 4 و5 و6 من المادة 111 من القانون رقم 31-08، المتعلق بتدابير لحماية المستهلك، و المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5932 بتاريخ 07 أبريل 2011، و التي تنص على أنه : "... إذا كان عدم تسديد الأقساط ناتجا عن الفصل عن العمل أو عن حالة اجتماعية غير متوقعة، فإن إقامة دعوى المطالبة بالأداء لا يمكن أن تتم إلا بإجراء عملية للوساطة. لا يحتسب أجل سقوط الحق إلا بعد استنفاذ مسطرة الوساطة و التي يجب أن تبدأ خلال سنة من تاريخ التصريح بتوقف المقترض عن الأداء. في حالة اللجوء إلى الوساطة، لا يمكن تحميل المقترض فوائد التأخير أو أي مصاريف مترتبة عن هذه المسطرة."
و يضاف إلى ذلك أن مشروع القانون رقم 38-12 بمثابة النظام الأساسي لغرف التجارة و الصناعة و الخدمات، وفق الصيغة التي صادق عليها مجلس الحكومة، بتاريخ 29 مارس 2012، و الذي حدد فيه مهام الغرف بموجب المادة الرابعة، و التي من بينها نجد مهام الدعم و الترويج، التي ستمكن الغرف من إنشاء مراكز للتحكيم و الوساطة التجارية.
رابعا: التوصيات:
مساهمة من الجمعية المغربية "حوار" في تفعيل سياسة التشارك التي تنهجها وزارة العدل و الحريات، مع مختلف مكونات المجتمع، للعمل معها في بلورة مختلف التصورات، و المقترحات و المشاريع، الكفيلة بتحديث آليات العدالة، و دعم أدوارها في تنمية المجتمع، و تأهيل العنصر البشري، و ضمان الأمن و الاستقرار من خلال الأحكام و القرارات العادلة و المنصفة، ارتأت الجمعية المغربية «حوار» أن تقترح توصياتها بخصوص موضوع مسودة مشروع القانون المنظم للوساطة القضائية كما يلي:
1- مراجعة النصوص القانونية المنظمة للوساطة في التشريع المغربي و ملائمتها مع المستجدات التي تمت مناقشتها في أشغال المائدة المستديرة، و إدراج آلية الوساطة القضائية ضمنها، كما هو مبين في الصيغ التالية على سبيل المثال:
- اقتراح تعديل عنوان الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية بالشكل التالي: " التحكيم و الوساطة." بدل " التحكيم و الوساطة الاتفاقية."
- اقتراح تعديل عنوان الفرع الثالث من الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية بالشكل التالي:" الوساطة" بدل " الوساطة الاتفاقية."
- اقتراح تعديل الفصل 327-55 من قانون المسطرة المدنية بالصيغة التالية:" الوساطة إجراء يقوم بموجبه أطراف النزاع بالاتفاق على شخص يسعى للتوفيق بينهما لإيجاد حلول ودية للخلافات التي تعيق استمرار المعاملات أو العلاقات فيما بينهم. و يمكن للقاضي في حالة نظره في الدعوى المعروضة عليه أن يأمر بالوساطة عن طريق تعيين وسيط يتفق عليه أطراف النزاع، و ذلك في جميع مراحل الدعوى قبل البت فيها في مداولات هيئة الحكم." بدل " يجوز للأطراف، لأجل تجنب أو تسوية نزاع الاتفاق على تعيين وسيط يكلف بتسهيل إبرام صلح ينهي النزاع."
2- التنصيص على أن الوساطة القضائية تعد إجراء غير مؤدى عنه، و لا يمكن تبعا لذلك المطالبة بالمساعدة القضائية، من أجل التشجيع على تقديم هذه المهمة في إطار جمعيات و مراكز مهنية، للمساهمة في التحسيس بها، و العمل على نشر ثقافتها وسط المعنيين بالأمر.
3- اقتراح تعديل قانون المحتسب و أمناء الحرف، بما يتناسب مع التطورات المستجدة في قطاع التجارة و الصناعة، و مسايرة لمختلف التعديلات و التغييرات التي عرفتها منظومة التشريع بالمغرب. مع العمل على إعداد مشروع قانون ينظم القطاعات التجارية و الحرفية، و يضع تمييزا ما بين القواعد القانونية التي تطبق على صغار التجار، الذين لا تتعدى أرقام معاملاتهم مبالغ تحددها الإدارة الوصية، و تلك التي تهم المؤسسات التجارية الكبرى التي تضارب برساميل مهمة، و ذلك من أجل تحقيق الإنصاف ما بين جميع الفئات فيما يتعلق بأحكام القوانين المعمول بها، و التي لا تأخذ بعين الاعتبار الفروق الشاسعة الموجودة ما بين الفاعلين الاقتصاديين.
4- تحفيز أطراف المنازعات لتشجيع إقبالهم على إجراءات الوساطة الاتفاقية أو القضائية، عن طريق تمكينهم من الاستفادة من بعض الامتيازات من قبيل: عدم أداء واجبات التمبر، التعجيل بالنظر في الملف، عدم إثقال كاهل الأطراف بالإجراءات الشكلية التي لا طائلة منها، و كل ما من شأنه أن يساهم في الرفع من وتيرة اللجوء لهذا النوع من الوسائل البديلة لتسوية النزاعات.
5- تخصيص مكاتب بمختلف محاكم المملكة يديرها موظف إداري، وتتولى مهام التوجيه و الإرشاد و تقديم النصائح اللازمة لدفع الأطراف إلى اختيار الوساطة قبل إيداع طلباتهم في إطار الدعاوى التي يودون رفعها أمام القضاء، أو حتى بعد سريانها، و ذلك بالتنسيق مع هيئات المحامين بدوائر نفوذ المحاكم المختصة.
6- إعداد برامج معلوماتية تتضمن قاعدة بيانات خاصة تساهم في تمكين الأطراف من التواصل عن بعد، و الاتفاق على إجراء الوساطة دون تكبد عناء الانتقال من الأماكن البعيدة، التي قد تعد عائقا حقيقيا لاستخدام هذه الوسيلة في التسوية الودية للنزاعات. و فرض استعمالها من طرف المحاكم.
7- وضع برامج تكوينية خاصة بالوسائل البديلة لحل النزاعات لفائدة القضاة الملحقين بالمعهد العالي للقضاء، و تخصيص دورات للتكوين المستمر لصالح القضاة العاملين بالمحاكم، و أيضا لكافة الممارسين في باقي المهن القضائية، بشراكة مع الجامعات المغربية و مراكز الوساطة المعتمدة بالمغرب أو بالخارج.
8- إنشاء هيئة وطنية للتسوية الودية للنزاعات، تحت إشراف وزارة العدل و الحريات، تتولى مهام التنسيق ما بين المحاكم و المراكز التي ستقدم خدمات الوساطة. كما أنه تشرف على تحديد لائحة الوسطاء المعتمدين، وفق الشروط التي يحددها مجلس الهيئة، وتراقب أيضا عمل الوسطاء لضمان حقوق المتنازعين في ضرورة توفر أخلاقيات الممارسة التي تعتمد على الاستقلالية، و النزاهة، و الحياد.