لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر تواجه الدولة حركة احتجاجية منظمة من إحدى أجهزتها الحساسة ، وتبدو الحركة محرجة للتقاليد المخزنية المرعية التي لا تستسيغ تمرد خدام المخزن ولو وصفوا في الوثيقة الدستورية بالسلطة المستقلة ، لكن الملفت في هذه الحركة دائما أنها تجاوزت في مطالبها الشق المطلبي لترفع مطالب حقوقية من قبيل فرض الإصلاح وتكريس الاستقلالية ودعم حق المواطن في عدالة محايدة وناجعة .
وعلى عكس ما يعتقد من أن الحركة مجرد ركوب لموجة الربيع العربي ، فإن لها جذورها في الواقع القضائي .
يعترف المتتبعون المنصفون أن تدبير ملف القضاء شهد اختلالات بينة في العشرية الأخيرة ، فمباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها وعلى رأسها دعوة الولايات المتحدة الأمريكية حلفائها لحرب على الإرهاب تكرس الاقتناع بأن المغرب سيدخل مرحلة تطهير أمني من الحتمي أن يوظف فيها القضاء ، دشن التوجه بإعفاء الوزير الحقوقي عمر عزيمان واستقدام محمد بوزبع وزيرا للعدل لتصريف المرحلة وإكراهاتها ، أساء الرجل – الذي لبس ثوبا أكبر من مقاسه - البطاقة البيضاء التي وضعت بين يديه وأطلق العنان لممارسات اعتقد القضاة أنها زالت وعلى الأقل خمدت فعادت كل أساليب التدخل السافر في القضاء واستغلال النفوذ وتضارب المصالح وضرب مبدأ تكافؤ الفرص ، لقد أقبر الرجل رحمه الله معالم كل المحاولات الجنينية الذي حرص من سبقوه على زرعها طيلة عقدين من الزمن في أفق إصلاح مرتقب ظل دوما متوقفا بالباب لا يجاوز العتبة، بعدها تعاقب على قصر المامونية بالرباط وزيران هما عبد الواحد الراضي والطيب الناصري ، ولعل ما ميز عهدهما وضعية السكون التام فالأول زاهد في هذه الوزارة بالذات وفرضت عليه لحسابات سياسوية وحرص طيلة تواجده بها أن لا يلطخ يديه بأي ملف كان، أما الثاني فتكنوقراطي طيب - كما يدل عليه اسمه - لكنه كان بدون خلفية سياسية ولا ظهر حزبي فأنى له أن يحمل ملفا ضخما من حجم ملف إصلاح القضاء .
في غضون كل ذلك حدثت تغييرات سوسيولوجية عميقة في الجهاز القضائي لم تستطع الدولة أن ترصدها وفشل المتربعون على رأس الإدارة القضائية من إيصالها لمن يهمهم الأمر في أفق التعامل الإيجابي معها ، ففي العشرية الأخيرة التحق بالقضاء جيل من الشباب درس بالمدارس العصرية متمكن من اللغات الحية واستعمال التقنيات الحديثة ويحمل في مجمله شهادات عليا ، التحق هذا الجيل الجديد من القضاة بالعمل مع بداية العهد الجديد في مناخ يلهج بقيم الانفتاح والديمقراطية والحكامة الجيدة ، لكنه اصطدم بحاجزين نفسيين وجوديين كبيرين أولهما أن كثير ممن عهد إليهم بتأطيره بالإدارة القضائية هم دون هذه الشعارات البراقة تكوينا وتخليقا وإدارة للموارد البشرية وثانيهما أن هذا الجيل وجد نفسه كمن سبقوه مخيرا لتحقيق الكرامة المعيشية بين التنازل عن الكرامة الأخلاقية والسقوط في الرذيلة والرشوة وبين العيش على الكفاف والعفاف مع إكراهاته العائلية والشخصية والاجتماعية ، لقد اختار السواد الأعظم من الجيل الجديد خندق الكرامة ، وأمام ارتفاع وتيرة التضحم وتصاعد غلاء الأسعار استمر اندحار القضاة الجدد المرتبين في السلاليم الدنيا للأجور إلى قاع البروليتاريا الوظيفية المغربية ، مما مهد الطريق لحالة التذمر العام لدى القاعدة العريضة من القضاة الشباب .
