وعليه فالنائب البرلماني هو في الأصل ممثلا للأمة وليس للحزب كما قد يتصور البعض، والأمة أوسع وأعلى من الحزب، فهي مصدر السلطات وصاحبة القرار ، لذلك لا يمكن أن نحول الأمة إلى خادم لدى الأحزاب التي يبقى دورها البارز هو المساهمة في تأطير المواطنين وليس الوصاية عليهم، أي على الأمة وكأن هذه الأخيرة قاصرة لديها.
وإذا كان الاختيار الديمقراطي من الثوابت الدستورية التي أصبحت مكسبا محوريا في عملنا السياسي، فمن المفروض أن تقوم هذه الديمقراطية على إرادة الأمة وعلى احترام مؤسسة البرلمان ومكوناته، لذلك على الأحزاب أن تدرك موقعها الطبيعي وتجعل من نفسها وسيلة للتأطير وليست وسيلة لتقزيم النائب الذي هو ممثل للأمة، فرئيس الحزب ليس رئيسا للنواب، والحزب نفسه لا مكان له في البرلمان الذي تبقى مكوناته محددة في الفرق، وهذه الأخيرة التي وحدها لها الصفة الدستورية للمساهمة في الشأن البرلماني.
إن الفصل 61 من الدستور الذي يطرح خلافا في دلالته ومفهومه، لا يجيز التجريد من العضوية إلا في حالتين سياسيتين هما التخلي عن الانتماء السياسي أو التخلي عن الفريق البرلماني، ويبقى السؤال بينهما هل التخلي عن الحزب يؤدي بالضرورة إلى التخلي عن الفريق بحكم الارتباط؟ وهل العكس صحيح؟.
فكيفما كان الخلاف في الجواب على السؤالين أعلاه، يبقى العنصرين الأساسيين لمفهوم التخلي هما عنصر الإرادة وعنصر التعبير، فللتخلي دلالة واحدة ومباشرة وهي التعبير المباشر والواضح للنائب البرلماني أو لأي عضو جماعي في التخلي عن انتمائه السياسي الحزبي أو فريقه البرلماني، وهذا التخلي يقتضي الانتقال من انتماء محدد أعلن عنه قبل الانتخابات إلى وضع سياسي مخالف أعلن عنه أثناء ممارسة المهام النيابية أو الجماعية لاحقا، كما أن هذا التعبير لا يتم إلا بالإعلان الواضح ولا يمكن أن يكون استنتاجا أو مجرد حكم للآخر على المعني بالأمر، ومن ثم فإن التخلي يجب أن يتسم بنوع من التضييق الشديد في تفسيره، وأن التوسع فيه سيكون مخالف لغاية المشرع.
إن التدقيق في مفهوم التجريد يقتضي وضع فرق واضح بين التعبير عن المواقف وطبيعة ممارسة النائب لمهامه كالتصويت التي هي مسألة مرتبطة بالضمير وبالحرية الفردية في تقييم المصلحة من خلال تعبير النائب عن إرادة الأمة التي يمثلها، وبالتالي قيام النائب باختياراته في التصويت لا يمكن تفسيرها مطلقا على أنها تعبر عن حالة التخلي حتى ولو اختلفت مع الحزب الذي ينتمي إليه، فلا يمكن للأمة أن تختار النائب فيصبح بقدرة قادر نائب للحزب وليس نائبا عن الأمة، لأن للنائب وحده القدرة والحرية على تقييم مدى صحة تصويته واختياراته مع إرادة الأمة التي يمثلها، وتبقى توجيهات الأحزاب بكل ما لها من أهمية لا تلغي ولو بشكل جزئي حرية النائب.
لذلك فالتخلي هو إعلان سياسي صريح و ممارسة واضحة، و يتجسد في تصريح واضح أو في الممارسة من خلال الترشح باسم حزب آخر، لكون القانون يفرض قبل الترشح باسم حزب آخر تقديم الاستقالة من الحزب الأول السابق، وهذه الاستقالة هي تعبير صريح عن التخلي، ومن ثم فالاستقالة من الحزب هي تعبير عن إرادة الانتماء إلى حزب آخر وذلك من خلال الترشح في صفوف هذا الحزب المخالف، كما أن الاستقالة من الفريق البرلماني والإعلان على الانتماء لفريق آخر تعبر عن واقعة التخلي، لكون النظام الداخلي لمجلس النواب يمنع الانتماء لفريقين برلمانيين في نفس الوقت.
غير أنه إذا كانت هذه حالة بعض النواب الذين اختاروا عن حرية تغيير انتماءهم السياسي، فكيف هو التعامل مع نواب لم يكن لهم هذا الخيار؟ أو بصيغة أخرى ما مآل النائب البرلماني الذي طرد من الحزب أو ثم تجميد عضويته؟.
إن الحق في الآمان النيابي لا يمكن أن يتم إلا إذا كان هناك أمان قانوني ودستوري، ذلك أن ممارسة الحقوق الدستورية في الترشح والانتخاب هي شرط أساسي لكل دستور ولكل ممارسة ديمقراطية حقة، فالعلاقة بين الحزب والنائب تحمل مبادئ قانونية متصادمة فتصبح حرية النائب في مواجهة هيمنة الحزب، وعليه فمن الواجب أن نجعل هذه العلاقة صحيحة وعادلة ونضمن لها التوازن حتى نحقق الأهداف الدستورية من هذا المبدأ، لكون التخلي عن الحزب لا يمكن ترتيبه كنتيجة في مواجهته ومن تم طرده أو تجميد عضويته في الحزب، فإذا أصدرنا نفس الحكم على الحالتين سنجد أنفسنا في حالة تتسم بالتناقض وتهدم مبدأ الحرية الفردية للنائب، لأن العضوية في البرلمان وحرية الضمير يحتلان مكانة أساسية في عمل النائب وهي من حقوق المنتخب التي لا يمكن انتهاكها باعتبارها حقوق مطلقة.
لذلك حينما نمنع النائب المطرود من الحزب أو المجمدة وضعيته من الترشح والانتخاب بدعوى التخلي عن انتمائه السياسي، نحرمه من حريته كمواطن في ممارسة حقوقه الدستورية، وكأن انتماءه الحزبي وقرار الحزب منه يشكل مانع من الاستفادة من حقوقه الأصلية التي منحه إياه الدستور.
إن هذا التوجه يلغي حالة إمكانية الاختلاف مع الحزب ويلغي حرية المواطن والمواطنة في ممارسة قناعاته والتعبير عن أرائه، ومن تم فالالتحاق بالحزب لا يجب أن يتحول إلى نوع من الأحكام الأبدية وكأننا في منطق الردة نقطع من خلالها رؤوس الضمير والحق في إبداء الرأي والاختلاف.
