مقدمة
تحتل قضية التعمير محور اهتمام مشرعي كل دول العالم، إذ أنها تمس بالحضارة والبناء الذي وصفه ابن خلدون في كتابه المقدمة بأنه " أول صنائع العمران الحضري وأقدمها "، فمجال السكنى والتعمير يطرح عدة مشاكل على أرض الواقع بحكم ارتباطهما المباشر بالحاجيات اليومية والأساسية للسكان،وبالتحولات التي يعرفها المجتمع، وبالنظر إلى أهمية هذا المجال الحيوي ودوره في توفير السكينة والراحة للمواطن.
فالدولة تتدخل لوضع أسس عمرانية وقانونية ألزمت مراعاة قواعدها، وذلك بسبب النمو الديمغرافي الكبير الذي شهده المغرب وتنامي ظاهرة الهجرة القروية نحو المدن، واكبه انتشار التجزئات العشوائية والبناء الغير القانوني، مما خلف واقعا عمرانيا مشوها أفرز مشاكل لا حصر لها على عدة مستويات وأخل بشروط ومتطلبات التنمية العمرانية المتوازنة.
ولمواجهة هذا الوضع كان لا مناص من إصدار قانون للحد من الأفعال المخلة بقانون التعمير والبناء، فقواعد التعمير لا يمكن أن تكون فعالة إلا إذا تمت حمايتها برقابة فعالة وتدابير زجرية لتفادي كل المخالفات قبل وقوعها، فإعداد وتنظيم قطاع التعمير بكامله يتم باحترام رخصة البناء والتجزئ الشيء الذي يساهم بشكل كبير في عملية تنمية وتنظيم المدينة.
ومن المعلوم أن نظام الرقابة والزجر في مجال التعمير والبناء، يعد من أصعب العمليات بسبب ديناميكية الظاهرة، والإمكانيات الضخمة التي تحتاجها أجهزة المراقبة وهيئاتها المكلفة بذلك،بفعل المشاكل المتعددة التي تهدد الطابع العمراني للمدينة يوما بعد يوم، مما يتطلب معه وجود أجهزة رقابية قوية واضحة المعالم من حيث الصلاحيات والمهام المكلفة بها على جميع المستويات، كما أن هناك حاجة في نفس الوقت إلى تفعيل المراقبة والزجر لأن المسطرة القائمة حاليا غير فعالة بحكم أنها تنبني على توزيع جد معقد للأدوار مابين الجماعات المحلية وما بين الإدارة المكلفة بالتعمير وما بين القضاء والسلطة المحلية بشكل لا يسعف الإدارة للتدخل بشكل ناجع من أجل وضع حد للمخالفات، مما يطرح ملحاحية مراجعة هذه المسطرة ككل، إذ كثيرا ما تعوق هذه الأجهزة صعوبات وعراقيل جمة تشل نشاطهم، مما يجعل من الضرورة إيجاد الصيغ القانونية المناسبة لتجعل من هاته الأجهزة متحررة وفعالة.
وقد وضعت مؤخرا وزارة التعمير وإعداد التراب الوطني لدى مجلس النواب بتاريخ الأربعاء 27 نونبر 2013، ورهن إشارة العموم مسودة مشروع قانون رقم 12.66 يتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء، يتكون من ثلاث أبواب و عشر مواد، تتوزع بين تتميم وتغييرالنصوص المنظمة لقطاع التعمير بالمغرب، ونسخ وتعويض المقتضيات المتعلقة بالمخالفات والزجر.
ويهدف المشروع حسب مذكرة التقديم، إلى تمكين المغرب من نص قانوني يتجاوز من خلاله القصور التي يعرفها نظام الرقابة والزجر المعمول به حاليا، عبر تعزيز الحكامة في هذا المجال، بتجميع مختلف المقتضيات الزجرية المتناثرة بين القوانين العامة والنصوص الثلاث المنظمة لقطاع التعمير بالمغرب :
القانون رقم 12.90 المتعلق بالتعمير ، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.92.31 بتاريخ 15 ذي الحجة 1412 ( 17 يونيو 1992).
