لقد أصبحت الديمقراطية شعارا لأي دولة تبتغي الحكم الرشيد و حلما للشعوب العالمية منذ مطلع القرن العشرين . فمن الناحية الفلسفية تعرف الديمقراطية بأنها شكل من أشكال الحكم يستند على مجموعة من المبادئ و القواعد السياسية و الدستورية التي تخول للشعب المشاركة في اتخاذ القرار
السياسي بشكل يضمن التسيير و التدبير التشاركي للشأن العام .
و حسب بعض الدراسات و الأبحاث فإن الديمقراطية بمفهومها الليبرالي لم يتم الشروع في تفعيلها إلا في أفق سنة 2000 , فوفقا لتقارير مؤسسة بيت الحرية التي تعد مؤسسة أمريكية مستقلة تهدف إلى (الحرية ) فإن في سنة 1900لم تكن أي دولة تطبق الديمقراطية لكن في سنة 2000 أصبحت 120 دولة تأخذ بالديمقراطية الليبرالية .
و عليه يمكن القول بالمعنى الحصري للكلمة أن هذا المفهوم السياسي ذو الأبعاد المختلفة أصبح مبدأ عاما مسلما به من لدن الكافة , و ذلك انطلاقا من الأهمية الذي يكتسيها على مجموعة من المستويات , فعلى المستوى السياسي فإن الديمقراطية تعتبر مدخلا للتدبير الرشيد و الحكماتي للشأن العام الذي يضمن مشاركة كافة الفعاليات الاجتماعية في اتخاذ القرار السياسي و هو الأمر الذي يضمن فعالية القرار السياسي و جودته أما على المستوى الاجتماعي و الاقتصادي فالديمقراطية تعتبر أهم وسيلة لمأسسة الحوار الاجتماعي و تحقيق التوازن بين عناصر الإنتاج , إضافة إلى ما يفضي إليه هذا الأمر من سلم اجتماعي وبالتالي فإنها أصبحت ضرورة يقتضها الحكم و التسيير الفعال في جميع الجوانب .
لكن ما يجب ذكره في هذا الباب هو أنه في خضم التجارب الديمقراطية الحديثة اتضح للمتتبع للشأن العام الدولي و الوطني , أن هناك شكل من التنظيمات السياسية قد نجح في تجربته الديمقراطية و هناك شكل ثاني زاغ عنها بحيث اتخذها شعارا تمويهيا يختبأ ورائه في القوانين لكن على مستوى الممارسة الأمر يتوجه إراديا إلى ممارسات غير ديمقراطية و هناك شكل ثالث أراد فعلا ذلك لكنه فشل لمجموعة من الأسباب أولها وجود أعداء داخل الطبقة السياسية يعدون للديمقراطية و مبادئها الأساسية .
