في أغلب الدول الديموقراطية التي تحترم إرادة شعوبها وحقوقهم وحرياتهم الأساسية ، لا تذخر جهدا في سبيل كفالة التمتع بهاته الحقوق عبر مختلف المؤسسات ، خاصة القضائية منها ،إذ وكما يقول الفيلسوف راولز : " تتحقق العدالة من خلال وجود مؤسسات عادلة " ، لذلك تسارع الدولة إلى الأجرأة الأولية لهاته الهيئات نظرا لحاجية الولوج إليها من طرف المواطنين ، وهذا الأمر ينطبق على القضاء الدستوري ، والمعتبر جهة أضيفت لمهامها حماية الحقوق والحريات ، إذ أنه إذا كان دستور 2011 قد ارتقى بالمجلس الدستوري المغربي لمصاف محكمة دستورية (الفصل 129 : تحدث محكمة دستورية ، انظر أيضا خطاب الملك محمد السادس بمناسبة تقديم الدستور الجديد ، الرباط ، 17 يونيو 2011) ومنحها اختصاصات هامة ، لكنه رهن مباشرتها لعملها بقانون تنظيمي ( الفصل 131 ) ، وهو ما أخر خروجها لميدان الممارسة إلى حدود اللحظة ، والحديث هنا عن عدم دستورية المجلس الدستوري لا يرمي عدم الدستورية بمفهومها الصرف وإنما من منظور التأويل والتنزيل الديموقراطي الذي يلزم ان تخضع له فصول الدستور الخاصة بالقضاء الدستوري وبالقوانين التنظيمية، إذ أنه على المستوى الدستوري يظل المجلس الدستوري ممارسا لمهامه إلى حدود تنصيب المحكمة الدستورية بمنطوق الفصل 177 من الدستور، والمخاطب الأساس بتنزيل هاته المضامين الدستورية بشكل ديموقراطي هي الحكومة ، غير أن واقع الحال أتبث النية الحقيقية لهذا التنزيل وما ترمي إليه الهيئة الحكومية المختصة ، ولو أردنا إلقاء نظرة بسيطة على عمل المجلس الدستوري بعد دستور 2011 لتبين لنا ، الجوانب الهامة التي مرت أمامه ، خاصة ما تعلق منها بالقوانين التنظيمية ، وهو ما يفرض ضرورة النظر في عمل هذا المجلس والأدوار التي يقوم بها بعد دستور 2011 ، كيف استغلت الحكومة وضعه في إطار تدبير/تدمير مرحلة انتقالية لتمرير ما شاءت من القوانين .
أولا : حول مسار مشروع القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية 66.13 .
ابتدأت مسيرة تنزيل المضامين الدستورية المتعلقة بالمحكمة الدستورية على شاكلة مشروع قانون تقدمت به الحكومة في إطار ما سمي بمخططها التشريعي/فيتو الذي يقصي بالمقابل كل مقترح قانون في هذا الجانب ن ويجعلها محتكرة لحق التشريع والتنزيل الأولي لمضامين الدستور وفق مقاربة ذات بعد مقارب للسلطة التنفيذية ، وأقول هنا الحكومة لأن البرلمان الذي منحه الدستور الحق الحصري بالتشريع في مجال الحقوق والحريات ، ورغم أن للمحكمة الدستورية علاقة بمنظومة الحقوق والحريات( أنظر مذكرة وزير العدل بمناسبة تقديمه لمشروع القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية 066.13 ، سواء أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب أو أمام اللجنة الخاصة بذلك بمجلس المستشارين عندما شدد على أنه من ضمن الإختصاصات