قبل كتابتي لهذا المقال المتواضع ساورني شعور بضرورة خط بيان حقيقة للمواطن المغربي يساعده على فهم مجريات الأحداث القضائية المتوالية والصورة النمطية التي أعطيت له لعقود من الزمن عن قضاء بلده , فالمتتبع للشأن القضائي الى عهد قريب، و استعانة بربط الماضي بالحاضر و بمستجدات الساحة القضائية, سيتوصل بلا شك الى سر هذه الحرب النفسية التي أعلنت على القضاة تمهيدا بالبدء في اجراءات تطبيقية عبر القوانين التنظيمية المتعلقة بالقضاة، و بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية, و ذلك لتحضير الرأي العام لمثل هذه التوجهات و كسر أي سند للقضاة انطلاقا من المجتمع و الذي يسهر القضاء على حماية حقوقه.
ان المشهد القضائي المغربي عرف عدة أحداث قضائية كان آخرها قبل تأسيس نادي قضاة المغرب, و ذلك بجمع التوقيعات على خلفية الاعتقالات التعسفية و الانتقامية التي أشرف عليها وزير العدل محمد بوزوبع في ما عرف آنذاك بقضية قضاة تطوان, و التي عمدت وزارة العدل على ادانتهم اعلاميا و ظاهريا مسخرة أجهزتها قبل أن يقول القضاء كلمته فيهم, و دون احترام لمبدأ قرينة البراءة التي يوفرها القضاء للمواطنين عامة , مع أن القضاة أنفسهم لا يتوفرون عليها و يا للعجب في مغرب العجائب !!! إلا ان هذا الحدث المهم الذي شهد على تضامن واسع للقضاة و مطالبتهم فقط بتفعيل النصوص القانونية لا غير و التي تجمد كلما تعلق الأمر بقاضي لأن الأصل فيه هو الادانة و ليست البراءة, و هذا ما زكته جمعية وحيدة بصمتها وحرصها على الدفاع على مصالحها الشخصية فقط و المقربين منها , ليتم الضغط على القضاة الموقعين عليها للتراجع عن مواقفهم لتبدأ حملة المغررين بهم, ويواجه قضاة تطوان ظلم وزارة العدل و يشكون ما أصابهم لله الواحد القهار, ليأتي فرج الله عليهم و تتبين المحكمة من افتراء وزارة العدل عليهم و تحكم ببراءتهم .
لكن يبقى أهم حدث قضائي بامتياز في التاريخ المغربي هو تأسيس نادي قضاة المغرب كجمعية مهنية مواطنة للقضاة, ليشهدوا بعد ذلك بوادر حرب نفسية عليهم بدأت بمنعهم من عقد جمعهم العام المؤسس بموجبه نادي قضاة المغرب, و ذلك بحرمانهم من القاعة التي أعدت لهذا الغرض, و الضغط على القضاة المؤسسين للنادي في محاولة لاحتوائه, فكان مثال ذلك تعيين السيد نائب رئيس نادي قضاة المغرب و المستشار بمحكمة النقض وكيلا للملك بابي الجعد, ليتم التراجع بعد ذلك عنه بتعيين ثان كنائب للسيد الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بالرباط, و ذلك بغية الحفاظ على محكمة النقض بدون أي تمثيلية للنادي بها, بعدما تيقنوا بأن تمثيلية النادي بالمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف في تزايد و لن يستطيعوا التحكم بها, ثم توالت باستدعاء السيد رئيس نادي قضاة المغرب إلى مقر المفتشية العامة بوزارة العدل بغية ارهاب القضاة, و بعد ذلك التشكيك في الصحة العقلية لأحد القضاة واحالته على المجلس الأعلى للقضاء.