و هذا ما يطرح مجموعة من الإشكاليات المهمة أولها لماذا نجح البعض في تنزيل الديمقراطية و فشل البعض الأخر ؟ و هل فشل التجارب السياسية الحديثة في تنزيل الديمقراطية يحتاج فعلا لإعادة النظر في مفهوم الديمقراطية أم في الممارسة السياسية ؟ و ما هي المبادئ التي يمكن للديمقراطية الحديثة أن تتزود بها من أجل تدارك بعض الأخطاء التي شابت بعض الممارسات السياسية في بعض التجارب الدستورية كالمغرب نموذجا ؟ و ما هي المبادئ التي يمكن التمسك بها من اجل عقلنة الديمقراطية الذي أصبح حاجة ملحة ؟
إن أي تجربة إنسانية تحتاج إلى التقييم المستمر بعد مرور مدة محددة من أجل ضمان فعالية أهدافها , فالديمقراطية في التجارب الدستورية و السياسية الحديثة تعد تجربة مهمة بشكل دفع الباحث فرانسيس فوكو يامابالقول بأن الديمقراطية تشكل نقطة النهاية في التطور الإيديولوجي للإنسانية و الشكل النهائي للحكومة . لكن من الملاحظ أنها لم تسلم من بطش أعدائها و قد تجلى هذا في أن أصبحت شعارا يتم التستر ورائه من أجل ممارسة ما لا يقره العقل و لا الضميرالأخلاقي و لا القانون , بل أكثر من هذا فإن هذا الأخير عوض أن يكون وسيلة لإصلاح و تطوير المجتمع أصبح وسيلة لرعاية بعض المصالح على حساب بعض المصالح الأخرى مما يكرس عدم التوازن الاجتماعي و هو ما يخالف روح و فحوى الديمقراطية و مبادئها
فالنموذج المغربي مثلا أصبح الخيار الديمقراطي بالنسبة له مكتسبا من المكتسبات المهمة التي حققها في الأونة الأخرة , غير أن الممارسة السياسية للطبقة السياسية المغربية كشفت على مجموعة من الاختلالات طالت هذا (الاختيار) , من أبرزها أن القوانين أصبحت وظيفتها الاهتمام بطائفة دون النظر إلى مصالح الفئة الأخرى بل دون النظر لمصلحة الوطن التي تقتضي الوحدة و التضامن , فمثلا القوانين الانتخابية التي تعتبر محرك العملية الانتخابية و بالتالي مهد البناء الديمقراطي , لا تستجيب للخيار الديمقراطي الذي نهجه المغربي على اعتبار أن الاقتراعباللاحة بدون مزج هو نظام غير ديمقراطي ,فعندما يكون نظام الانتخاب ديمقراطيا , يترك القانون للناخب الحق الحر للاحة في اختيار المرشحين التي يدلي بصوته لها , بحيث يستطيع الناخب أن يختار من بين اللوائح المختلفة المتقدمة في دائرته أسماء متعددة و يصنع منها لائحة مستقلة .
و بعبارة أخرى يستطيع الناخب أن يمزج لائحته الانتخابية. فالمزج يعتبر من العناصر الأساسية لتكريس الديمقراطية بل إنه من جهة أخرى يعتبر حقا طبيعيا للناخب في اختيار ممثليهم و النتيجة الحتمية لمنع المزج هو انتقال اختيار المرشحين من المواطن إلى الأحزاب أو رؤساء اللوائح بسلطة تقديرية .
فهذا ما يعتبر في الحقيقة تزييف واقعي و قانوني للديمقراطية يستند إلى نظام انتخابي قانوني و بالتالي تكون وظيفة القانون غير ملتزمة بأهدافها الكونية , هذا بالإضافة إلى بعض المقتضيات القانونية المرتبطة بالممارسة السياسية , فعلى سبيل المثال ظاهرة الغفلة التشريعية التي أصبحت ظاهرة تدعوا إلى إيجاد حلول تبتغي الحد إلى حد ما من هذه الممارسات , فلا يعقل مثلا في ضوء الدستور المغربي الذي حدد فترة 5 سنوات لصدور القوانين التنظيمية و مرت 4 سنوات و لم يصدر أغلبها فهذا ما يعبر عن غياب في مستوى وعي الرأي العام و القائمين دستوريا بهذه القوانين بل الأكثر من هذا القانون المتعلق بالإضراب الذي لم يخرج إلى الوجود منذ العهد الدستوري .
