يعيش الفرنسيون على وقع نقاش سياسي حاد: صراع اليمين واليسار، وتصاعد قوة اليمين المتطرف، وفساد بالجملة، وتزايد واضح لنفوذ القضاء.
فهل يمكن وسم الجمهورية الخامسة بـ»جمهورية القضاة»، استحضارا لما عاشته الولايات المتحدة الأمريكية على عهد الرئيس «روزفلت»، حين نُعِت نظامها السياسي بنظام «حكم القضاة»؟.
يتوزّعُ نقاشَ الطبقة السياسية في فرنسا اتجاهان بخصوص متابعة الرئيس السابق «نيكولا ساركوزي» في أكثر من قضية أمام القضاء. يشدد الاتجاه الأول، ويسنُدُه بدرجة أساسية اليسارُ الحاكم، ومن يتقاطع معه من الديمقراطيين، على أن القضاء مستقل وسيّد نفسه، وأن الرئيس السابق مواطن كباقي بني جِلده، وهو أولا وآخراً متقاضيٌ، عليه واجب الامتثال لأوامر القضاء، وله حق التمتع بقاعدة البراءة، والدفاع، والمحاكمة العادلة. بينما يؤكد الاتجاه الثاني، مدعوما في عمومه من قبل أنصار حزب الرئيس «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، على السياق الذي اتُّهمه خلال «نيكولا ساركوزي»، والظروف التي حكَمت عمليةَ المتابعة من قبل القضاء الفرنسي، بل ذهب الأمر ببعض أنصاره إلى التشكيك في استقلال السلطة القضائية وحيادها، معتبرين الملف برمته مجردَ تصفية حسابات سياسية ليس إلا. والواقع أن بين حدّي هذين الاتجاهين، يُلفِت اتهامُ الرئيس «ساركوزي» النظرَ إلى العديد من التطورات النوعية وغير المسبوقة في تجربة الجمهورية الخامسة الفرنسية.
فلأول مرة تُحرك مسطرةُ «الحراسة النظرية» في حق رئيس جمهورية سابق، حيث قضى المعني بصكّ الاتهام ثمانية عشرة ساعة في ضيافة الشرطة القضائية يوم الثلاثاء فاتح يوليوز الجاري. وقبل هذا، خضعت مكالماته الخاصة للتنصت من قبل المحققين، الأمر الذي لم يعرف نظراؤه السابقون نظيرا له. ثم إن الاتهام لم ينحصر في شخص الرئيس، بل امتدَّ إلى من يشك القضاء في تواطئهم معه من رجالاته. وخُدّام الدفاع، أي المحامي «تييري هيرزوغ»، والقاضي «جيلبير أزيبير»، المدعي العام لدى محكمة النقض الفرنسية. أما اتهامه بـ»الفساد»، والتلويح بمحاكمته، فمن الأمور غير الغريبة عن الجمهورية الخامسة، إذ سبق للرئيس السابق «جاك شيراك» أن تعرض لها حين كان عمدة لمدينة باريس.
يتضمن ملف متابعة الرئيس «ساركوزي»، واتهامه بالفساد، سبعَ قضايا، يتراوح وقوعُها ما بين 1993 و2008، وهي في عمومها ذات علاقة بـ»استغلال الثقة والنفوذ»، و»الفساد المالي»، و»خيانة الأمانة»، و»محاولة الاحتيال». أما أشخاصها فتهمّ ذوي النفوذ المالي من الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، وشخصيات سياسية عامة، ورجال قضاء ودفاع من الفرنسيين، علاوة على أطراف أجنبية، من الباكستان والسعودية وليبيا تحديداً..إنها في الإجمال ملفات ذات صلة بمؤسسة الرئيس ومكانته في المنظومة السياسية داخليا ودوليا. فالرئيس الذي ألزمه الدستور بواجبات الحفاظ على الشرعية الدستورية والقانونية، ومسؤوليات صيانة قيم المواطنة والسهر على احترامها، هو أولا وقبل كل شيء من فصيلة البشر، أي خطّاء بطبيعته. وقد تتعاظم أخطاؤه إذا عزَّ عليه القيام بتوازن دقيق بين السلطة، التي منحتها إياه شرعية الانتخاب، والثروة، التي تتوق النفوس البشرية إلى التزلّف لها، والنهل من مصادرها. وقد تتكاثر أخطاء الرئيس، إذا وجد نفسه مُطوقاً بحزب يدين بالولاء له، أو ببِطانة تُبعده، بالتدريج، عن دور الحَكَم والتحكيم، الذي هو قيّم عليه.