إن الديمقراطية أسست في الأصل للاختلاف مع السلطة، وإذا كانت الأحزاب التي هي جزأ من هذه الديمقراطية تتحول إلى آلة عقاب لمجرد الاختلاف معها فعلى أي ديمقراطية نتحدث؟.
إن الحزب الذي اتخذ قرارا تنظيميا بالإقصاء في حق أحد منتخبي الأمة لا يمكن أن يرتب نتائج على ما يملكه هذا النائب من حقوق أصلية مطلقة ينص عليها الدستور والمتجسدة في ممارسة الانتخاب والترشح، فالمواطن ينظم للحزب حاملا حريته وحقه في الاختلاف وحقه في الترشح والانتخاب، وبالتالي لا يجوز أن نسحب منه كل هذه الحقوق ونلقي به في الشارع السياسي منبوذا محروما من حقوقه الأساسية.
فالطرد من الحزب السياسي لا يمكن أن يحول النائب البرلماني إلى مشرد سياسي، فمن مصلحة الديمقراطية ومن مصلحة العمل السياسي ككل أن ينتقل بكل حرية إلى حزب سياسي آخر في حالة وجود قرار إقصائي ضده، أليس التناوب هو نقل السلطة من حزب إلى آخر؟ فلماذا الإنسان الطبيعي ليس له هذا الحق الذي يملكه الإنسان الهلامي الذي نسميه السلطة؟ دعوا أحزابنا الوطنية تكون في لحظة من اللحظات ولو على سبيل الخطأ ديمقراطية مع مواطنينا ومع نواب الأمة.
وفي خضم هذا النقاش يبقى السؤال الأكثر إلحاحا هو المرتبط بطبيعة دور و مهام المؤسسة التشريعية في معالجة هذا الموضوع، بحيث أن النظام الداخلي لمجلس النواب أحال الموضوع على مكتب المجلس الذي له اختصاصين واضحين في الموضوع هما التثبت من حالة التخلي ثم إحالة الملف على المحكمة الدستورية مرفقا بطلب التجريد وإعلان شغور المقعد، وهما فعلين مرتبطين لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، فعندما نثبت حالة التخلي فعلى المكتب أن يحيل الملف بقوة القانون على المحكمة الدستورية، و بخلاف ذلك إذا لم يثبت لديه حالة التخلي فهو ملزم بحفظ الملف دون إحالته على المحكمة الدستورية، لكون هذه الأخيرة لا يمكن أن تبت في أي ملف إلا إذا أقر مكتب مجلس النواب وجود حالة التخلي، فالمحكمة الدستورية مدخلها الوحيد هو التصريح بإثباث حالة التجريد من صفة العضوية داخل مجلس النواب والتصريح بشغور المقعد، وعند إعلانها لهذا القرار عليها أن تتأكد بأن التجريد استند على واقعة التخلي بشكل واضح وصريح مع احترام حرية إرادة النائب وكذلك احترام الشكليات المتطلبة قانونا، فالمحكمة الدستورية لا تصرح بإثباث حالة التجريد من صفة العضوية داخل مجلس النواب أو بشغور المقعد فقط، بل هذا الاختصاص يشكل لها مدخلا قانونيا ودستوريا لتراقب المسطرة بكل مكوناتها ومراحلها، في شكلها وموضوعها، لكون التجريد نتيجة مسار قانوني وسياسي يبتدئ بالتصريح أو بالفعل وينتهي بقرار إعلان التخلي عن الانتماء السياسي أو الفريق البرلماني ومن تم التجريد فإعلان الشغور.
وفي سياق تعامل المحكمة الدستورية مع نازلة التجريد نسجل أن أفضل ما أضافت المحكمة الدستورية في هذه المسطرة هو حق النائب المعني بالأمر في التعقيب على قرار مكتب مجلس النواب أمام المحكمة الدستورية، ( قرار المجلس الدستوري رقم 14/948 في ملف عدد14/1404 ) ذلك أن القرار الدستوري أصل حقوق الدفاع وأصبح قرار مكتب مجلس النواب موضوع مجادلة قانونية وواقعية أمام المحكمة الدستورية، أي أن كل من النائب ومكتب المجلس يتحولان إلى طرفين متنازعين أمام المحكمة الدستورية، وهذا طبيعي لأن المحكمة الدستورية محكمة نزاع، ولا يدخل في اختصاصها منح رأي استشاري، ومن تم فمكتب المجلس ملزم بالحسم في وجود حالة التخلي من عدمها قبل إحالة أية نازلة على المحكمة الدستورية للتصريح بإثباتها وقيام المحكمة آنذاك بالتصريح بشغور المقعد، فعمل المحكمة الدستورية هو حماية حسن استعمال مدلول ومفهوم الفصل الدستوري على واقعة معينة، وهو ما يجعلها تملك صلاحية مراقبة تصرف النائب وقرار مكتب مجلس النواب وشكليات المسطرة، وهذا ما يعطي ضمانة أكثر لممثلي الأمة وكأن هذا الموضوع ينتج فعلا سياسيا جديدا وهي الرقابة الدستورية للعملية الديمقراطية من خلال تقييم وضعية النائب وطبيعة سلوكه السياسي وهذا هو الاستثناء المغربي الحقيقي الذي يمكن أن أعترف به.
تعتبر ظاهرة "الرحيل النيابي" الذي نص عليها الدستور في الفصل 61 وسماها بالتخلي عن الانتماء السياسي، من المشاكل السياسية الكبرى التي تهدد الاستقرار الحكومي وكذلك طبيعة علاقة المواطن مع العمل السياسي.
وإذا كانت كلمة التخلي الحزبي لنواب البرلمان والتي تسمى باللغة الفرنسيةTRANSHUMANCE فإن ترجمتها إلى العربية تعني انتقال قطيع من الحيوانات من منطقة إلى أخرى بحثا عن الكلأ والماء، وقد دخلت هذه الكلمة للسياسة عندما أصبح النواب ينتقلون بين الأحزاب فأصبحوا يدعون ب "النواب الرحل".
إنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الظاهرة هي مسألة وطنية فقط، بل هي ظاهرة دولية تعرفها جل الدول سواء في إفريقيا "في أغلبها" أو في كندا ببرلمانيها الوطني والإقليمي، وكذلك في اللوكسمبورغ وملدوفيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وبلجيكا وغيرها من الدول، غير أن ذلك يتم بتفاوت بين كل دولة على حدة، وذلك بحسب طبيعة نظامها السياسي ومكوناتها الحزبية المختلفة، حيث تجد دولا لا يتجاوز تعداد سكانها ثمانية ملايين و تضم حوالي أربعين حزبا سياسيا، في مقابل وجود دول أخرى تعداد سكانها يفوق المليار ولا يتجاوز عدد أحزابها الحزب الواحد.