الجديدة للمحكمة ، العمل على حماية الحقوق والحريات) ، إلا أن السلطة التشريعية ( سلطة المصادقة وفقط في الواقع العملي) ، لم تلتفت إلى الأهمية التي يكتسيها مشروع القانون هذا ولم تقدم قبله مقترح قانون ، بل وحتى ما أتير بخصوص محاولة تقديم مقترح قانون ورفضه بحجة ان الحكومة ملتزمة بمخطط تشريعي من ضمنه القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، فكان العذر أقبح من الزلة في هذا الإستبعاد ، وجعل من البرلمان مجرد مراقب ، وحتى عندما طرح المشروع امام لجانه لم تقدم الفرق إضافة هامة ، واكتفت بالملاحظات اللغوية(من اللغة واللغو معا) ، ويكفي الرجوع لتقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب حول" مشروع قانون تنظيمي 066.13 يتعلق بالمحكمة الدستورية " ، للإطلاع على مختلف إقتراحات الفرق البرلمانية ، وكيف استطاعت الحكومة في الأخير فرض تعديلاتها بالطريقة التي ارتضتها وكيف ركزت أغلب الفرق على الناحية اللغوية (أنظر داخل التقرير المشار إليه الجدول المتعلق بمداخلات الفرق والتعديلات المقبولة والمسحوبة ونتائج التصويت) ، قبل أن يعرض على المجلس للتصويت لتتم الموافقة عليه بتاريخ 22 يناير 2014 ، ويحال بعد ذلك على لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس المستشارين ، وجل ما أفلحت فيه هاته اللجنة هو إضافة مقترحات جديدة للمقتضى المتعلق بطلب رئيس الحكومة من المحكمة الدستورية تأويل فصلا أو مقتضى دستوري(طلب فتوى) ، لأنه سيكون أداة استقواء للحكومة على حساب البرلمان لذلك منح مجلسي البرلمان هذا الحق في شخص رئيسيهما من تلقاء نفسهما أو بطلب من إحدى الفرق البرلمانية (المادة 73 مكرر من المشروع كما قبلته لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين) ، دون أن توضح هاته المادة ما يترتب عن رفض السيد رئيس مجلس النواب أو مجلس المستشارين لطلب الإحالة هذا ، وهو ما كان يستوجب منح الفرق البرلمانية الحق في إحالة طلب تفسير مقتضى دستوري أثير بشانه خلاف مباشرة على المحكمة الدستورية دون وساطة رئيس أحد المجلسين ، ولكنها على العموم تميزة بمناقشة متطورة مقارنة بنظيرتها داخل مجلس النواب (أنظر تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بالمجلس ، خاصة ما يتعلق منها بإضافة عنصر علنية جلسات المحكمة الدستورية(المادة 17) ما لم ينص قانون تنظيمي على خلاف ذلك ، على عكس ما كان مقررا في المشروع الذي طرح أمام مجلس النواب وتم تمريره والذي كان ينص على سرية جلسات المحكمة الدستورية ما لم ينص قانون تنظيمي على خلاف ذلك ، وأيضا مراعاة تمثيلية هامة للنساء داخل الفئات الثلاث المشكلة لأعضاء المحكمة (المعينون من طرف الملك والمنتخبون داخل مجلسي البرلمان) ) .
ثانيا : حول واقع حال المجلس الدستوري ونظره في مجموعة من القوانين خاصة التنظيمية منها.