بموازة هذه التغييرات ، شهدت الساحة القضائية أحداثا جسيمة ساهمت في إذكاء الوعي المهني لدى القضاة منها ؛ تأسيس الجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء ؛ إستمرار عجز الذين رسم لهم تمثيل القضاة في نطاق خطوط حمراء لا يجاوزونها ، العريضة الاحتجاجية على اعتقال قضاة تطوان ، خراجات القاضي جعفر حسون وجزاءاتها... لكن كل هذه الأحداث لم تكن لتكسر حاجز الخوف ، ثم جاء الربيع العربي وبينما كانت الأنظمة في شمال إفريقيا تتساقط كأوراق الخريف وكانت حركة 20 فبراير تزأر في شوارع مدن المملكة ومداشرها ، التقط لفيف من القضاة الشباب دلالات اللحظات التاريخية التي اجتازها المغرب والأمة العربية فأطلقوا صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك أسموها نادي قضاة المغرب انضم إليهم زملائهم من كل بقاع الوطن ، فكانت تلك شرعية لا تضاهيها شرعية لأن الحركة الوليدة ولدت دون ترتيب مسبق ودون داعية ولا منظر إيديولوجي .
ولو ظهرت الحركة في غير هذه الظرفية الدقيقة، لأجهضت لكن الدولة كانت حينها مشغولة بدفع آثار الربيع العربي، فتنامت حركة نادي قضاة المغرب كما تنامى البناء لعشوائي والباعة المتجولون والمظاهرات دون أن يكون للدولة خيار غير التهدئة .
أول ما تبلور في صفحة نادي قضاة المغرب مقترح إنشاء نقابة للقضاة ، وحتى يقطع الطريق على القضاة الشباب أوصت لجنة المنوني لمراجعة الدستور بهجر منطق الجمعية المهنية الوحيدة وأقرت مبدأ تعدد الجمعيات المهنية الممثلة للقضاة وكذلك كان ، ولم يكن للحركة إلا أن تعمل في إطار الشرعية ، وحتى تعطي إشارات إيجابية لدوائر القرار اختارت انتخاب أجهزتها في 20 غشت 2011 في استحضار للخطاب الملكي بشأن إصلاح القضاء في ذكرى ثورة الملك والشعب 2009 ، وعوض أن تتعامل الدولة بإيجابية مع حركة القضاة الشباب باعتبار أنها أول تنزيل مؤسساتي لدستور 2011 ، اختارت وزارة الداخلية أسلوب المنع في خطأ سياسي قاتل مستلهمة فكر القاضي السابق الذي قدر الأمور بعقلية جيله ولم يفكر بعقلية أحفاده الذين يجلس أقرانهم على منصات القضاء ، لقد ظنت جهة المنع بأن مجرد إخبار القضاة بأن المنع صادر من أم الوزارات من شأنه أن يفض جمعهم ويثنيهم عن هدفهم ، لكنه أعطى للنادي ولادة من ذهب :منع وتأسيس في الهواء الطلق في عز قيظ الصيف وتعاطف من الرأي العام الوطني والدولي، بعدها استمر نادي قضاة المغرب يحصد النقط تلو الأخرى في جولاته ضد الدولة التي استمرت في تقديم خدمات الدعاية المجانية للنادي عبر مواقفها المتشنجة ، والآن وقد وصل الحوار إلى الباب المسدود إثر انسحاب النادي من جلسات الحوار الوطني وتصعيد الأشكال الاحتجاجية بشكل غير مسبوق ، يتساءل المهتم عن الخيارات المطروحة أمام الدولة للتعامل مع الحركة الاحتجاجية لقضاتها :
الخيار الأول : خيار العصا الغليظة وهو الخيار الرديكالي الذي لوح به وزير العدل نفسه ، وقد يبدأ بإحالة بعض رموز النادي على المجلس التأديبي وينتهي في أقصى سيناريوهاته بحل الجمعية المهنية لنادي قضاة المغرب وعزل أجهزتها التقريرية وبعض المتعاطفين معها من أسلاك القضاء ، هذا السيناريو يدفع به الحرس القديم في وزارة العدل ويتريث الرميد في إعماله ، إلا أنه خيار صعب التنفيذ ويحتاج إلى جسارة سياسية دون حدود لأنه لا الاختيارات الرسمية المعبر عنها ولا الظرفية الوطنية والإقليمية والدولية لم تعد تسمح بهكذا اختيارات، ويمكن أن يضرب آخر ما تبقى من مصداقية المغرب ومؤسساته في الصميم وسيعزز كل ما يردده خصومه عن ديمقراطية الواجهة وشكلية المؤسسات ، لأن نادي القضاة بالفعل حركة تصحيحية إصلاحية أقامها قضاة نظيفو الأيادي ومطالبها مشروعة ولا تستهدف إلا تمكين القضاء من الوسائل المادية والقانونية الكفيلة بالنهوض بدوره كسلطة مستقلة ، والحركة تحظى بالتأييد من طرف المنظمات الحقوقية والرأي العام الوطني وبالتقدير من الخارج بدليل دعوات سفارات الدول الأكثر تأثيرا في الرباط (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ) لرئيس النادي في أنشطتها وفي احتفالات أعيادها القومية .