القانون 25.90 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.92.7 بتاريخ15 ذي الحجة 1412 ( 17 يونيو 1992).
الظهير الشريف رقم 1.60.063 الصادر في 30 من ذي الحجة 1379 (25 يونيو 1960) بشأن توسيع نطاق العمارات القروية .
فما هي إذن أهم المستجدات التي جاء بها مشروع القانون الجديد؟. وهل نستطيع القول أننا أمام إطار قانوني وتنظيمي سيضمن نموا منسجما وعقلانيا للنسق العمراني المغربي؟...
هذا وقد سمحت القراءة الأولية لمسودة المشروع الوقوف على عدة ملاحظات، همت بالأساس إضافة العديد من المستجدات على القوانين المعمول بها في مجال التعمير والبناء، وملاحظات اخرى شكلية وموضوعية وجب على المشرع إعادة النظر فيها قبل اعتماده والمصادقة عليه.
أولا: مستجدات مشروع قانون مراقبة وزجر المخالفات.
يمكن إجمال المستجدات التي جاءت بها مسودة مشروع قانون رقم 12.66 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في ميدان التعمير والبناء وفق النقاط التالية :
توحيد وتبسيط مساطر مراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء. *
*التنصيص على تكليف مراقبين للتعميرسواء التابعين للوالي أو العامل أو للإدارة تمنح لهم صفة ضباط الشرطة القضائية بمزوالة مهامهم تحت إشراف النيابة العامة.
*التأكيد على ممارسة مراقبي التعميرلمهامهم تلقائيا أو بناء على طلب السلطة الإدارية المحلية أو رئيس المجلس الجماعي أو مدير الوكالة الحضرية بعد إبلاغهم من طرف الأعوان التابعين لهم بها، أو بناء على طلب كل شخص تقدم بشكاية.
*توسيع صلاحيات المراقبين وتمكينهم من الوسائل القانونية والمادية للقيام بمهام اليقظة والرصد، والقيام بكل التدابير لإنهاء المخالفات في مهدها عن طريق المساطر الإدارية " الإنذار والأوامر بالإيقاف الفوري للأشغال " وحجز المعدات المستعملة في البناء موضوع المخالفة وتعيين المخالف حارسا عليها ووضع الأختام، أو عبر المسطرة القضائية بتخويلهم مهمة تحريك الدعوى العمومية.
*التنصيص على تحرير محاضر معاينة المخالفات طبقا للشروط المنصوص والمحددة في قانون المسطرة الجنائية.
*ربط المسوؤلية بالمحاسبة في مايخص تحديد صلاحيات مختلف المتدخلين من منتخبين وسلطة محلية ومهنيين.
*توسيع نطاق التجريم ليشمل جميع المتدخلين والمهنيين عندما تصدر عنهم أوامر أو توجيهات تنتج عنها المخالفة أو تسهل في ارتكابها، أو عدم تبليغها للجهات المعنية داخل أجل 48 ساعة من علمهم بها، وكذا بائعي مواد البناء بدون رخصة .
*الرفع من مهنية القطاع بتعزيز صلاحيات مختلف أصناف المهنيين في المراقبة التقنية وكذا مراقبة معايير الجودة، بغرض حماية أرواح المواطنيين وممتلكاتهم.
*اعتماد دفتر للورش وتعزيز عملية تتبع الأوراش المرخصة بإلزام رئيس المجلس الجماعي بتوجيه نسخ من الرخص والأذون والشواهد الممنوحة إلى السلطة الإدارية المحلية.
*تنظيم تدابير افتتاح وإغلاق الأوراش وغرض إلزامية فتح ومسك دفتر للورش بتضمين جميع المعلومات والبيانات التي من شأنها تمكين المهنيين على الخصوص من ضمان وتتبع ومراقبة هذه الأوراش.