فهذه كانت نماذج من الممارسات التي ترتكب باسم القانون و هي في غير مصلحة المجتمع و التي تدعوا و تدفع إلى إعادة النظر في وسائل تعزيز الممارسة الديمقراطية بل و عقلنتها بما يجعلها بمنأى عن تعسفات المشرع , فهذا على المستوى التشريعي أما على المستوى المؤسساتي فمما لا جدال فيه أن المغرب عرف إصلاحات جوهرية و عميقة في بنية بعض المؤسسات الدستورية لكن كل هذه الإصلاحات سيتم إفراغها من محتواها إذا لم توجه بكيفية إرادية و منهجية لخدمة المواطن , هذا إذا انطلقنا من مفهوم أن غاية الدولة هي حماية المصلحة العامة للمجتمع و بدون تمييز و الملاحظ في هذا الباب أنه و رغم تحديث البنية المؤسساتية نوعا ما فإن منطق السلطة من أجل التعسف لا زال حاضرا و بقوة في نمط التسيير الإداري للجهاز الإداري المغربي و هذا ما يجعل مفهوم الديمقراطية التشاركية و المفهوم الجديد للسلطة مجرد شعار للإدارة لا أكثر , ما يجب قوله في هذا الباب هو أن الإدارة العامة التي تنسى أو تتناسى غايتها ( المصلحة العامة للوطن ) هي إدارة ستظل دائما تتخبط في الفشل و في وهم السلطة من أجل التعسف , فمن عوامل نجاح الأمم هو وجود إدارة تعتمد على مبدأ التواصل و الفعالية بشكل ينسجم مع روح و فحوى الديمقراطية .
فتقييم مثل هذه الممارسات و غيرها يدفعنا إلى إعادة النظر في أسس مفهوم الديمقراطية هذا الأخير الذي أصبح في حاجة إلى دعائم أساسية من أجل بلوغ ما يصبو إليه .
مبدئيا الديمقراطية تقوم على مجموعة من الركائز متمثلة في توازن السلط و مشاركة الشعب في اتخاذ القرار السياسي و الاعتراف بالضمانات الدستورية المتعلقة بالحقوق الأساسية للمواطنين و التعددية السياسية في هذا المضمار يمكن القول أن هذه الشروط هي بمثابة شروط أولية و يمكن إرسائها و عقلنتها بشكل يجعلها بمنأى عن تعسفات بعض المنافقين السياسيين و ذلك باحترام و اتباع مجموعة من الدعائم التي تهدف من أجل عقلنة الديمقراطية من أبرزها :
أولا : التأطير الدستوري للقانون بجعله لا يخرج عن الأهداف المرسومة له دستوريا .و ذلك بجعل القانون يهدف إلى المصلحة العامة و ليس المصلحة الفئوية على اعتبار أن الغاية من القانون هي المصلحة العامة و عندما نتحدث عن التأطير الدستوري فالأمر يتطلب وجود دستور مكتوب يؤطر التشريع زمانيا و موضوعيا و في حالة عدم احترام القواعد الدستورية لا بد من توفير أليات تثيرها السلطة التنفيذية أو القضائية في وجه السلطة التشريعية لكي تعزز جودة و فعالية القانون .
كما تجب الإشارة إلى أن القانون في خضم صناعته يجب أن يمتثل إلى ثلاثة عناصر أساسية و هي عنصر الشرعية الشكلية بحيث أن القانون يجب أن يشرع من طرف البرلمان و ليس الحكومة و لا يجوز التشبث بأي سبب .على اعتبار أن الاختصاص الكوني للممثلين الأمة هو التشريع و ذلك باحترام الإجراءات القانونية التي يحددها الدستور , و العنصر الثاني هو الفعالية الاجتماعية أي مدى استجابة القانون للظروف الاجتماعية بأن يكون منبثق من المجتمع و يسار و يواكب وقعه لأن القانون التي تتذمر منه القاعدة الشعبية لا يعمر طويلا .
و العنصر الثاني هو العدالة التي تعتبر الوظيفة الأصلية للقانون و مصدر العدالة هو ما يكنه الضمير الأخلاقي من حب للخير العام , فعندما يكون الهدف هو خدمة الصالح العام بالقدر الذي يناسب كل فئة اجتماعية حينها يمكن الحديث عن العدالة القانونية التي تظل نسبية .
