MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




جريمة الرشوة والأزمات الأربعة

     

محمد العوفي
باحث في العلوم القانونية



جريمة الرشوة والأزمات الأربعة
إن جريمة الرشوة هي آفة قديمة ، ومازالت مستمرة وتتكيف مع كافة الأزمنة والأمكنة وخير دليل على ذلك؛ بقاءها مستشرية إلى يومنا هذا ، وبالخصوص في الدول النامية، كما أنه لم تسلم منها الدول المتقدمة أيضا؛ وذلك راجع بالأساس، إلى غياب الوسائل الكافية لمكافحتها .

وقد قيل في الرشوة أنها (ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل) ؛ ومن هنا تكمن خطورة هذه الآفة البغيضة؛ والتي افسدت أخلاق الناس، ونشرت الظلم داخل المجتمع؛ بل أكثر من ذلك لها تداعيات خطيرة على سمعة الدولة، وتسيء لها على الصعيد الدولي؛ الشيء الذي أثر على استقطاب المشاريع الاستثمارية،بالإضافة إلى ما تشكله من تهديد للسلم الاجتماعي .

إن سبب عدم تراجع هذه الآفة الخطيرة رغم الجهود المبذولة راجع بالأساس إلى أربع أزمات وهي: عدم وجود العنصر البشري المتخصص في جرائم الأموال بصفة عامة، وصعوبة إثبات جريمة الرشوة والعقوبة المخصصة لها، وغياب الحلول الناجحة لمكافحتها.

الأزمة الأولى : عدم وجود عنصر بشري متخصص : رغم إحداث أقسام جرائم الأموال لدى بعض محاكم الاستئناف، و كذلك المكتب الوطني لمكافحة الجريمة الاقتصادية و المالية التابع للفرقة الوطنية للشرطة القضائية؛ إلا أن كل ذلك ما زال يعرف بعض القصور،و يتجلى ذلك، بكون  مكافحة أي جريمة، و ليس جرائم الفساد المالي و الرشوة،بحيث لابد من المرور بعدة مراحل؛ بدء من البحث التمهيدي الذي تجريه الشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة،  ثم مرحلة التحقيق الإعدادي،فمرحلة المحاكمة. و كل ذلك يشكل حلقة متكاملة لتحقيق المحاكمة العادلة، و أي نقص في المعلومة القانونية أو التقنية؛حول الجانب المالي و الاقتصادي لدى الجهات المذكورة آنفا، قد يؤثر سلبا على العدالة و إظهار الحقيقة، و إن كان البعض منها لها تخصص نسبي في المجالين المذكورين؛إلا أنه غير كاف،لذلك يجب أن تكون هذه الجهات لها تكوين معمق، وعلى إطلاع واسع بالجانب الاقتصادي؛ خاصة المحاسبتي، والبنكي، والمعاملات العقارية، والبورصة ، و خاصة أن هذه المجالات الأخيرة هي الوجهة المفضلة لغسل أموال الإرتشاء، فإذا لم يكن العنصر البشري مؤهلا للفحص والتدقيق في العقود والسجلات والحسابات البنكية و حسابات السندات و وثائق المحاسبة، وعلى دراية بالقيم المنقولة؛  من أسهم و سندات القرض و غيرها.فإنه سيصعب ضبط الجناة و مواجهتهم بالأدلة، التي غالبا ما تكون خفية بين مستندات ورقية و إلكترونية،لذلك نتمنى أن نشهد مستقبلا تخرج قضاة و ضباط شرطة متخصصين في الجرائم المالية حصرا.