إذا رجعنا إلى التجارب المماثلة، نجد أن الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر سبق أن ارتكب خطأ سياسيا مماثلا حسب في تاريخه الوطني الناصع ، ففي سنة 1969 قام بحل نادي قضاة مصر وعوض أجهزته المنتخبة بأجهزة معينة وعزل 198 قاضيا بسبب تمسكهم باستقلاليتهم تجاه تنظيمه الاتحاد الاشتراكي فيما عرف في الأدبيات القضائية في مصر بمذبحة القضاء ، النتيجة أن خليفته أنور السادات أعاد المعزولين إلى وظائفهم وكرمهم كنوع من إعادة الاعتبار للعدالة بمصر، وقد يعيد التاريخ نفسه بالمغرب ، فحذار من فتح سنوات للرصاص القضائي لأن القضية عادلة وكل إجراء من أصحاب الحل والعقد ينحو في هذا الاتجاه سيفتح المجال للجان للإنصاف والمصالحة خاصة بالقضاة كحتمية تاريخية لابد منها .
الخيار الثاني : خيار الاختراق و جرب في بعض الهيئات المهنية القضائية في بعض البلدان كمصر وإيطاليا ، ويقوم على دفع الدولة بقضاة محسوبين على الإدارة للترشح لأجهزة الجمعيات المهنية للقضاة تمهيدا لتلجيمها وإحتوائها ، لكن الخيار عادة ما يفشل بسبب يقظة القضاة ، وبالنسبة لنادي قضاة المغرب فإن وزارة العدل لم تتعامل مع الحركة في البداية بجدية حتى فوجئت بالوليد الصغير يشب على الطوق ويصير عملاقا ماردا ، ورغم وجود محاولات من بعض المسؤولين القضائيين المحليين لاستدراك الأمر بتوجيه انتخابات بعض المجالس الجهوية ، فإن النادي بقي عصيا على الاختراق ، والسيناريو المحتمل على الطريقة الحزبية المغربية الفجة هو الدعوة لجمع عام للقضاة تحث ذريعة التصحيح لسحب البساط من الأجهزة التقريرية الحالية ، والاحتمال صعب التحقيق على أرض الواقع لأن القضاة الذين قد يدفع بهم للعب هذا الدور غير مستعدين للخروج للأضواء لأسباب معلومة والمستعد منهم لا يحظى بثقة القضاة ولا يتمتع بالكاريزما اللازمة للدور وفوق هذا وذاك ، فإن نجاح الفريق الحالي في تدبير المرحلة وتوسيع قاعدة تمثيلية النادي وشعبيته من شأنها أن تعيده إلى مواقعه أقوى من السابق ، لذا فإن المخططين لهذا الخيار سيفكرون ألف مرة قبل تنفيذه .
الخيار الثالث: خيار التعاطي الإيجابي مع مطالب النادي ، وهو في نظري الخيار الوحيد الذي سيحفظ ماء الوجه للدولة ويكرس تنزيلها لمضامين الدستور الجديد ، وبه ستعلن للعدو قبل الصديق أن المغرب بلد المؤسسات بامتياز. فإلى عهد ليس بالبعيد كان الملك الراحل الحسن الثاني يؤاخذ على القضاء عدم انخراطه في إصلاح أوضاعه ، وظل المجتمعان السياسي والمدني بكل أطيافهما يؤكدان انعدام أي استعداد من القضاء لتقبل الإصلاح بل ثمة من تحدث عن جهاز محافظ يقود جيوبا لمقاومة التغيير ضدا على الإرادة السياسية المعلنة في بناء مجتمع ديمقراطي حداثي ، واليوم حينما تغيرت المعطيات وقام تيار الربيع القضائي يعلن انخراطه في ورش الإصلاح القضائي بل ويقوده واضعا الكرامة وتحسين الأوضاع المادية والاعتبارية للقضاة والاستقلالية أولويات مستعجلة لا محيد عنها لأي إصلاح ، ترتفع أصوات من داخل أجهزة الدولة أحيانا في العلن وكثيرا في الخفاء تتوعد القضاة الشباب بالويل والثبور وعظائم الأمور، الأجمل في الصراع كله أن القضاة الشباب يخوضون معركة القضاء بالمرجعيات الملكية بشأن الإصلاح القضائي ويواجهون حكومة مسؤولة سياسيا ترفع شعار التنزيل الحقيقي للدستور الجديد ، وفي خضم معركة حمى وطيسها لا يسع كل منصف إلا أن يهمس في آذان سياسيينا : حري بالمغرب أن يزهو و يفتخر بقضاته لا أن ينصب لهم المقاصل .