كما أن خروج الشعوب في أوربا الشرقية من النظام الشيوعي إلى نظام سياسي ديمقراطي انعكس بشكل مباشر على تعدد الأحزاب وعلى بلقنة المشهد السياسي، وقد احتاجت مكوناتها السياسية إلى سنوات من العمل السياسي لترميم الوضع والتقليص من حدة الرحيل السياسي، ليس في ساحة أوربا الشرقية وحدها ولكن في باقي دول العالم الذي يعرف استمرار ممارسة الترحال السياسي بأوجه مختلفة حددها المتتبعون في أربع مستويات:
المستوى الأول: هو الذي يقوم فيه النائب البرلماني بتقديم استقالته من الحزب السياسي الذي فاز في الانتخابات باسمه، ثم يعلن أنه نائبا مستقلا ويظل على حالته لمدة معينة وقد يظل مستقلا طيلة الولاية الانتخابية قبل أن ينتقل إلى الحزب الآخر، وفي أوربا مثلا فغالبا ما يظل النائب الذي أصبح مستقلا على حالته حتى إجراء الانتخابات الموالية ليعلن عن انتمائه لحزب جديد ويرشح نفسه باسمه ويظل دون عقاب ودون جزاء.
المستوى الثاني: هو الذي ينتقل فيه النائب البرلماني من حزب إلى آخر بناء على امتياز أو جزاء سياسي يقدمه الحزب المستقبل للنائب الراحل نحوه، إما بتعيينه مسؤولا في مؤسسة البرلمان أو وعده بمنصب سياسي هام أو بأي امتياز كيفما كان نوعه، ومثلا في إفريقيا وتحديدا بدولة تشاد فقد انتقل بعض النواب إلى الحزب الحاكم نتيجة وعد بالتسهيل لهم في شراء سيارات، ويظل كذلك هذا النوع دون جزاء.
المستوى الثالث: هو الذي يتعرض فيه النواب الرحل للجزاء العقابي على تنقلهم من حزب لآخر كما يقع في المغرب والبرتغال والغابون والنيجر ورواندا وغيرها، حيث يجردون من صفتهم البرلمانية بسبب هذا الترحال السياسي.
المستوى الرابع: هو الذي يرحل فيه النواب المستقلون من أحزابهم السياسية في اتجاه تشكيل فريق برلماني مستقل، ومن ثم حزب سياسي جديد، ومنهم من يستمر في البرلمان إلى حين انعقاد الانتخابات الموالية ومنهم من تنتهي إشكاليته بسقوطه في الانتخابات.
وبغض النظر على هذه المستويات الأربع التي تؤطر رحيل النواب، فإن ما يجب التأكيد عليه هو أن الرحيل السياسي لا يهم البرلمانيين وحدهم ولكن يهم حتى الممارسين السياسيين على مستوى السلطة التنفيذية، حيث يلاحظ أن هناك رحيل لهؤلاء إلى أحزاب أخرى لتولي المناصب الحكومية، وتعتبر فرنسا من الدول التي لها تجارب عدة في هذا الباب ولها أسماء سياسية وازنة متورطة في هذه القضية مثال edgar pisaniوbernard kouchner و eric bisson.
وهكذا يبدو أن الرحيل السياسي في العالم أمسى اليوم عملية طبيعية اختلفت أسبابه لكن توحدت نتائجه، فقد يفقد أي حزب سياسي فريقه البرلماني لعدم توفره على النصاب نتيجة الرحيل، وقد تسقط الحكومة لعدم توفرها على الأغلبية نتيجة الترحال كما حصل للحكومة الهندية، والعكس صحيح، فمثلا الحكومة الكندية كانت محظوظة إذ أنقذ أحد النواب الذي انتقل إلى صفوف الأغلبية الحكومة الكندية من السقوط نتيجة ملتمس الرقابة.
غير أن هذه الأوضاع الغير مستقرة نتيجة الترحال تطرح أكثر من سؤال ليس حول النتائج المعروفة سلفا، ولكن حول الأسباب التي غالبا ما تكون غامضة، خاصة وأن هذه الظاهرة عامة وشاملة عرفتها دول الشمال والجنوب، الشرق والغرب، دول عريقة في الديمقراطية ودول مقبلة عليها وأخرى تمارس الديمقراطية السطحية.
إن باحثي علوم الاجتماع السياسي قد ربطوا هذا الموضوع بطبيعة القيادات السياسية للأحزاب التي إما تكون عاجزة على إدارة الصراع داخل صفوفها أو أنها تصطف مع هذه القوة دون أخرى، مما يخلق ردود فعل طبيعية حينما يختل التوازن بين الأطراف ويؤدي ذلك إلى تهميش بعض البرلمانيين خاصة إذا كانوا يملكون مؤهلات ومقدرات خاصة تكون الأحزاب المقابلة في حاجة إلى تملكها، كما يربط ذات الباحثين موضوع الترحال البرلماني كثيرا بالإغراءات سواء بالمواقع أو بالوعود المستقبلية، وهذا ما يتم في الكثير من الدول الإفريقية بل تعرفه حتى كندا، حيث أن أحد النواب انتقل إلى حزب من الأغلبية فعين مباشرة وزيرا في الحكومة.
غير أن البعض الآخر من الباحثين فيرجع ظاهرة الترحال البرلماني إلى التحولات التي تعرفها بعض الأفكار والقناعات وإلى تقلبات الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلد، فالفشل الحكومي أحيانا يخيف النائب البرلماني، فيدفعه للانتقال إلى المعارضة لضمان نجاحه في الانتخابات المقبلة، أو قد ينتقل إلى المعارضة فقط ليتنصل من المسؤولية في دعم الحكومة خلال الفترة المتبقية، وهذا التصرف غالبا ما يسعى من خلاله النائب إلى الحفاظ على كرسيه عبر اختيار الانتماء إلى الحزب الذي يحصل على دعم الرأي العام، رغم التبريرات الواهية كالادعاء بأنه إذا كان للمواطن الحق في تغيير رأيه السياسي فلماذا نمنع البرلماني من هذا الحق؟.
