على غرار الدساتير الحديثة، تضمن نص الدستور المغربي الجديد الصادر بالظهير المؤرخ في 29 يوليوز 2011 تصديرا يعتبر بمثابة مقدمة للدستور ضمنه المشرع الدستوري بعض المبادئ والقيم والتوجهات والاهداف الاساسية التي تعد في تقديره بمثابة الدعائم والمرتكزات الاساسية التي تحكم وتضبط الخط السياسي العام للدولة سواء على مستوى سياستها الداخلية أو الخارجية.
وقد نشأ خلاف بين فقهاء القانون الدستوري بشأن مقدمات الدساتيرللإجابة على إشكاليتين:
-الأولى وتدور حول المكانة الاعتبارية لمقدمات الدساتير، هل تعتبر مصدرا من مصادر المشروعية ولها قوة إلزامية مثلها مثل باقي بنود الدستور ام أنها تظل مجرد مبادئ وتوجهات تفتقد للطابع الالزامي.
- أما الثانية فتدور حول القيمة القانونية لهذه المقدمات فيما إذا اعترف لها بالقوة الالزامية.
ففيما يخص الاشكالية الاولى،برزت ثلاثة آراء:
القاعدة الاولى- اختيار لا رجوع فيه في البناء الديمقراطي للدولة:
ويرتكز هذا الاختيار الديمقراطي على عدة مقومات أجملها المشرع الدستوري فيما يلي:
القاعدة الثانية- إسلامية الدولة:
وهذا ما تم التأكيد عليه في الفصل 3 من الدستور مع الإشارة إلى أن الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، وقد تم الاحتفاظ بهذا المقتضى كما كان منصوصا عليه في الدستور السابق.
القاعدة الثالثة- السيادة الكاملة مع التشبث بالوحدة الوطنية والترابية:
وهذا التشبث يحيل ضمنيا إلى أمرين:
الامر الاول هو التأكيد على سيادة المغرب على أراضي الاقاليم الجنوبية المسترجعة وذلك في ظل وجود حركة انفصالية مدعومة من الجزائر تنازعه هذه السيادة منذ أكثر من 35 سنة؛
الامر الثاني هو التفكير ضمنيا في المدينتين السليبتين سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المحتلتين من طرف إسبانيا، وفي هذا الصدد أعتقد بأنه كان يتعين استغلال هذه المقدمةمن طرف لجنة وضع الدستور للتعبير عن العزم الوطيد والرغبة الاكيدة للدولة في استكمال وحدتها الترابية وسيادتها على كامل أراضيها المغتصبة، وهو حق مشروع تضمنه جميع المواثيق الدولية سيما وأن الثغرين المحتلين يوجدان في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط،وكان من المفروض تكريس هذا الحق دستوريا حتى تتذكره الأجيال المتعاقبة.
القاعدة الرابعة- صيانة تلاحم وتنوع مقومات الهوية الوطنية:
حاول المشرع الدستوري جاهدا ان يبرز كل مقومات ومكونات الهوية المغربية ويجعلها من الثوابت الدستورية التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو ينفيها أو يقصيها ويتعلق الأمر بالمكونات العربية- الإسلامية، والامازيغية، والصحراوية الحسانية، كما لم ينس الاشارة إلى أن الهوية الوطنية غنية بروافدها الافريقية والاندلسية والعبرية والمتوسطية.
