MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




دور المنظمات الدولية الاقتصادية في ترسيخ العولمة

     



دور المنظمات الدولية الاقتصادية في ترسيخ العولمة
ذ محمد بوبوش: باحث في العلاقات الدولية- جامعة محمد الخامس- أكدال-الرباط


تشكلت من داخل العلاقات الاقتصادية الدولية مؤسسات جديدة لها سلطة فوق قومية (Supranational)تتجلى بالأساس في (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، المنظمة العالمية للتجارة) وتترجم مفهوما وإيديولوجيا ليبرالية من خلال الأسس التي اعتمدتها للنظام النقدي الدولي وللسياسات المالية والاقتصادية والتجارية، إنها سلطة معنوية في المقام الأول .
وتشكل هذه المؤسسات الثلاثة على وجه الخصوص القيادة المركزية للنظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهي تنتمي لمدرسة فكرية واحدة وتقع تحت سيطرة القوى الأكبر الفاعلة على الصعيد العالمي. فالعولمة وضعت حيز التنفيذ من قبل هذه المؤسسات المذكورة مضاف إليها المنظمة من أجل التعاون والتنمية الاقتصادية .
وإضافة إلى ذلك تقوم كل من المنظمة الأوربية للتعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) ومنظمة التجارة العالمية، وبنك التسويات الدولية في البحث عن معايير دولية لتحرير نفقات الاستثمارات الدولية والسيطرة عليها
غير أن أهم المنظمات الاقتصادية الفاعلة في العولمة تتجسد في ذلك الثالوث الاقتصادي العالمي (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، المنظمة العالمية للتجارة) حيث تقوم بدور فاعل في قيادة العولمة بمختلف أبعادها والتنظير لها، كم أن هذه الهيئات الدولية هي الموجه الرئيسي لسياسة العولمة وتضغط على الدول للعمل بتوجيهاتها.

المبحث الأول: في مجال الاقتصاد الدولي

تقوم المنظمات الدولية الاقتصادية بدور رئيسي في تأكيد أهمية العولمة وترسيخها والإعداد لوحدة العالم في مختلف المجالات، وذلك عبر آليات عملها والقواعد الملزمة التي تنشئها وتتجلى هذه المساهمة بالخصوص من خلال الوظائف والدور الموكل لكل منها والمفاهيم الأساسية التي تستند إليها، ذلك أنها تترجم مفهوما وإيديولوجيا رأسمالية ليبرالية في مجال الاقتصاد الدولي. وتتجلى مساهمة المنظمات الدولية الاقتصادية بخصوص هذا المجال في تجسيد العولمة وتحرير المبادلات التجارية الدولية.

