مرة أخرى يختار صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه إلى الأمة، بمناسبة الذكرى 63 لثورة الملك والشعب، لغة الوضوح ووضع اليد على مكامن الخلل بشكل مباشر، والاستمرار في نهج القراءة الجديدة والمتجددة التي حرص عليها في خطاباته الأخيرة، قوامها أن العالم يمر بمرحلة يعرف فيها النظام العالمي نوعا من الكمون نتيجة الاستنزاف الذي تعرفه قواه العسكرية والاقتصادية والمالية.
إن المتتبع لخطابات صاحب الجلالة في الآونة الأخيرة يظهر له جليا أنها أصبحت تركز بالدرجة الأولى على المحيط الإقليمي للمغرب في بعده المغاربي والمتوسطي والإفريقي والعربي، وهو ما تجلى في خطاب جلالته بمجلس التعاون الخليجي، وكرسه خطاب ثورة الملك والشعب لهذه السنة من خلال تخصيص جزء مهم منه للتذكير بتضحيات المغاربة ومحاربتهم جنبا إلى جنب مع الشعب الجزائري لمحاربة الاستعمار، وكذا التزام المغرب تجاه القارة الإفريقية، سواء من خلال الشراكة مع دولها أو من خلال استقبال مواطنيها على أرضه من دون أي تمييز أو تفضيل، ناهيك عن الالتفات إلى إفريقيا والاشتغال على استنهاض وعيها بإمكاناتها ودورها وضرورة الانتفاض ضد الوضع الذي حبسها فيه الاستعمار.
هذا التوجه الجديد، والثوري على المستوى الإقليمي، الذي شمل العلاقات البينية للمغرب وموقعه في محيطه الجيوستراتيجي، تبرزه الرسائل التي يبعثها صاحب الجلالة إلى الجارة الجزائر، بهدف النهوض باتحاد المغرب العربي لما فيه مصلحة الشعوب، ويزكيه قرار المغرب العودة إلى منظمة الوحدة الإفريقية، مما ينبئ بتغيير نوعي في التعامل مع الشركاء الأفارقة وفي طبيعة التعامل مع ملف الوحدة الوطنية. وقد صاحب هذا الزخم على الصعيد الإقليمي الحرص على تقوية الجبهة الداخلية، والدعوة الى تجاوز الخلافات الداخلية والرقي بالخطاب السياسي لتستجيب النخب السياسية إلى انشغالات المواطنين.
"كلنا مستهدفون"
على صعيد آخر، وبالنظر إلى مكانة الدين في المجتمعات الحديثة، والتحولات التي عرفها الخطاب الديني الإسلامي، بسبب بروز تفسيرات متشددة شوهت صورة الدين الإسلامي الحنيف، خصوصا في الغرب، وجعلت منه شماعة يعلق عليها الإرهابيون جرائمهم ويفسرون بها أعمالهم الفردية التي لا يمكن أن يتقبلها العقل وتتبرأ منها العقيدة، اختار صاحب الجلالة استراتيجية الهجوم والاشتباك مع خطاب التطرّف على أرض الإسلام وإفحامه بالدليل والحجة من داخل المنظومة الإسلامية بما لا يدع مجالا للتشكيك أو تحميل الدين ما هو بريء منه، وقد أعطت هذه الاستراتيجية ثمارها وأصبح بذلك النموذج المغربي المبني على الوسطية والاعتدال نموذجا يحتذى، وهو ما جعل دولا أوروبية وإفريقية تسعى إلى الاستفادة منه، سواء من خلال إرسال أئمتها للتكون في المغرب أو من خلال استقبال بعثات المرشدين الدينيين والمؤطرين المغاربة على ترابها.
ولعل حديث صاحب الجلالة في خطاب 20 غشت بصفته أميرا للمؤمنين، وصاحب شرعية دينية في إبداء رأي فقهي في القضايا الكبرى التي تعيشها الأمة، إعلان مواجهة مباشرة وصريحة لفكر التطرف والغلو والإرهاب، مثل ما سبق وأصدر فتوى بتكفير جميع مرتكبي الأعمال الإرهابية. وقد شدد أمير المؤمنين على أن الجهاد مشروط أولا بتوفر ضرورة الدفاع، وثانيا بجهة الاختصاص الداعية إليه؛ أي إمارة المؤمنين وليس أي فرد أو جماعة، لذلك فقتل الأبرياء جريمة وقتل راهب حماقة لا تغتفر لأنه إنسان قبل كل شيء، وهو ما يدحض أطروحة المتطرفين الذين يستعملون كل الوسائل لنشر ثقافة التطرف والتكفير والإرهاب، فيما يدعو الإسلام إلى الحياة والعيش المشترك واحترام الآخر.