غير أن واقع الحال والمآل ، ورغم البوليميك السياسي الذي مارسه وزير العدل على لجان العدل والتشريع وحقوق الإنسان بكل من مجلس النواب ومجلس المستشارين بمذكرتيه التقديميتين المنمقتين ، يؤكد على ما تضمره الحكومة في شخص وزارة العدل من تعمد التباطؤ في إخراج القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية ، إذ انه وللغرابة هو الجهاز الوحيد الذي لازال يخضع لدستور 1996 ويشتغل في إطار دستور 2011 ، صحيح ان الدستور أكد على أن المجلس الدستوري يستمر في اداء مهامه إلى حين تنصيب المحكمة الدستورية إلا انه كان من اللازم ان تكون المحكمة الدستورية أول جهاز يتم تنزيله والإسراع بإخراج قانونها التنظيمي ، نظرا لأنها ستكون ملزمة بعد ذلك بالبث في مدى دستورية باقي القوانين التنظيمية والتي تعتبر ناصية الدستور وعبرها يتم تنزيل أهم المؤسسات الدستورية ، وأيضا نظرا للأهمية التي تحتلها هاته المحكمة والإختصاصات الموكولة لها ، إلا أنه شاءت الأقدار ووراءها أصحاب النوايا السيئة في أن يظل المجلس الدستوري القديم لينظر قي القوانين التنظيمية الخاصة بالدستور الجديد ! وما يؤكد النية السيئة للمماطلين في إخراج القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، المسارعين/ المتسرعين إلى إخراج العديد من القوانين التنظيمية لأهم المؤسسات الحيوية كما هو الأمر بالنسبة ل :
- القانون التنظيمي 27.11 المتعلق بمجلس النواب (صدر بشأنه قرار المجلس الدستوري رقم 817 ، بتاريخ 13/10/2011).
- القانون التنظيمي 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية (صدر بشأنه قرار المجلس الدستوري رقم 818 بتاريخ 20/10/2011).
- القانون التنظيمي 28.11 المتعلق بمجلس المستشارين (صدر بشأنه قرار المجلس الدستوري رقم 820 بتاريخ 18/11/2011).
- القانون التنظيمي 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية (صدر بشأنه قرار المجلس الدستوري رقم 821 بتاريخ 19/11/2011).
- القانون التنظيمي 02.12 المتعلق بالتعيين في المناصب العليا (صدر بشأنه قرارين للمجلس الدستوري : الأول رقم 854 بتاريخ 03/06/2012 ، والثاني رقم 862 بتاريخ 12/07/2012).
- القانون التنظيمي 128.12 المتعلق بالمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي (صدر بشأنه قرار المجلس الدستوري رقم 932 بتاريخ 30/01/2014).
لتنتقل بعد ذلك للقانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا والذي سارعت الحكومة بإخراجه بعد الجدل المثار حول ما يعرف ب " قانون ما للملك وما لبنكيران " ، والتي انتهت بانحناء الحكومة واكتفائها باختصاصات دون تلك الممنوحة للملك ، وبعده المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي ، ورغم أن القانون التنظيمي الخاص بتسيير وتنظيم أشغال الحكومة(الفصل 87 من الدستور) ، على الأهمية بمكان إلا أن الحكومة ماطلت في تنزيله والذي لازال مشروع قانون ..............
بعد ذلك بدا الطريق سالكا أمام الحكومة - خاصة في ظل التمويه الذي مارسته عبر مشروع القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية ، وبداية تمريره بصيغته المعيبة داخل اللجان المعنية بالغرفتين - ، لتمر إلى السلطة القضائية التي شكلت شوكة في حلق وزارة العدل والتي ظلت مدافعة عن تمتعها بكافة حقوقها الدستورية خاصة في ظل الحق الذي منحه الدستور للقضاة من أجل إنشاء جمعيات مهنية ، وهكذا حاولت الوزارة تمرير مشروعين متعلقين بالقانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون التنظيمي الخاص بالوضعية الأساسية للقضاة ........، إلا أن يقظة العديد من القضاة وبعض جمعياتهم المهنية وعلى رأسها نادي قضاة المغرب تصدت للأمر عبر الإنتقادات والمناقشات المستمرة للمشروعين مما دفع بوزارة العدل والحريات إلى التراجع عن التسريع في تمرير المشروعين ، والتوقف مرة أخرى للنظر فيما يمكن النظر فيه نتيجة المقاومة الشديدة التي وجدتها من رجال ونساء السلطة القضائية .
المحور الثالث : في انتهاك روح الدستور باستمرارية عمل المجلس الدستور .