الأزمة الثانية : صعوبة الإثبات : تنص المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية على أنه يمكن إثبات الجرائم بأي وسيلة من وسائل الإثبات؛ سواء بشهادة الشهود أو الاعتراف القضائي أو محاضر الضابطة القضائية أو حتى القرائن المنسجمة .إذ أن الوسيلة الوحيدة المتاحة حاليا لضبط المرتشين؛ هي شكاية الضحية عبر الخط المباشر للتبليغ عن الرشوة، ثم تقوم النيابة العامة بالتنسيق مع الشرطة القضائية لوضع كمين غايته ضبط الجاني في حالة تلبس، وهذه الوسيلة و إن كانت قد ساهمت إلى حد ما في إلقاء القبض على بعض الجناة، إلا أنها؛أصبحت معروفة لدى المرتشين الذين أصبحوا أكثر حذرا، خوفا من الكمين ، بالإضافة إلى ما قد يثار حولها من دفوع شكلية، الشيء الذي قد ينتفي فيها الركن المعنوي بمفهومه الواقعي، وبالتالي، فإن القرائن تؤدي دورا مهما في إثبات هذه الجريمة، التي يستخلصها القاضي من وقائع القضية المعروضة أمامه، ومن بين الأدلة التي قد تساعد نسبيا في كشف جرائم الرشوة؛ ومرتكبيها، نجد الحساب البنكي؛إذ قد يتم خلق مديونية وهمية كالسحب على المكشوف (découvert)أو قروض عقارية،أو استهلاكية تصل أحيانا إلى الاستدانة المفرطة، التي تبلغ نسبة اقتطاع الأقساط نصف الأجرة الشهرية دون احتساب باقي المديونية الوهمية الناتجة عن بطاقات الائتمان(les cartes à débit différé) أو السحب على المكشوف؛ في حين أن الوضع المادي للمشتبه فيه مريح )التأكد عن طريق البحث الاجتماعي للشرطة القضائية(،وهذا  التناقض قد يشكل قرينة،وإن كانت بسيطة،ولكن يجب إثبات عكسها. ومن بين القرائن؛ نجد أن النيابة العامة عندما تجري تفتيشا لمكاتب الموثقين؛حول أصول العقود ومقارنة المبالغ المضمنة فيها مع مهن الأطراف، قد يساعد في كشف الفاعل الأصلي (المرتشي )، الذي قد يعتمد على طرف آخر لاقتناء عقار لفائدته دون كشف اسمه رغم أن مهنة الطرف الآخر(المساهم) متواضعة، و لا تبرر مصدر  الأموال التي اقتنى بها العقارات،و ليس فقط العمليات العرضية؛ بل حتى الأشخاص المعتادين على اقتناء العقارات وتوثيق العقود لدى موثق واحد أو عدة موثقين؛ وبمبالغ متفاوتة، غالبا ما تكون ضخمة، ومادام أن النيابة العامة لا تواجه بالسر المهني)في إطار الإجراءات الضرورية للبحث عن مرتكبي الجنايات و الجنح(، فإنه من الأولى؛ في إطار كشف جريمة الرشوة وغسل الأموال، الطلب من بنك المغرب أو البنوك موافاتها بقائمة حسابات السندات (les comptes titres)، التي يتم تدبيرها على أساس توكيل، خاصة أن هذا الأخير،أي؛ الوكيل قد تربطه علاقة بالمرتشي، الذي يُظهر في الواجهة صاحب الحساب والوكيل، وذلك لإبعاد الشبهة عنه، وفي هذا الصدد يجب التركيز على حساب السندات التي تكون طريقة الدفع فيها عند الاكتتاب نقدا، كذلك يجب ألا نغفل أن شهادات الإيداع سندات تصدرها البنوك والتي تكون مجهولة الاسم(les bons de caisse anonymes)، مجالا خصبا لغسل الأموال المتحصلة من جريمة الرشوة، و انطلاقا من كل ما سبق ذكره يمكن للنيابة العامة(في إطار دورها في تخليق الحياة العامة) أن تقوم بتحريات (ليس بالضرورة وجود شكاية أو وشاية)و على ضوئها ستقرر إمكانية فتح بحث قضائي من عدمه،

الأزمة الثالثة : العقوبة : في كثير من الأحيان، نجد أن العقوبة المخصصة لجريمة الرشوة والمنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من الفصل 248 من القانون الجنائي؛ غير كافية لتحقيق الردع العام، والخاص. وبالتالي؛ يجب إعادة النظر في العقوبة المخصصة لجريمة الرشوة،وذلك برفعها مع التنصيص على عدم قابليتها لأي ظروف قضائية مخففة، و جعل جريمة الرشوة جناية مهما بلغت قيمة المبالغ أو الهدايا و إن كانت أقل من القيمة المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من الفصل 248 من القانون الجنائي،و كذلك إعادة النظر في مقتضيات الفصل 253 من القانون الجنائي، وذلك بالتنصيص على العقاب في حالة صدور الحكم بالبراءة وليس بالإدانة من أجل جناية فقط، كما أنه من شأن تكثيف البحث التمهيدي حول جريمة الرشوة للكشف عن جريمة تبعية أو موازية لها – إن صح التعبير – وهي غسل الأموال، وبالتالي؛ يجب التنصيص على عدم استفادة المتهم الذي تمت إدانته من أجل الجريمتين في حالة كانت جريمة الرشوة تشكل جناية و ترتب عنها جنحة غسيل الأموال، فيلزم عدم تمتيع المتهم بظروف التخفيف،و في حال تمت إدانته من أجل الجريمتين باعتبارهما جنح؛ يجب تطبيق قاعدة الضم طبقا للفقرة الأخيرة من الفصل 120 من القانون الجنائي؛أسوة بجريمتي العصيان والهروب المنصوص عليهما في الفصلين 307 و 310 من ذات القانون.