المطلب الأول: عولمـة النظـام النقدي والمالي


تشكل العولمة المالية أكثر النشاطات الاقتصادية عولمة وذلك بعد بروز الأسواق المالية العالمية، لقد كانت الأسواق المالية دائما عالمية الطابع وقد اهتمت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بوضع قواعد ومؤسسات دولية الطابع لضبط النظام النقدي العالمي.لكن رغم الطابع العالمي للأسواق المالية قبل التسعينات، إلا أنها لم تكن معولمة حيث ظلت في العموم وحتى بداية عقد التسعينات تدار من قبل الدول إدارة وطنية، وبالإشراف المباشر للمؤسسات المصرفية المحلية.
ما استجد خلال عقد التسعينات هو قيام أسواق مالية عابرة للحدود، وخارجة عن الإطار الرسمي، ويغيب عنها أي تحكم من قبل الدول. فالدول تراقب عن بعد، وربما مازالت غر قادرة على التدخل، بيد أنها حتما لم تعد قادرة على أن تتحكم أو تقنن حركة الأسواق المالية العالمية.
لقد أصبح كل من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي منظمات عالمية بما للكلمة من معنى، كما أن نفوذهما زاد توسعا نتيجة لترسيخ مبادئ مدونة حسن السلوك وتكثيف برامج التقويم الهيكلي، ورفع عدد الاستشارات السنوية مع الأعضاء، كما أن ارتفاع حجم المديونية وسلوك مسطرات إعادة الجدولة أعطى لصندوق النقد الدولي صلاحيات تخترق الحدود الوطنية وتقلص بالتأكيد من سيادة الدول الأعضاء .
وتمثل مخططات استقرار الاقتصاد الكلي وبرامج إعادة الهيكلة التي يشرف عليها صندوق النقد الدولي أداة قوية وفاعلة لإعادة تشكيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للملايين من البشر، ذلك أن إعادة الهيكلة أدت في أغلب الحالات إلى تقليص المداخيل الحقيقية وتدعيم نظام التصدير القائم على اليد العاملة الرخيصة وبالتالي فهي ذات أثر مباشر في عولمة ظاهرة الفقر.
لقد كان لسياسة صندوق النقد الدولي المتمثلة في خطط التقشف المالي وفتح الحدود ، وعمليات الخوصصة في ما يزيد عن سبعين دولة مدينة في العالم الثالث وشرق أوربا، أن فقدت هذه الدول بتطبيقها لهذه الإجراءات السيادة الاقتصادية وسلطة الرقابة على السياسة الجبائية والمالية، وأجبرت على تنظيم المصارف المركزية والتخلي عن مؤسسات عامة وبمعنى آخر وجدت نفسها تحت وصاية اقتصادية وسياسية في شكل حكومة موازية مكونة من المؤسسات المالية الدولية وموظفيها .
وقد ساعد تطبيق برامج إعادة الهيكلة على عولمة السياسات الاقتصادية الكلية تحت الرقابة المباشرة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين يعملان كما هو معروف، بالتنسيق مع المصالح القوية بنادي باريس ولندن ومجموعة الثمانيG8 . ويقوم هذا الشكل الجديد من الهيمنة الذي يمكن تسميته "استعمار السوق"، بتطويع وإخضاع شعوب وحكومات العالم إلى اللعبة المغفلة لتفاعلات هذه السوق. وهي وضعية، لم يعرف التاريخ لها مثيلا، مما يدفع إلى التساؤل بشدة وإلحاح عن مصير هذا النظام.
لقد خلقت العولمة المالية دولتها الخاصة الفوق قومية، وهذه الدولة مرتبة ومنظمة بأجهزتها بقنوات التأثير وبوسائل الحركة الخاصة بها، والأمر يتعلق بهذا البرج(صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، المنظمة العالمية للتجارة، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية).