و امتدت هذه الحرب النفسية عبر الإعلام و الصحافة و الأقلام المأجورة, و التي ما زالت مستمرة الى الآن, و ذلك عبر التشكيك في القضاء و القضاة المغاربة على خلفية مطالبة نادي قضاة المغرب بالاستقلال الفعلي للسلطة القضائية و قدرتهم على ايجاد قضاء قوي دون وصاية السلطة التنفيذية, و استغلال لقضايا معزولة و محدودة من المفترض تورط قضاة فيها و توصيفها في بعض الأحيان بحالة التلبس و حكم الملف حتى قبل أن تعين له المحكمة جلسة لمناقشة وقائعه, و جعلها مطية لمهاجمة الجهاز القضائي برمته, و الترويج لأفكار مسمومة يرجى منها التمهيد لإضعاف سلطة القضاء المرتقبة و التأثير على قوانينه التنظيمية التي هي في طور الإنجاز، فتجد الكتابات الصحفية لكثير من الصحفيين تفوح منها رائحة التآمر و تسخير أقلامهم سوى لمحاولة التشكيك في القضاء المغربي و تصويره كأنه هو السبب في كل ما يعيشه المغرب اليوم حتى ربما الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعرفها دول المعمور، و أنه هو المسؤول عن تأخر المغرب في عدة مجالات مقارنة بدول بدأت الاصلاحات الى عهد قريب, أو أن القضاء هو الجهاز الوحيد الذي يعاني من الرشوة و أن كل مؤسسات الدولة في وضعية سليمة, في حين أن عدد القضاة لا يشكل الا عددا ضئيلا مقارنة مع باقي المؤسسات, فتجد أن تلك المقالات لا تنبني على أسس فكرية سليمة و تحليل أكاديمي دقيق سوى أن أصحابها تلقوا الضوء الأخضر بمهاجمة القضاء و القضاة في ظل حملة ممنهجة لهذا الغرض.
و لم يدخر السيد وزير العدل الحالي كذلك جهدا (عن علم أو غير علم) مع احترامنا له, في محاولة مواصلة اخضاع الجهاز القضائي عبر تصريحاته و تهديداته التي شهدت على مرحلة مهمة من صراعه مع النادي, فقد هدد بإحالة القضاة على المجلس الأعلى للقضاء وعارض استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل بعدما كان من مؤيدي هذه الاستقلالية قبل الاستوزار, و اعتبرها تهديدا للمؤسسات العامة, و اقصى النادي من الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة, و حتى بخصوص حق الطعن الممنوح للقضاة بموجب الدستور الأخير فقد غض عنه الطرف بإصراره على البت في التأديبات المتعلقة بالقضاة في ظل المجلس الأعلى للقضاء بصيغته الحالية و الذي لا يمنح لهم حق الطعن, و كأن قرار المجلس الحالي لا يحتمل الخطأ , و رفض تأجيلها الى حين تشكيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية كما سبق و أن قرر ذلك وزير العدل السابق محمد الناصري, و ذلك كله محاولة لتكريس استمرار خضوع القضاة الى وزارة العدل وعبرها الى السلطة التنفيذية, و رفض للأفكار المطروحة من قبل نادي قضاة المغرب و رؤيته للإصلاح و التي لا تروق للبعض.
و ساهمت السلطة التشريعية كذلك في مسلسل هذه الحرب النفسية على السادة القضاة, ففي تصريح للبعض من أعضائها امام وسائل الاعلام روجوا خلالها الى خطورة استقلال السلطة القضائية و خصوصا استقلال النيابة العامة عن وزير العدل, و شككوا في كفاءة القضاة ببلدنا حتى بلغ الجهل بأحدهم أن صرح بقوله اذا كان يجب علينا أن نمنح الاستقلال للسلطة القضائية فما هي ضمانات عدم التعسف و يجب علينا أن نأتي بالقضاة آنذاك من بلجيكا, وكأن هناك ضمانات تقدمها السلطة التشريعية قبل ممارسة مهامها، و كأنه يجب علينا كذلك أن نأتي ببرلمانيين من المانيا أو انجلترا ليفهموا سمو رسالة القضاء و حتمية استقلاليته, فالضمانات التي يقدمها القضاء لا تستطيع أن تقدمها باقي السلط سواء منها التشريعية أو التنفيذية, فهو الذي يحمي حقوق و مصالح المواطنين و يرجع الحقوق إلى اصحابها حتى و‘ن كان التعسف صادرا من احدى هذه السلط.