القاعدة الخامسة-تبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة في الهوية الوطنية:
وهذا تحصيل حاصل لما سبق أن أكد عليه الدستور في التصدير من كون المملكة المغربية دولة إسلامية،وسيتأكد في الفصل الثالث من الدستور من كون الاسلام دين الدولة، وأيضا لما سيرد في الفصل 41 الذي احتفظ للملك بالسلطة الدينية بصفته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، ورئيس المجلس العلمي الأعلى الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى الرسمية، وبذلك يكون المشرع الدستوري قد حسم في الهوية الدينية للدولة وقطع مع كل التوجهات التي كانت ترمي إلى اعتماد "الدولة المدنية أو العلمانية"؛
القاعدة السادسة- تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الانسانية جمعاء:
وهذا يحيل بطبيعة الحال إلى رفض كل أشكال التطرف والتعصب سواء كان دينيا أو عرقيا أو لغويا أو ثقافيا؛
القاعدة السابعة- التعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات:
وهي نفس القاعدةالتي كان يتضمنها تصدير دستور 7 أكتوبر 1996 ؛
القاعدة الثامنة-التشبث بحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا:
وهي نفس القاعدة التي كان يتضمنها تصدير دستور 7 أكتوبر 1996؛
القاعدة التاسعة-العزم على مواصلة المحافظة على السلم والأمن في العالم:
وهي نفس القاعدة التي كان يتضمنها دستور 7 أكتوبر 1996 ؛
القاعدة العاشرة-التأكيد على أن المملكة المغربية دولة موحدة:
وهذا يؤكد على أن المغرب دولة موحدة وبسيطة يدار في إطار اللامركزية الإدارية التي تعد الجهوية المتقدمةأرقى مظاهرها،وتؤكد هذا التوجه مقتضيات الفقرة الاخيرة من الفصل الاول من الدسنور بالقول: "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة"، وعليه فالمغرب لا يمكن أن يتحول إلى نظام فدرالي أو اتحادي في إطاراللامركزية السياسية إلا بعد تعديل الدستور، وينبغي الاشارة في هذا الصدد أنه في حالة قبول جبهة البوليساريو لمبادرة المغرب بمنح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية من أجل وضع حد للنزاع حول هذه الاقاليم بصفة نهائية تحت إشراف هيئة الامم المتحدة، فإن ذلك سيتطلب حتما تعديلا دستورياعلى اعتبار أن نظام الحكم الذاتي يمس بأساس وشكل الدولة المقرر دستوريا.
القاعدة الحادية عشر-تأكيد الانتماء إلى المغرب الكبير والالتزام بالعمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي:
بالمقارنة مع الدساتير السابقة، نسجل هنا ملاحظة أساسية وهي حذف وصف "العربي" من تسمية المنطقة التي ينتمي إليها المغرب( المغرب الكبير بدل المغرب العربي الكبير)، كما يلاحظ تغيير في إسم اتحاد المنطقة الذي سيعمل المغرب على بنائه ليصبح وفق الدستور الجديد "الاتحاد المغاربي" بدل "اتحاد المغرب العربي" وهي التسمية الرسمية المتفق عليها بموجب معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي الموقعة في 17 فبراير 1989 بمراكش.
مما لاشك فيه أن هذه التغييرات التي جاء بها الدستور الجديد سوف تثير إشكالات وتساؤلات مشروعة نذكر منها:
القاعدة الثانية عشر- تعميق أواصر الانتماء إلى الامة العربية والاسلامية، وتوطيد وشائج الاخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة:
إذا كان المشرع الدستوري المغربي قد جرد المنطقة المغاربية من الوصف العربي، فإنه بالمقابل حرص على دسترة تأكيد انتماء المغرب إلى الامة العربية والاسلامية،والعمل على توطيد وشائج الاخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة، غير أنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى الإطار المؤسساتيالذي يتم من خلاله تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والاسلاميةونقصد جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي.
القاعدة الثالثة عشر- تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الافريقية، ولا سيما مع بلدان الساحل والصحراء:
ونلاحظ هنا أن المشرع الدستوري تراجع عن هدف تحقيق الوحدة الافريقية الذي كان مكرسا بمقتضى دستور 17 اكتوبر 1996، ويمكن تفسير هذا التراجع بزوال منظمة الوحدة الافريقية حيث حل محلها الاتحاد الافريقي،وعليه اقتصر على دسترة تقوية علاقات التعاون والتضامن مع شعوب ودول إفريقيا، غير أنه لم يشر إلى الاطار المؤسساتي الذي يتم من خلاله تحقيق ذلك ونقصد الاتحاد الإفريقي،ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن المغرب كان قد انسحب من منظمة الوحدة الافريقية منذ مؤتمر نيروبي بكينيا عام 1981 بعد قبولها عضوية جبهة البوليساريو، ولا يزال هذا الانسحاب ساريا حتى بعد إنشاء الاتحاد الافريقي.