فهذه المؤسسات الأربعة تتكلم بنفس الصوت الذي تعكسه كبرى وسائل الإعلام لتعظيم قوة السوق لدرجة الهوس، هذه الدولة العالمية هي سلطة بدون مجتمع، وهذا الدور الجديد محمول من طرف الأسواق المالية والمؤسسات العملاقة وكنتيجة لذلك فالمجتمعات إن كانت موجودة فهي مجتمعات بدون سلطة.
فسلطة العولمة المالية يجسدها واقع هذه المؤسسات المذكورة، فالقرارات تتخذ من قبل مؤسسات "بريتون وودز" ومن قبل المنظمة العالمية للتجارة حيث أن الشعوب لم تعد تراقب أي شيء فالبنك الدولي لا يحدد فقط الاختيارات الماكرو اقتصادية، ولكنه يفرض التزامات وشروط أخرى مرتبة تحت اسم حسن التسيير أو الإدارة (الحكامة).
فصندوق النقد الدولي والبنك العالمي أصبحا يؤديان دورا تقويضيا، فلقد تحولا إلى حارس لرأس المال وبالتأكيد في الدول النامية وشرق أوربا، ومهمات مؤسسات "بريتون وودز" تكمن اليوم في فرض الليبرالية وإدارة تعويم العملات وإخضاع اقتصاديات العالم الثالث والبلدان الشرقية لوازع مطلق هو خدمة الدين بدل احتواء الأزمات التي تصيب العلاقات المالية والنقدية الدولية.
لقد تنامى دور صندوق النقد الدولي وصلاحياته منذ إنشائه وطور مبدأ المشروطية في مجال حقوق السحب، ليفرض رقابته على اقتصاديات الدول الأعضاء في حال العجز الكبير في ميزان المدفوعات، كما طور البنك الدولي أيضا هذا الاتجاه في مجال القروض والمساعدات، وحدث التطور الأهم في عمل هاتين المؤسستين على إثر صدور مقررات مجلس الإدارة لعام 1979 والتي أكدت على مبدأ المشروطية وتطبيق مفهوم التصحيح الهيكلي، وتوسيع التعاون فيما بين الصندوق والبنك في مجال الرقابة على السياسات الاقتصادية والتزام الدول المدينة بها والتدخل في إعدادها ضمن إطار برنامج التكييف الهيكلي .
إن مؤسسات بريتون وودز تمتنع عن تقديم القروض والمساعدات المالية للدول التي تخرج عن مسار النظام الاقتصادي العالمي، وتقوم من خلال إعطائها هذه القروض بإلزام الدول بانتهاج سياسة اقتصادية ومالية ونقدية تصب في النهاية في إطار حرية اقتصاد السوق وانفتاح الأسواق والعولمة المالية.
وخير ما نستشهد به في مجال إثبات ظاهرة العولمة المالية هو الاتفاق المتعدد الأطراف الخاص بالاستثمارات ( AMI) والذي تمت صياغته بمنتهى السرية في إطار منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) من قبل ممثلي أغنى دول العالم وفي غياب دول الجنوب.
ذلك أن الاتفاق يعكس إرادة السلطات الخاصة المهيمنة في فرض قانون عبر وطني جديد لخدمة العولمة الرأسمالية، فهذا الاتفاق يسعى لأن يكون الانتقال الحر لرؤوس الأموال مطلقا، ويعتبر أن كل إجراء تتخذه الدولة هو إجراء مزعج للشركات الخاصة، ومن شأنه أن يشكل موضوعا للطعن والإلغاء أمام المحاكم باسم الشرعية الدولية الجديدة، كما لا تستطيع الدول إبداء أي تحفظ على هذا الاتفاق،حيث لا تملك التخلص منه إلا بعد إخطار مسبق مدته 20 سنة، فهو في الحقيقة اتفاق يعطي كامل السلطات للمستثمرين في وجه الحكومات.

المطلب الثاني: تحريـر التجـارة الدولية

واجهت مسيرة تحرير التجارة الدولية وقيامها على أساس مبادئ التبادل المتكافئ والتوزيع العادل لثمار المبادلات التجارية الدولية مقاومة شديدة ومتواصلة وخصوصا من قبل الدول الصناعية المتقدمة التي امتلكت على الدوام الوسائل الكافية التي تمكنها من تعويض شروط المنافسة الكاملة وخلق ما يعرف بـ"ظاهرة الفشل السوقي"، فهذه الدول حديدا هي التي ابتكرت وصممت عبر التاريخ مختلف أنواع السياسات الحمائية والحواجز التجارية الجمركية وغير الجمركية، وحتى عندما أخذ عدد كبير منه البلدان النامية حديثة العهد بالاستقلال لمنهج إحلال الواردات أو لسياسة الاعتماد على الذات ولجأت بسبب ذلك إلى استخدام السياسات الحمائية فإنها لم تكن تمارس أكثر من ردة فعل على عملية التبادل التجاري الجائر والغير المتكافئ وعلى التخصص المفروض عليها في تقسيم العمل الدولي وعلى المرحلة الاستعمارية التي مورست خلالها كل صنوف النهب لثروات هذه البلدان والتخريب الذي لحق بناها الاقتصادية الوطنية التقليدية.
وتقوم المنظمة العالمية للتجارة بتدويل التجارة وتحريرها من خلال تطبيق مبادئها وقواعدها والتي تأتي على رأسها، شرط الدولة الأولى بالرعاية ومبدأ شرط المعاملة الوطنية ومبدأ التخفيض التدريجي للرسوم الجمركية ومبدأ إلغاء القيود الجمركية ومبدأ الشفافية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المبادئ هي مبادئ عامة واسترشادية، وكلها تهدف إلى تحرير المبادلات التجارية، وذلك بالتحكم في السياسات الوطنية ولا سيما سياسات الدول الضعيفة المجبرة على التكيف والتخلص من أي إجراء يوصف بالحمائية،تفاديا للعقوبات المنصوص عليها، وبذلك تصبح المنظمة بمثابة سلطة مدنية من إنتاج الدول الصناعية الكبرى مهمتها عولمة وتطبيق إيديولوجية واضحة على مجموع المعمورة وهي حرية التجارة كمقياس يعلو فوق كل الاعتبارات الاجتماعية والثقافية والدينية. وتطبيقا لاتفاق مراكش، فمنظمة التجارة العالمية مكلفة بإنجاز برنامج طويل في اتجاه تحرير التجارة الدولية يتضمن على الخصوص، قواعد المنافسة، تحرير الصفقات العمومية والاستثمار، وتهدف هذه البنود إلى تفكيك المؤسسات الوطنية القطاعية مثل قطاع الاتصالات الذي قررت المنظمة فتحه للمنافسة في فبراير 1997 والتنافس على الصفقات العامة التي تشكل الغالب مابين 10 و15 % من الدخل القومي. وبعد توقيع اتفاقية الغات عام 1994 وإنشاء منظمة التجارة العالمية، دخل النظام الاقتصادي العالمي مرحلة جديدة في تطوره، حيث أكد الإعلان" أن الوزراء يؤكدون تصميمهم على العمل من أجل تحقيق انسجام شامل أكبر للسياسات في مجال التبادل والنقد والتمويل ، بما في ذلك التعاون بين منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي من أجل هذا الهدف .