و لم يسلم القضاة حتى من زملاء لهم في بعض الجمعيات المهنية الأخرى حيث حاولوا جاهدين اضعاف نادي قضاة المغرب عبر تسخير المسؤولين القضائيين لتحذير القضاة من خطورة الانخراط فيه، عبر نشرات التنقيط أو ضمان عدم اغراقهم بالمهام القضائية, أو اغرائهم ببدائل شخصية , و اتهم النادي من قبل باقي الجمعيات بأبشع الأوصاف, و تم التهديد بخلق عدة جمعيات و هو ما تم القيام به بعد تأسيس نادي قضاة المغرب, حيث تم احداث عدة جمعيات مهنية بدون عنوان بهدف بلقنة المشهد القضائي و اضعافه اكثر مما هو عليه, حتى وصل الأمر ببعضهم الى الدفاع بصراحة عن استمرار اشراف السلطة التنفيذية على القضاء و خصوصا فيما ما يتعلق بالنيابة العامة و مخالفة أحكام الدستور الأخير للمملكة الذي حسم في حتمية الاستقلالية و عدم جواز خضوع النيابة العامة لوزير العدل والذي هو عضو في السلطة التنفيذية حيث ينص الفصل 110 من الدستور " يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها " و بالتالي فهاته السلطة لا يمكن أن تكون هي وزير العدل لأن هذا التأويل سيتناقض مع استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية و التشريعية و المنصوص عليها في الفصل 107 من الدستور .
فاجتماع كل هذه الأجهزة و المؤسسات على محاولة ابقاء القضاء خاضعا للسلطة التنفيذية, و اضعاف القضاة و تشويه صورتهم أمام الرأي العام الوطني, دون أن تتاح له امكانية بسط سلطته كاملة بموجب الدستور الأخير للمملكة و انتظار النتائج, ليطرح عند المتتبع و منهم رجال القضاء حقيقة الشعارات التي يرفعها البعض, و هل الهدف منها وضع مساحيق تجميل على القضاء نظريا حتى يحسب للمغرب تقدمه في مجال القضاء و حقوق الانسان وعدم الافلات من العقاب أمام باقي الدول المتقدمة فقط دون الممارسة العملية لا غير.
ان السلطة التي يتخوف منها أصحاب النفوذ كما هو معلوم هي سلطة قضائية حقيقية ومستقلة بجميع أجهزتها, و لا يمكن لمن راكم ثرواته و نفوذه عبر الابتزاز و التهرب الضريبي و تهريب الأموال الى الخارج و الاستفادة من الصفقات العمومية بالرشوة و تفويت أملاك الدولة بطريقة مشبوهة, و الاستفادة من تمويلات أجنبية غير مصرح بها ... أن يفعل ذلك في ظل سلطة قضائية قوية و هو مستمتع بما حصل عليه و ينظر الى القضاء و كأنه قضاء وجد للمستضعفين من المواطنين فقط لا تطبق مساطره و قوانينه على فئته الاجتماعية الراقية, و لعل أهم معضلة في هذا المضمار هو تبعية النيابة العامة لوزير العدل الذي لا يقدر حتى و ان كانت له ارادة حقيقية على تطبيق القانون أن يقوم بذلك, لانتمائه السياسي وضرورة الحفاظ على التوازن الحكومي و عدم اثارة غضب احدى الفرق المشكلة للأغلبية...