القاعدة الرابعة عشر-تعزيز روابط التعاون والتقارب والشراكة مع بلدان الجوار الاورو-متوسطي:
ويتجلى ذلك من خلال عدة مؤشرات نذكر منها:
ويمكن أن نشير هنا إلى حرص المغرب على تنويع علاقاته في جميع الميادين وتقويتها مع كل من الولايات المتحدة الامريكية واليابان والصين ودول امريكا اللاتينية وروسيا والهند وتركيا، وفي هذا الصدد نشير على سبيل المثال إلى اتفاقية التبادل الحر المبرمة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛
القاعدة السادسة عشر- تقوية التعاون جنوب-جنوب:
وهذا ما يفسر توجه المغرب نحو الشراكة والتعاون التجاري والاقتصادي مع عدة بلدان إفريقية عبر تنمية استثماراته فيها؛
القاعدة السابعة عشرة- حماية منظومتي حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني والنهوض بهما والاسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء:
من خلال هذه القاعدة يلتزم المشرع الدستوري:
ولهذه الغاية تم إحداث مؤسسة دستورية تدعى الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز (الفصل 164)
القاعدة التاسعة عشرة- جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية،والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة؛
وتثير صياغة هذه القاعدةحقيقة عدة ملاحظات:
لقد حاول المشرع الدستوري التوفيق بين مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية، وبين مبدأ ضرورة الأخذ بعين الاعتبار القوانين الداخلية للدولة، غير أنه لم يكن في اعتقادي موفقا في هذاالمسعى بحيث أدت تلك الصياغة إلى توسيع دائرة القوانين الداخلية لتشمل الدستور والقوانين والهوية الوطنية الراسخة، الامر الذي يعطي الانطباع بأن الاتفاقيات الدولية التي تسمو على التشريعات الوطنية هي تلك التي تتوافق مع أحكام الدستوروقوانين المملكة والهوية الوطنية الراسخة، وهذا من شأنه أن يقلص من دائرة الاتفاقيات الدولية التي تسمو على التشريعات الوطنية أو على الأقل سيؤدي إلى إبداء التحفظات على بعض بنودها التي لا تتوافق مع قوانين المملكة والهوية الوطنية الراسخة.
سوكان في الامكان الاقتصار على الدستور فقط باعتباره أسمى قانون داخلي يفترض فيه أنه حدد عناصر الهوية الوطنية الراسخة كما أنه يتضمن المبادئ والاحكام والقواعد العليا التي يجب على السلطتين التشريعية والتنفيذية احترامها والامتثال لها عند سن القوانين والانظمة، وضامن ذلك هو الملك الذي يكلفه الفصل 42 من الدستور بالسهر على حماية الدستور إلى جانب القضاء الدستوري والاداري، وعليه، إذا حصل أي تعارض بين أحد الالتزامات الدولية وبين أحد قوانين المملكة أو الهوية الوطنية الراسخة، فذلك يستتبع بالضرورة تعارضه مع أحكام الدستور،
ومما يزيد في غموض هذه الصياغة أن المشرع الدستوري بين فقط الاثر القانوني المترتب عن التصريح بمخالفة أحد الالتزامات الدولية للدستور، إذ نص بأنالمصادقة على هذا الالتزام لا تقع إلا بعد مراجعة الدستور(الفقرة الرابعة من الفصل 55 من الدستور)؛
ولم يتطرقللأثر القانوني المترتبعن مخالفة أحد الالتزامات الدولية لأحد التشريعات الوطنية أو للهوية الوطنية الراسخة،هذا علاوة على ما يطرحه إقحام مفهوم الهوية الوطنية الراسخة في هذا السياق من إشكالات دستورية وقانونية يصعب تجاوزها لعل أبرزهاتعذر ملامسة أوجه التعارض بينأحد الالتزامات الدولية والهوية الوطنية الراسخة، لأن هذه الاخيرة لا تشكل بنية قانونية ضمن هرمية البناء القانوني للدولة على غرار الدستور والقانون بل تعتبر مجرد فكرة نظرية وفلسفيةلا يمكن ملامسة عناصرها إلا بالرجوع إلى محدداتالدستور وقوانين المملكة،وهذا يدل دلالة واضحة بأنهاأدرجت في سياق الكلام دون لزوم، فكان ضررها أكثر من نفعها.