وقد تعهدت الدول الأعضاء في المنظمة بإزالة جميع القيود التي تعيق تدفق السلع والخدمات بسهولة فيما بينها وقد تم تعزيز اتفاقيات الغات بتوقيع 70 دولة على اتفاقية الخدمات المالية عام 1997 التي فتحت قطاع الخدمات المالية لهذه الدول، كما تم التوصل إلى تفاهم دولي بين دول العالم على توسيع نطاق اتفاقية تقنية المعلومات بحيث تشمل سلعا أكثر معفاة من الرسوم الجمركية، بحيث يؤدي ذلك إلى تحرير كامل للسلع التكنولوجية في التجارة العالمية، وهناك اليوم اتجاه نحو تحولات جديدة لتعزيز الاتجاه نحو التجارة العالمية للوصول إلى الأسواق وتوسيعها وفرض آليات لإعادة هيكلة الإنتاج على المستوى العالمي.
وحسب التطورات الحاصلة في التجارة العالمية والآفاق المحتملة لتطورها بالاستناد إلى اتفاقيات "الغات" 1994 والاتفاقيات المتعلقة بها ، فإن التجارة الدولية سوف تتجه أكثر فأكثر نحو الاستقطاب مترافقة بتقسيم عمل دولية وتراثية في إطار علاقات إنتاج رأسمالية تقاد بشكل مركزي ودون اعتبار لمصالح الدول الأخرى. إن المنظمة العالمية للتجارة تسعى خلف قناع التبادل الحر المعتاد إلى حماية الأسواق الخاضعة للشركات المتعدية الجنسية المهيمنة.
كما أن هذه المنظمة أصبحت منذ 1995 مؤسسة موهوبة مخصص لها سلطة متعدية الجنسية Supranational) ( وموضوعة خارج كل رقابة من أشكال الرقابات المعروفة في الديمقراطيات البرلمانية، حيث أنها تتدخل في التشريعات الوطنية في مادة قانون الشغل أو البيئة أو الصحة العمومية ضد حرية التجارة ، كما يمكنها إلغاء ما لا تراه مناسبا . ويمكن القول بشيء من التجاوزات أنه نظرا لكون المنظمة العالمية للتجارة تتولى إدارة وتدبير جميع الاتفاقيات المذكورة سواء أكانت تتعلق بتبادل البضائع والخدمات أو الملكية الفكرية والصناعية، فإنها تستحق أن تنعت بأنها المنظمة الشاملة في مجال التجارة العالمية، وأنها المرجع الأساسي في كل ما له علاقة بعولمة الشأن التجاري، وأن تعزيز صدقيتها يتوقف على تحسين مواقع وحضور الدول العربية والإسلامية فيها من خلال المفاوضات التي ستجرى داخلها حاضرا ومستقبلا بما يعيد نوعا من التوازن والتكافؤ للمبادلات التجارية العالمية .
في ظل هذا التوجه العام للتجارة الدولية، بهذه الوتيرة السريعة، فإن الدول مرشحة عما قريب لفقدان كل أشكال الرقابة أو الحماية سواء في قطاع الزراعة، أوالنظم التربوية، أو الموارد الطبيعية، الصحة، الأدوية، حتى التنوع البيئي. وبتعبير آخر فإن المنظمة العالمية للتجارة، مدعومة بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، تقوم بسلب الدول والمواطنين أبسط مواصفات السيادة.
ورغم الهاجس الأمني المسيطر على العالم منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر فإن العولمة الاقتصادية في تصاعد مستمر خصوصا وأننا نعيش عصر التكتلات و التجمعات الاقتصادية الإقليمية الكبرى(منظمة التبادل الحر لبلدان أمريكا الشمالية NAFTA - الإتحاد الأوروبي- تكتل الأسيان...) هذا بالإضافة إلى انتشار مناطق التجارة الحرة وتكثيف العمل باتفاقيات التبادل الحر.