لذلك كله تم تسخير العديد من الجهات والأجهزة لمحاولة الالتفاف على دستور المملكة الأخير الذي صادق عليه الشعب المغربي بالأغلبية, لتمهيد الرأي العام الوطني و رجال القانون على تقبل قوانين تنظيمية تتناقض في جوهرها مع روح الدستور و التأويل السليم له خصوصا فيما يتعلق باستقلال القضاة نيابة و رئاسة عن السلطة التنفيذية, و انتخاب الرئيس الأول و الوكيل العام بمحكمة النقض لضمان استقلالية القضاء و تدبير القضاة لشأنهم القضائي, و عدم وضع عراقيل أمام القضاة فيما يخص تدبير مسارهم و وضعياتهم المهنية تعطي لجهة غير قضائية حق التحكم بها أو اعطاءها لجهة قضائية مع منحها بشكل متعسف سلطة تدبيرها, و ضمان عدم المس بالقضاة , و انفتاحهم على البحث العلمي و الأكاديمي وطنيا و دوليا دون عراقيل الى غير ذلك فيما هو مضمن بمشروع نادي قضاة المغرب بخصوص القوانين التنظيمية.
ولعل أهم صورة تستوقفني هنا يتناغم فيها القضاء و المجتمع معا, هي دفاع الشعب المصري عبر مسيرات شعبية يصطف من خلالها مع القضاء مدافعا عنه و عن استقلاليته حتى على عهد نظام القمع لحسني مبارك و حتى مع وجود بعض القضاة الفاسدين في مصر, لأن الشعب متيقن أن حرياته و حقوقه و مستقبله رهين بقضاء قوي مستقل و نزيه, و أنه لا وجود لذلك في ظل قضاء ضعيف و متحكم به, و هذا ما هو منصوص عليه في الدين الاسلامي و هو ما عملت به كذلك جل الدول المتقدمة.
ان تحكم السلطة التنفيذية لعقود بدواليب القضاء و رقاب القضاة و التسبب له في هذا الجمود و التخبط , لا يعطي الحق لأحد في الهجوم على القضاء و القضاة و ان كان لهم هامش المسؤولية في حدود ضيقة, لأنه لا يمكن محاسبة أحد دون تمكينه من وسائل العمل و حرية و سلاسة في القيام به, و الأحرى أن يوجهوا سهامهم المسمومة نحو السلطة التنفيذية و التي كانوا أعضاء بها في فترات مختلفة, و كان البعض منهم يشغل حقيبة وزارة العدل و عضو في المجلس الأعلى للقضاء.
لذلك كله ينبغي أن نفطن لمثل هذه الخطابات التي ترمي الى تأسيس سلطة قضائية مستقلة فقط على الورق و أمام الراي العام الدولي دون تمكينه من هذه الاستقلالية عمليا, و تراهن على بقاء القضاء ضعيفا على وضعيته الحالية حتى يواصلوا مخططاتهم الشخصية و الفئوية دون محاسبة و مواصلة سياسة الافلات من العقاب, و من هنا يجب أن تحترم القوانين التنظيمية المرتقبة انتظارات الشعب المغربي و رجال القانون فيه, و أن تمنح للقضاء سلطة كاملة غير منقوصة وذلك بالاستعانة بما هو منصوص عليه في ديننا الاسلامي بالباب المنظم للقضاء, و بالقوانين المقارنة في الدول المتقدمة و بما استقر عليه الاجتهاد القضائي الدولي, فقوانين تنظيمية ضعيفة و متحكم بها تنتج لنا قضاء ضعيفا , و هنا سنعرف ان كنا قد قطعنا صلة لنا بالماضي المؤلم للقضاء المغربي ام أن معاناته سيراد لها أن تستمر, و هنا سنتأكد من ما اذا كنا نؤسس لمغرب متقدم ينبني على سلطات ثلاث متوازنة و فوقها سلطة ملكية تحكيمية بينها كما هو منصوص عليه في الفصل 42 من الدستور.