وفي نهاية هذه القراءة الاولية لمقدمة الدستور المغربي لا بد من تسجيل بعض الملاحظات الجوهرية والشكلية التالية:
*على مستوى الجوهر، نسجل غياب التزام دستوري صريح بمحاربة كل أشكال الفساد والريع الاقتصاديوحماية المال العام والعمل على المضي في تخليق الشأن العام علما أن محاربة الفساد والاستبداد كانت على رأس مطالب حركة 20 فبراير؛
*على مستوى الشكل، نسجل غياب التنسيق في صياغة بعض مقتضيات التصدير، ويشهد على ذلك ما يلي:
- تكرار غير مطلوب لعبارة "ذات السيادة الكاملة" بالفقرة الرابعة من التصدير إذ سبق أن وردت بالفقرة الثانية منه؛
-لم يكن إدراج عبارة "الدولة الموحدة ذات السيادة الكاملة المنتمية إلى المغرب الكبير" ملائما ومنسجما مع السياق العام لمقتضيات الفقرة الرابعة من التصدير،إذ تم إقحامها في سياق الحديث عن التزامات المملكة المغربية،وكان من المناسبإدراجتلك العبارة- والتي تبين شكل الدولة وسيادتها وانتماءها- في الفقرة الثانية كمايلي: "المملكة المغربية دولة إسلامية موحدة ذات سيادة كاملة تنتمي إلى المغرب الكبير....."الامر الذي كان سيمكن في النهاية من تفادي التكرار المومأ إليه أعلاه؛
انتهى وما توفيقي إلا من الله
وقد نشأ خلاف بين فقهاء القانون الدستوري بشأن مقدمات الدساتيرللإجابة على إشكاليتين:
-الأولى وتدور حول المكانة الاعتبارية لمقدمات الدساتير، هل تعتبر مصدرا من مصادر المشروعية ولها قوة إلزامية مثلها مثل باقي بنود الدستور ام أنها تظل مجرد مبادئ وتوجهات تفتقد للطابع الالزامي.
- أما الثانية فتدور حول القيمة القانونية لهذه المقدمات فيما إذا اعترف لها بالقوة الالزامية.
ففيما يخص الاشكالية الاولى،برزت ثلاثة آراء:
- رأي أول يذهب في اتجاه تجريد مقدمة الدستور من أي قيمة قانونية وبالتالي من أي قوة إلزامية، ويعتبرها مجرد مبادئ وتوجهات وأهداف ذات قيمة سياسية او فلسفية او أخلاقية وبالتالي فهي وفق هذا الرأي، تتمتع بقيمة أدبية فقط وذلك حتى في مواجهة المشرع العادي( البرلمان )إذ بإمكان هذا الاخير أن يضع تشريعات وقوانين مخالفة لما تضمنته مقدمة الدستور من أحكام.
- في حين يعتبر رأي ثان بأن مقدمة الدستور تتمتع بقيمة قانونية وقوة إلزامية تماثلقيمة البنود الدستورية الواردة في صلب الدستور.
- أما الرأي الثالث فيميز ومن خلال تفحصه لمضامين المقدمة بين نوعين من المقتضيات:
- مقتضيات تشتمل على قواعد عامة ومجردة شبيهة بالقواعد القانونية من حيث العمومية والتجريد، وهذا النوع فقط يتمتع بقيمة قانونية إلزامية.
- ومقتضيات هي عبارة عن توجهات وأهداف تعبر عن تصورات الضمير الجمعي لمجتمع معين لما يجب أن تكون عليه سياستها في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي وأيضا لما يجب أن تكون عليه علاقاتها الخارجية، وهذه المقتضيات تتمتع بقيمة أدبية فقط.
- رأي يعترف لمقدمة الدساتير بقيمة قانونية أعلى وأسمى من البنود الدستورية لكونها غالبا ما تتضمن قواعد ومبادئ عليا تعبر عن الضمير الجمعي للمجتمع؛
- بينما يعتبر رأي آخر أن مقدمات الدساتير تتمتعبنفس القيمة القانونية المخولة لباقي بنود الدستور من حيثالدرجة والمرتبة؛
- إن جميع المقتضيات الواردة في مقدمة الدستور تتمتع بقوة إلزامية و بنفس القيمة الدستورية المخولة لباقي فصول الدستور، وبالتالي فهما- أي التصدير إلى جانببنود الدستور المتكونة من 180 فصل - يحتلان على قدم المساواة مكان الصدارة في سلم الهرم القانوني في الدولة.
- إن المحكمة الدستورية، وفي إطار الاختصاصات المسندة إليها بموجب الدستور في ميدان الرقابة الدستورية على القوانين والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، ملزمة بأن تمارس هذه الرقابة مع الأخذ في الاعتبار المقتضيات الواردة في مقدمة الدستور.
القاعدة الاولى- اختيار لا رجوع فيه في البناء الديمقراطي للدولة:
ويرتكز هذا الاختيار الديمقراطي على عدة مقومات أجملها المشرع الدستوري فيما يلي:
- سيادة الحق والقانون؛
- تقوية مؤسسات دولة حديثة قوامها: المشاركة، التعددية، الحكامة الجيدة، مجتمع متضامن؛
- ضمان تمتع جميع أفراد المجتمع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم في إطار التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة؛
القاعدة الثانية- إسلامية الدولة:
وهذا ما تم التأكيد عليه في الفصل 3 من الدستور مع الإشارة إلى أن الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، وقد تم الاحتفاظ بهذا المقتضى كما كان منصوصا عليه في الدستور السابق.
القاعدة الثالثة- السيادة الكاملة مع التشبث بالوحدة الوطنية والترابية:
وهذا التشبث يحيل ضمنيا إلى أمرين:
الامر الاول هو التأكيد على سيادة المغرب على أراضي الاقاليم الجنوبية المسترجعة وذلك في ظل وجود حركة انفصالية مدعومة من الجزائر تنازعه هذه السيادة منذ أكثر من 35 سنة؛
الامر الثاني هو التفكير ضمنيا في المدينتين السليبتين سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المحتلتين من طرف إسبانيا، وفي هذا الصدد أعتقد بأنه كان يتعين استغلال هذه المقدمةمن طرف لجنة وضع الدستور للتعبير عن العزم الوطيد والرغبة الاكيدة للدولة في استكمال وحدتها الترابية وسيادتها على كامل أراضيها المغتصبة، وهو حق مشروع تضمنه جميع المواثيق الدولية سيما وأن الثغرين المحتلين يوجدان في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط،وكان من المفروض تكريس هذا الحق دستوريا حتى تتذكره الأجيال المتعاقبة.
القاعدة الرابعة- صيانة تلاحم وتنوع مقومات الهوية الوطنية:
حاول المشرع الدستوري جاهدا ان يبرز كل مقومات ومكونات الهوية المغربية ويجعلها من الثوابت الدستورية التي لا يمكن لأحد أن يتجاهلها أو ينفيها أو يقصيها ويتعلق الأمر بالمكونات العربية- الإسلامية، والامازيغية، والصحراوية الحسانية، كما لم ينس الاشارة إلى أن الهوية الوطنية غنية بروافدها الافريقية والاندلسية والعبرية والمتوسطية.
القاعدة الخامسة-تبوئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة في الهوية الوطنية:
وهذا تحصيل حاصل لما سبق أن أكد عليه الدستور في التصدير من كون المملكة المغربية دولة إسلامية،وسيتأكد في الفصل الثالث من الدستور من كون الاسلام دين الدولة، وأيضا لما سيرد في الفصل 41 الذي احتفظ للملك بالسلطة الدينية بصفته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، ورئيس المجلس العلمي الأعلى الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى الرسمية، وبذلك يكون المشرع الدستوري قد حسم في الهوية الدينية للدولة وقطع مع كل التوجهات التي كانت ترمي إلى اعتماد "الدولة المدنية أو العلمانية"؛
القاعدة السادسة- تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الانسانية جمعاء:
وهذا يحيل بطبيعة الحال إلى رفض كل أشكال التطرف والتعصب سواء كان دينيا أو عرقيا أو لغويا أو ثقافيا؛
القاعدة السابعة- التعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات:
وهي نفس القاعدةالتي كان يتضمنها تصدير دستور 7 أكتوبر 1996 ؛
القاعدة الثامنة-التشبث بحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا:
وهي نفس القاعدة التي كان يتضمنها تصدير دستور 7 أكتوبر 1996؛
القاعدة التاسعة-العزم على مواصلة المحافظة على السلم والأمن في العالم:
وهي نفس القاعدة التي كان يتضمنها دستور 7 أكتوبر 1996 ؛
القاعدة العاشرة-التأكيد على أن المملكة المغربية دولة موحدة:
وهذا يؤكد على أن المغرب دولة موحدة وبسيطة يدار في إطار اللامركزية الإدارية التي تعد الجهوية المتقدمةأرقى مظاهرها،وتؤكد هذا التوجه مقتضيات الفقرة الاخيرة من الفصل الاول من الدسنور بالقول: "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة"، وعليه فالمغرب لا يمكن أن يتحول إلى نظام فدرالي أو اتحادي في إطاراللامركزية السياسية إلا بعد تعديل الدستور، وينبغي الاشارة في هذا الصدد أنه في حالة قبول جبهة البوليساريو لمبادرة المغرب بمنح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية من أجل وضع حد للنزاع حول هذه الاقاليم بصفة نهائية تحت إشراف هيئة الامم المتحدة، فإن ذلك سيتطلب حتما تعديلا دستورياعلى اعتبار أن نظام الحكم الذاتي يمس بأساس وشكل الدولة المقرر دستوريا.
القاعدة الحادية عشر-تأكيد الانتماء إلى المغرب الكبير والالتزام بالعمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي:
بالمقارنة مع الدساتير السابقة، نسجل هنا ملاحظة أساسية وهي حذف وصف "العربي" من تسمية المنطقة التي ينتمي إليها المغرب( المغرب الكبير بدل المغرب العربي الكبير)، كما يلاحظ تغيير في إسم اتحاد المنطقة الذي سيعمل المغرب على بنائه ليصبح وفق الدستور الجديد "الاتحاد المغاربي" بدل "اتحاد المغرب العربي" وهي التسمية الرسمية المتفق عليها بموجب معاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي الموقعة في 17 فبراير 1989 بمراكش.
مما لاشك فيه أن هذه التغييرات التي جاء بها الدستور الجديد سوف تثير إشكالات وتساؤلات مشروعة نذكر منها:
- هل يملك المغرب مبادرة تغيير تسمية منطقة جغرافية تضم عدة دول تربطه معها معاهدة إقليمية؟ علما أن أي تعديل قد يطال بندا من بنود المعاهدة المذكورة يجب أن يخضع لمقتضيات المادة 18 من المعاهدة والتي تنص بأن أي تعديل يتم بناء على اقتراح من إحدى الدول الاعضاء،ويصبح نافذ المفعول بعد المصادقة عليه من طرف كافة الدول الأعضاء!؛
- هل يؤشر هذا التعديل على بداية تغيير مهم في القيم والمفاهيم بمنطقة شمال إفريقيا بفعل ضغوط ومطالب الحركات الامازيغية المتشددة التي تحاول جاهدة فصل المنطقة عن امتدادها العربي ؟
- ثم ألا يضع هذا الموقف الدستوري المغرب والمنطقة عموما في تناقض مع نفسها بحكم الانتماء الفعلي لدول المنطقة إلى جامعة الدول العربية وبحكم تأكيد المغرب في مقدمة الدستور تعميق أواصر الانتماء إلى الامة العربية؟
القاعدة الثانية عشر- تعميق أواصر الانتماء إلى الامة العربية والاسلامية، وتوطيد وشائج الاخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة:
إذا كان المشرع الدستوري المغربي قد جرد المنطقة المغاربية من الوصف العربي، فإنه بالمقابل حرص على دسترة تأكيد انتماء المغرب إلى الامة العربية والاسلامية،والعمل على توطيد وشائج الاخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة، غير أنه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى الإطار المؤسساتيالذي يتم من خلاله تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والاسلاميةونقصد جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي.
القاعدة الثالثة عشر- تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الافريقية، ولا سيما مع بلدان الساحل والصحراء:
ونلاحظ هنا أن المشرع الدستوري تراجع عن هدف تحقيق الوحدة الافريقية الذي كان مكرسا بمقتضى دستور 17 اكتوبر 1996، ويمكن تفسير هذا التراجع بزوال منظمة الوحدة الافريقية حيث حل محلها الاتحاد الافريقي،وعليه اقتصر على دسترة تقوية علاقات التعاون والتضامن مع شعوب ودول إفريقيا، غير أنه لم يشر إلى الاطار المؤسساتي الذي يتم من خلاله تحقيق ذلك ونقصد الاتحاد الإفريقي،ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن المغرب كان قد انسحب من منظمة الوحدة الافريقية منذ مؤتمر نيروبي بكينيا عام 1981 بعد قبولها عضوية جبهة البوليساريو، ولا يزال هذا الانسحاب ساريا حتى بعد إنشاء الاتحاد الافريقي.
القاعدة الرابعة عشر-تعزيز روابط التعاون والتقارب والشراكة مع بلدان الجوار الاورو-متوسطي:
ويتجلى ذلك من خلال عدة مؤشرات نذكر منها:
- إبرام اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي منح المغرب بموجبهاوضعية متقدمة ؛
- إبرام عدة اتفاقيات تجارية واقتصادية وقضائية واجتماعية مع بلدان الجوار الاورو-متوسطي؛
- عضوية المغرب في الاتحاد من أجل المتوسط؛
ويمكن أن نشير هنا إلى حرص المغرب على تنويع علاقاته في جميع الميادين وتقويتها مع كل من الولايات المتحدة الامريكية واليابان والصين ودول امريكا اللاتينية وروسيا والهند وتركيا، وفي هذا الصدد نشير على سبيل المثال إلى اتفاقية التبادل الحر المبرمة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛
القاعدة السادسة عشر- تقوية التعاون جنوب-جنوب:
وهذا ما يفسر توجه المغرب نحو الشراكة والتعاون التجاري والاقتصادي مع عدة بلدان إفريقية عبر تنمية استثماراته فيها؛
القاعدة السابعة عشرة- حماية منظومتي حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني والنهوض بهما والاسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزيء:
من خلال هذه القاعدة يلتزم المشرع الدستوري:
- بحماية منظومة حقوق الانسان مع مراعاة طابعها الكوني وعدم قابليتها للتجزيء، والنهوض بها والإسهام في تطويرها وذلك تأكيدا لما سبق الالتزام به في القاعدة الثامنة،وسيتأكد ذلك من خلال دسترة بعض المؤسسات الساهرة على حماية حقوق الإنسان ونقصد المجلس الوطني لحقوق الانسان(الفصل 161) ومؤسسة الوسيط(الفصل 162) ومجلس الجالية المغربية بالخارج( الفصل 163)؛
- حماية منظومة القانون الدولي الانساني والنهوض بها والاسهام في تطويرها، وفي هذا الصدد تجب الاشارة أنه سبق إحداث اللجنة الوطنية للقانون الدولي الانساني بموجب المرسوم 9 يوليوز 2008 ؛
ولهذه الغاية تم إحداث مؤسسة دستورية تدعى الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز (الفصل 164)
القاعدة التاسعة عشرة- جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية،والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة؛
وتثير صياغة هذه القاعدةحقيقة عدة ملاحظات:
لقد حاول المشرع الدستوري التوفيق بين مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية المصادق عليها على التشريعات الوطنية، وبين مبدأ ضرورة الأخذ بعين الاعتبار القوانين الداخلية للدولة، غير أنه لم يكن في اعتقادي موفقا في هذاالمسعى بحيث أدت تلك الصياغة إلى توسيع دائرة القوانين الداخلية لتشمل الدستور والقوانين والهوية الوطنية الراسخة، الامر الذي يعطي الانطباع بأن الاتفاقيات الدولية التي تسمو على التشريعات الوطنية هي تلك التي تتوافق مع أحكام الدستوروقوانين المملكة والهوية الوطنية الراسخة، وهذا من شأنه أن يقلص من دائرة الاتفاقيات الدولية التي تسمو على التشريعات الوطنية أو على الأقل سيؤدي إلى إبداء التحفظات على بعض بنودها التي لا تتوافق مع قوانين المملكة والهوية الوطنية الراسخة.
