إن السمة المميزة لمرحلة ما بعد الاستقلال في أغلب دول العالم الثالث، إن لم نقل جلها، هو الحجم الكبير لتدخل الدولة، الذي كان يشمل كافة أوجه التنظيم الاجتماعي والاقتصادي وذلك عبر مجموعة من المرافق العمومية، ولقد كان هذا التدخل ضروري، وتهدف لتأثر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الموروثة عن الاستعمار، والذي لم يكن القطاع الخاص قادرا على تجاوزها، فوقع عبء النهوض بالاقتصاد الوطني على القطاع العام[1].
إن تمادي الدولة في تدخلها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي عبر القطاع العام ترتب عنه نتائج وخيمة، تماثلت في تعرض الدولة لعدة إكراهات تدبيرية واقتصادية، تجلت بالأساس في ازدياد النفقات وتفاقم العجز المالي، واستفحال المديونية الخارجية والتضخم المالي وتزايد الفساد المالي بشكل مذهل، والأموال التي استثمرت لم تحقق إلا خطوات بطيئة في عجلة التنمية، وبالمقابل ارتفعت نفقات القطاع العام بشكل كثيف كلفت الدولة ملايين الدولارات، والتي أرغمت الدول النامية ومن بينها المغرب واليمن على اللجوء للمؤسسات المالية.
وبالتالي الخضوع لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، التي اعتبرت أن تخلي الدولة عن المرافق العمومية الاقتصادية والاجتماعية لصالح الخواص هو الكفيل بإخراجها من الأزمة[2].
ومن هنا تصبح خوصصة المقاولات العمومية التي طالما وفرت للمواطنين خدماتها بالمجان، أو بمقابل يراعي قدراتهم الشرائية، ووفرت لميزانية الدولة مداخيل ساعدتها على حسن تدبير الشؤون العامة هي ضرورة بإيعاز من المؤسسات المالية والدولية وذلك لأسباب عديدة[3]،إن خوصصة المرافق العمومية هدفها تقليص مجال أنشطة القطاع العام لتنتقل إلى أيدي المقاولات الرأسمالية المعولمة، في غياب القطاع الخاص الوطني، وهي تجعل من المواطنين أجراء وعمال ومياومين، وتقلص الأجر والامتيازات، وتحجم المواطن إلى حالة المستهلك[4].
تجدر الإشارة أن الدولة تهدف في إطار التحويل من القطاع العام إلى القطاع الخاص تخفيف الأعباء المالية التي تتمثل في المساعدات التي تؤديها إلى المقاولات العمومية في مجال التسيير والتجهيز، وما يحصل من مشاكل لهذه المقاولات[5].
فعوض أن يكون هذا القطاع رافدا للتنمية السوسيواقتصادية أصبح أهم كوابحها إذ أدت ضخامة عدد هيئات القطاع العام إلى تكبل المالية العمومية أعباء تمويلها وضخ المساعدات المسترسلة لتغطية عجز هام وأصبحت المقاولات العمومية بمرور الوقت تشكل في حد ذاتها شبكة إدارية موازية مشكلة دولة داخل دولة، وأصبح حجم الدعم الذي تقدمه الدولة للمؤسسات العمومية عبئا ثقيلا، فالخوصصة وسيلة للتخفيف من هذه الأعباء المالية للدولة، الناتجة عن ارتفاع تكلفة المساعدات والإعانات المالية للمقاولات العمومية[6].
ويلزم التأكيد بان الخوصصة تعتبر من وجهة نظر بمثابة إعلان من قبل الدولة تظهر فيها رغبتها كطرف للانسحاب من الحياة الاقتصادية والتنافسية والتركيز على خلق وتوفر الشروط الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنظمة للعمل الاقتصادي الحر والتوجيه الفاعل لعمليات التنمية الشاملة الهادفة الى تحقيق التوازن المعيشي النسبي بين أفراد المجتمع وخلق طبقة اجتماعية متوسطة تكون هو الحامل الحقيقي للتنمية والنمو والتطور.[7]
فعملية الخوصصة إذن تعني تجاوزا ليس فقط لهذه لأعباء المالية، بل تفويت المقاولات العمومية نفسها واستثمار الدولة للأموال الناتجة عن التمويل، فتكون الدولة قد وفرت النفقات التي تصرف في مجال مساعدات المقاولات العمومية، وربحت من وراء تفويت وبيع هذه الأخيرة أمولا كثيرة تستطيع أن تدرجها وتستغلها فيما أنفع من انجازات اقتصادية أخرى، والوصول إلى هذه الأهداف يستوجب توافر مجموعة من الشروط ومن أهميتها التوفر على قطاع خاص قادر على تحمل أعباء التنمية[8].
إن الخوصصة ستؤدي إلى تقليص مفهوم المرفق العام إلى مجرد خدمة، أو اختفائها نهائيا، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية الدولة إن لم تكن عبارة عن مجموعة مرافق عمومية تضمن للمواطن إضافة إلى الأمن العام، الأمن الصحي والأمن الغذائي، والأمن التعليمي[9].
الهوامش
[1] - علي السدرجاي، مرجع سابق، ص 176.
[2] - راجع محمد بلعوشي: "سياسة الخوصصة بين برنامج التقويم الهيكلي والانعكاسات المالية على ميزانية الدولة، مجلة المستقبل العربي، عدد 142 مركز دراسات الوحدة العربية، 1990، ص 33.
[3]- حسن حوات: "المرافق العامة بالمغرب وهيمنة التحويل من القطاع العام إلى القطاع الخاص"، مرجع سابق، ص 8.
[4]- وقد ترجم المغرب انخراطه في مسلسل التحرير الاقتصادي بإدخال مجموعة من الإصلاحات منذ سنة 1983، مست جميع القطاعات الأساسية للاقتصاد، وفي سنة 1990 تمت المصادقة على القانون رقم 39-89 والمتعلق بتحويل المنشآت العمومية إلى القطاع الخاص مع خلق وزارة مختصة مكلفة بهذه التحويلات.
- راجع: مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية 2000-2004، الجزء الثاني التنمية الاقتصادية، وزارة التوقعات الاقتصادية والتخطيط، ص 103.
- راجع: مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية 2000-2004، الجزء الثاني التنمية الاقتصادية، وزارة التوقعات الاقتصادية والتخطيط، ص 103.
[5]- حسن حوات، مرجع سابق، ص 126.
[6]- راجع حسن حوات، مرجع سابق، ص 126.
[7]-محمد بن محمد السياني، الخصصة كسياسة لتحجيم دور الدولة والتحول نحو اقتصاد السوق،مجلة الثوابت العدد14-(اكتوبر-ديسمبر)1990،ص78
[8]- محمد السلوعلي: "تأملات حول الخوصصة والتنمية الجهوية بالمغرب"، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى، 1997، ص 89-90.
- كريم العطلاتي، مرجع سابق، ص 95.
- كريم العطلاتي، مرجع سابق، ص 95.
[9]- للمزيد من الاطلاع راجع عبد الحق عقله: "تأملات حول بعض مجالات علم الإدارة"، مرجع سابق، ص 91.