الأزمة الرابعة : عدم كفاية الحلول لمكافحة جريمة الرشوة : من الصعوبة بمكان القضاء بشكل نهائي على الرشوة ، وأول ما يمكن إتخاذه؛ هو العمل على التقليل من الأموال النقدية السائلة، بحيث أن الأموال المتحصل عليها من جريمة الرشوة، غالبا ما يتم إخفاؤها؛ لذلك يجب أن تنسق النيابة العامة مع الفرق الجهوية للشرطة القضائية من أجل القضاء على السوق السوداء لصرف العملات الأجنبية،إذ عادة ما يتم مبادلة النقود السائلة بالدرهم إلى العملات الصعبة و خاصة “الأورو” ،وإيداعها في بنوك أجنبية دون نقلها أو التصريح بها لدى الجمارك، و إن كان المشرع المغربي نص في الفصل 66 مكرر من مدونة الجمارك على التصريح عندما تتعدى قيمة العملات النقدية مائة ألف درهم؛و حسنا فعل، و ذلك لكون هذا الإجراء قد يخفف من نقل الأموال خارج التراب الوطني، خاصة أن ضبط المخالفين لقانون الصرف من شأنه الكشف على المزيد من المرتشين الذين يقبلون على هذه الوسيلة)أي صرف العملات بطريقة غير قانونية و غير مادية)،إلا أن المشرع ترك ثغرة في الفقرة الأولى من المادة 14 من قانون البنوك الحرة(offshore)؛وكان عليه جعل العمليات المالية و البنكية المنجزة من طرف الأجانب؛ خاضعة لإذن مكتب الصرف،ومن بين الإجراءات أيضا،لغرض إمتصاص الأموال السائلة )النقود( ينبغي أن يتم سن تشريع تعديلي على بعض القوانين كظهير الالتزامات و العقود و التنصيص على إجبارية الأداء بالبطاقات البنكية)شريطة أن يكون استعمالها من صاحبها فقط (أو الشيك أو التحويل البنكي حصرا،  و إلغاء تدريجي للتعامل بالنقد في كافة المعاملات المدنية على غرار المعاملات التجارية،والهدف من ذلك إجبار كل من تحصل على أموال عن طريق الرشوة إما حرمانه منها أو الاضطرار إلى إيداعها بالبنوك؛ مع تفعيل التصاريح بالاشتباه وتبرير مصدر الأموال،ومن بين الحلول كذلك التسريع بإخراج مشروع قانون رقم 96.21 إلى حيز الوجود، خاصة أنه يتضمن مقتضيات مهمة تتعلق بتحويل الأسهم لحاملها إلى أسهم إسمية، وباقي القيم المنقولة، و إلغاء السندات لحاملها.و تجدر الإشارة إلى أنه يجب الالتفات إلى مقتضيات القانون رقم 94-35 المتعلق ببعض سندات الديون القابلة للتداول،لا سيما شهادات الإيداع التي تصدرها البنوك بجعلها اسمية فقط،أسوة بالتعديل الذي سيلحق قانون شركات المساهمة، أما بخصوص العقارية العقار؛ فيجب أن يكون كل عقد تم تحريره من طرف الموثق و إتفق الأطراف على أداء ثمن العقار نقدا و بمبالغ ضخمة محل تتبع من طرف النيابة العامة، وذلك في إطار الصلاحيات المنوطة لها في القانون رقم 32.09،و كذلك تعديل المادتين 20 و108 من قانون المسطرة الجنائية، بإضافة جريمة الرشوة  و باقي الجرائم المالية، كما أن تشجيع المواطنين على التبليغ عن الرشوة ،وليس انتظار شكايات الضحايا فقط مع توفير الحماية لأي مبلغ كما هو منصوص عليه في المادة 82-7 من قانون المسطرة الجنائية، و أخيرا فإن القضاء جذريا على هذه الآفة؛ لابد من إيقاظ الضمير المسؤول والتمسك بالقيم الدينية واستحضار مصلحة الوطن



الاثنين 6 مارس 2023
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter