تفاجأ الرأي العام القضائي الوطني والدولي بنبأ دخول المستشار محمد عنبر، رئيس غرفة بمحكمة النقض، ونائب رئيس نادي قضاة المغرب، في اعتصام مفتوح أمام محكمة النقض ، ابتداء من الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 14 يونيو 2013، احتجاجا على ما لحقه من "حيف" من طرف وزير العدل والحريات والأعضاء الدائمين للمجلس الأعلى للقضاء.
وهي أول سابقة من نوعها في تاريخ القضاء المغربي يلجأ فيها قاض مغربي لأسلوب الاعتصام للتعبير عن التضييقات التي يتعرض لها. ومن المؤسف أن تأتي هذه الواقعة في ظل دستور حديث جاء ليبشر ببداية عهد جديد يضع حدا لمختلف أشكال الانتهاكات التي تطال الحقوق والحريات. ومن المؤسف أيضا أن تتزامن واقعة الاعتصام مع استمرار فعاليات ما يسمى بالحوار الوطني حول اصلاح منظومة العدالة والذي يبدو أنه لم يحقق أبسط أهدافه في خلق جو من الثقة بين مختلف مكونات العدالة بوجود ارادة حقيقية للإصلاح والتغيير والقطع مع كل الممارسات السابقة .
أولا : المستشار محمد عنبر قضية قاض مارس حقا دستوريا
يعتبر المستشار محمد عنبر رئيس غرفة بمحكمة النقض أحد أبرز القضاة الذين لفتوا الانتباه لهم سواء داخل عمله أو من خلال مواقفه وكتاباته، حتى قبل صدور الدستور الجديد. فهو معروف بكفاءته ونزاهته وجرأته القوية في قول الحق وفي الدفاع عن مواقفه وأفكاره ولا أدل على ذلك من كونه يعد أول قاض من محكمة النقض يلجأ للكتابة باسمه الحقيقي على صفحات التواصل الاجتماعي الفيس بوك مطالبا بالإصلاح ، وهو الوحيد من محكمة النقض الذي أسهم إلى جانب عدد من القضاة في تأسيس أول جمعية مهنية مستقلة للقضاة بالمغرب في ظل الدستور الجديد وهي نادي قضاة المغرب حيث تقدم لانتخابات أجهزتها وانتخب نائبا لرئيسها، وهو أيضا المستشار الوحيد من بين مستشاري محكمة النقض الذي شارك في الوقفة التاريخية للقضاة ببذلهم أمام هذه المحكمة في السادس من أكتوبر من سنة 2012.
ومنذ دلك الحين وهو يلفت الانتباه بفضل أنشطته التي لم ترق كثيرا من الأعين المتربصة التي نظرت بارتياب لتزايد المد التحرري لتيار استقلال القضاء الذي يقوده نادي قضاة المغرب داخل محاكم المملكة بمختلف درجاتها، وهو مد أخذ طريقه أيضا وبخطى ثابتة نحو أروقة محكمة النقض التي ظلت ولوقت قريب تمثل قلعة محافظة في مواجهة التغيرات التي يعرفها الجسم القضائي.
في خضم هذا السياق العام المتطبع بنسمات الربيع العربي وتزايد المطالب بالإصلاح يأتي الرد سريعا من طرف المجلس الأعلى للقضاء حيث تتحرك بعض القوى "القضائية" المحافظة ويصدر المجلس في أول دورة يعقدها بعيد تأسيس نادي قضاة المغرب قرارا بتعيين المستشار محمد عنبر مسؤولا قضائيا بابتدائية أبي الجعد، مع العلم بأن منصبه كنائب لرئيس نادي قضاة المغرب يمنع عليه تقلد منصب مسؤول قضائي، كما أنه لم يبادر أبدا إلى طلب تقلد أي مسؤولية قضائية.
ورغم الاغراء الذي قد يخلقه منصب المسؤول القضائي لدى كثير من الأنفس التواقة لتقلد مثل هذه المناصب البراقة إلا أن هذا القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى للقضاء شكل صدمة قوية للقضاة، خاصة المنتمون منهم لجمعية نادي قضاة المغرب لا سيما بالنظر إلى الدلالات الصارخة التي يحملها والتي لا يستشف منها إلا وجود نية مبيتة لمعاقبة المستشار محمد عنبر الذي شق عصا الطاعة للإطار الجمعوي المنافس والذي سبق لقيادات بارزة منه أن حذرت من مغبة خلق جمعيات جديدة للقضاة أو الانسياق وراء بعض المحاولات المعبر عنها في هذا المجال.
فالقرار يحمل بين ثناياه عددا من الرسائل القوية أهمها أن هناك اصرار من طرف المجلس بإبعاد أي قاض من قضاة محكمة النقض يعلن صراحة انتماءه للإطار الجمعوي الجديد الذي كان وإلى حدود تلك الفترة يعامل بنوع من الارتياب الذي يصل إلى حد التشكيك في خلفيات ودواعي تأسيسه ولا أدل على ذلك من محاولات المنع التي تعرض لها جمعه العام التأسيسي. وهكذا جاء قرار المجلس الأعلى للقضاء ليفرض وبقوة القانون ولربما وفق حيثيات حتمتها أيضا قواعد قانون القوة على المستشار محمد عنبر ضرورة تقديم استقالته من أجهزة نادي قضاة المغرب والذي يمنع قانونه الأساسي الجمع بين منصب في أجهزته وإحدى مناصب المسؤولية القضائية. أو الوجود في حالة تناف صارخة بين مسؤوليته في الجمعية المهنية التي انتخب ضمن أجهزتها والمسؤولية الجديدة التي فرضت عليه في توقيت لاحق على ذلك وبدون استشارته، وبدون أدنى مبرر قانوني لإدراج ملفه أمام أنظار المجلس الأعلى للقضاء. ليبقى هذا القرار الصادر عن المجلس وكما يقول الدكتور المهدي شبو قرارا وإن غلف بالشرعية مفتقدا لأدنى معايير المشروعية خصوصا باستحضار الأعراف التي سبق وأن كرسها المجلس الأعلى للقضاء والتي تقتضي بأن قضاة محكمة النقض لا يدحرجون ولا ينقلون من هذه المحكمة إلى محكمة أقل درجة إلا في أحوال ضيقة وهي : المسؤولية بعد استشارتهم، أو تكليف بعض القضاة الذين لم يستأنسوا بتقنيات النقض بمهام التوثيق بمحكمة أقل درجة بعد استشارتهم أيضا، أو الانتقال لظروف عائلية بناء على رغبتهم، أو وقوع خطأ مهني جسيم يفرض دحرجة المعني بالأمر خارج محكمة النقض. ولعل خطأ المستشار محمد عنبر هو أنه ساهم في تأسيس جمعية مهنية جديدة للقضاة رغم كل التضييقات والملاحقات التي حاولت إجهاض هذه الفكرة في مهدها.
وتستمر مأساة المستشار محمد عنبر فبمجرد مبادرته بالطعن في المقرر الصادر بتنقيله من محكمة النقض إلى ابتدائية أبي الجعد يتفاجأ بصدور قرار جديد من المجلس يقضي بتعيينه نائبا للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالرباط. وهو ما يؤكد وجود اصرار غريب من طرف المجلس الأعلى للقضاء على تنقيله من محكمة النقض تحت أي مسمى ، مما يطرح أكثر من سؤال حول جدية التبريرات التي غلفت بها القرارات الصادرة من طرف المجلس في مواجهة المستشار محمد عنبر، فكيف يمكن القول أن المصلحة القضائية اقتضت تعيينه مسؤولا قضائيا بأبي الجعد، وبعد بضع أشهر فقط يقرر المجلس أن نفس المصلحة القضائية هي التي تقتضي تعيين نفس الشخص نائبا للوكيل العام باستئنافية الرباط، ليظهر وبوضوح أن الأمر لا يتعلق بمصلحة قضائية محضة وإنما بمصالح اقتضت تنقيل نائب رئيس نادي قضاة المغرب من محكمة النقض لمحكمة أقل درجة، وهو ما لا يمكن اعتباره إلا سلوكا ينم عن أقصى أشكال التضييق ومحاولة لاستعمال مؤسسة دستورية لضرب حرية الانتساب الجمعوي بل في هدر خطير لحرية هذا الانتماء الذي كفلته الوثيقة الدستورية والمعايير الدولية على وجه سواء. هذا التضييق الذي يبلغ أوجه بإحالته تأديبيا على المجلس الأعلى للقضاء وانتشار أنباء عن اتخاذ قرارات صادمة في حقه تراوحت حسب ما تم ترويجه في اطار الحرب النفسية التي مورست عليه ما بين العزل والإحالة على التقاعد. فما هي الرسائل التي يمكن استخلاصها من سابقة اعتصام المستشار محمد عنبر أمام محكمة النقض؟
ثانيا : قضية المستشار محمد عنبر دلالات وإشارات الاعتصام المفتوح
إن أول رسالة يمكن استخلاصها من رد فعل المستشار محمد عنبر بلجوئه لأسلوب احتجاجي غير مسبوق من خلال الاعتصام أن سلسلة المضايقات والملاحقات التي طالته وصلت لدرجة خطيرة وغير مسبوقة خاصة أمام ترويج أنباء عن مقررات صادرة عن المجلس قبل شهور واستمرار فرض حالة الحصار عليه بتجريده من مختلف مهامه كرئيس غرفة بمحكمة النقض.
ولا شك أن اختيار المستشار محمد عنبر الخروج إلى العلن والوقوف أمام محكمة النقض حاملا لافتة تلخص مطالبه يبقى سلوكا ينم عن عدة دلالات أهمها اختيار المكان وهو محكمة النقض كرمز للسلطة القضائية في ظل الدستور الجديد، هذه السلطة القضائية التي بدأت تولد وتنمو تدريجيا رغم محاولات البعض إجهاضها .
ثم دلالات اختيار الظهور العلني والذي يحمل رسالة قوية مفادها أن القضاء أصبح شأنا مجتمعيا وبالتالي بات من الضروري أن يعرف المجتمع المغربي أن قضاته لا زالوا يتعرضون لأنواع من التضييقات نظرا لوجود جيوب مقاومة وعقليات ترفض التغيير. وبالرغم من أن نصوص الدستور الجديد تنص على أن القضاة يتولون حماية حقوق وحريات المواطنين فإنه ثمة العديد من الأخطار التي لا تزال تنال من حرية القضاة أنفسهم وحقوقهم خاصة أمام مجلس تغيب عنه أبسط ضمانات المحاكمة ومن بينها الحق في الطعن في المقرر الصادر عنه أمام جهة قضائية، والحق في تجريح أحد أعضائه لسبب من الأسباب، والحق في وجود عين المجتمع ممثلة في الشخصيات غير القضائية التي اعتبرها الدستور الجديد أحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة للقضاة لا سيما وأن تاريخ المتابعات أمام المجلس الأعلى للقضاء في صورته الحالية لا يدفع كثيرا للاطمئنان.
ان دخول المستشار محمد عنبر في اعتصام مفتوح مبادرة تأتي في سياق مجموعة من المبادرات المماثلة التي عرفتها مجموعة من بلدان الجوار منها على سبيل المثال الاعتصام الشهير لقضاة مصر بنادي القضاة ، واعتصام جمعية القضاة التونسيين واعتصام قضاة اليمن .. وعدد من البلدان الأخرى للمطالبة باحترام ضمانات استقلال السلطة القضائية. وهي اعتصامات لم تنفك إلا بالاستجابة لمطالب القضاة المحتجين والجلوس إلى مائدة الحوار الجدي بعيدا عن المراوغات السياسية التي لا تهدف إلا لكسب مزيد من الوقت والهروب للأمام من سؤال الاصلاح الحقيقي.
واليوم تعيش الساحة القضائية المغربية بدورها حالة غليان حقيقي تصل إلى درجة الاحتقان سببها بالأساس اصرار السلطة التنفيذية على البقاء جاثمة على أنفاس القضاة ومحاولة استغلال مؤسسات دستورية لتحقيق أهداف تحركها نزعات فئوية ضيقة، وممارسات منحازة، وغياب دور حقيقي للمجلس الأعلى الذي يبدو عاجزا على النهوض بدوره الأساسي في تعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاة، وأبسطها ضمانة تحصينهم من النقل أو العزل إلا في اطار القانون، والبت في وضعيتهم الفردية وفق معايير المساواة والتجرد.
وهي وضعية زاد من تأزمها حالة الفراغ المؤسساتي والقانوني الناتجة بالأساس عن التأخر غير المبرر في تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة في شكل قوانين تنظيمية، الشيء الذي يخلق هوة واسعة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، وخير مثال على ذلك ما نص عليه الدستور الجديد من الزام القضاة بتبليغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن أي محاولة لتهديد استقلاليتهم، إذ أن هذه المقتضيات تبقى وإلى حدود هذه اللحظات وبالرغم من أهميتها مجرد أحكام موقوفة التنفيذ نظرا لعدم خروج هذا المجلس الجديد لحيز الوجود واستمرار المجلس السابق في عمله وفق نفس النصوص والممارسات التي لم ولن تستوعب أبدا وللأسف ما جاء به النص الدستوري الجديد من متغيرات وضمانات تكرس استقلالا حقيقيا وفعليا للقضاة وللسلطة القضائية . فيبقى الحل الوحيد والأوحد هو الاعتصام والتآزر والتضامن بين القضاة، ولا شك أن قضية المستشار محمد عنبر لن تنتهي في مجرد قرار سيصدره المجلس الأعلى للقضاء وإنما ستبقى قضية جيل كامل آمن بإمكانية حصول التغيير.
وهي أول سابقة من نوعها في تاريخ القضاء المغربي يلجأ فيها قاض مغربي لأسلوب الاعتصام للتعبير عن التضييقات التي يتعرض لها. ومن المؤسف أن تأتي هذه الواقعة في ظل دستور حديث جاء ليبشر ببداية عهد جديد يضع حدا لمختلف أشكال الانتهاكات التي تطال الحقوق والحريات. ومن المؤسف أيضا أن تتزامن واقعة الاعتصام مع استمرار فعاليات ما يسمى بالحوار الوطني حول اصلاح منظومة العدالة والذي يبدو أنه لم يحقق أبسط أهدافه في خلق جو من الثقة بين مختلف مكونات العدالة بوجود ارادة حقيقية للإصلاح والتغيير والقطع مع كل الممارسات السابقة .
أولا : المستشار محمد عنبر قضية قاض مارس حقا دستوريا
يعتبر المستشار محمد عنبر رئيس غرفة بمحكمة النقض أحد أبرز القضاة الذين لفتوا الانتباه لهم سواء داخل عمله أو من خلال مواقفه وكتاباته، حتى قبل صدور الدستور الجديد. فهو معروف بكفاءته ونزاهته وجرأته القوية في قول الحق وفي الدفاع عن مواقفه وأفكاره ولا أدل على ذلك من كونه يعد أول قاض من محكمة النقض يلجأ للكتابة باسمه الحقيقي على صفحات التواصل الاجتماعي الفيس بوك مطالبا بالإصلاح ، وهو الوحيد من محكمة النقض الذي أسهم إلى جانب عدد من القضاة في تأسيس أول جمعية مهنية مستقلة للقضاة بالمغرب في ظل الدستور الجديد وهي نادي قضاة المغرب حيث تقدم لانتخابات أجهزتها وانتخب نائبا لرئيسها، وهو أيضا المستشار الوحيد من بين مستشاري محكمة النقض الذي شارك في الوقفة التاريخية للقضاة ببذلهم أمام هذه المحكمة في السادس من أكتوبر من سنة 2012.
ومنذ دلك الحين وهو يلفت الانتباه بفضل أنشطته التي لم ترق كثيرا من الأعين المتربصة التي نظرت بارتياب لتزايد المد التحرري لتيار استقلال القضاء الذي يقوده نادي قضاة المغرب داخل محاكم المملكة بمختلف درجاتها، وهو مد أخذ طريقه أيضا وبخطى ثابتة نحو أروقة محكمة النقض التي ظلت ولوقت قريب تمثل قلعة محافظة في مواجهة التغيرات التي يعرفها الجسم القضائي.
في خضم هذا السياق العام المتطبع بنسمات الربيع العربي وتزايد المطالب بالإصلاح يأتي الرد سريعا من طرف المجلس الأعلى للقضاء حيث تتحرك بعض القوى "القضائية" المحافظة ويصدر المجلس في أول دورة يعقدها بعيد تأسيس نادي قضاة المغرب قرارا بتعيين المستشار محمد عنبر مسؤولا قضائيا بابتدائية أبي الجعد، مع العلم بأن منصبه كنائب لرئيس نادي قضاة المغرب يمنع عليه تقلد منصب مسؤول قضائي، كما أنه لم يبادر أبدا إلى طلب تقلد أي مسؤولية قضائية.
ورغم الاغراء الذي قد يخلقه منصب المسؤول القضائي لدى كثير من الأنفس التواقة لتقلد مثل هذه المناصب البراقة إلا أن هذا القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى للقضاء شكل صدمة قوية للقضاة، خاصة المنتمون منهم لجمعية نادي قضاة المغرب لا سيما بالنظر إلى الدلالات الصارخة التي يحملها والتي لا يستشف منها إلا وجود نية مبيتة لمعاقبة المستشار محمد عنبر الذي شق عصا الطاعة للإطار الجمعوي المنافس والذي سبق لقيادات بارزة منه أن حذرت من مغبة خلق جمعيات جديدة للقضاة أو الانسياق وراء بعض المحاولات المعبر عنها في هذا المجال.
فالقرار يحمل بين ثناياه عددا من الرسائل القوية أهمها أن هناك اصرار من طرف المجلس بإبعاد أي قاض من قضاة محكمة النقض يعلن صراحة انتماءه للإطار الجمعوي الجديد الذي كان وإلى حدود تلك الفترة يعامل بنوع من الارتياب الذي يصل إلى حد التشكيك في خلفيات ودواعي تأسيسه ولا أدل على ذلك من محاولات المنع التي تعرض لها جمعه العام التأسيسي. وهكذا جاء قرار المجلس الأعلى للقضاء ليفرض وبقوة القانون ولربما وفق حيثيات حتمتها أيضا قواعد قانون القوة على المستشار محمد عنبر ضرورة تقديم استقالته من أجهزة نادي قضاة المغرب والذي يمنع قانونه الأساسي الجمع بين منصب في أجهزته وإحدى مناصب المسؤولية القضائية. أو الوجود في حالة تناف صارخة بين مسؤوليته في الجمعية المهنية التي انتخب ضمن أجهزتها والمسؤولية الجديدة التي فرضت عليه في توقيت لاحق على ذلك وبدون استشارته، وبدون أدنى مبرر قانوني لإدراج ملفه أمام أنظار المجلس الأعلى للقضاء. ليبقى هذا القرار الصادر عن المجلس وكما يقول الدكتور المهدي شبو قرارا وإن غلف بالشرعية مفتقدا لأدنى معايير المشروعية خصوصا باستحضار الأعراف التي سبق وأن كرسها المجلس الأعلى للقضاء والتي تقتضي بأن قضاة محكمة النقض لا يدحرجون ولا ينقلون من هذه المحكمة إلى محكمة أقل درجة إلا في أحوال ضيقة وهي : المسؤولية بعد استشارتهم، أو تكليف بعض القضاة الذين لم يستأنسوا بتقنيات النقض بمهام التوثيق بمحكمة أقل درجة بعد استشارتهم أيضا، أو الانتقال لظروف عائلية بناء على رغبتهم، أو وقوع خطأ مهني جسيم يفرض دحرجة المعني بالأمر خارج محكمة النقض. ولعل خطأ المستشار محمد عنبر هو أنه ساهم في تأسيس جمعية مهنية جديدة للقضاة رغم كل التضييقات والملاحقات التي حاولت إجهاض هذه الفكرة في مهدها.
وتستمر مأساة المستشار محمد عنبر فبمجرد مبادرته بالطعن في المقرر الصادر بتنقيله من محكمة النقض إلى ابتدائية أبي الجعد يتفاجأ بصدور قرار جديد من المجلس يقضي بتعيينه نائبا للوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالرباط. وهو ما يؤكد وجود اصرار غريب من طرف المجلس الأعلى للقضاء على تنقيله من محكمة النقض تحت أي مسمى ، مما يطرح أكثر من سؤال حول جدية التبريرات التي غلفت بها القرارات الصادرة من طرف المجلس في مواجهة المستشار محمد عنبر، فكيف يمكن القول أن المصلحة القضائية اقتضت تعيينه مسؤولا قضائيا بأبي الجعد، وبعد بضع أشهر فقط يقرر المجلس أن نفس المصلحة القضائية هي التي تقتضي تعيين نفس الشخص نائبا للوكيل العام باستئنافية الرباط، ليظهر وبوضوح أن الأمر لا يتعلق بمصلحة قضائية محضة وإنما بمصالح اقتضت تنقيل نائب رئيس نادي قضاة المغرب من محكمة النقض لمحكمة أقل درجة، وهو ما لا يمكن اعتباره إلا سلوكا ينم عن أقصى أشكال التضييق ومحاولة لاستعمال مؤسسة دستورية لضرب حرية الانتساب الجمعوي بل في هدر خطير لحرية هذا الانتماء الذي كفلته الوثيقة الدستورية والمعايير الدولية على وجه سواء. هذا التضييق الذي يبلغ أوجه بإحالته تأديبيا على المجلس الأعلى للقضاء وانتشار أنباء عن اتخاذ قرارات صادمة في حقه تراوحت حسب ما تم ترويجه في اطار الحرب النفسية التي مورست عليه ما بين العزل والإحالة على التقاعد. فما هي الرسائل التي يمكن استخلاصها من سابقة اعتصام المستشار محمد عنبر أمام محكمة النقض؟
ثانيا : قضية المستشار محمد عنبر دلالات وإشارات الاعتصام المفتوح
إن أول رسالة يمكن استخلاصها من رد فعل المستشار محمد عنبر بلجوئه لأسلوب احتجاجي غير مسبوق من خلال الاعتصام أن سلسلة المضايقات والملاحقات التي طالته وصلت لدرجة خطيرة وغير مسبوقة خاصة أمام ترويج أنباء عن مقررات صادرة عن المجلس قبل شهور واستمرار فرض حالة الحصار عليه بتجريده من مختلف مهامه كرئيس غرفة بمحكمة النقض.
ولا شك أن اختيار المستشار محمد عنبر الخروج إلى العلن والوقوف أمام محكمة النقض حاملا لافتة تلخص مطالبه يبقى سلوكا ينم عن عدة دلالات أهمها اختيار المكان وهو محكمة النقض كرمز للسلطة القضائية في ظل الدستور الجديد، هذه السلطة القضائية التي بدأت تولد وتنمو تدريجيا رغم محاولات البعض إجهاضها .