ثانيا : النص دستوريا على مبدأ الفصل بين السلطات بشكل يضمن عدم تدخل أي سلطة في اختصاصات السلطة الأخرى و النموذج الأمريكي هو التجربة الدستورية التي يمكن الاقتداء بها في هذا الباب فما يميز هذه التجربة أنها استفادت من أخطاء التجارب الأخرى و هذا ما جعل الأباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية يفسرون هذا المبدأ بشكل سليم . فالفصل يفضي إلى أن القضاء تختص به السلطة القضائية و التنفيذ السلطة التنفيذية و التشريع السلطة التشريعية و هو ما يجب أن تنسجم معه القوانين المنظمة لهذه الاختصاصات فالحكومة لا يجب أن تمارس القضاء أو التشريع استنادا إلى مبدأ التعاون فهو أمر لا يقبله منطق العدالة و لا العقل . ذلك أن من يشرع القانون لا يجب أن ينفذه بنفسه و إلا كنا أمام شطط في استعمال السلطة .
فكلما تم الاستحواذ على السلطة في جهة واحدة كلما زادت فعالية الاستبداد القانوني و سارت الحقوق و الحريات عرضة للضياع و الانتهاك , على اعتبار أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة .
ثالثا :ضرورة الأخذ بتقنية الرقابة على دستورية القوانين و هو ما يفترض بطبيعة الحال وجود دستور مكتوب و جامد مؤسس وفق شكليات توافقية و شعبية من لدن لجنة مستقلة و محايدة منتخبة من طرف الشعب في من تتوافر فيهم المؤهلات العلمية و القانونية الكافية ولابد من تغييره سلوك مسطرة خاصة تختلف عن مسطرة التشريع العادي و عليه فالمغزى من الرقابة الدستورية هو ضمان احترام الهيئات الحاكمة لمقتضيات الدستور و ما يقرره من حقوق و حريات و ذات الأمر يقتضي وجود هيئة دستورية مستقلة و ذات صبغة قضائية و مؤهلة تأهيلا قانونيا و قضائيا للبت في دستورية القوانين و مدى دستورية العلاقة بين السلط في هذا الجانب على اعتبار أن القضاء هو من له الاختصاص الكوني في النظر في كل ما هو متعلق بالحقوق و الحريات الدستورية نظرا لأن القاضي لديه الأليات الحقوقية و القانونية اللازمة من أجل بسط احترام الحقوق الدستورية .
و نقول في هذا الباب أن مسألة الرقابة الدستورية يجب و من اللازم -إذا كنا فعلا نطمح للديمقراطية بالمفهوم الذي تريده الهيئة الحاكمة- أن تكون على شكلين من حيث من له الحق في التقدم بإثارتها , أولهما إثارة دستورية قانون معين بالإحالة الحكومية أو البرلمانية بشأن المسألة لفائدة المحكمة الدستورية المختصة وفق الشكليات المسطرية المحددة دستوريا بهدف ضمان أن تكون تصرفات السلطة التشريعية في علاقتها مع السلطة التنفيذية دستورية .
و الشكل الثاني في هذا المجال إعطاء الحق للمواطن في إثارة عدم دستورية قانون معين أمام محكمة عادية و في دعوى فرعية و تحديد أجال معقولة لإحالتها على المحكمة الدستورية للبت فيها و هذا الأمر سيضمن و بشكل فعال تكريس الرقابة الشعبية الفعالة التي أثبتت نجاحها في النماذج الدستورية المقارنة و سيقلل إلى حد ما من تعسف السلطة التشريعية في صياغتها للتشريع و الامتثال للعناصر السالفة الذكر في صناعة القانون .