في مقابل هذين الرأيين هناك رأي آخر يربط الترحال البرلماني بالانتهازية السياسية والتموقع في حضن السلطة، أوالحرص على الانتقال إلى الأحزاب الموعودة بها، وتعتبر الدول الإفريقية من أكثر الدول ارتباطا بموضوع الانتهازية السياسية، لكون هناك أحزاب حاكمة تظل لسنوات في الحكم وتخلف شخصيات تترشح دائما بألوانها بحكم تموقعها في السلطة، و إذا استطاع أحد من غير المنتمين إلى الحزب الحاكم الوصول إلى البرلمان فغالبا ما ينظم للحزب الحاكم مستقبلا لحماية مصالحه السياسية والانتخابية، ويعتبر النائب تصرفه هذا مشروعا لأنه منتخب له المشروعية الانتخابية التي سيحملها لدعم الحزب الحاكم ويريد مقابلا لها، إنه الصراع من أجل الكعكة.
وأخيرا هناك مجموعة من النواب يقررون الرحيل التزاما لمواقفهم التي أبدوها أمام ناخبيهم، فالحكومة غالبا ما تتنصل من وعودها أو تغير اتجاهاتها تحت ضغط المستجدات الاقتصادية و السياسية، فيقوم النائب بالرحيل سياسيا، وغالبا ما يتجه نحو البقاء في مجلس البرلمان بصفته نائبا مستقلا ويظل على هذه الحالة حتى ينتهي إما بإنشاء حزب سياسي جديد أو بإعفاء نفسه من الترشح في الانتخابات المقبلة.
وهكذا فوضعية الرحيل السياسي هي حالة ناتجة عن طبيعة العمل السياسي المتحرك بشكل مستمر والذي غالبا ما تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والسياسية الوطنية والدولية، و التي تجعل النائب يتحمل وزر نتائج الاختيارات الحكومية مما يجعله يفكر في الرحيل للتخلص من المسؤولية السياسية اتجاه ناخبيه.
إن أوضاع الترحال البرلماني هذه تطرح أكثر من سؤال ونقاش حول كيفية التعامل معها وتطرح انقساما حادا بين تيارين مختلفين، فالأول يعتبرها حالة طبيعية لوضع سياسي ومؤسساتي متحرك، ويعتبر أن البرلماني يزكى من طرف الحزب و ينتخب من طرف منتخبي دائرته ولكنه ينوب عن الأمة كلها، أي أنه حتى إذا انتقل من حزب إلى آخر فإنه يظل داخل نفس البرلمان الذي يمثل الأمة كلها والذي هو جزء منها، فإذا كان المعني بالأمر يدافع عن وجهة نظر فكان يدافع عنها باعتبارها لا تحقق مصلحة الحزب أو الدائرة الانتخابية ولكنها تسعى إلى مصلحة الأمة ككل، وبالتالي إذا انتقل إلى حزب آخر فقد يكون قد تخلى عن حزبه، ولكنه لم يتخلى مطلقا عن الأمة وهذه الأخيرة هي التي لها السيادة وهذه السيادة يمارسها ممثلي الأمة بشكل غير مباشر، ومن تم لا يجوز مطلقا أن نعاقب من انتقلت إليه السيادة بشكل غير مباشر، فقط لأنه تصرف في إطار ما منح له من تمثيلية للأمة التي لها هذه السيادة مادام أن انتقاله هو داخل اختلافات الأمة نفسها.
وبناء عليه لا يمكن ترتيب جزاء عليه مادام الإطار واحد ومادام الموضوع هو ممارسة السيادة، بالإضافة إلى ذلك فالنائب كمواطن له حقوقه كممثل للأمة وله كذلك حقوق أصلية كمواطن داخل الأمة، بل هذه الأخيرة تبقى محفوظة له لكونه بناء عليها وصل إلى موقعه، بل هي أساس عمله السياسي والبرلماني وتبقى حقوق أصلية، لكون الإنابة عن الأمة هي تصرف إيجابي وامتياز سياسي وليس عقابا له وحرمانا من حقوقه الوطنية.
وبعكس هذا الرأي نجد أن هناك رأي ثان يتجه إلى منع الرحيل البرلماني لما له من انعكاسات سلبية على الاستقرار الحكومي، فانتقالات النواب قد تؤدي إلى خلخلة الوضع السياسي، وقد يؤدي إلى فقدان الثقة بين المواطن والسياسة ككل.
غير أن هناك من يطرح سؤال أساسي ويتعلق بطبيعة العقد الذي يربط المواطن مع النائب، إن الحقيقة التي لا نريد أن نعترف بها هي أنه ليس هناك عقد بين المواطن والنائب بل هناك عقد بين الأمة ككل والنائب، لذلك لا يمكن للناخب أن يقيل نائبه، ثم إن الناخب حينما يصوت فهو يصوت كعضو في الأمة وليس كعضو في هذا الحزب أو ذاك، فالذي يحصي الأصوات هي الأمة من خلال الدولة وليست الأحزاب من خلال بطاقة الانتماء الحزبي، وفي جميع الأحوال فأصحاب هذا الرأي ينادون باتخاذ قرارات جزائية في حق النواب الرحل سواء بالغرامات أو بالتجريد من الصفة البرلمانية و تمنح التمثيلية لمن بعده في اللائحة الانتخابية، لذلك فالتجريد مرتبط بالانتخابات المعتمدة على نظام الاقتراع باللائحة أما في الانتخابات الفردية فمن الاستحالة استبدال النائب بغيره، وفي جميع الأحوال فإن خلق الجزاء في مجال الترحيل السياسي يحد من قدرة النائب في ممارسة حريته في التعبير عن آرائه وأفكاره التي قد تتغير ارتباطا بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي يعرفها المجتمع الذي يمثله.
ويبقى ترسيخ العمل الديمقراطي داخل الأحزاب السياسية وتكريس الحوار الحقيقي والقدرة على الاستماع والاعتماد على الكفاءة هو السبيل الوحيد الذي سيحد من حالة الرحيل السياسي، أما في ظل الوضع السياسي المتردي الذي نعيشه حاليا، فرغم وجود نصوص جزائية فإنها في آخر المطاف لا تقوم سوى بتأخير الرحيل السياسي إلى ما بعد انتهاء المدة الانتدابية، وهذا لا يغير في الواقع شيء فيما يهم إشكالية الرحيل السياسي، لذلك فالمسؤول المباشر عن هذه الوضعية هي الأحزاب وهذه الأخيرة التي تفشل في إدارة اختلافاتها الداخلية بسبب تصرفات زعمائها أو لعدم تطور أفكارها فغالبا ما تتآكل، مما يطرح إشكالية وجود الحزب وقدرته على إدارة أعضائه وكيفية التعامل مع نوابه، وهذا موضوع آخر.