سوكان في الامكان الاقتصار على الدستور فقط باعتباره أسمى قانون داخلي يفترض فيه أنه حدد عناصر الهوية الوطنية الراسخة كما أنه يتضمن المبادئ والاحكام والقواعد العليا التي يجب على السلطتين التشريعية والتنفيذية احترامها والامتثال لها عند سن القوانين والانظمة، وضامن ذلك هو الملك الذي يكلفه الفصل 42 من الدستور بالسهر على حماية الدستور إلى جانب القضاء الدستوري والاداري، وعليه، إذا حصل أي تعارض بين أحد الالتزامات الدولية وبين أحد قوانين المملكة أو الهوية الوطنية الراسخة، فذلك يستتبع بالضرورة تعارضه مع أحكام الدستور،
ومما يزيد في غموض هذه الصياغة أن المشرع الدستوري بين فقط الاثر القانوني المترتب عن التصريح بمخالفة أحد الالتزامات الدولية للدستور، إذ نص بأنالمصادقة على هذا الالتزام لا تقع إلا بعد مراجعة الدستور(الفقرة الرابعة من الفصل 55 من الدستور)؛
ولم يتطرقللأثر القانوني المترتبعن مخالفة أحد الالتزامات الدولية لأحد التشريعات الوطنية أو للهوية الوطنية الراسخة،هذا علاوة على ما يطرحه إقحام مفهوم الهوية الوطنية الراسخة في هذا السياق من إشكالات دستورية وقانونية يصعب تجاوزها لعل أبرزهاتعذر ملامسة أوجه التعارض بينأحد الالتزامات الدولية والهوية الوطنية الراسخة، لأن هذه الاخيرة لا تشكل بنية قانونية ضمن هرمية البناء القانوني للدولة على غرار الدستور والقانون بل تعتبر مجرد فكرة نظرية وفلسفيةلا يمكن ملامسة عناصرها إلا بالرجوع إلى محدداتالدستور وقوانين المملكة،وهذا يدل دلالة واضحة بأنهاأدرجت في سياق الكلام دون لزوم، فكان ضررها أكثر من نفعها.
وفي نهاية هذه القراءة الاولية لمقدمة الدستور المغربي لا بد من تسجيل بعض الملاحظات الجوهرية والشكلية التالية:
*على مستوى الجوهر، نسجل غياب التزام دستوري صريح بمحاربة كل أشكال الفساد والريع الاقتصاديوحماية المال العام والعمل على المضي في تخليق الشأن العام علما أن محاربة الفساد والاستبداد كانت على رأس مطالب حركة 20 فبراير؛
*على مستوى الشكل، نسجل غياب التنسيق في صياغة بعض مقتضيات التصدير، ويشهد على ذلك ما يلي:
- تكرار غير مطلوب لعبارة "ذات السيادة الكاملة" بالفقرة الرابعة من التصدير إذ سبق أن وردت بالفقرة الثانية منه؛
-لم يكن إدراج عبارة "الدولة الموحدة ذات السيادة الكاملة المنتمية إلى المغرب الكبير" ملائما ومنسجما مع السياق العام لمقتضيات الفقرة الرابعة من التصدير،إذ تم إقحامها في سياق الحديث عن التزامات المملكة المغربية،وكان من المناسبإدراجتلك العبارة- والتي تبين شكل الدولة وسيادتها وانتماءها- في الفقرة الثانية كمايلي: "المملكة المغربية دولة إسلامية موحدة ذات سيادة كاملة تنتمي إلى المغرب الكبير....."الامر الذي كان سيمكن في النهاية من تفادي التكرار المومأ إليه أعلاه؛
انتهى وما توفيقي إلا من الله
تاريخ التوصل: 15 يونيو 2012
تاريخ النشر: 19 يونيو 2012
تاريخ النشر: 19 يونيو 2012