المبحث الثاني: في مجال الفكر الاقتصادي والسياسي:


أدى التطور الاقتصادي نحو الطابع العالمي والكوني إلى نشوء هياكل ومؤسسات دولية هدفها ترسيخ وتوسيع النموذج الرأسمالي الغربي في شقه السياسي والاقتصادي بما يحتويه من دمقرطة وحياة برلمانية وحزبية متعددة وآليات قانونية وأفكار اقتصادية متطورة .
وهذا يعني أن المنظمات الاقتصادية الدولية تنتمي إلى مدرسة فكرية واحدة(الليبرالية الرأسمالية)، أي أنها تترجم مفهوما وإيديولوجيا ليبرالية سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي.

المطلب الأول: تعميـم مفاهيـم الاقتصـاد الحـر:


قفزت الدعوة إلى اقتصاد السوق إلى مقدمة الخطاب الاقتصادي والسياسي بشكل مكثف مع انهيار جدار برلين ولو أن هذه العقيدة تم صوغها في الحقيقة منذ عام 1944 مع اتفاقات "بريتون وودز" وتستمد مصدرها من أهم المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية السالفة الذكر والتي قوم منذ ذلك الوقت، وبواسطة إمكاناتها الكبرى بتحويل مراكز الأبحاث والجامعات والمؤسسات الإعلامية على المستوى الكوني بهدف نشر وتعميم عقيدة اقتصاد السوق ومحاسنه، حيث يتم تناول هذا الخطاب بتكرار مستمر من قبل كبريات الصحف والمجلات الاقتصادية ولا سيما الناطقة باسم المستثمرين، والبورصات العالمية" وول ستريت جورنال" و"فاينانشال تايمز" و"فار ايستيرن ايكونوميك ريفيو"،"لي ايكو"،"اليكونوميست"، ثم يتولى العديد من الاقتصاديين والصحافيين ورجال السياسة مهمة إيصال المبادئ أو الوصايا الرئيسية لهذه العقيدة إلى مختلف مستويات القرار، أما بقية مفاهيم هذا الفكر الأحادي الجديد فهي معروفة، السوق بوصفها اليد الخفية التي يسعها تصحيح الاختلالات المالية والتي يجب الاعتماد على مؤشراتها في توجيه وتحديد التوجه العام للاقتصاد، المنافسة والإنتاجية كأداة لتحفيز المؤسسات، حرية التبادل من دون قيود كعامل تنمية دائم للتجارة وعولمة الإنتاج والتدفقات المالية، وتعميق مسار اقتسام العمل الدولي الذي من شأنه التخفيف من المطالب النقابية، وتخفيض الأجور، وأخيرا عملة قوية تضمن الاستقرار وتحرير السوق والخصخصة .
الخ.إلى عهد قريب مفهوم النظام الشمولي ذلك النظام القائم على حزب واحد ويتولى مراقبة وتسيير مجموع الأنشطة في ظل هيمنة تامة على المجتمع، غير أن التحولات الاقتصادية العالمية في نهاية القرن العشرين قد دفعت إلى بروز نمط جديد من الأنظمة الشمولية هي الأنظمة المعولمة القائمة أساسا على الأركان العقائدية الاقتصادية للعولمة، وعليه فهي لا تقبل أي سياسة اقتصادية بديلة، بل تعمل أساسا على إخضاع الحقوق الاجتماعية للمواطن إلى منطق واحد هو منطق المنافسة مع التخلي عن إدارة مجموع نشاطات المجتمع إلى آليات الأسواق المالية، ذلك أن النظام الشمولي- كما يقول "هيربرت ماركوز"- لا ينتج فقط عن شكل معين من الحكم والحزب، بل ينجم أيضا عن نظام خاص من الإنتاج والتوزيع متوافق جدا مع مبدأ تعددية حزبية وإعلامية وفصل بين السلطات...الخ .
وقد كان صندوق النقد الدولي خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات قد طور من سياسته مع بعض الدول المتخلفة، تحولت إلى ما يشبه الإيديولوجية الرسمية الصارمة والتي انعكست بوضوح في برامج التثبيت والاقتراض والتي كانت تهدف إلى إبقاء هذه الدول في شبكة من العلاقات الاقتصادية الدولية للعالم الرأسمالي لكي تكون دائما موضوعا للاستقطاب والتبعية، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلا إذا تمكن الصندوق من التأثير بشكل عميق في التوجهات السياسية والاقتصادية والجماعية للدول المتخلفة، ومن هنا كان الصندوق يبدي امتعاضه من أي توجهات اشتراكية ومحاولات إقامة تنمية مستقلة، وينتقد بشدة أي تدخل حكومي في طريقة عمل جهاز الأسعار وفي تخطيط الموارد(سياسات الدعم والتسعير..) وحماية الصناعة الوطنية والرقابة على الصرف
كذلك يبدو النزاع إلى عولمة الثقافة على صعيد مداولات المنظمة العالمية للملكية الفكرية OMPI فيما يخص إخضاع حقوق المؤلف للعولمة إذ طرح الأمريكيون على بساط البحث طلبا بتخلي أصحاب حقوق تأليف الكتب والأغاني وجميع أشكال الإنتاج الفكري عن تسيير ملكيات حقوقهم والعهد به إلى المجموعات الكبرى الخاصة، وعارضت بذلك دول الاتحاد الأوربي هذا النوع من العولمة، ولكن قبلته بريطانيا وحدها فأحدثت بذلك ثغرة في صف ثغرة صف أعضاء الاتحاد الأوربي، والمجموعات المراد منها أن تمارس تسيير حقوق الملكية الفكرية هي المجموعات الأمريكية القادرة عل كسب رهان التنافس حتى في هذا المجال أيضا ولقد قامت أوربا ، بقيادة فرنسا، بحملة داخل المنظمات الدولية المتخصصة مطالبة بمنح "الاستثناء الثقافي" لمجال الإعلام السمعي البصري والإنتاج السينمائي لأن فرنسا تعتبر أنها سبقت هوليود إلى اختراع السينما، وبالتالي فمن حقها أن تطالب لإنتاجها السينمائي خاصة والثقافي عامة، باستثنائه من التعامل معه كمجرد إنتاج اقتصادي لم تعد اتفاقية التجارة العالمية تسمح بحمايته .
.لقد ازداد الاقتناع بصلاحية النموذج الرأسمالي بعد انحسار كل النظم والأفكار و البدائل الاقتصادية الأخرى، وخاصة النموذج الاشتراكي الذي شهد أكبر انتكاساته التاريخية مع انهيار الاتحاد السوفيتي. لذلك اندفعت دول العالم وبخاصة الدول الاشتراكية سابقا إلى تطبيق مبادئ التجارة الحرة التي أصبحت المبادئ الاقتصادية المتحكمة في هذا العصر. لقد أصبحت العولمة الاقتصادية مكتملة أو في طريقها للاكتمال على الصعيدين النظري والتطبيقي مع تطبيق هذه المبادئ التي يعتقد أنها النموذج الاقتصادي الأصلح، والذي سيجلب النمو والرفاهية، وربما السعادة البشرية.