الجزء الثاني
تعتبر ظاهرة "الرحيل النيابي" الذي نص عليها الدستور في الفصل 61 وسماها بالتخلي عن الانتماء السياسي، من المشاكل السياسية الكبرى التي تهدد الاستقرار الحكومي وكذلك طبيعة علاقة المواطن مع العمل السياسي.
وإذا كانت كلمة التخلي الحزبي لنواب البرلمان والتي تسمى باللغة الفرنسيةTRANSHUMANCE فإن ترجمتها إلى العربية تعني انتقال قطيع من الحيوانات من منطقة إلى أخرى بحثا عن الكلأ والماء، وقد دخلت هذه الكلمة للسياسة عندما أصبح النواب ينتقلون بين الأحزاب فأصبحوا يدعون ب "النواب الرحل".
إنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الظاهرة هي مسألة وطنية فقط، بل هي ظاهرة دولية تعرفها جل الدول سواء في إفريقيا "في أغلبها" أو في كندا ببرلمانيها الوطني والإقليمي، وكذلك في اللوكسمبورغ وملدوفيا واليونان ورومانيا وبلغاريا وبلجيكا وغيرها من الدول، غير أن ذلك يتم بتفاوت بين كل دولة على حدة، وذلك بحسب طبيعة نظامها السياسي ومكوناتها الحزبية المختلفة، حيث تجد دولا لا يتجاوز تعداد سكانها ثمانية ملايين و تضم حوالي أربعين حزبا سياسيا، في مقابل وجود دول أخرى تعداد سكانها يفوق المليار ولا يتجاوز عدد أحزابها الحزب الواحد.
كما أن خروج الشعوب في أوربا الشرقية من النظام الشيوعي إلى نظام سياسي ديمقراطي انعكس بشكل مباشر على تعدد الأحزاب وعلى بلقنة المشهد السياسي، وقد احتاجت مكوناتها السياسية إلى سنوات من العمل السياسي لترميم الوضع والتقليص من حدة الرحيل السياسي، ليس في ساحة أوربا الشرقية وحدها ولكن في باقي دول العالم الذي يعرف استمرار ممارسة الترحال السياسي بأوجه مختلفة حددها المتتبعون في أربع مستويات:
المستوى الأول: هو الذي يقوم فيه النائب البرلماني بتقديم استقالته من الحزب السياسي الذي فاز في الانتخابات باسمه، ثم يعلن أنه نائبا مستقلا ويظل على حالته لمدة معينة وقد يظل مستقلا طيلة الولاية الانتخابية قبل أن ينتقل إلى الحزب الآخر، وفي أوربا مثلا فغالبا ما يظل النائب الذي أصبح مستقلا على حالته حتى إجراء الانتخابات الموالية ليعلن عن انتمائه لحزب جديد ويرشح نفسه باسمه ويظل دون عقاب ودون جزاء.
المستوى الثاني: هو الذي ينتقل فيه النائب البرلماني من حزب إلى آخر بناء على امتياز أو جزاء سياسي يقدمه الحزب المستقبل للنائب الراحل نحوه، إما بتعيينه مسؤولا في مؤسسة البرلمان أو وعده بمنصب سياسي هام أو بأي امتياز كيفما كان نوعه، ومثلا في إفريقيا وتحديدا بدولة تشاد فقد انتقل بعض النواب إلى الحزب الحاكم نتيجة وعد بالتسهيل لهم في شراء سيارات، ويظل كذلك هذا النوع دون جزاء.
المستوى الثالث: هو الذي يتعرض فيه النواب الرحل للجزاء العقابي على تنقلهم من حزب لآخر كما يقع في المغرب والبرتغال والغابون والنيجر ورواندا وغيرها، حيث يجردون من صفتهم البرلمانية بسبب هذا الترحال السياسي.
المستوى الرابع: هو الذي يرحل فيه النواب المستقلون من أحزابهم السياسية في اتجاه تشكيل فريق برلماني مستقل، ومن ثم حزب سياسي جديد، ومنهم من يستمر في البرلمان إلى حين انعقاد الانتخابات الموالية ومنهم من تنتهي إشكاليته بسقوطه في الانتخابات.
وبغض النظر على هذه المستويات الأربع التي تؤطر رحيل النواب، فإن ما يجب التأكيد عليه هو أن الرحيل السياسي لا يهم البرلمانيين وحدهم ولكن يهم حتى الممارسين السياسيين على مستوى السلطة التنفيذية، حيث يلاحظ أن هناك رحيل لهؤلاء إلى أحزاب أخرى لتولي المناصب الحكومية، وتعتبر فرنسا من الدول التي لها تجارب عدة في هذا الباب ولها أسماء سياسية وازنة متورطة في هذه القضية مثال edgar pisaniوbernard kouchner و eric bisson.
وهكذا يبدو أن الرحيل السياسي في العالم أمسى اليوم عملية طبيعية اختلفت أسبابه لكن توحدت نتائجه، فقد يفقد أي حزب سياسي فريقه البرلماني لعدم توفره على النصاب نتيجة الرحيل، وقد تسقط الحكومة لعدم توفرها على الأغلبية نتيجة الترحال كما حصل للحكومة الهندية، والعكس صحيح، فمثلا الحكومة الكندية كانت محظوظة إذ أنقذ أحد النواب الذي انتقل إلى صفوف الأغلبية الحكومة الكندية من السقوط نتيجة ملتمس الرقابة.
غير أن هذه الأوضاع الغير مستقرة نتيجة الترحال تطرح أكثر من سؤال ليس حول النتائج المعروفة سلفا، ولكن حول الأسباب التي غالبا ما تكون غامضة، خاصة وأن هذه الظاهرة عامة وشاملة عرفتها دول الشمال والجنوب، الشرق والغرب، دول عريقة في الديمقراطية ودول مقبلة عليها وأخرى تمارس الديمقراطية السطحية.
إن باحثي علوم الاجتماع السياسي قد ربطوا هذا الموضوع بطبيعة القيادات السياسية للأحزاب التي إما تكون عاجزة على إدارة الصراع داخل صفوفها أو أنها تصطف مع هذه القوة دون أخرى، مما يخلق ردود فعل طبيعية حينما يختل التوازن بين الأطراف ويؤدي ذلك إلى تهميش بعض البرلمانيين خاصة إذا كانوا يملكون مؤهلات ومقدرات خاصة تكون الأحزاب المقابلة في حاجة إلى تملكها، كما يربط ذات الباحثين موضوع الترحال البرلماني كثيرا بالإغراءات سواء بالمواقع أو بالوعود المستقبلية، وهذا ما يتم في الكثير من الدول الإفريقية بل تعرفه حتى كندا، حيث أن أحد النواب انتقل إلى حزب من الأغلبية فعين مباشرة وزيرا في الحكومة.