*تعزيز المشروع للجانب الردعي للعقوبات من خلال إقرار عقوبات سالبة للحرية تتجلى في الحالات التالية:
1- إحداث تجزئات عقارية أو مجموعات سكنية في منطقة غير مسموح بها بموجب الأنظمة والقوانين الجاري بها العمل,
2- في حالة البيع أو الإيجار أو قسمة أو غرض ذلك للبيع أو الإيجار لبقع من تجزئة أو مسكن من مجموعة سكنية إذا كانت التجزئة أو المجموعة السكنية لم يرخص في إحداثهما أو لم تكونا محل تسلم مؤقت للأشغال، وهو مايعرف بالتجزئ السري,
3- في حالة العود من جديد,
* الرفع من قيمة الغرامات المعمول بها في القوانين الجاري بها العمل.
*اعتماد عقوبة الهدم كعقوبة ردعية وسيطة بين العقوبات المالية والعقوبات السالبة للحرية.
*تقنين عملية هدم البناء القانوني بإحداث لجنة إدارية مكلفة بالهدم وتنظيم مسطرة خاصة بذلك.
ثانيا : الملاحظات الشكلية والموضوعية على مشروع القانون.
إن أول مايثير الإنتباه في قراءة مسودة مشروع قانون مراقبة وزجر المخالفات هو سقوط المشرع مرة أخرى كحال العديد من النصوص القانونية، في فخ التعقيدات المتمثلة في التعديلات المدخلة على القوانين المنظمة لقطاع التعمير السالفة الذكر، بإضافة مواد وفقرات أخرى مكررة ( مواد افتتاح الورش )، مما يجعل القارئ مضطرا إلى الرجوع إلى قوانين التعمير المعمول بها، حتى يتسنى له فهم النص، كما أن كثرة التعديلات تجعل المقتضيات غير واضحة، فمن العيوب المتعلقة بصياغة التشريع كثرة التعديلات والإضافات والإحالات مع تكرار المواد، مما يجعل المشروع معيبا من هذا الوجه، وهو مايستوجب إعادة النظر فيه قبل اعتماده والمصادقة عليه، فصناعة التشريع في بلادنا تعرف أزمة كبيرة نظرا للجوء المشرع غالبا إلى الترجمة الحرفية مع وجود أخطاء لغوية فادحة لايقبل مثلها في النص التشريعي.
وعلى الرغم من أن مشرع قوانين التعمير المغربي، أعد ترسانة قانونية مهمة قائمة على ضبط وتنظيم المجال الحضري والقروي، وذلك بتخصيص حزمة من الجزاءات على مخالفة أحكام هذه القوانين، والتي تقوم على تنفيذها كل من السلطتين الإدارية والقضائية.
فإن المتمعن في أحكام الزجر على مستوى النظام المعمول به، يكشف أن المشرع المغربي لم يعمد إلى وضع تصنيف دقيق ومعين للجرائم التي تمس المجال العمراني، بل ثم تحديدها على سبيل الحصر بشكل اعتباطي، وهو مالم يتجاوزه المشرع في مشروع القانون الجديد الذي لم يراجع هذا المقتضى بتصنيف وتحديد مختلف جرائم التعمير بشكل أكثر تفصيلا على غرار ما هو معمول به في التشريعات المقارنة.
إضافة إلى عدم الإرتقاء بمخالفة التعمير إلى درجة الجنح أو الجنايات في أحيان اخرى، مع تحديد دقيق للجرائم التي تشكل إخلالا خطيرا بضوابط البناء والتعمير، وعدم استعمال المشرع لعبارة " جريمة " عوض " مخالفة " حتى لايفهم أن الأمر يتعلق بمخالفة بسيطة.
أما على مستوى الجهاز أو الأجهزة المكلفة بالمراقبة، ورغم تحديد المسوؤليات وتوسيع الصلاحيات للمراقبين، إلا أنه لايشفع للمشرع المغربي الاستفادة من التجارب الفتية"شرطة التعمير بوجدة" التي أغنت حقل الرقابة في ميدان التعمير، فشرطة التعمير يمكن اعتبارها جهاز منظم وخاص يتكفل بعملية المراقبة والزجر على المستوى المحلي، تعمل بصفة مستمرة ومباشرة مع الجهاز القضائي، في أفق تعميم التجربة على ربوع المملكة. وذلك على غرار " هيئة التفتيش الفني على أعمال البناء " المعمول بها في التشريع المصري.
ثالثا : مقترحات وحلول
وجب على المشرع المغربي عند دراسته لهذا المشروع الأخد بعين الإعتبار النقاط التالية :
*توسيع دائرة التجريم، حتى تشمل بعض المخالفات التي لم يتعرض لها قانون 12.90 وقانون 25.90.
*تصنيف كل المخالفات المتعلقة بالتعمير والتجزئات بكل وضوح وتدقيق.
*تحديد الجرائم التي تشكل إخلالا خطيرا بضوابط البناء والتعمير.
*حذف الإحالات التي تتضمنها مسودة مشروع القانون.
*استعمال لفظ أو عبارة "جريمة" عوض "مخالفة" في بعض الحالات التي تهدد أمن وسلامة المواطن .
*التنصيص صراحة على مسوؤلية رئيس المجلس الجماعي في حالة ثبوت أي تقاعس أو تواطؤ من جانبه.
*الإقرار بنظام شرطة التعمير كجهاز وحيد متخصص من أجل النهوض بأعباء تطبيق قانون التعمير.
*تكريس مبدأ الصرامة والفعالية في نظام زجر المخالفات.
*إمكانية اعتماد نسب مائوية معقولة من الغرامات وتحويلها لميزانية الجماعات المحلية والوكالات الحضرية إن اقتضى الحال.
*تعميم بطاقات المراقبة المؤهلة لإنجاز محاضر الزجر والمعاينات.
*تنظيم دورات تكوينية لفائدة التقنيين والمكلفين بمعاينة أوراش التجزئات والبناء، لتعميق معارفهم القانونية" تحرير المحاضر" والتقنية في مجال عملهم.
*اعتماد الاستعجالية في تطبيق وتنفيذ الأحكام.
*ضرورة تكوين قضاء متخصص في مجال التعمير والبناء في أفق خلق محاكم مختصة.
خاتمة :
إن مشرع قوانين التعمير المغربي، أعد ترسانة قانونية مهمة قائمة على ضبط وتنظيم المجال الحضري والقروي، وذلك بتخصيص حزمة من الجزاءات على مخالفة أحكام هذه القوانين، والتي تقوم على تنفيذها كل من السلطتين الإدارية والقضائية.
وعلية يأتي مشروع قانون مراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء، كاستجابة لاهتمام ذي بعدين، يتمثل الأول في بلورة إطار تدخل قوانين التعمير في مواجهة الخروقات والإختلالات التي يعرفها هذا الميدان ، وذلك ببيان مختلف أنواع المخالفات كل في المجال الخاص به، ومساطر ضبطها، وتحديد مجال تدخل الأجهزة الإدارية لما لها من اليات في فرض احترام قانون التعمير، وضمان تطبيقه تطبيقا سليما على أرض الواقع.والثاني من خلال الدور المتنامي للجهاز القضائي كسلطة فاعلة في ميدان التعمير،وركيزة أساسية لحماية المجال من العشوائية.
ولعل التطبيق الأمثل لهذا المشروع يتعلق أساسا بإيجاد وعي مشترك ومتكامل بين كل الفرقاء المتدخلين في العملية التعميرية، وتجاوز الأمر إلى إيجاد سياسة متكاملة تستهدف الحفاظ على النظام التعميري، ومن أجل ذلك وجب على كل الفاعلين في عملية المراقبة والزجر توفير النجاح للمشروع في أفق المصادقة عليه، فلا يمكن إخراج أي قانون تعميري إلى الواقع العملي بغير وجوب تدعيم جدي لمقتضياته والعمل على جعلها أكثر إلزامية.