المطلب الثاني: ربط المساعدات الاقتصادية بنهج الليبرالية السياسية:

إن العولمة السياسية ارتبطت في البداية عندما انخرط العالم في نظام الديمقراطية الغربية الذي أصبح لا مناص من تطبيق تقنياته مضمونا وشكلان مما تعولم معه شكل الحكم ونوع المشاركة فيه، وتعولمت معه الآليات الموصلة إلى إفراز اقتراع شعبي سليم، وتكفلت المنظمات الدولية بعولمة القانون الدولي والشرعية الدولية وحقوق الإنسان، وعولمت مواثيقها نظم الحرب والسلم وطرائق التعاون الدولي، وبذلك تعولمت السياسة في أوسع معانيها التي تشمل تنظيمات الحكم وشروط التعاون الدولي و العلاقات الدولية وأصبح المجتمع الدولي يضبط دقائق هذه العولمة ويتحكم فيها من أصغر مكوناته إلى منظمة الأمم المتحدة بأجهزتها المتعددة وعلى رأسها مجلس الأمن.
لقد أصبحت شروط ربط المساعدات الاقتصادية ومنح القروض بفتح السوق والدمقرطة من السياسات المنتهجة بشكل واضح وواسع اتجاه العديد من الأنظمة.بل إن معاهدة ماستريخت تحدد سياسة أوربا الجديدة تجاه العالم الثالث كمساعدة تهدف أساسا إلى الاندماج في اقتصاد السوق .
وقد أثارت سياسات التنمية الاقتصادية في عدد من الدول النامية قضايا متعلقة بسلامة الحكم ونزاهته، ونظرا لاستقرار مبادئ السيادة لكل دولة وضرورة عدم التدخل في شؤونها الداخلية، فقد وجدت العديد من مؤسسات التمويل الدولية صعوبة في التوفيق بين احترام هذه المبادئ المستقرة والحاجة إلى توجيه النظر إلى أهمية سلامة أساليب الحكم. فتوجهات البنك الدولي مثلا في قضايا التنمية كثيرا ما تصطدم بالاعتبارات السياسية للدول المتلقية للقروض من حيث عدم إمكان التعرض إلى قضايا النظم السياسية وأساليب الحكم القائمة، مع ذلك فقد أطهرت تجارب التنمية في العديد من الدول خاصة في إفريقيا، أن فشل التنمية كان راجعا بالدرجة الأولى إلى فساد النظم السياسية السائدة وأنه بلا يوجد أمل حقيقي في أي تنمية مستديمة مالم تحدث تغيرات في أساليب الحكم.
ورغبة من البنك الدولي في طرح هذه القضايا دون التعرض مباشرة للقضايا والأمور السياسية فقد سك تعبيرا جديدا لمناقشة هذه الأمور، هو تعبير الحكم الصالح أو ما يصطلح على تسميته بالحكامة، ويقصد بهذا المصطلح كل أساليب استخدام السلطة سواء من الحكومات أومن إدارات الحكم المحلي في إدارة المشروعات أوغير ذلك من الميادين، فهذا ميدان لا يقتصر على الحكومات بالمعنى الضيق، بل تتناول كل أوضاع العمل الجماعي، ومن هنا جاءت صيحة البنك الدولي في 1989 بأن أزمة إفريقيا هي أزمة الحكم الصالح .
وفي الاجتماع الخاص لمؤسسات "بريتون وودز"، والذي عقد في بانكوك عام 1991 صرح "لندن ميلز" باسم البنك أنه يشعر بالقلق حيال العديد من حالات النفاق العسكري، حتى تلك التي تتم عند تصاعد الاضطرابات المدنية، وأن البنك " لا يجب أن يغمض عينيه على زيادة الإنفاق العسكري ودعا إلى أن تكون هذه المسألة جانبا من جوانب فعالية الإدارة global governance .
وقد ساعد جدة الاصطلاح وغموضه على استخدامه في أماكن متعددة، وكانت هذه الخاصية ميزة أكثر منها عيبا، حيث تمكنت المنظمات الدولية من الاختفاء وراءه لطرح العديد من القضايا الحساسة مثل الفساد والديمقراطية والمشاركة وحقوق الإنسان.
ويثير هذا المفهوم أهمية قواعد السلوك، وشكل المؤسسات وأساليب العمل المرعية، بما يتضمنه من حوافز أو روادع للسلوك ، كما أن هذا المفهوم(الحكم الصالح) يتضمن الإشارة إلى مفاهيم الشفافية، والمسؤولية ودولة القانون واللامركزية والتنسيق.
ومن الواضح أن مفهوم الحكم الصالح أو الرشيد على هذا النحو يتسق مع الاتجاهات الأخرى السائدة، من حيث غلبة مفهوم اقتصاد السوق واستعادة دور الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فهذه الأفكار تمثل نوعا من اليديولوجيا الجدية التي تتكاثف المؤسسات الدولية والنظام الاقتصادي الدولي في الدعوة إليها. لقد أصبحت المنظمات الاقتصادية الدولية تمارس ضغوطا على الدول بواسطة القروض المشروطة، والاستشارات من أجل أن تكون أكثر اندماجية يستجيب ومتطلبات هذه المنظمات في المجال الحقوقي والسياسي، حيث أصبحت تتضمن في دساتيرها احترام المعاهدات الدولية كما هي متعارف عليها عالميا وحرية الرأي والتعبير والديمقراطية والتعددية الحزبية، أي محاولة تعميم النهج الليبرالي الديمقراطي على المستوى السياسي .