إن خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب لهو بمثابة دعوة المؤسسات الإسلامية في العالم إلى الالتفاف حول مؤسسة إمارة المؤمنين، لأنها تمثل الدرع الواقي والقادر على مواجهة الأخطار التي تواجه الأمة. بالإضافة إلى ذلك، فقد وفر الخطاب سندا شرعيا كان العالم يفتقده لمحاربة الإرهاب بإخراجه من الدين وسحب الصبغة الشرعية عليه، لأن أي دعوة إلى الجهاد تصدر خارج المؤسسة الشرعية باطلة ومرفوضة. وكذا دق ناقوس الخطر والتحسيس بما يترصد الجميع جراء التطرف والغلو باستعمال عبارة ذات مدلول كبير "كلنا مستهدفون". من هنا جاءت دعوة صاحب الجلالة مغاربة العالم من أجل التشبث بالدين الإسلامي الوسطي والحفاظ على السمعة الطيبة للمغرب وللمسلمين والدفاع عن السلم والعيش المشترك داخل مجتمعات الإقامة، ولهم في نموذج التعايش بين الحضارات في الأندلس واحدة من النقاط المنيرة في التاريخ الإسلامي.
المغرب في قلب إفريقيا
لقد ذكّر جلالة الملك بكفاح الشعوب المغاربية والإفريقية لانتزاع الاستقلال ومواجهة الاستعمار الذي كانت سياسته باعثة على عرقلة أسباب التنمية وزرع أسباب الفتن التي مازالت تداعياتها حاضرة، وكان سببا وراء مشاكل عميقة تنوعت بين التخلف والصراعات والإرهاب والتطرف. ولم يكن من الممكن تحقيق النصر والاستقلال من دون سلاح التضامن بين الشعوب والتنسيق بين حركات المقاومة تماما كما كان الشأن بالنسبة لاستقلال الجزائر والدعم الكبير ماديا ومعنويا من طرف المقاومة المغاربة لإكمال كفاح جبهة التحرير الجزائرية.
وما عودة المغرب إلى البيت الإفريقي سوى إكمال لالتزامه تجاه بلدان القارة والتزامه بامتداده الطبيعي في العمق الإفريقي، وبمشاعر صادقة، وروابط إنسانية مع شعوب إفريقيا. وكما عبر عن ذلك صاحب الجلالة، فإفريقيا بالنسبة للمغرب ليست سوقا أو مجالا للربح السريع، بل فضاءات للعيش المشترك، "فبالإضافة إلى الاهتمام بصناعة الأدوية والبنية التحتية، فقد تم التشجيع على حماية البيئة من خلال ترميم خليج ابيدجان مثلا". وما احتضان المغرب لآلاف المواطنين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وفق مقاربة إنسانية تحترم حقوقهم، وتسوية وضعيتهم القانونية، وتوفير ظروف العيش الكريم لهم، وتعامل المغاربة معهم على أنهم ضيوف بالرغم من بعض الصعوبات البسيطة وغير المرتبطة بالعنصرية والتمييز، لهو تأكيد على التزام المغرب الدائم مع مواطني إفريقيا وحرصه على التضامن من أجل الإنسان أولا وقبل كل شيء.
وقد مكن هذا التدبير الإنساني لملف الهجرة من جعل المغرب يترأس، إلى جانب ألمانيا، المنتدى العالمي للهجرة والتنمية خلال السنتين المقبلتين، وهو اعتراف دولي بمكانة المغرب وأهمية مبادراته الإنسانية، في وقت يعرف فيه تدبير ملف الهجرة من بعض دول الحوض المتوسط بعض الإجراءات المنحرفة، والمخالفة لسهولة اندماج المهاجرين، وفرض شروط تعجيزية لتسوية أوضاعهم القانونية. وذلك راجع لتداخل عوامل عدة، على رأسها الأحداث الإرهابية التي تجعل ملف الهجرة يرتبط خطأ بالإرهاب الذي يجعلنا كلنا مستهدفين، ويشوه صورة الإسلام، ويضيق الخناق على المسلمين في الدول الغربية، ويجعلهم في مرمى هجمات اليمين المتطرف بعد أن يتحملوا معنويا جرائم مجرمين دخلاء على الدين.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن الخطابات الملكية وإن كانت تقدم خارطة طريق واضحة المعالم ورؤية عميقة للرهانات والتحديات التي تعيشها المملكة ومواطنيها، فإنه يتعين على جميع الفاعلين، أفرادا أو مجموعات، مؤسسات حكومية ومدنية، أن تكون في مستوى استيعاب هذه الرؤية والعمل على مسايرة انطلاق القاطرة الملكية، والاطلاع بدورها المحوري في ترجمة هذه الرؤية إلى مبادرات ومشاريع ملموسة تكون مفتاح خير على الفرد وعلى المجتمع.