ليس ثمة شك أن التوقيت الذي أخضِعَ خلاله الرئيس السابق «ساركوزي» للحراسة النظرية، والاستنطاق في مخافر الشرطة القضائية، له دلالاته السياسية. فانهزام الاشتراكيين في البلديات الأخيرة، وتصاعد اليمين المتطرف، وإلى حد ما تزايد نفوذ غريمه حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، علاوة على إعلان ساركوزي نفسه، وعبر مناصريه، عن العودة إلى الحياة السياسية، في أفق رئاسيات 2017، كلها معطيات لها قيمتها الواضحة في تشكيل السياق الذي صاحب قرارَ إخضاع «ساركوزي» للحراسة النظرية، بأفق إحالته على القضاء، حين تكتمل العناصر المطلوبة والواجبة لذلك. بيد أن تاريخ فرنسا هو تاريخ مؤسسات بامتياز، ومهما قيل عن «تسييس القضاء» لقطع الطريق أمام عودة «ساركوزي» لعرين السياسة، وربما الرئاسة من جديد.. فإن القضايا السبع المؤثِّثة لصكِّ اتهام الرئيس «ساركوزي» لا تخلو من رجاحة وصحّة، وهو ما سيعمل القضاء المستقل على إثباته أو نفيه.. وإذا قدِرت جرأة القضاء وشجاعته على الذهاب بعيدا في ملف دسم وشائك من قبيل ما عرّض «ساركوزي» للحراسة النظرية والتحقيق، فإن ممارسةً قضائية فُضلى ستُسجَّل لمؤسسة القضاء في فرنسا.. ممارسة عنوانها الرئيس خضوع الجميع، أشخاصا وهيئات، لحكم القانون إرادة سلطانه..وبذلك، سيكرس القضاء قاعدةً مفصليةً في توطين مفهوم «حكم القانون»، أي مبدأ العدالة للجميع ومن أجل الجميع.
فهل يمكن وسم الجمهورية الخامسة بـ»جمهورية القضاة»، استحضارا لما عاشته الولايات المتحدة الأمريكية على عهد الرئيس «روزفلت»، حين نُعِت نظامها السياسي بنظام «حكم القضاة»؟.
يتوزّعُ نقاشَ الطبقة السياسية في فرنسا اتجاهان بخصوص متابعة الرئيس السابق «نيكولا ساركوزي» في أكثر من قضية أمام القضاء. يشدد الاتجاه الأول، ويسنُدُه بدرجة أساسية اليسارُ الحاكم، ومن يتقاطع معه من الديمقراطيين، على أن القضاء مستقل وسيّد نفسه، وأن الرئيس السابق مواطن كباقي بني جِلده، وهو أولا وآخراً متقاضيٌ، عليه واجب الامتثال لأوامر القضاء، وله حق التمتع بقاعدة البراءة، والدفاع، والمحاكمة العادلة. بينما يؤكد الاتجاه الثاني، مدعوما في عمومه من قبل أنصار حزب الرئيس «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، على السياق الذي اتُّهمه خلال «نيكولا ساركوزي»، والظروف التي حكَمت عمليةَ المتابعة من قبل القضاء الفرنسي، بل ذهب الأمر ببعض أنصاره إلى التشكيك في استقلال السلطة القضائية وحيادها، معتبرين الملف برمته مجردَ تصفية حسابات سياسية ليس إلا. والواقع أن بين حدّي هذين الاتجاهين، يُلفِت اتهامُ الرئيس «ساركوزي» النظرَ إلى العديد من التطورات النوعية وغير المسبوقة في تجربة الجمهورية الخامسة الفرنسية.