رابعا :تعزيز الرقابة القضائية على جميع أوجه أعمال السلطات العمومية و ذلك ضمانا لاحترام مبدأ الشرعية الدستورية و القانونية الذي يقضي بأنه على الجميع داخل تراب الدولة أن يمتثل و يتصرف و فقا لما يقتضيه التشريع - بمفهومه الواسع –فأي مجتمع بشري بحاجة إلى هذا الشكل من الرقابة التي لا تكون سليمة إلا عندما يختص بها القضاء لأنه تتوافر فيه الكفايات اللازمة لحماية الحقوق و الحريات و إقامة التوازنات الاجتماعية بين ممارسة السلطة و احترام الحقوق في إطار القانون و ما يستتبع ذات العنصر هو ضرورة وجود سلطة قضائية مستقلة و محايدة تتوافر على الصلاحيات القانونية لممارسة القضاء بكل استقلالية و كفاءة . و طبيعة النظام القضائي المطلوب في هذا الجانب هو النظام المزدوج بمعنى وجود قضاء عادي يبت في القضايا العامة التي لم يرد نص خاص بشأنها .
ووجود قضاء إداري ينظر في القضايا الإدارية التي تكون الدولة طرفا فيها و هذا الأمر من شأنه أن يضمن الاستعمال السليم للحقوق و الحريات من جهة و الاستعمال العقلاني و القانوني و الدستوري للسلطة لأن القاضي هو كائن قانوني و حقوقي بطبعه و رسالته في الحياة هي إقامة التوازن بين المفهومين السابقين كما أن الدولة التي تضع لنفسها قانون , ثم لا تحترم هذا القانون هي دولة ضعيفة البنيان و معرضة في أي وقت للفناء .
خامسا : الأخذ بتقنية العزل الشعبي و الفيتو الشعبي التي تصب في تعزيز و تقوية الرقابة الشعبية من أجل عقلنة السلوك السياسي و ضبطه و مبرر التقنية الأولى يجد سنده في مبدأ عام في القانون المتمثل في مبدأ توازي الشكليات , و مفاده أنه عند إخلال المسؤول المنتخب بالتزاماته -التعاقدية - سواء كان وزيرا أو برلمانيا أو مسؤول محلي منتخب يحق للشعب الذي انتخب هؤلاء أن يعزل مباشرة كل من يخل بواجب الامتثال للمصلحة العامة و من زاغ باستعمال السلطة هذا الأمر الذي أصبحنا نلمسه في واقعنا بشكل منتشر .
هذا بالإضافة إلى أن العزل الشعبي مسطرة أصلية يتم بناء عليها استدعاء منتخب لتقديم استقالته , بواسطة عريضة يرسلها له عدد معين من المواطنين , و في حالة رفض المنتخب تقديم استقالته يتم تنظيم انتخابات جديدة. و هي مسطرة رأت النور في بداية القرن العشرين ( ما وقع في كاليفورنيا سنة 2003) فذات التقنية تعبر فعليا عن الحقيقة الذي يقرها البعض هي أن الشعب هو الذي يملك الحكم .
أما التقنية الثانية فهي الفيتو الشعبي و مفادها توفير الحق للشعب في نهج مسطرة خاصة لإلغاء قانون غير دستوري أو مخالف و مضر بالمصلحة العامة و مثاله ما ينص عليه الفصل 75 من الدستور الإيطالي بتاريخ 27/12/1947 من إمكانية إثارة استشارة استفتائية من قبل خمسمائة ألف ناخب , أو خمسة مستشارين جهويين يكون الغرض منها الإلغاء الجزئي لقانون صوت عليه البرلمان لأن مخالفة القانون للمصلحة العامة و استجابته لمصلحة فئة معينة هو شطط في استعمال السلطة بمنطق الدستور .
سادسا : تعزيز و إصلاح و تحديث منظومة التربية و التعليم و ذلك بأن يكون المحور الأساسي في المنظومة هو إعداد الإنسان . إن الوعي بأهمية تربية المواطن تربية دينية و مدنية و وطنية لهو بالفعل أول خطوة نحو البناء الديمقراطي و عقلنة المؤسسات داخل المجتمع فالأمة التي تفتقد إلى ركائز أخلاقية و تربوية متينة و توجيه تربوي قويم ستظل مغمورة في قبر الفشل مهما بلغ اقتصادها و مواردها الطبيعية من تطور .