أن يستمر المجلس الدستوري في أداء مهامه لثلاث سنوات بعد الدستور ، أمر يعتبر غير مقبول من مختلف الواجهات ، فإذا كان الدستور نص كما سبقت الإشارة في الفصل 177 على استمرارية عمل المجلس الدستوري ، إلا أن الأمر تعلق بمرحلة زمنية قصيرة جدا تسمى بفترة انتقالية ما كان يلزم ان تتجاوز سنة 2012 ، فلو أردنا مسايرة وجهة نظر الحكومة عندما اعتبرت عدة قوانين تنظيمية داخلة في إطار هاته المرحلة وأسرعت / تسرعت في تمريرها ، لماذا لم تدخل المحكمة الدستورية ضمن هذا الجانب ، وهنا قد يقول قائل على أن تنزيل المحكمة الدستورية يتطلب نقاشا مستفيضا وحوارا طويلا مع مختلف الاطراف ، وغيرها من كلمات الحق المراد به باطل ، إذ أنه يكفي الرجوع لما رافق مشروع القانون التنظيمي 066.13 من صمت رهيب على مستوى النقاش الخارجي ، والذي أقصد به النقاش الفقهي والحقوقي(اللهم إلا إذا استثنينا مذكرة محتشمة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان لم يتم الإلتفات إليها لا من الجهاز الذي انزل المشروع ولا من مناقشي المشروع على مستوى البرلمان) ، أما داخل قبة البرلمان فقد سبقت الإشارة ويمكن الرجوع للتقارير الصادرة بهذا الخصوص (مشار إليها سابقا).
واستمرارية المجلس في عمله في المستقبل القريب ستطرح إشكالات أخرى ، خاصة إذا أطالت الحكومة في عمره حتى النظر في القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون التنظيمي الخاص بالوضعية الأساسية للقضاة ، وهو الأمر الذي ترغب فيه الحكومة نتيجة التأخير الذي رافق عملية إخراج مشروع القانون التنظيمي 066.13 من داخل البرلمان ، والمسطرة التي تنتظر هذا المشروع بعد ذلك ، من إحالة على المجلس الدستوري(لينظر في مدى دستورية القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية ؟ !) ، وبذلك تكون قد استبقت عمل المحكمة الدستورية باستغلال الرمق الأخير من عمر المجلس الدستوري ، إذ ستجد المحكمة الدستورية نفسها معفاة من النظر في العديد من القوانين التنظيمية التي تعتبر ناصية الدستور ، وتعمل الحكومة في كل مرة على تمويه أي ضوء قد يسلط على مستقبل المحكمة الدستورية عبر محاولة تنزيل قوانين تنظيمية ، كما وقع بشأن القانون التنظيمي الخاص بالتعيين في المناصب العليا ، ثم إثارة الجدل بخصوص القوانين التنظيمية الخاصة بالسلطة القضائية ، وسيستمر الجدل ومعه يتم تمرير مشروع القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية بإشكالياته الكثيرة ،وبالمقابل يستمر المجلس الدستوري في تدبير المرحلة على هوى الحكومة ، وهو ما يجعلنا نطرح مجموعة من التساؤلات ، ما فائدة التنصيص الدستوري على المحكمة الدستورية إذا كان المجلس سيتكفل بممارسة الرقابة على دستورية القوانين التنظيمية والتنزيل الدستوري ؟، ما دور المعارضة في ممارسة دورها الدستوري إذا كانت الحكومة تمرر مخططها التشريعي كما تريد؟.
التدرع بكون هاته الفترة تتطلب تنزيلا سلسا وعلى مراحل للعديد من المقتضيات الدستورية يعتبر ذريعة واهية ومغرضة لمعاكسة أي تأويل ديموقراطي لمضامين الدستور ، ولعل المستقبل القريب لكفيل بالكشف عن مختلف الدواعي الواهية التي تقف وراء ما يظهر في الواجهة الحكومية المزينة بشعارات تدبير الفترة الإنتقالية لما بعد الدستور !.