فلأول مرة تُحرك مسطرةُ «الحراسة النظرية» في حق رئيس جمهورية سابق، حيث قضى المعني بصكّ الاتهام ثمانية عشرة ساعة في ضيافة الشرطة القضائية يوم الثلاثاء فاتح يوليوز الجاري. وقبل هذا، خضعت مكالماته الخاصة للتنصت من قبل المحققين، الأمر الذي لم يعرف نظراؤه السابقون نظيرا له. ثم إن الاتهام لم ينحصر في شخص الرئيس، بل امتدَّ إلى من يشك القضاء في تواطئهم معه من رجالاته. وخُدّام الدفاع، أي المحامي «تييري هيرزوغ»، والقاضي «جيلبير أزيبير»، المدعي العام لدى محكمة النقض الفرنسية. أما اتهامه بـ»الفساد»، والتلويح بمحاكمته، فمن الأمور غير الغريبة عن الجمهورية الخامسة، إذ سبق للرئيس السابق «جاك شيراك» أن تعرض لها حين كان عمدة لمدينة باريس.
يتضمن ملف متابعة الرئيس «ساركوزي»، واتهامه بالفساد، سبعَ قضايا، يتراوح وقوعُها ما بين 1993 و2008، وهي في عمومها ذات علاقة بـ»استغلال الثقة والنفوذ»، و»الفساد المالي»، و»خيانة الأمانة»، و»محاولة الاحتيال». أما أشخاصها فتهمّ ذوي النفوذ المالي من الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، وشخصيات سياسية عامة، ورجال قضاء ودفاع من الفرنسيين، علاوة على أطراف أجنبية، من الباكستان والسعودية وليبيا تحديداً..إنها في الإجمال ملفات ذات صلة بمؤسسة الرئيس ومكانته في المنظومة السياسية داخليا ودوليا. فالرئيس الذي ألزمه الدستور بواجبات الحفاظ على الشرعية الدستورية والقانونية، ومسؤوليات صيانة قيم المواطنة والسهر على احترامها، هو أولا وقبل كل شيء من فصيلة البشر، أي خطّاء بطبيعته. وقد تتعاظم أخطاؤه إذا عزَّ عليه القيام بتوازن دقيق بين السلطة، التي منحتها إياه شرعية الانتخاب، والثروة، التي تتوق النفوس البشرية إلى التزلّف لها، والنهل من مصادرها. وقد تتكاثر أخطاء الرئيس، إذا وجد نفسه مُطوقاً بحزب يدين بالولاء له، أو ببِطانة تُبعده، بالتدريج، عن دور الحَكَم والتحكيم، الذي هو قيّم عليه.
ليس ثمة شك أن التوقيت الذي أخضِعَ خلاله الرئيس السابق «ساركوزي» للحراسة النظرية، والاستنطاق في مخافر الشرطة القضائية، له دلالاته السياسية. فانهزام الاشتراكيين في البلديات الأخيرة، وتصاعد اليمين المتطرف، وإلى حد ما تزايد نفوذ غريمه حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، علاوة على إعلان ساركوزي نفسه، وعبر مناصريه، عن العودة إلى الحياة السياسية، في أفق رئاسيات 2017، كلها معطيات لها قيمتها الواضحة في تشكيل السياق الذي صاحب قرارَ إخضاع «ساركوزي» للحراسة النظرية، بأفق إحالته على القضاء، حين تكتمل العناصر المطلوبة والواجبة لذلك. بيد أن تاريخ فرنسا هو تاريخ مؤسسات بامتياز، ومهما قيل عن «تسييس القضاء» لقطع الطريق أمام عودة «ساركوزي» لعرين السياسة، وربما الرئاسة من جديد.. فإن القضايا السبع المؤثِّثة لصكِّ اتهام الرئيس «ساركوزي» لا تخلو من رجاحة وصحّة، وهو ما سيعمل القضاء المستقل على إثباته أو نفيه.. وإذا قدِرت جرأة القضاء وشجاعته على الذهاب بعيدا في ملف دسم وشائك من قبيل ما عرّض «ساركوزي» للحراسة النظرية والتحقيق، فإن ممارسةً قضائية فُضلى ستُسجَّل لمؤسسة القضاء في فرنسا.. ممارسة عنوانها الرئيس خضوع الجميع، أشخاصا وهيئات، لحكم القانون إرادة سلطانه..وبذلك، سيكرس القضاء قاعدةً مفصليةً في توطين مفهوم «حكم القانون»، أي مبدأ العدالة للجميع ومن أجل الجميع.