لان المورد الحقيقي و الجوهري هو الإنسان ثم الإنسان فإذا لم نهتم بالإنسان و لم نعطيه القيمة الكونية الذي يستحق فإننا مازلنا على مسافة بعيدة و بعيدة جدا من التنمية و التطور و إذا لم نجعل الإنسان في مقدمة المخططات السياسية و الاجتماعية و أعطينا الأولوية لعنصر أخر فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في الأولويات السياسية .و التجارب العالمية الناجحة و الرائدة أثبتت هذا القول و هذا المبدأ يعتبر عنصرا جوهريا بل و أساسي في أي مخطط و أساس الديمقراطية و الحرية و لا يمكن تحقيقه إلا بالإهتمام بالتربية المدنية و عقلنة التعليم و قد أكد روسو على العلاقة الجدلية بين المواطنة و الديمقراطية و التربية و التعليم عندما قال : ( لا يمكن للوطن أن يقوم بغير حرية , و الحرية بغير فضيلة و الفضيلة بغير مواطن و ستبلغون كل هذا إذا أعددتم المواطنين , و بدون هذا الإعداد لن تجدو إلا عبيدا أشرار ا بدءا من الحاكم , و لكن إعداد المواطن ليس عمل نهار و ليل ) إذ أن إعداد المواطن يعني بناء الإنسان المزود بنسق من الأفكار , و المشاعر و العادات التي تعبر عن ذات الجماعة و نقول في هذا الجانب أن الدولة الذي لا تهتم بالموارد البشرية فهي دولة محكوم عليها بالفناء لأن الدول المتقدمة عرفت جوانب الضعف و الخلل فيها و مواطن القوة ووجدت أن موطن القوة يكمن أسسا في الإنسان و كل ما عدا ذلك يعتبر تكميليا في نظرنا و اليابان هو النموذج الذي يمكن الاستشهاد به في هذا المجال .
و إيماننا بهذا المبدأ نابع من أن الذي سيحكم غدا هو طفل اليوم و إذا قمنا بإعداد طفل اليوم إعدادا إيجابيا يرتكز على مبادئ تربوية سليمة فغالبا سنحصل على رجل دولة و مقاول و قاضي و طبيب فعال غايته المصلحة العامة بوازع الرقابة الذاتية التي استقاها من التربية. و بالتالي حكم رشيد و فعال مهما كانت التحديات و الصعوبات .
إن مسألة الحكم و تدبير الشأن العام عرف جدالا فكريا عميقا منذ عصور خلت , إلا أنه هناك بعض المقومات الأساسية الذي اتفق عليها الفقه الدستوري و السياسي على أنها أساس الحكم الرشيد أبرزها مبدأ الشرعية كما أسلفنا الذي يختزن في طياته مجموعة من المضامين المهمة , و نقول في هذا الباب إلى أن الديمقراطية الحديثة تحتاج إلى العقلنة بالوسائل و الأليات التقنية اللازمة لذلك و ذلك من أجل ضمان الحكامة السياسية و الدستورية على مستوى الطبقة السياسية كما أن احترام القانون في مرحلة أولى معطى أساسي و مهم لأن الدولة التي تشرع لنفسها قانونا و لا تحترمه فهي دولة ضعيفة البنيان تحتاج إلى ترميم مؤسساتها . و المعطى الثاني و الأكثر أهمية في اعتقادنا هو تحديث منظومة التربية و التعليم عن طريق استعمال التقنيات التربوية الحديثة في إعداد المواطن و ذلك بهدف بناء كيان اجتماعي ذو أسس قوية و متينة بالشكل الذي يضمن فعالية السلوك السياسي و الاجتماعي عموما , لأن مسألة إدارة الشأن العام هي مسألة قيم و أفكار و تغيير هذه الأخيرة بشكل سليم من شأنه تغيير الواقع السياسي و الاجتماعي .