غير أن البعض الآخر من الباحثين فيرجع ظاهرة الترحال البرلماني إلى التحولات التي تعرفها بعض الأفكار والقناعات وإلى تقلبات الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلد، فالفشل الحكومي أحيانا يخيف النائب البرلماني، فيدفعه للانتقال إلى المعارضة لضمان نجاحه في الانتخابات المقبلة، أو قد ينتقل إلى المعارضة فقط ليتنصل من المسؤولية في دعم الحكومة خلال الفترة المتبقية، وهذا التصرف غالبا ما يسعى من خلاله النائب إلى الحفاظ على كرسيه عبر اختيار الانتماء إلى الحزب الذي يحصل على دعم الرأي العام، رغم التبريرات الواهية كالادعاء بأنه إذا كان للمواطن الحق في تغيير رأيه السياسي فلماذا نمنع البرلماني من هذا الحق؟.
في مقابل هذين الرأيين هناك رأي آخر يربط الترحال البرلماني بالانتهازية السياسية والتموقع في حضن السلطة، أوالحرص على الانتقال إلى الأحزاب الموعودة بها، وتعتبر الدول الإفريقية من أكثر الدول ارتباطا بموضوع الانتهازية السياسية، لكون هناك أحزاب حاكمة تظل لسنوات في الحكم وتخلف شخصيات تترشح دائما بألوانها بحكم تموقعها في السلطة، و إذا استطاع أحد من غير المنتمين إلى الحزب الحاكم الوصول إلى البرلمان فغالبا ما ينظم للحزب الحاكم مستقبلا لحماية مصالحه السياسية والانتخابية، ويعتبر النائب تصرفه هذا مشروعا لأنه منتخب له المشروعية الانتخابية التي سيحملها لدعم الحزب الحاكم ويريد مقابلا لها، إنه الصراع من أجل الكعكة.
وأخيرا هناك مجموعة من النواب يقررون الرحيل التزاما لمواقفهم التي أبدوها أمام ناخبيهم، فالحكومة غالبا ما تتنصل من وعودها أو تغير اتجاهاتها تحت ضغط المستجدات الاقتصادية و السياسية، فيقوم النائب بالرحيل سياسيا، وغالبا ما يتجه نحو البقاء في مجلس البرلمان بصفته نائبا مستقلا ويظل على هذه الحالة حتى ينتهي إما بإنشاء حزب سياسي جديد أو بإعفاء نفسه من الترشح في الانتخابات المقبلة.
وهكذا فوضعية الرحيل السياسي هي حالة ناتجة عن طبيعة العمل السياسي المتحرك بشكل مستمر والذي غالبا ما تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والسياسية الوطنية والدولية، و التي تجعل النائب يتحمل وزر نتائج الاختيارات الحكومية مما يجعله يفكر في الرحيل للتخلص من المسؤولية السياسية اتجاه ناخبيه.
إن أوضاع الترحال البرلماني هذه تطرح أكثر من سؤال ونقاش حول كيفية التعامل معها وتطرح انقساما حادا بين تيارين مختلفين، فالأول يعتبرها حالة طبيعية لوضع سياسي ومؤسساتي متحرك، ويعتبر أن البرلماني يزكى من طرف الحزب و ينتخب من طرف منتخبي دائرته ولكنه ينوب عن الأمة كلها، أي أنه حتى إذا انتقل من حزب إلى آخر فإنه يظل داخل نفس البرلمان الذي يمثل الأمة كلها والذي هو جزء منها، فإذا كان المعني بالأمر يدافع عن وجهة نظر فكان يدافع عنها باعتبارها لا تحقق مصلحة الحزب أو الدائرة الانتخابية ولكنها تسعى إلى مصلحة الأمة ككل، وبالتالي إذا انتقل إلى حزب آخر فقد يكون قد تخلى عن حزبه، ولكنه لم يتخلى مطلقا عن الأمة وهذه الأخيرة هي التي لها السيادة وهذه السيادة يمارسها ممثلي الأمة بشكل غير مباشر، ومن تم لا يجوز مطلقا أن نعاقب من انتقلت إليه السيادة بشكل غير مباشر، فقط لأنه تصرف في إطار ما منح له من تمثيلية للأمة التي لها هذه السيادة مادام أن انتقاله هو داخل اختلافات الأمة نفسها.
وبناء عليه لا يمكن ترتيب جزاء عليه مادام الإطار واحد ومادام الموضوع هو ممارسة السيادة، بالإضافة إلى ذلك فالنائب كمواطن له حقوقه كممثل للأمة وله كذلك حقوق أصلية كمواطن داخل الأمة، بل هذه الأخيرة تبقى محفوظة له لكونه بناء عليها وصل إلى موقعه، بل هي أساس عمله السياسي والبرلماني وتبقى حقوق أصلية، لكون الإنابة عن الأمة هي تصرف إيجابي وامتياز سياسي وليس عقابا له وحرمانا من حقوقه الوطنية.
وبعكس هذا الرأي نجد أن هناك رأي ثان يتجه إلى منع الرحيل البرلماني لما له من انعكاسات سلبية على الاستقرار الحكومي، فانتقالات النواب قد تؤدي إلى خلخلة الوضع السياسي، وقد يؤدي إلى فقدان الثقة بين المواطن والسياسة ككل.
غير أن هناك من يطرح سؤال أساسي ويتعلق بطبيعة العقد الذي يربط المواطن مع النائب، إن الحقيقة التي لا نريد أن نعترف بها هي أنه ليس هناك عقد بين المواطن والنائب بل هناك عقد بين الأمة ككل والنائب، لذلك لا يمكن للناخب أن يقيل نائبه، ثم إن الناخب حينما يصوت فهو يصوت كعضو في الأمة وليس كعضو في هذا الحزب أو ذاك، فالذي يحصي الأصوات هي الأمة من خلال الدولة وليست الأحزاب من خلال بطاقة الانتماء الحزبي، وفي جميع الأحوال فأصحاب هذا الرأي ينادون باتخاذ قرارات جزائية في حق النواب الرحل سواء بالغرامات أو بالتجريد من الصفة البرلمانية و تمنح التمثيلية لمن بعده في اللائحة الانتخابية، لذلك فالتجريد مرتبط بالانتخابات المعتمدة على نظام الاقتراع باللائحة أما في الانتخابات الفردية فمن الاستحالة استبدال النائب بغيره، وفي جميع الأحوال فإن خلق الجزاء في مجال الترحيل السياسي يحد من قدرة النائب في ممارسة حريته في التعبير عن آرائه وأفكاره التي قد تتغير ارتباطا بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي يعرفها المجتمع الذي يمثله.