ثم دلالات اختيار الظهور العلني والذي يحمل رسالة قوية مفادها أن القضاء أصبح شأنا مجتمعيا وبالتالي بات من الضروري أن يعرف المجتمع المغربي أن قضاته لا زالوا يتعرضون لأنواع من التضييقات نظرا لوجود جيوب مقاومة وعقليات ترفض التغيير. وبالرغم من أن نصوص الدستور الجديد تنص على أن القضاة يتولون حماية حقوق وحريات المواطنين فإنه ثمة العديد من الأخطار التي لا تزال تنال من حرية القضاة أنفسهم وحقوقهم خاصة أمام مجلس تغيب عنه أبسط ضمانات المحاكمة ومن بينها الحق في الطعن في المقرر الصادر عنه أمام جهة قضائية، والحق في تجريح أحد أعضائه لسبب من الأسباب، والحق في وجود عين المجتمع ممثلة في الشخصيات غير القضائية التي اعتبرها الدستور الجديد أحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة للقضاة لا سيما وأن تاريخ المتابعات أمام المجلس الأعلى للقضاء في صورته الحالية لا يدفع كثيرا للاطمئنان.
ان دخول المستشار محمد عنبر في اعتصام مفتوح مبادرة تأتي في سياق مجموعة من المبادرات المماثلة التي عرفتها مجموعة من بلدان الجوار منها على سبيل المثال الاعتصام الشهير لقضاة مصر بنادي القضاة ، واعتصام جمعية القضاة التونسيين واعتصام قضاة اليمن .. وعدد من البلدان الأخرى للمطالبة باحترام ضمانات استقلال السلطة القضائية. وهي اعتصامات لم تنفك إلا بالاستجابة لمطالب القضاة المحتجين والجلوس إلى مائدة الحوار الجدي بعيدا عن المراوغات السياسية التي لا تهدف إلا لكسب مزيد من الوقت والهروب للأمام من سؤال الاصلاح الحقيقي.
واليوم تعيش الساحة القضائية المغربية بدورها حالة غليان حقيقي تصل إلى درجة الاحتقان سببها بالأساس اصرار السلطة التنفيذية على البقاء جاثمة على أنفاس القضاة ومحاولة استغلال مؤسسات دستورية لتحقيق أهداف تحركها نزعات فئوية ضيقة، وممارسات منحازة، وغياب دور حقيقي للمجلس الأعلى الذي يبدو عاجزا على النهوض بدوره الأساسي في تعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاة، وأبسطها ضمانة تحصينهم من النقل أو العزل إلا في اطار القانون، والبت في وضعيتهم الفردية وفق معايير المساواة والتجرد.
وهي وضعية زاد من تأزمها حالة الفراغ المؤسساتي والقانوني الناتجة بالأساس عن التأخر غير المبرر في تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة في شكل قوانين تنظيمية، الشيء الذي يخلق هوة واسعة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، وخير مثال على ذلك ما نص عليه الدستور الجديد من الزام القضاة بتبليغ المجلس الأعلى للسلطة القضائية عن أي محاولة لتهديد استقلاليتهم، إذ أن هذه المقتضيات تبقى وإلى حدود هذه اللحظات وبالرغم من أهميتها مجرد أحكام موقوفة التنفيذ نظرا لعدم خروج هذا المجلس الجديد لحيز الوجود واستمرار المجلس السابق في عمله وفق نفس النصوص والممارسات التي لم ولن تستوعب أبدا وللأسف ما جاء به النص الدستوري الجديد من متغيرات وضمانات تكرس استقلالا حقيقيا وفعليا للقضاة وللسلطة القضائية . فيبقى الحل الوحيد والأوحد هو الاعتصام والتآزر والتضامن بين القضاة، ولا شك أن قضية المستشار محمد عنبر لن تنتهي في مجرد قرار سيصدره المجلس الأعلى للقضاء وإنما ستبقى قضية جيل كامل آمن بإمكانية حصول التغيير.