خاتمـة:


يظل دور المنظمات الدولية الاقتصادية في ترسيخ العولمة يتزايد باستمرار، وفي طل هذه الوضعية ظل الدول النامية عاجزة عن التحرك والتأثير خاصة بعد غياب راع لمصالحها وكذا نتيجة لعدم قدرتها في التأثير الفعلي داخل المنظمات الاقتصادية الدولية، نتيجة ضعف قدرتها التصويتية( حوالي 40% من القدرة التصويتية داخل البنك الدولي).وتجد الدول النامية نفسها مرغمة على الانضمام إلى نظام العولمة بفعل تبعيتها الاقتصادية وضعف قدرتها التفويضية، وتترك في نفس الوقت تواجه مصيرها في التفكك الاجتماعي والوطني والأمراض والمجاعات.
على الرغم من أن التكتلات التجاري أصبحت سمة أساسية من سمات النظام الاقتصادي الدولي الجديد، وعلى الرغم من أن الدول العربية أعلنت في مناسبات عديدة عن ضرورة تمتين علاقاتها التجارية، لا يزال الوطن العربي مفككا، الأمر الذي يضعف موقعه في العلاقات الاقتصادية الدولية. يتعين إذا العمل بكافة الوسائل على زيادة درجة الاندماج التجاري لتحقيق الاتحاد الجمركي.عندئذ صرف الأقطار العربية لمعالجة مشاكلها الاقتصادية ونبذ صراعاتها السياسية والعسكرية.وهكذا تزداد معدلات النمو ويتحسن حجم الإنتاج ونوعيته في جميع القطاعات وتعالج معوقات الاستثمارات الأجنبية المبشرة .بالنتيجة النهائية ترتفع القدرة المالية والتجارية للدول العربية ويصبح لها وزن اقتصادي مهم داخل المؤسسات الاقتصادية الدولية، وبذلك تستطيع مواجهة طوفان العولمة الجارم.


محمد بوبوش: باحث في العلاقات الدولية- جامعة محمد الخامس- أكدال-الرباط




الخميس 16 ديسمبر 2010
nabil bouhmidi

عناوين أخرى
< >

الثلاثاء 12 نونبر 2024 - 21:42 المحامي حامي للشرعية الإجرائية

السبت 9 نونبر 2024 - 16:08 صناعة النصوص القانونية بالمغرب


تعليق جديد
Twitter