ويبقى ترسيخ العمل الديمقراطي داخل الأحزاب السياسية وتكريس الحوار الحقيقي والقدرة على الاستماع والاعتماد على الكفاءة هو السبيل الوحيد الذي سيحد من حالة الرحيل السياسي، أما في ظل الوضع السياسي المتردي الذي نعيشه حاليا، فرغم وجود نصوص جزائية فإنها في آخر المطاف لا تقوم سوى بتأخير الرحيل السياسي إلى ما بعد انتهاء المدة الانتدابية، وهذا لا يغير في الواقع شيء فيما يهم إشكالية الرحيل السياسي، لذلك فالمسؤول المباشر عن هذه الوضعية هي الأحزاب وهذه الأخيرة التي تفشل في إدارة اختلافاتها الداخلية بسبب تصرفات زعمائها أو لعدم تطور أفكارها فغالبا ما تتآكل، مما يطرح إشكالية وجود الحزب وقدرته على إدارة أعضائه وكيفية التعامل مع نوابه، وهذا موضوع آخر.
الجزء الثالث
بعد نقاشنا النظري حول موضوع الترحال السياسي والتجريد في المقالين السابقين المنشورين بنفس الجريدة، كان لابد من العودة إلى ما سبق أن تناولته المحكمة الدستورية في هذا الموضوع، غير أن الحالة الفريدة التي تناولتها المحكمة الدستورية في هذا الباب هي التي وردت في قرارها المؤرخ في 3 دجنبر 2014 في ملف عدد 1404/14 بقرار رقم 14/948 في قضية كانت تهم مستشارا بمجلس المستشارين.
ونظرا لكونها أول واقعة في موضوع الترحال السياسي والتجريد التي تعرض على المحكمة الدستورية في ظل الدستور الجديد، فكنا ننتظر أن يعطى لهذا الموضوع حمولة فكرية وقانونية ودستورية قوية تسمح بخلق تصور واضح حول الموضوع، يمكن من نهج مسطرة في المستقبل ترقى للمستوى الدستوري، غير أنه للأسف جاء هذا القرار مخالفا للقانون وللدستور كما يلي:
أولا : من حيث الواقعة.
تتلخص وقائع هذه الحالة في كون رئيس فريق الاتحاد الدستوري بمجلس المستشارين وجه إرسالية للسيد رئيس مجلس المستشارين، تفيد بأن أحد المستشارين غير انتماءه السياسي بتغيير فريقه البرلماني، وأحيل الموضوع على مكتب مجلس المستشارين الذي تداول فيه، ووجه استفسارا في الموضوع إلى المعني بالأمر، وبعد تعقيب هذا الأخير، اجتمع مكتب المجلس وقرر إحالة الملف على المحكمة الدستورية، وهذه الأخيرة بتت في هذا الموضوع على حالته.
ثانيا: من حيث الإحالة.
ويبدو من هذه النازلة أن مجلس المستشارين لم يقم بوظيفته واختصاصاته المحددة بمقتضى المواد 98-99 و100 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين والذي يستند فيها على مقتضيات الفصل 61 من الدستور، ذلك أنه إذا كانت هذه هي المسطرة المنصوص عليها في المادة 98 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين فإن المادة 99 من نفس النظام تنص على ضرورة أن يصدر المكتب مقررا يثبت واقعة التخلي أولا وقبل كل شيء، وهذا المقرر يدخل في مجال قصري لمجلس المستشارين من خلال التأكد من الواقعة وبعد استفسار المعني بالأمر، وهنا نكون أمام احتمالين:
الاحتمال الأول: وقوع حالة التخلي سواء بشكل واقعي أي القيام بالفعل، أو على شكل تصريح أي الإعلان الرسمي بالتخلي عن الحزب الحالي والانتماء إلى حزب آخر ونفس الحكم يهم الفريق، ثم يصدر مكتب المجلس مقررا يثبت من خلاله واقعة التخلي متضمنة التعليل ولما استند عليه ليقرر بأن هذه الواقعة واقعة تكفي لاعتبار المستشار في حالة التخلي، ثم بعد ذلك يحال على المجلس الدستوري مرفقا بطلب التجريد.
الاحتمال الثاني: وهو أن يستنتج مكتب مجلس المستشارين أن واقعة التخلي غير قائمة بشكل واقعي وإرادي ومن تم يصدر المكتب مقرر بحفظ الملف دون توجيهه للمحكمة الدستورية.
غير أنه ما لوحظ في النازلة أعلاه أن مكتب مجلس المستشارين لم يصدر مقررا في الموضوع بل أحال الملف برمته ودون مقرر على المحكمة الدستورية ملتمسا منها التجريد، في حين أن طلب التجريد يجب أن يستند على قرار التخلي بواسطة مقرر في الموضوع، أي أن هناك إخلال مسطري تجاوزته المحكمة الدستورية بقولها إن الإحالة من مجلس المستشارين مستوفية للشروط والإجراءات المتطلبة، وأن المجلس اعتمد على المادتين 98 و99 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين، في حين أن المحكمة الدستورية غضت الطرف على ما تنص عليه المادة 99 من إصدار لمقرر يثبت واقعة التخلي، وبذلك تكون المحكمة قد خرقت القانون ومست بمبدأ فصل السلط، وذلك كما يلي:
أولا: من حيث خرق القانون.
إن المادة 99 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين تنص وجوبا على إصدار مقرر التخلي باعتباره (التخلي) سلوكا سياسيا وقانونيا يتعين إثبات وجوده ثم تعليله، وهو سلوك سياسي تترتب عليه نتائج تنظيمية، والسلوك السياسي لا يمكن تقييمه إلا من طرف جهاز سياسي وليس جهاز قضائي، والمحكمة الدستورية ليس لها الحق أن تبت في الممارسات السياسية، ولكنها تبت في الوقائع القانونية، والتخلي من عدمه هو في حقيقة الأمر تقييم لسلوك سياسي تعود فيه السلطة لمكتبي البرلمان دون غيرهما، وهما ملزمان بالبث فيه هل هو تخلي من عدمه وتعليل ذلك، وكذلك ملزمان باحترام شكليات المسطرة التواجهية، ولا يمكن للمحكمة الدستورية أن تقوم بهذه المهمة، لأن المشرع لم يمنحها هذا الاختصاص بل أنه اختزله في مهام مكتب المجلسين، بالإضافة إلى أن الفصل 61 من الدستور قد اختزل دور المحكمة الدستورية في التصريح بشغور المقعد، وأقرن هذا القرار بأحكام النظام الداخلي للمجلسين حيث نصت كل من المادة 99 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين والمادة 10 من النظام الداخلي لمجلس النواب على ضرورة صدور مقرر الذي يستند على إعمال الفصل 61 من الدستور، أي القيام بإجراءات التجريد.
لذلك نلاحظ من الناحية القانونية أن المحكمة الدستورية قد تجاوزت حدود اختصاصاتها وبتت في موضوع لم تكتمل فيه الإجراءات القانونية والمسطرية، وكان عليها أن تعيد الملف إلى مجلس المستشارين قصد البث فيه وفقا للقانون وإصدار مقرر في النازلة، ويبقى تحت أنظار المحكمة إحالة الأوراق دون مقرر التخلي، و كان عليها أن ثبت في ما أحيل عليها أي الأوراق، غير أنها ناقشت حالة التخلي وهو موضوع لم يحل عليها وغير متضمن في الملف وغير مطلوب منها، لأن المطلوب منها هو التجريد، والتجريد لا يقوم إلا بإثبات واقعة التخلي بمقرر، وفي غياب وجود مقرر سيكون التجريد عديم الأساس القانوني والواقعي، مما جعل المحكمة الدستورية تتطاول على اختصاص مكتب مجلس المستشارين عندما بتت في موضوع لا يوجد ضمن وثائق الملف، بل سمحت لنفسها بهذا الشكل أن تحل محل مكتب مجلس المستشارين وهذا غير مقبول دستوريا وقانونيا.
ثانيا: من حيث خرق مبدأ فصل السلط.
يلاحظ عموما على المحكمة الدستورية أنها جريئة في تجاوز حدود اختصاصها وأنها محافظة في مجال منح القانون أبعاد حقوقية ودستورية، وهذا طبيعي إذا أدركنا أن أعضاء المحكمة هم أعضاء عينوا في ظل دستور سابق ويشتغلون في ظل دستور جديد وشتان بين هذا ذاك، فالمرحلة السياسية معقدة ومثل هذه المؤسسات محافظة بطبيعتها لعنصر السن وثقل مهمة البحث عن التوازنات.
والحقيقة أن هذا القرار موضوع المقال قد أفقد المحكمة الدستورية توازنها الدستوري فهي جعلت نفسها محل مكتب مجلس المستشارين وأصبحت تقرر مكانه، في حين أن البرلمان سلطة مستقلة عليها أن تقوم بمهامه وفقا للدستور والنظام الداخلي لمجلسي البرلمان، فالمادة 10 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمادة 99 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين يدخلان ضمن الكتلة الدستورية لكونهما يحيل عليهما الفصل 61 من الدستور، وأن الاختصاص الوحيد الذي للمحكمة الدستورية هو إعلان الشغور فقط، ولإعلان ذلك عليها أن تراقب ثلاثة عناصر أساسية في قرار مكتب المجلسين هي: أولا وجود مقرر يثبت حالة التخلي، ثانيا وجود تعليل موضوعي وجدي وحاسم وقانوني لحالة التخلي، وثالثا أن تحترم شكليات المسطرة التواجهية.
إلا أن هذا القرار موضوع المناقشة لا يتضمن أصلا أي مقرر بالتخلي، أي أن المحكمة الدستورية احتملت على أن إحالة مكتب مجلس المستشارين للملف عليها يؤكد ضمنيا أن هناك حالة تخلي، وفي البناء اللغوي لحكمها انطلقت المحكمة من هذه القناعة ونازعت فيها قرار المكتب، وكان عليها احتراما لمبدأ فصل السلطات ولمبدأ ممارسة الاختصاصات من طرف المؤسسات الدستورية المختصة أن تعيد الملف إلى مكتب مجلس المستشارين للبث في واقعة التخلي وإصدار مقرر حوله، لأن في حالة عدم ثبوته يتوقف اختصاص المحكمة الدستورية، ولا يجوز لها أن تبت في الملف بسبب وجود تخلي يقوم على الاحتمال فقط، في حين أن قرار لمؤسسة دستورية يجب أن يقوم على اليقين لا على الشك والتخمين، لأنه يرتب وضعية تهم ممثل الأمة.
من جهة أخرى فمثل هذا الاختصاص يتقاطع فيه ما هو سياسي مع ما هو قانوني، فيعود لمكتب المجلس وحده وأنه كان على المحكمة أن تعيد الملف لمجلس المستشارين احتراما للقانون وللدستور.
فالمحكمة في مراقبتها لقرار المكتب لا يتم إلا عندما تبت هي في حالة الشغور، ولتبت في حالة الشغور يجب أن يكون لها الأساس القانوني والمؤسساتي وهو مقرر مكتب المجلس الذي يعود القرار فيه للسلطة التقديرية للمكتب، والذي قد يخضع للتصويت كأساس العملية الديمقراطية في المؤسسات الدستورية، أما أن يحال الملف برمته دون مقرر فيكون مجرد مجموعة من الأوراق بعثت وفق مسطرة مختلة ولا تفيد في شيء.
إن من أهم الأدوار المنوطة بالمؤسسات الدستورية هي أن تقوم كل مؤسسة دستورية بدورها في حدود ما رسمه لها الدستور، فالديمقراطية لا تقوم إلا على مبدأ فصل السلط و على قيام كل مؤسسة بدورها وتحمل مسؤوليتها في اتخاذ القرار، وأن للمحكمة الدستورية أدوار محددة وفقا للدستور وليس لها أن تقوم مقام المؤسسات، ولا أن تكون وصية عليها، ولا أن تصحح أخطائها، بل دورها يتجلى فقط في حماية الدستور وحسن تطبيقه وإلزام المؤسسات والمشرع باحترام الكتلة الدستورية باعتبارها السند الأساسي لتركيبتها القانونية.
نعتقد أن هذا الاجتهاد لم يصادف الصواب، وعلى كل مكتب من مجلسي البرلمان أن يقوم بمسؤوليته وأن يتخذ القرار المفروض تحمل مسؤوليته فيه، وليس الاختباء وراء تشويه القانون لإرضاء الأطراف السياسية، أو للتحايل من أجل عدم تحمل المسؤولية، وإلا فإن هذه الديمقراطية التي نحلم بها سيتم رفسها بالجهل بالقانون وبانعدام القدرة في اتخاذ القرار.